أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا

             
46549 74378

العودة   {منتديات كل السلفيين} > المنابر العامة > منبر التاريخ و التراجم و الوثائق

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 01-17-2015, 01:42 AM
ابوعبد المليك ابوعبد المليك غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Mar 2013
المشاركات: 4,441
افتراضي (( الشيخ سعد الحصين .. من أعاجيب الدهر ))كتبه / د. محمد بن فهد بن عبد العزيز الفريح



الشيخ سعد الحصين .. من أعاجيب الدهر

بكتْ عَينيَ اليسرى فلما زجرتُها ... عن الجهل بعد الحلم أسبلَتا معَا
ارتجفتْ اليد, وخفق القلب, وسكبت العين دمعها, قبل صلاة ظهر يوم الخميس الموافق 3/3/1436هـ, حين قال لي أخي ياسر بن سعد الحصين عبر مكالمة وأنا على ظهر طائرة متجهة لحائل: الوالد يطلبك الحل!
حضر أجله فحضرتْ همومي وأحزاني,وفي القلوب تُحْفر القبور التي لا تنسى.

انعقد اللسان , وشُلّ التفكير, هل صحيح أن شيخي ووالدي وصديقي توفي؟! نعم توفي, وكيف لك أن تسأل هذا السؤال؟ وهو منذ أشهر معدودة يقول لك : إني مودعك قريباً! ألا تذكر حين اتصلتَ به في شهر الله المحرم هذه السنة(1436) فقلتَ له: بإذن الله إني سآتي مكة في أول صفر, وسأزوركم, فقال لك: إن جئتَ ولم تجدني فسامحني!!

ألا تذكر خطابه الذي وجهه إليك صبح الخميس الموافق 26/2/1436هـ قبل وفاته بأسبوع بأنه سيلحق بأبي عبد المجيد عبد الرحمن العبد الكريم وابن خالته إبراهيم العبدالكريم اللذين ماتا قبله بأيام والذي جاء فيه ( أقول: ماداما لقيا الله وهما أحرص مني على حياة , فإليك بعض المُلَحْ قبل أن ألحق بهما).

لا إله إلا الله ما ألطفه من عالم, وأعزَّه من شيخ, يواسي أحبابه قبل أن يفجعهم خبره.

كان شيخنا رحمه الله وأعلى نُزُله مستعداً للموت منذ سنوات, فمذ صحبته قبل أكثر من عشر سنوات, وهو يقول:(أنا مستعد للموت ولله الحمد)!

يحدثك عن الموت وعن استعداده له , كأنه يتحدث عن صاحب له ينتظره, وهاهو قد مات بعد عمر 83 سنة أحسب شيخنا ممن جمع الله له ما تفرق في غيره من كونه: الشاب الذي نشأ في عبادة الله, والرجل الذي قلبه معلق في المساجد, والرجل الذي تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه.
قال لي: من فضل الله علي أني لا أذكر أبداً أني ارتكبتُ كبيرة من كبائر الذنوب في حياتي كلها, وليس هذا والله بحولي و قوتي, لكن لطف الله بعبده الضعيف.

جاء في سيرة مسافر سعودي الذي ألفه ص27(عندما أتذكر غربتي مع ضعفي ونقصي وقلة حيلتي, وحفظ الله لي من الضياع والضلال, ومن كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم, أتذكر دعاء والدتي رحمها الله قبل وبعد وأثناء غربتي في الداخل والخارج, وكان والدي رحمه الله لايكتفي بالدعاء النبوي:"أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم أعمالك", بل كان يردد كأني أسمعه الآن "فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين", ولازلتُ بفضل الله ثم بفضل دعائهما أجد حسن العاقبة في كل أمر أختاره لنفسي أو يُفرض علي).

قال رحمه الله:(لي أكثر من أربعين سنة ما فاتتني سنة الضحى)! قالها لما ركب سيارة الإسعاف يوم الأحد قبل وفاته بأيام خشية أن يفوته الوقت الذي اعتاد أن يصليها فيه.

حدثني غفر الله له عن نفسه وعن أخيه قائلا:(قبل خمس وثلاثين سنة تعوَّدنا على تخصيص الوقت بين المغرب والعشاء لنزور أو يزورنا بعض الأصدقاء, فخرجنا من المسجد آخر مرة للزيارة, فأوقفني الأخ صالح رحمه الله, وقال: ما رأيك؟ هؤلاء الإخوة لا همَّ لهم هداهم الله إلا رسم الحياة بالحبر الشيني(أي الأسود), وسنضيع نعمة الله بالفراغ بين الصلاتين فيما يضرّ ولا ينفع والله يقول:( فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب), فاستجبتُ لنصيحة أخي رحمه الله فعدنا إلى المسجد!

قال الشيخ سعد رحمه الله: وكان من منن الله عليَّ المواظبة على انتظار الصلاة بعد الصلاة بين العشاءين في السعودية والأردن ولبنان إلى هذا اليوم, ولعلي ألقى الله قبل أن أعجز عن ذلك).

واستمر على الرباط من ذلك الزمان إلى يوم السبت الموافق 28/2/1436هـ أي قبل وفاته بخمسة أيام , فرضي الله عنه.

في أوائل شهر محرم هذه السنة لحقه تعب شديد بسبب الرئة ولابد من استعمال جهاز الأكسجين فكان ممتنعاً من استعماله حتى عجز عن الذهاب للمسجد, فأراد حلاً ليتمكن من الذهاب للمسجد, فأقنعه ابنه والأطباء بوضعه, فلما فعل ذلك تحسن حاله قليلاً, فكان يذهب بجهاز الأكسجين للمسجد! للمرابطة فيه بين العشاءين .

أرسل لي خطاباً يوم الأحد الموافق15/1/1436هـ جاء فيه:(كنتُ وعدت والدتي رحمها الله بعدم استعمال الأجهزة الصناعية للتنفس والأكسجين , وماتت على ذلك , وقد رفضتُ استعمالها حتى عجَزْتُ عن الصلاة في المسجد, وفقدت الشهية للأكل فنزل وزني من 60 إلى 48 وأقنعني الأطباء باستعمال جهاز الأكسجين 24 ساعة , فزال بعض العجز بوجودها - فضلاً من الله- وعُدْت إلى المسجد بين العشاءين , وعادت الشهية للأكل بعد يومين أو ثلاثة -نعمة من الله ومنّة- وعُدْت إلى تهذيب الجلالين في المسجد, وابن كثير في البيت).

