أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا

             
35362 71596

العودة   {منتديات كل السلفيين} > المنابر العامة > المنبر الإسلامي العام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 01-31-2010, 10:52 AM
أبو معاوية البيروتي أبو معاوية البيروتي غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: بلاد الشام
المشاركات: 7,435
Arrow تعليقات د . بسام الغانم على كتاب (استمتع بحياتك) للدكتور محمد العريفي


تعليقات بسام
على كتاب (استمتع بحياتك)
للدكتور محمد العريفي


كتبها الدكتور بسام الغانم العطاوي
أستاذ السنة وعلومها في جامعة الملك فيصل في الدمام


مقدمة التعليقات
إن الحمدلله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلامضل له ، ومن يضلل فلاهادي له ، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فإن أخي الكريم صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور محمد بن عبدالرحمن العريفي حفظه الله تعالى وسدده ووفقه له جهود بارزة في ميدان الدعوة إلى الله ، وكثر ظهوره في كثير من القنوات الفضائية الطيبة والخبيثة ، وانتشرت أشرطته انتشارا عظيما ، أسأل الله تعالى أن ينفع بها ، وأن يجزي الشيخ العريفي خير الجزاء على جهوده ونشاطه في الدعوة إلى الخير . ومع إقراري بفضله وكثير نفعه إلا أنني لاحظت كما لاحظ غيري من طلبة العلم أن الدكتور العريفي جزاه الله خيرا لايتثبت من صحة بعض مايذكره في محاضراته ، فربما استرسل في ذكر أحاديث أو أخبار أو مسائل قبل أن يتثبت من صحتها وسلامتها . وهذا شيء يلاحظ أيضا على جمع من الدعاة الذين يكثر ظهورهم في الفضائيات ، لكن أكثرهم ليسوا من أهل العلم والاختصاص فلايستغرب إذا كثرت أخطاؤهم بسبب قلة علمهم بالشريعة ، وجرأتهم على الكلام في دين الله بغير علم ، لكن الدكتور العريفي أحد المختصين بالشريعة ، ويحمل درجة الدكتوراه في العقيدة الإسلامية ، وهو أستاذ جامعي يعرف أصول البحث وقواعد التأليف ، فالعتب عليه أشد . وقد يكون السبب في ذلك الإكثار من المحاضرات والدروس مع ضيق وقت الإعداد لها . ولاشك أن الإكثار مظنة الخطأ ، وقد روى البخاري رحمه الله بسنده
عن عبد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما أنه قال لأبيه : إني لَا أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كما يحدث فُلَانٌ وَفُلَانٌ ؟ قال : أَمَا إني لم أُفَارِقْهُ وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يقول :"من كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ من النَّارِ " ، قال ابن حجر رحمه الله في شرحه : وفي تمسك الزبير بهذا الحديث على ما ذهب إليه من اختيار قلة التحديث دليل للأصح في أن الكذب هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه سواء كان عمدا أم خطأ ، والمخطئ وإن كان غير مأثوم بالإجماع لكن الزبير خشي من الإكثار أن يقع في الخطأ وهو لا