عجيب أمره , غريب شأنه, ينفق من ماله وما أمده الله به في وجوه الخير حتى تكاد ألا تصدق خبره! لا يدخر مالاً, ولا يرد سائلاً, ولا يستكثر عطاءً, ومع علاقتنا الحميمة لا أعرف إلا النزر اليسير عنه في هذا الباب, فمما أعلمه ما يلي:

1- كان يجري لحارس المسجد راتباً شهرياً يدفعه له كاملا أول السنة زيادة على ما يقبضه العامل من وزارة الشؤون الإسلامية.

2- اشترى أكثر من سيارة لبعض الأسر المحتاجة, وساعد بعضهم في شرائها.

3- سدد فواتير وأجرة بيوت لا يقوى أهلها على سدادها.

4- لما وقعت الكارثة على أهل الشام(سوريا)كان الله لأهل السنة, اشترى الشيخ رحمه الله مخبزاً في البوكمال بقيمة مائة ألف ريال ليوزع على أربعة آلاف عائلة نازحة من سوريا يستفيد منه المحتاجون يومياً, وقبلها جهّز للاجئين الفُرُش والبطانيات في الأردن وتركيا بمبلغ ستمائة ألف ريال وما يحتاجونه لاتقاء برد الشتاء, وفي لبنان دفع خمسين ألف ريال للأكل والسكن, ومع هذا لم ينس الدعوة إلى الله فطبع من كتابه النافع المفيد المختصر (ألا لله الدين الخالص) أكثر من مائة وخمسين ألف تم توزيعها على اللاجئين.

5- بنى كثيراً من المساجد في الشام وغيرها من البلدان.

6-أقرض أموالاً كثيرة, وكان لا ينتظر من المقترض السداد, وقال لي: حين أُقْرِض لا انتظر رجوع المال, والعوض من الله.

7- ساعد أرامل وأيتاماً ومساكين لا يحصيهم إلا الله في داخل المملكة وخارجها .

8- بنى معاهد تعليم , وساهم في إنشاء مراكز إسلامية في العالم , وقد وفقتُ على بعضها, وقد قال لي بعضهم وهو يشير إلى مبنى قائم: أرضه قد اشتراها الشيخ سعد الحصين جزاه الله خيراً وجعلها للمعهد.

9- كان يطعم الطعام خاصة في رمضان , ويقيم مائدة مشهودة حين كان في الأردن, يشهدها على الأقل ثلاثين صائماً, وكان هو الذي يتولى خدمتهم.

10- كتبه كلها ليس لها حقوق طبع ولا حفظ بل هي بالمجان, وعلى موقعه منشورة, وكان يطبع كتبه على نفقته, وعلى نفقة بعض المحسنين , ويوزعها , ولو أراد من ورائها مالاً لحصّل الكثير.

11- تكفل بعلاج بعض المرضى , وبعضهم اشترى له ما يحتاجه أو سعى إلى ذلك بشفاعته , خذ هذا المثال الرائع من سيرته حدثني عن: آلاء , فقال:هي طفلة من قرية الخِضْر بالضّفّة الغربية لنهر الأردن من فلسطين، و عندما كانت في سنّ الخامسة وفي طريقها لمدرسة الأطفال مع زميلة لها وَطِئَتْها خلاّطة إسمنت متنقّلة فماتت زميلتها, أمّا آلاء فعاشت بعد أن قُطِعَ نصفها الأسفل من تحت السّرة, ولأنّ الله حَبَاها وجهاً ضاحكاً لم تغيّره المصيبة, تسابقت إليها بعض وسائل الإعلام الإسرائيليّة والأمريكيّة, ومنها عَلِمْتُ بخبرها- الكلام للشيخ رحمه الله- فاتّصلت بوالدها وعرفت منه بقيّة الخبر، فعرضت عليهم الإعانة فطلب كرسيّاً كهربائيّاً متحرّكاً تذهب فيه للمدرسة فكتبت للأمير عبد العزيز بن فهد بن عبد العزيز آل سعود فبادر بتحويل ثمن الكرسيّ تبرّعاً من والده خادم الحرمين الملك فهد رحمه الله، فسبقتنا لهذا الخَيْر امرأة إسرائيليّة فطلب والدها أن يصرف التّبرّع لإعداد مغتسل آلي للاستحمام، ولما بلغت (15) سنة وتخرجت من المرحلة المتوسّطة بامتياز طلب والدها الإعانة لصنع ماعون بلاستيكي جديد لاحتواء بقية جسمها فطلبْتُ من شركة الجميح التّبرّع لها بمبلغ خمسة آلاف دولار ـ فيما أتذكّر ـ فوافقت الشركة على ذلك. جزاهم الله خير الجزاء، وكنْتُ على اتّصال بالعائلة حتى بلغْتُ الثمانين وضاق وقتي عن ذلك، وكانت حياتها آية من آيات الله: نجاتها من الموت وصَبْرها ومثابرتها على الدّراسة ووجهها المبتسم للمصيبة، ولعلّ الله أن يكمل فضله بها وعليها فيجعلها داعية إلى إفراد الله بالعبادة ونفيها عمن سواه وإلى اتّباع السّنّة ومحاربة البدعة، وفهمتُ من أهلها أنّ إسرائيل تصرف لها راتباً قدره ألفا ريال شهريا ـ فيما أتذكّر، وعند بلوغها (18) من العمر تصرف لها تعويضاً بنحو مليون ريال تقريباً، بارك الله لها ولأهلها. كتب الشيخ لها خطاباً نصه:( من سعد الحصين إلى: الأخت العزيزة في دين الله/ آلاء محمود غنيم حمّدها الله العاقبة في كلّ أمر وغنّمها السلامة في الدّنيا والآخرة.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أمّا بعد: فإنّي أشكر الله على وجودك في الزّمان الذي أعيش فيه، والمكان الذي أقيم فيه، في أرض البركة والقداسة: أرض الحرمين وأرض المسجد الأقصى. فلا تزال صورتك في عيني، وصوتك في سمعي، ورضاك بقسمة الله في قلبي، وأدعو الله لك بالمزيد من الرضى والطمأنينة والسّكينة والسّعادة في الدّارين. القدر حقّ من أمر الله:

"ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك"، ولكن الأخذ بالأسباب الشرعية من القدر.

قدّر الله علينا نصيبنا من الصحّة والمرض والغنى والفقر. (نفرّ من قدر الله إلى قدر الله). ليس لأيّ منّا يدٌ في دفع أقدار الله وابتلائه بالخير والشّر، ولكن الفَرْق في كيفية مقابلتنا لهذه الأقدار: (من رضي فله الرضى, ومن سخط فله السّخط).

والفَرْق الأعظم، في الحال التي نلقى الله عليها، لا من حيث الصّحة والثقافة والمال والجاه، ولكن من حيث طاعتنا لله فيما خلقنا له: إفراده بالعبادة، واتّباع سنّة نبيّه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بلا إشراك ولا ابتداع. وإليك رسالتين في توحيد الله وعبادته وذكره، وفيهما مع كتابه تعالى أهمُّ وأصحُّ ما في دين الإسلام اليوم. وأنا دائماً ما حييت في انتظار أخبارك الطيبة. رعاك الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته).

هل قرأتم مثل هذا اللطف والسماحة والمواساة والمبادرة لنفع طفلة لا تمت له بصلة إلا بصلة الإسلام في هذا العصر؟

أذكر مرة ذهبنا سوية إلى صيدلية بعد زيارتنا لأحد العلماء؛ لأشتري جهاز أكسجين لابنتي فأحضر الصيدلي الجهاز , فأراد الشيخ رحمه الله أن يدفع قيمته, فاعتذرتُ منه وشكرته, فعقد يميناً أن يدفع قيمته ! فقلت: قيمة الكفارة أرخص من قيمة الجهاز! فأبى وقال : لا حق لك في حرماني من هدية أهديها لابنت أخي!

من كرمه: أنه إذا ركب مع شخص فأوقف سيارته عند محطة البنزين كان رحمه الله يصر على أن يتولى دفع القيمة.

لا يساوي المال عنده شيئاً بل الدنيا كلها, كان مدبراً عنها, لم أره ملتفتاً إلى شيء منها, كان راكبا معي في السيارة فمررنا ببعض البيوت , فقلت للشيخ عَرَضاً: إن بعض من يسكن هذا الحي رصيده يفوق المائة مليون , فقال رحمه الله: الله يعينهم على الحساب يوم القيامة!

ذكرني بمقولته ما قاله الإمام أحمد رحمه الله لابنه صالح حين ذكر له أن بعضهم قد حصل المنصب وفلان حاز الأموال فقال:(يا بني! الفائز من فاز غداً , ولم يكن لأحد عنده تبعة).

كان لباسه لا تبلغ قيمته ثلاثين ريالاً, وكان من أرضى من رأيته في الدنيا, قال عن نفسه:(التزمت القصد في المتاع الدّنيوي فلم أشتر سيّارة ولا أثاثاً للزّينة ولم أقْتَنِ جهاز النّداء (بيجر) في زمنه، ولا الجوّال بعده، ولا أكلت وجبة العشاء منذ نصف قرن ولا وجبة الفطور منذ (30) سنة إلا نادراً ولا شربت القهوة ولا المشروبات الغازيّة أبداً، ولا دخَلْتُ على حلاّق ولا خيّاط ولا شربتُ الشّاي منذ (40)سنة، ولا تزوّجت غير واحدة قبل (52)سنة).

قال الشيخ سعد غفر الله له:(لا أذكر أنَّا أخرجنا زكاة المال؛ لأن كل المال الزائد يُـخْرج لمستحقه قبل حلول الحول عليه, وقد أخذ علينا أخي صالح ألا ندخر شيئاً فوق الحاجة فكان ذلك, وكان حسابنا مشتركاً؛ لأننا شركاء في القليل والكثير بفضل الله منذ عشرات السنين, ورأينا البركة في المال بسبب الاجتماع عليه مثل الطعام... وقد كتب صالح رحمه الله على نفسه وعلينا النفقة بغير محاسبة ولكن من غير إسراف ولا مخيلة).

حدثني رحمه الله أنه:(قبل خمسين سنة أثناء الدراسة في مصر ذكرتُ لأخي صالح رغبتي في التوقف عن شرب الشاي بحجة أنه لا فائدة تذكر في شربه -ونحن لا نشرب القهوة ولا المشروبات الغازية-, فقال رحمه الله: ما عندنا من التسلية المباحة في مصر غير شرب الشاي! بل لنتوقف عن أكل وجبة العشاء فلستُ أرى من العقل ولا الحاجة الأكل قبل النوم, فتركنا العشاء منذ ذلك التأريخ).

كان لا يتناول إلا وجبة واحدة في اليوم, مرة كان في مطعم فندق فجمع على طاولة الطعام عدداً من الأصناف, فلما مرّ عامل من عمال الفندق لاطفه الشيخ بالكلام, وقال بعد أن دعاه ليتناول معه: لا تعجبْ من عدد الأصناف فهذه وجبتي إلى الغد بإذن الله!

لا أذكر مرة أكلتُ معه إلا ويدعو الخدم الذين يأتون بالأكل أن يشاركونا قائلا: شاركنا يا أخي, فكانوا يتعجبون من لطفه وحسن تعامله ويعتذرون منه , فإذا جئنا مرة أخرى بادروا لخدمة الشيخ رحمه الله مما رأوا من لين جانبه معهم, وعطفه عليهم, والشيخ على عادته يدعوهم للمشاركة في الأكل ويدعو لهم.

كان تعامله مع العمال والخدم شيء يفوق الوصف , إي وربي يفوق الوصف, حتى العمال أنفسهم يتعجبون من فعله معهم, حتى قال لي غير واحد منهم بلسانه الذي لا أكاد أفهمه: هذا بابا كويس مرة, أنا ما فيه شوف نفر ثاني يسوي كذا, أنا في السعودية عشرة سنة ما فيه شوف مثل بابا.
كان يعطيهم كامل الاحترام والتقدير والإجلال والإكبار, ويحاول أن يخفف عنهم الغربة التي يعيشونها, فرحمه الله من إمام قد ذهب.

كان إماماً في حسن التعامل, إماماً في التواضع, إماماً في الزهد, إماماً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, إماماً في نفع الناس والشفاعة لهم, إماما في الكرم والإنفاق والبذل, إماماً في الدعوة إلى الله, إماماً في العبادة, إماماً في التوحيد والسنة, إماماً في الصبر على أقدار الله.