يشعر ؛ لأنه وإن لم يأثم بالخطأ لكن قد يأثم بالإكثار ؛ إذ الإكثار مظنة الخطأ ، والثقة إذا حدث بالخطأ فحُمِل عنه ، وهو لا يشعر أنه خطأ ؛ يُعمل به على الدوام ؛ للوثوق بنقله ، فيكون سببا للعمل بما لم يقله الشارع ، فمن خشي من الإكثار الوقوع في الخطأ لا يؤمن عليه الإثم إذا تعمد الإكثار ، فمِنْ ثَمَّ توقف الزبير وغيره من الصحابة عن الإكثار من التحديث ، وأما من أكثر منهم فمحمول على أنهم كانوا واثقين من أنفسهم بالتثبت ، أو طالت أعمارهم فاحتيج إلى ماعندهم فسئلوا فلم يمكنهم الكتمان رضي الله عنهم (فتح الباري 1/201) . وقبل عدة سنوات استمعت إلى حديث للدكتور محمد العريفي يبث على الهواء مباشرة ، فبعثت إليه تصحيحا لمارأيته أنه أخطأ فيه ، وهي ملحوظات قليلة ، فماكان منه إلا أن اتصل علي في اليوم التالي وحدثني بأخلاقه الكريمة المعروفة ، وشكرني على رسالتي ، واعتذر لي بأنه أحيانا تصل إليه الدعوة إلى البرنامج متأخرة ، فلايجد من الوقت مايكفي للتحضير والإعداد والمراجعة على الوجه المطلوب .
لكن هذا العذر لايرد في تعليل كثرة الأخطاء في كتاب يراد نشره على أوسع نطاق ، أعني كتاب الدكتور العريفي (استمتع بحياتك ) ، فهذا الكتاب فيه فوائد طيبة ، إلا أن فيه أخطاء كثيرة ، وكان ينبغي للدكتور العريفي أن يتأنى في إخراج الكتاب حتى يراجعه ، ويعرضه على أهل العلم والاختصاص ليراجعوه أيضا ، فيخرج الكتاب بعد ذلك محكما متقنا عظيم النفع ، لكن الذي رأيته أن العناية بشكل الكتاب ومظهره طغت على العناية بمضمونه ، فقد طبع الكتاب على ورق صقيل فاخر ، بألوان متنوعة زاهية ، ورسوم وزخارف بديعة . وقد رأيت أن هناك حرصا كبيرا على نشر أكبر قدر ممكن من هذا الكتاب ، ورأيت عدة مكتبات يجعلون هذا الكتاب في مكان مميز بارز ، وبشكل جذاب ليقبل الناس على شرائه ، وقد انتشر في الإنترنت انتشارا كبيرا . وقد ذكر الدكتور العريفي في مقدمة هذا الكتاب أن طبعات بعض كتبه تجاوزت مليوني نسخة ، وهذا كله يؤكد ضرورة العناية بمضمون الكتاب وتصحيحه حتى يتم الانتفاع به ، لكن الواقع أن الكتاب طبع طبعة أخرى ، ولم يصحح شيء من أخطائه مع الأسف ، وإنما اكتفي بتغيير سعره ، فالطبعة الأولى كانت تباع باثنين وعشرين ريالا ، ثم أعيد طبعه فصار يباع بسبعة وعشرين ريالا .
فرأيت أن أكتب تعليقات على بعض المواضع في هذا الكتاب بمايسمح به وقتي دون استقصاء لكل ماورد فيه مما يحتاج إلى تعليق ، فالكتاب كبير يقع في نحو أربعمائة صفحة ، والتعليق على جميعه صعب ولا يتسع وقتي له فاكتفيت بالتنبيه على بعض المواضع ، ليستنير القارىء بها في قراءة الكتاب ، وحسبك من القلادة ماأحاط بالعنق . وأرجو ألا أكون بهذه التعليقات عند أخي الدكتور محمد العريفي كزميله الذي وصفه في هذا الكتاب تحت عنوان (لاتنتقد ) فقال : أسألُه عن كتاب ألفتُه ، وقد أثنى عليه أناس كثيرا ، وطبع منه مئات الآلاف ، فيقول ببرود : والله جيد .. ولكن فيه قصة غير مناسبة ..