كان يقبل أيدي الأطفال, ويلاطفهم, ويوزع عليهم الحلوى! مرة رأى بنتاً عمرها خمس سنوات تقريباً مع والدها وهي تنظر إلى الشيخ فأخرج الشيخ لها حلوى من جيبه وقال: تفضلي هذا أول المهر! فعَلا والدها الدهشة والحيرة, هل إذا أخذتْ الحلوى تم عقد الزواج؟! فظهر عليه التردد فأشرتُ إليه ألا بأس عليك وعليها فالزواج بيدك, ففطن الشيخ لي وهو الفطين الألمعي رحمه الله, فدفع والد البنت ابنته لأخذ الحلوى فأخذتها, فقال الشيخ رحمه الله مازحاً: هذا الرضى وقد حصل, وبقية المهر أجيبه بإذن الله!

ومرة أخرى كنا عند أحد المشايخ وأولاده الصغار يلعبون خارج المنزل مع أولاد جيرانهم فدخلوا علينا المجلس, وقد تلوث أيديهم وملابسهم بشكل ملفت للنظر, وقلت في نفسي: لعلهم يجلسون في طرف المجلس بلا مصافحة, فلما رآهم الشيخ رحمه الله رحب بهم فجاءوا إليه فقّبل أيديهم كلهم!! وأعطاهم حلوى!

لا يسمح الشيخ لأحد كائناً من كان أن يقبل رأسه, وإذا كان جالساً فسلَّم عليه أحدهم وذهب ليقبل رأس الشيخ, ولم يتمكن الشيخ من منعه, بادره الشيخ بتقبيل يده!

كان يسارع في حاجات الناس منذ أكثر من أربعين سنة , كتب بيده آلاف الشفاعات, لا يرد أحداً طلب منه شفاعة, كان باذلاً لجاهه, ونفسه , وماله.
رزقه الله منطقاً حسناً, وفكاهة من غير تكلف, فهو صاحب طرفة ومُلحة, لا يمل السامع حديثه, وإذا كتب فهو الكاتب الذي يأسرك حرفه, ويسحرك تسطيره.

كل شيءٍ يملّ منه إذا ما ... زاد إلاّ حديثكم لن يملاّ

ويصدق على حلو منطقه رحمه الله قول ابن الرُّومي:

وحديثها السِّحرُ الحلالُ لو أنَّه ... لم يجنِ قتلِ المسلمِ المتحرِّزِ
إن طالَ لم يملل وإن هي أوجزت ... ودَّ المحدِّث أنَّها لم توجزِ

ومن مُلحه وحسن تعامله: أننا ذهبنا سوية للإفطار في أحد المطاعم , وكان الذي يقوم بالخدمة أحد الإخوة المصريين فكان الشيخ يلاطفه ويقول له: مصر أم الدنيا تعلمتُ من أساتذتها اللغة والأدب والظرافة والطرافة , وكنتُ فيها قبل خمسين سنة عام 1374هـ, والأخ المصري قد انبلجت أساريره مما يسمعه من ثناء الشيخ على بلده , والشيخ مستمر في قوله ثم أراد الشيخ بذكائه وتوفيق الله له ألا يفوت الفرصة في الدعوة إلى الله وبيان الخطأ حتى في مثل هذا الموقف فكان مما قاله: مصر أم الدنيا فمنها الأطباء والعلماء... وكذلك هي أم الدنيا حتى في كثرة القبور التي تعبد من دون الله , والبدع وغيرها, فلعل الله أن يجعلك من الدعاة إليه على بصيرة, فتولى الأخ المصري وهو فرح بكلام الشيخ ودعائه له.

ومن طرافته: مرة كنا نأكل سوية في أحد المطاعم فسقط شيء من الأكل على ثوب الشيخ ولم ينتبه له فلما انتهينا أخذتُ منديلاً لأمسح ما سقط على ثوبه, فقال الشيخ: خله, حتى يعرف أهلي أني أكلت!

كنا في إحدى المحلات التجارية الكبيرة فكان المحاسب فيه بطء في المحاسبة, وتأخرنا بسببه بعض الوقت, فلما وصلنا إليه, قال له الشيخ: الحمد لله أنكم لا تحاسبونا في الآخرة, و إلا أمضينا سنوات, والحمد لله أن الله هو الذي يتولى الحساب, وهو أسرع الحاسبين سبحانه, فضحك المحاسب.

اتصل بي أحد أئمة المساجد بالرياض طالباً مني معروفاً, فقلتُ: ماهو؟ فقال: أن تأتي بالشيخ سعد الحصين يلقي محاضرة في مسجدي؛ لأن المحاضر وهو معالي الشيخ سليمان أبا الخيل اعتذر لأمر عرض له, فقلت:أبشر , فقلت: للشيخ رحمه الله فوافق, فجئنا على الموعد, فلما بدأ الشيخ محاضرته, كان مما قاله: لا تنتظروا مني شيئاً كما كنتم تنتظرونه من الشيخ سليمان أبا الخيل وفقه الله, فهو أبا الخيل وأنا حصيّن!! فضحك الحاضرون, وانجذبوا لمحاضرة الشيخ حتى انتهى.

كان رحمه الله يحث على السنة بقوله وفعله كتب مرة لرئيس شؤون الحرمين سنة 1406هـ يقول له:(الإمام لا يصلي إلى سترة في الحرم المكي! وهو القدوة, وإغفال السترة مع تأكيدها بقول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله خطأ غالب , ألا ترون تقديم الميكرفون ليكون سترة؟ أو وضع سترة أخرى).

لا أظن أحداً من العلماء أو الأمراء وغيرهم إلا وقد وصله كتاب وخطاب من الشيخ وكان يرد على الجماعات المسماة إسلامية , وعلى من يستحق الرد, وينصح سراً ويقترح ما فيه نفع للإسلام والمسلمين , ولم يكن يحمل حقداً أو غلاً , مرة رد على الدكتور غازي القصيبي رحمهما الله حول قصيدته الشهداء التي نشرتها بعض الصحف, وكان رداً لا مزيد عليه , فلما انتهى من الرد عليه كتب على هامش الرد: لم أستطع الحصول على... (وذكر كتابين من الكتب الأجنبية) من المكتبات فهل يمكنك ذلك؟ جزاك الله الخير سلفاً!!

فعلاً عجيب يرد عليه ويطلب منه في هامش الرد نفسه أن يزوده بكتابين لم يستطع الحصول عليهما!! هذا يُبيّن لك أن المقصود النصح والنصح فقط, فهل نستفيد من هذه الأخلاق والتعامل؟

خذ مثالاً آخر للتناصح بينه وبين الإمام عبدالعزيز بن باز رحمهما الله كتب الشيخ سعد ما نصه:( من سعد الحصيّن إلى: الوالد الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، أعزّه الله وأيده. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أمّا بعد: فمن فتاوى اللجنة الدّائمة أو بعض أعضاء الهيئة ما يلي:

1) (لابأس من التمايل أثناء قراءة القرآن لأنها عادة لا عبادة).

وأرجو التفضل بالسماح لي بالاعتراض.. بأنّها عادة دينيّة أخذها المسلمون من اليهود وأخذها اليهود من الهندوس ولا يزال اليهود يتمايلون عند المبكى وفي المعبد والمقبرة عند الذّكر وقراءة التوراة وكذلك يفعل المتصوّفة عند الذّكر المبتدع: الله.. الله، الله.. حي، وجميع القراء المبتدعة يفعلونها عند التلاوة لا يستثنى منهم أحد فهي ملازمة للتّلاوة والذّكر عامة عند جميع المبتدعة وهم الأغلبية وليست عادة فردية. ولا يزال الهندوس (وهم أساس معظم البدع عند المسلمين المبتدعة والنصارى واليهود والبوذيّين وطوائف الضّلال عامة) يفضّلون الذّكر القلبي بلفظ أُوْمْ (حوّلها مبتدعتنا إلى الأنفاس القدسيّة عند الشّاذليّة)، ويتمايلون عند الذّكر، ويتعبّدون بالصّمت، ويقولون بالفناء في الذّات الإلهية، ويضربون بالشّيش، وهم أوّل من استعمل خرز المسبحة لإِحصاء الذّكر ثم البوذيَون ثم النصارى ثم مبتدعة المسلمين .

2) لا بأس بوجود كلمة (got) على بَرَّادَات الماء بالمسجد الحرام والمسجد النّبوي وإن كانت تعني الإله بالألمانية،
فربما قصد بذلك أنها في سبيل الله.

والحقيقة أنّ هذه الأحرف لا علاقة لها باللغة الألمانية ولا بالألوهيّة وإنما هي من رمز للشركة الأمريكية المنتجة.

أرى عدم التّوسّع في إجازة الأمور المتعلّقة بالعبادة ولو كانت عادة إذا كثر استعمالها ولصقت بالعبادة، فمثل هذا التّوسّع هو الذي أوصل إلى التّعبّد بالمولد والمناسبات الماضية في القرون الماضية بين المسلمين، فهم يقولون في بداية الأمر وفي نهايته: ليس المولد عبادة وإنما هو وسيلة للعبادة: حبّ النبي صلى الله عليه وسلم والصلاة والسلام عليه.

وفقكم الله وأيدكم وثبتكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

هامش: أجاب الوالد الشيخ ابن باز رحمه الله على هذه الرّسالة بأنّه رجع عن فتواه بجواز هزّ الرّأس أو الجسم عند الذّكر، وذكر أنّه اطّلع على كلام للقرطبي رحمه الله فهمت منه أنّه يؤيّد ما ذكرته.
والشيخ ابن باز رحمه الله من نوادر العلماء في هذا العصر لا يتوقّفون عن الرّجوع إلى الحقّ ولو جاءهم ممّن لا يصل إلى كعبهم في العلم والفضل بل ليس أهلاً ليكون من تلاميذهم. وقد جمع الله له من العلم والعمل والخُلُق ما لا أعرف أنّه اجتمع لغيره منذ القرون الخيّرة، رحمه الله وأسكنه الفردوس من الجنّة، والحمد لله. كتبه/ سعد بن عبد الرحمن الحصيّن).

كان رحمه الله قارئاً من الطراز الأول يقرأ في كل الفنون حتى كتب الأعاجم ومجلاتهم العلمية, ويعرف أخبارهم, وأذكر مرة أن أحد الصحفيين تطاول على مسألة شرعية بزعمه أنها عادة, واحتج بكلام كاتب بريطاني في ذلك, فأخبرت الشيخ فاطلع على المقال ورد عليه, وكان مما كتبه: أن الكاتب البريطاني هذا لا يُعوِّل عليه أهل بلده؛ لأنه فاقد المصداقية ومشهور بذلك, فكيف تنقل كلامه فضلاً عن الاحتجاج به!

وكان رحمه الله مجاهداً في سبيل الله في تقرير التوحيد والتحذير من الشرك, ومجاهداً في الدعوة إلى السنة والتنفير من البدعة وأهلها, كتب وناصح وراسل أهل الداخل والخارج, كتب للصغار والكبار , لا تأخذه في الله لومة لائم , إذا بان له الحق لزمه , ولو أجلب الناس بخيلهم في مخالفته.

كان كاسمه : سعداً لأهل السنة, وحصناً منيعاً لها.

لم أره مرة واحدة على كثرة ما لحقه من الأذى أنه انتصر لنفسه, بل مرة فعل أحدهم فعلاً آذى به الشيخ رحمه الله , وكان الشيخ يجري له مرتباً, وهذا الرجل ليس من المملكة, فقيل للشيخ: فلان انتشر عنه أنه آذاكم, فهل من الحكمة الاستمرار في دفع مرتبه مع استمراره على فعله, لعلكم تستبدلونه بخير منه, فقال: ما دام يدعو إلى التوحيد ويحذر من الشرك , فلن أقطع عنه شيئاً!!

كان إماماً في العبادة والإقبال على الله كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر, ويقوم قبل الفجر على الأقل بساعة ونصف يصلي , وكان يصلي الفجر ويلزم المسجد حتى تطلع الشمس, وكان يرابط بين العشاءين فيه.
كان إماماً في الدعوة إلى الله يبذل جهده لها, وينفق ماله فيها, وكان يشرف على أكثر من ستين رجلا وامرأة من الدعاة في بلدان العالم الإسلامي, ويجري لكل واحد منهم مالاً عن طريقه.

كان سماحة الشيخ عبدالله بن حميد رحمه الله يحب الشيخ سعد ويحثه بقوله: (اكتب يا شيخ سعد فإن لمقالاتك نفعاً كبيراً) فسألتُ الشيخ أين كنت تنشر مقالاتك في ذلك الوقت؟ قال: في مجلة الدعوة ما بين عام 1397 إلى 1399هـ.

وكان بعض ما كتبه تمت دراسته واعتماده, فكان مما نبه عليه في تلك المقالات: قضية الأغوات في الحرمين, وأنه لا داعي لاستقبال أحد منهم من الخارج, بل يُكتفى بالموجودين جزاهم الله خيراً حتى يتوفاهم الله.

كان شيخنا رحمه الله محل التقدير والإجلال من العلماء والأمراء والوزراء: كان الشيخ حمود التويجري رحمه الله يُـجلّه غاية الإجلال حتى قال لي الشيخ سعد: الشيخ حمود يعطيني أكثر مما أستحق.

أذكر مرة أني نسقتُ مع الشيخ سعد الحصين غفر الله له بأن يلقي محاضرة في مسجدي مع مجموعة من علمائنا فلما قرب الموعد فإذا بالشيخ سعد في الطائف فقلت: من يحل محلكم وقد تم الإعلان فقال: من ترى؟ قلت: أحد هذين الشيخين, فقال: من هما؟ فقلت: الشيخ عبد الله بن عقيل أو الشيخ فهد الزكري, فقال: ونعم بهما, لعلنا نبدأ بالشيخ عبدالله لكونه بالرياض سأكلمه الآن , فاتصل الشيخ سعد بالشيخ عبدالله فوافق.

كان الشيخ عبد الله بن عقيل يكن المودة والمحبة لشيخنا رحمهما الله , فقد سمعت الشيخ عبد الله أكثر من مرة وفي غير مكان يقول للشيخ سعد بعد أن يدعو الشيخ سعد للشيخ عبد الله: أنت يا شيخ سعد مجاب الدعوة, أدعو لنا, ومرة رأيتُ في إحدى الدور الخيرية خطاباً من الشيخ عبد الله, وفيه (هذا التبرع بناء على ما اطلعت عليه من تزكية الشيخ سعد الحصين لكم).
وأما سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله وعلاقة الشيخ سعد معه, فلا يمكن حصرها بمقال, ويكفيك أن تعلم أيها القارئ الكريم أن الشيخ ابن باز هو الذي أصر على الشيخ سعد في أن يتولى الدعوة في البلاد المباركة (الشام).
وكان الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله إذا جلس مع الشيخ سعد غفر الله له أخرج قلماً ليقيد ما يسمعه منه من فوائد , وتنبيهات.

أما علاقته مع العلامة عبدالله الغديان رحمه الله فقديمة جداً قبل خمسين سنة تقريباً فحين ذهب الشيخ عبدالله للعلاج في بريطانيا من حسن الموافقة كان الشيخ سعد هناك وهو الذي تولى الترجمة بين الشيخ عبدالله وبين الأطباء, وكان الشيخ عبدالله يتعاهد الشيخ سعد فمرة أهدى إليه كتاب (بداية المجتهد), وبعد ثلاثين سنة من الهدية أهداه لي الشيخ سعد رحمه الله.

قال لي الشيخ عبدالله الغديان رحمه الله: (لقد أُوتي الشيخ صالح والشيخ سعد الحصين ذكاء مفرطاً وفراسة لا يعرفها أكثر الناس عنهما, وكانا لا يظهران ذلك, ولو انصرفا للعلم انصرافاً كلياً لما فاقهما أحد بعد توفيق الله).

وقال لي معالي الشيخ محمد العبودي غفر الله له عن الشيخ سعد:(الرجل عجيب, وهو لا يقصد إلا الخير ليس له هدف بأحد, وأجمل ما فيه أنه لا يترك شاردة ولا واردة إلا ويعلق عليها , ويبين رأيه فيها, وهو سلفي من أخمص قدميه إلى هامته, وهذه مزية قلَّت في الناس).

وقال معالي الدكتور عبدالعزيز الخويطر رحمه الله عن فكر الشيخ التربوي: (الشيخ سعد سابق لزمانه).

طلبه الأمير نايف رحمه الله حين تولى ولاية العهد أن يكون مستشاراً خاصاً فاعتذر الشيخ رحمه الله, فلما أخبرني بذلك, عتِبتُ عليه وقلت: هذا باب خير للنصح والتسديد والإعانة على البر, فقال:كلامك صحيح لكن قد تم الاعتذار , وبعد مدة اتصل الأمير رحمه الله مرة ثانية فوافق الشيخ, ثم مات الأمير رحمه الله بعدها بمدة ليست بالطويلة.

كان الشيخ سعد رحمه الله من الموطئين أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون وكنتُ أسأله عن كل شيء ويجيبني, فمثلاً كنت أسأله عن أسفاره وتجاربه في الحياة فكان يغدق علي في الإجابة, فلما رأيتُ عجباً في أسفاره طلبتُ منه أن يكتب عن سيرة سفره فكتبها من ذاكرته, فكانت أفضل ما قرأتُ من سِير السفر, وهي مطبوعة بعنوان(سيرة مسافر سعودي).

تجول شيخنا غفر الله له في أكثر من أربع وخمسين دولة, وكان متقناً للغة الإنجليزية, فقد ذهب لإنكلترا عام 1381هـ ؛ ليتعلمها, ومما كتبه الشيخ رحمه الله(في سيرة مسافر سعودي ص45)ما نصه:(كانت مضيفتي الأولى عجوز لا يقيم معها من أهلها إلا ثلاثة كلاب سلوقية! ولما عرفتْ والدتي بذلك خشيت أن تكون مسحورة, كما في ألف ليلة وليلة وأني سأكون رابعهم!).

قال لي: إن مدرساً كبيراً في السن قال للطلبة ومنهم الشيخ أثناء دراسته هناك: سأسألكم سؤالاً لا يمكن أن تجيبوا عليه إلا أن يكون المجيب طالباً ليس من البلد فقد يجيب عليه, وكان سؤاله: ما مرادف كلمة ... باللغة الإنجليزية, (الكلمة ذكرها الشيخ ونسيتها), فلم يرفع أحد من الطلاب يده إلا شيخنا قال: هي كذا, فقال الأستاذ: أنت الوحيد الذي أجاب على السؤال, وصدق حدسي في أن طلابنا لن يجيبوا.

كان الأول على دفعته رحمه الله في كلية الشريعة بمكة عام 1376هـ, حتى أن أحد أساتذته رحمه الله قال له: لولا إني على رأسك يا سعد وقت الاختبار لقلت إنك فاتح الكتاب تأخذ منه!

كانت كيفية رضاه بأقدار الله محل عجبي! خذ مثلا ما حدثني به: أنه كان مع أهله بنيويورك فأوقف سيارته ونزل هو وأهله إلى مطعم, وكان أهله قد وضعوا غطاءاً على ثلاث حقائب في مؤخرة السيارة, ولما رجعوا إلى السيارة وجدوها مفتوحة والحقائب مفقودة, فقال الشيخ: الحمد الله أن الله خفف عنا حملها ونقلها والمحافظة عليها!!

بل كتب مقالاً سماه (قضاء الله واختياره لنا خير من اختيارنا لأنفسنا) مقال يغنيك عنوانه فكيف بمضمونه!

كتب إلي خطاباً في 18/1/1436هـ جاء فيه:(ذكرت لك أن الله -كما عوّدني- اختار لي المرض الذي لا أختار لنفسي غيره لو خيّرني الله: لا يُؤلم, ولا يُعْدي, ولا يحتاج إلى علاج, ولم يمنع أخي صالح رحمه الله قبلي ولم يمنعني من بلوغ الهرم(فوق الثمانين), أما صالح رحمه الله فابتلاه الله بالكحة ولم يبتلني بها؛ لعلمه تعالى بضعفي عما تحمله أخي رحمه الله ورحمكم, ولعل الله لم يحرمني أجر شدة البلاء الذي اختار للأنبياء فمن دونهم من عباده الصالحين, بل علماً منه بضعفي عن تحمّله, ورأفة بعبده الضعيف).

وقد ذكر بعض المختصين أن هذا المرض - وهو مرض في الرئة- لازم الشيخ رحمه الله منذ الطفولة.

لما رأيتُ شيخنا رحمه الله في 13/2/1436هـ قد لزمه جهاز الأكسجين ضاق صدري, ففطن لذلك فأراد تسليتي بقوله: جهاز الأكسجين هذا مكتوب عليه باللغة الإنجليزية(حياة جديدة)! فما ودك أن آخذ حياة جديدة!
كان يقول لي: أولى الناس بالبر بعد الوالدة هي الزوجة, وكان يطلب مني أن أطلب المسامحة من الوالدين وأهل بيتي حرسهم الله في مزاحمته لهم في وقتي!

وكان من بره بزوجته أن اشترى مصعداً في بيته رفقاً بها من صعود الدرج.

كان رحمه الله من عُبَّاد الليل ذهبنا مرة لإحدى دول الخليج وتأخرنا في الوصول فقال لي: لعلك توقظني قبل الفجر بساعة, فإني متعب من السفر وأخشى ألا أستيقظ, فقلت:أبشر, فجعلتُ المنبه على ما قال الشيخ, فلما استيقظتُ من المنبه ذهبتُ لغرفة الشيخ رحمه الله لأوقظه, فإذا هو ساجد يصلي!! وسمعته يدعو ربه ويلح عليه, فأسفتُ على حالي.

لم أر أطول منه أداءً للصلاة كان يتم ركوعها وسجودها إلا ما رأيته من شيخنا فهد الزكري غفر الله له.

كان يدعو كل ليلة لعلماء منهم: الإمام أحمد, والبخاري , ومسلم, وابن تيمية, وابن القيم, والنووي, وابن كثير, والإمام محمد بن عبدالوهاب وأبناؤه, ويدعو للإمام محمد بن سعود وعبدالعزيز وسعود وتركي وفيصل وعبدالعزيز وسعود والشيخ ابن باز والألباني وابن سعدي وابن عثيمين وعمر بن حسن وجميع علمائنا وأمرائنا , يقول لي: كل ليلة أدعو لهم, وكان جزاه الله عني خير الجزاء واخلفني خيرا يدعو لي ولوالديَّ ولأولادي ولأهل بيتي كل ليلة.

بل لما لحق أحد إخوتي مرض خطير أخبرتُ الشيخ, فكان يدعو الله بشفائه كل ليلة إلى أن شفاه الله, ولما مرض ابني عبد الله أصلحه الله وجعله قرة عين وأدخل المستشفى أخبرته, فكان يدعو له كل ليلة , ويرسل لي خطاباً كل يوم يسأل عنه ويدعو له.

كان من دعائه كل ليلة(اللهم من ظلمته أواغتبته أو سببته أو شتمته أو آذيته فاغفر له وارحمه).

كان رحمه الله يسأل الله أن يمتعه بقوته إلى وفاته فكان كذلك, دخل المستشفى رحمه الله يوم الأحد وكان يمضي وقته في الصلاة النافلة والذكر , وقبل وفاته طلب قلماً وورقة؛ ليكتب, فكتب: (بسم الله) وفاضت روحه رحمه الله.

مات وهو ممسك بالقلم, كالمجاهد الذي مات ممسكاً بسيفه, ولا شك أن جهاد القلم أعظم من جهاد السيف كما قال ابن القيم رحمه الله.

حين توفي الشيخ صالح اتصلتُ بالشيخ سعد غفر الله لهما لأعزيه فكان مما قاله: كنتُ أحاول أن أسبقه ولو لمرة واحدة؛ حيث كنت أتبعه حين ذهب لدار التوحيد ثم لكلية الشريعة ثم لمصر ثم في بقية الأمور, وظننتُ أني سأسبقه ولو في الموت قبله! حتى أني قلت له: إن مت فاجعلوا دفني في مقبرة العدل فقد واعدتُ والدتي أن أقبر معها.

قبل سنوات طلب أحد الأمراء الكبار زيارة الشيخ سعد, فاعتذر الشيخ!

فقال الأمير: إما أن تأتي إليّ أو آتي إليك! فقال الشيخ رحمه الله: بل آتي إليكم, جلس الشيخ مع الأمير وتحدثا وكان الأمير يحب الشيخ حباً كثيراً , فقال له عند توديعه: وش أخدمك به يا شيخ سعد اطلب ما شئت, فقال الشيخ:لا أريد شيئاً إلا قبراً في مقبرة العدل!! استغرب الأمير الطلب وتعجب أأحد يطلب قبراً.
وقد حقق الله له ما تمناه فقد أهلْنا تراب مقبرة العدل على جدثه بعد صلاة الجمعة 4/3/1436هـ, فهنيئاً لتلك البقعة به! وهنيئاً لأهلها بجواره.

ومن الفأل الحسن أن خطيب المسجد الحرام كانت خطبته عن الأعمال التي يكون جزاؤها دخول الجنة من أبوابها الثمانية, فأسأل الله أن يكون لشيخنا ذلك الفضل.

كان آخر رؤيتي له حين شاركته الغداء يوم الجمعة الموافق14/2/1436هـ, وكان يقول: إذا جئتَ إلي زادت شهيتي للأكل, فلا تحرمني ذلك!

وكان آخر مرة سمعتُ صوته يوم السبت الموافق 28/2/1436هـ حين اتصلت به, فحدثني وحدثته, وكأني سمعتُ أحداً يتكلم حوله, فقلت:عسى ما قطعتكم عن شيء, فقال: لا, هذا ابني ياسر لا يريدني أن أُتعب حالي بالكلام, لعله غار مني بكلامي معك! فودعت الشيخ على أمل أن اتصل به مرة أخرى, فلم تكن هناك أخرى! سما به فرحُه للقاء ربه, وقعدت بي أحزاني عليه, لم أفقدتك يا شيخنا لكني فقدتُ قلبي, فاللهم رفقاً بي.
لما اتصلتُ بأم طارق زوجة شيخنا حرسها الله لأعزيها قالت: أنت أولى الناس بالتعزية, كان والدنا يحبك كثيراً, ويفرح بذكرك.

كانت أيامي معه: أحلى من الشهد , وأجمل من نسيم السحر, وألذ من إغفاءة الفجر , وأطيب من نَفَس الربيع , يصدق عليه في أموره , وعلى صداقتي معه قول ابن كثير في ابن القيم رحمهم الله:(كان كثير التودد, لا يحسد أحدا, ولايؤذيه, ولا يستعيبه, ولا يحقد على أحد, وكنتُ من أصحب الناس له, وأحب الناس إليه, ولا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه, وكانت له طريقة في الصلاة يطيلها جدا, ويمد ركوعها وسجودها).

فاللهم ارحم شيخي ووالدي سعد الحصين, وما كنتُ أظن أننا سنفترق بهذه السرعة وما حالي معه رحمه الله بعد فراقه إلا كحال متمم بن نويرة مع أخيه مالك حين قال :

وكُنَّا كَنَدْمَانَيْ جَذِيمةَ حِقْبَةً ... مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى قِيلَ لَنْ يَتَصَدَّعَا
وعِشْنا بِخَيْرٍ في الحياةِ وقَبْلَنَا ... أَصَابَ المَنَايَا رَهطَ كِسْرَى وتُبَّعَا
فإِنْ تَكُنْ الأَيَّامُ فَرَّقْنَ بَيْنَنَا ... فقد بَانَ مَحْمُوداً أَخي حِينَ وَدَّعَا
فلمَّا تَفَرَّقْنَا كأَنِّي ومَالِكاً ... لِطُولِ اجْتِماعِ لم نَبِتْ لَيْلَةً مَعَا
بأَحْزَنَ مِنِّي يومَ فارَقْتُ مالِكاً ... وقامَ به النَّاعِي الرَّفِيعُ فَأْسْمَعا
وأَنِّي متى ما أَدعُ باسْمِكَ لا تُـجِبْ ... وكُنْتَ جدِيراً أَنْ تُجيبَ وَتُسْمِعَا
فإنْ يَكُ حُزْنٌ أو تَتابُعُ عَبْرَةٍ ... أَذابَتْ عَبِيطاً مِن دَمِ الجَوْفِ مُنْقَعا
تَجَرَّعْتُها في مالِكٍ واحْتَسَيْتُها ... لأَعْظَمُ مِنْها ما احْتَسَى وتَجَرَّعا
سَقَى اللهُ أَرْضاً حَلَّها قَبْرُ مالِكٍ ... ذِهابَ الغوادِي المُدْجِنات فأَمْرَعا


والحمد لله على كل حال


كتبه /
د. محمد بن فهد بن عبد العزيز الفريح
عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء
__________________
أموت ويبقى ما كتبته ** فيا ليت من قرا دعاليا
عسى الإله أن يعفو عني ** ويغفر لي سوء فعاليا

قال ابن عون:
"ذكر الناس داء،وذكر الله دواء"

قال الإمام الذهبي:"إي والله،فالعجب منَّا ومن جهلنا كيف ندع الدواء ونقتحم الداءقال تعالى :
(الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب)
ولكن لا يتهيأ ذلك إلا بتوفيق الله ومن أدمن الدعاءولازم قَرْع الباب فتح له"

السير6 /369

قال العلامة السعدي:"وليحذرمن الاشتغال بالناس والتفتيش عن أحوالهم والعيب لهم
فإن ذلك إثم حاضر والمعصية من أهل العلم أعظم منها من غيرهم
ولأن غيرهم يقتدي بهم. ولأن الاشتغال بالناس يضيع المصالح النافعة
والوقت النفيس ويذهب بهجة العلم ونوره"

الفتاوى السعدية 461

https://twitter.com/mourad_22_
قناتي على اليوتيوب
https://www.youtube.com/channel/UCoNyEnUkCvtnk10j1ElI4Lg
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 01-17-2015, 11:48 AM
لؤي عبد العزيز كرم الله لؤي عبد العزيز كرم الله غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: السودان
المشاركات: 2,417
افتراضي

رحمه الله هذا لا أظن يبلغ مقامه أحد في زماننا .
__________________
‏(إن الرد بمجرد الشتم والتهويل لا يعجز عنه أحد ، والإنسان لو أنه يناظر المشركين وأهل الكتاب : لكان عليه أن يذكر من الحجة ما يبين به الحق الذي معه والباطل الذي معهم ، فقد قال الله عز وجل لنبيه صلي الله عليه وسلم : (ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) وقال تعالي : (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)
الفتاوي ج4 ص (186-187)
بوساطة غلاف(التنبيهات..) لشيخنا الحلبي
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 02-14-2015, 06:56 PM
نجيب بن منصور المهاجر نجيب بن منصور المهاجر غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 3,045
افتراضي

رحم الله الشيخ وبارك الله في كاتب المقال وناقله
__________________
قُلْ للّذِينَ تَفَرَّقُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُم فِي العَالَمِين البَيِّنَة
إنَّ الّذِينَ سَعَوْا لِغَمْزِ قَنَاتِكُمْ وَجَدُوا قَنَاتَكُمْ لِكَسْرٍ لَيِّنَة
عُودُوا إِلَى عَهْدِ الأُخُوَّةِ وَارْجِعُوا لاَ تَحْسَبُوا عُقْبَى التَّفَرُّقِ هَيِّنَة

«محمّد العيد»
رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:07 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.