وإني أؤكد على أن هذه التعليقات والملحوظات على كتاب الدكتور العريفي لاأقصد منها التحذير منه أو التنفير من سماع محاضراته ، فمعاذ الله أن أقصد هذا ، وإنما قصدت من ذلك أمرين ، وهما :

الأمر الأول : النصيحة لأخي الدكتور العريفي بحثه على تحري الصواب في كل مايقدمه للناس ، وإعادة النظر في هذا الكتاب ومراجعته وتصحيحه ؛ فهذا مقتضى الأمانة ، وواجب النصيحة ، وهو حق أتباعه عليه أن ينصح لهم بتقديم ما هو صحيح ، وألا يقدم شيئا حتى يتثبت منه ، فهو يظهر في القنوات الفضائية فيشاهده الملايين ممن يحبه ويثق فيه فإذا أخطأ تابعوه في خطئه ، وربما استمروا عليه ولم يقبلوا من أحد تصحيحه ؛ ثقة منهم في الدكتور العريفي ، وهذا حال كثير من الناس مع متبوعيهم قديما وحديثا .
وقد ذكر السيوطي في مقدمة كتابه تحذير الخواص من أكاذيب القصاص أنه أنكر على أحد القصاص ذكره أحاديث مكذوبة باطلة في مجالسه ، وأفتى بأنه لاتحل رواية ذلك ولاذكره ، وخصوصا بين العوام والسوقة والنساء ، وأنه يجب على هذا الرجل أن يصحح الأحاديث التي يرويها في مجلسه على مشايخ الحديث ، فما قالوا : إن له أصلا ؛ يرويه ، وما قالوا : إنه لا أصل له ؛ لا يذكره ، قال السيوطي : فنُقِل إليه ذلك ، فاستشاط غضبا وقام وقعد ، وقال : مثلي يصحح الأحاديث على المشايخ ؟! مثلي يقال له في حديث رواه : إنه باطل ؟! أنا أصحح على الناس ، أنا أعلم أهل الأرض بالحديث وغيره إلى غير ذلك من الفشارات ثم أغرى بي العوام فقامت علي الغوغاء وتناولوني بألسنتهم ، وتوعدوني بالقتل والرجم ، فلما بلغني ذلك أعدت الجواب ، وزدت فيه : " ومتى لم يصحح الأحاديث التي يرويها على المشايخ وعاد إلى رواية هذا الحديث بعد أن بين له بطلانه ، واستمر مصرا على نقل الكذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفتيت بضربه سياطا " فازداد هو حدة ، وتزايد الأمر من عصبة العوام شدة ، وثاروا ثورة كبرى ، وجاءوا شيئا إمرا... إلى آخر ماذكره
والمقصود أن كثيرا من العوام يفتنون بمن يعجبون به ، فيأخذون مايقوله على أنه مسلمات لاتقبل النقاش .
وتعجبني كلمة قالها العلامة الألباني رحمه الله تعالى حين كلمه أحد طلبة العلم ، وناقشه في تصحيح أحد الأحاديث ، فقال الطالب : لعلي أثقلت عليك ، فقال الشيخ الألباني : كيف تثقل علي وأنت تخفف عني بعض ذنوبي في تصحيح بعض الأحاديث ، ونحن نستفيد منك ( إقامة البرهان للمؤذن /13) .
وقد قيل : احذروا زلة العالِم ؛ فإنه إذا زَلَّ زَلَّ بزلته عالمَ .
وقيل أيضا : ويل للعالِم من الأتباع ، وويل للأتباع من العالِم ، يَزِلُّ العالِم زلة فيرجع عنها ، ويحتملها الأتباع فيذهبون بها في الآفاق .
الأمر الآخر : النصيحة لمستمعي الشيخ العريفي ومحبيه ومستمعي غيره أيضا من مشاهير الدعاة في الساحة الذين كثرت جماهيرهم ، بحثهم على الاستفادة منهم - إن كانوا من أهل الاعتقاد الصحيح والمنهج السليم من البدع والخرافات والجهل - مع تحري الصواب ، وأن يكون همهم معرفة الحق بدليله ، وألايتابعوا من أخطأ على خطئه ، وإنما عليهم أن يعرضوا ذلك على الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة ومنهج أهل السنة والجماعة بقدر استطاعتهم ، وأن يستعينوا في ذلك بأهل العلم والاختصاص الراسخين فيه .


التعليقات على كتاب (استمتع بحياتك)


سأجعل تعليقاتي تدور على عدة محاور رئيسة ، وهي :
المحور الأول : عنوان الكتاب وموضوعه .
المحور الثاني : المنهج العام للكتاب .
المحور الثالث : عبارات أطلقها المؤلف ، وفيها نظر .
المحور الرابع : الأحاديث النبوية المذكورة في الكتاب .
المحور الخامس : الآثار المذكورة في الكتاب .
المحور السادس : القصص والأمثال المذكورة في الكتاب .

المحور الأول : عنوان الكتاب وموضوعه

قال المؤلف حفظه الله في مقدمة الكتاب في ص 3 : " لما كنت في السادسة عشرة من عمري وقع في يدي كتاب " فن التعامل مع الناس " لمؤلفه "دايل كارنيجي" ، كان كتابا رائعا قرأته عدة مرات . كان كاتبه اقترح أن يعيد الشخص قراءته كل شهر ، ففعلت ذلك ، جعلت أطبق قواعده عند تعاملي مع الناس فرأيت لذلك نتائج عجيبة ....إلى أن قال : فبحثت في تاريخنا فرأيت أن في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومواقف المتميزين من رجال أمتنا مايغنينا ، فبدأت من ذلك الحين أؤلف هذا الكتاب في فن التعامل مع الناس ، فهذا الكتاب الذي بين يديك ليس وليد شهر أو سنة بل هو نتيجة دراسات قمت بها لمدة عشرين عاما " .
أقول : يتوهم بعض الناس أن موضوع التعامل مع الناس شيء جديد ، وأن الغرب سبقونا إلى وضع قواعده وأسسه ، وتدريب الناس عليه ، وصار بعض المثقفين يقيمون دورات في فن التعامل مع الناس على غرار الدورات التي تقام في الغرب ، وبعض هذه الدورات يدرس فيها أخلاق الغربيين وأسس تعاملهم ، وهذا منكر ، فديننا العظيم يغنينا عن أخلاقهم ، ومن المعلوم أن الأخلاق لاتبنى إلا على أساس من عقيدة ، وعقيدتهم فاسدة فكيف نأخذ منهم أخلاقهم ؟!
إن معاملة الناس ليست موضوعا حديثا ، وإنما هي جزء من دين الإسلام ، والقرآن الكريم فيه البيان التام للمنهج القويم والصراط المستقيم في معاملة الناس ، والآيات الدالة على ذلك كثيرة جدا ، بل فيه قواعد جامعة لأصول معاملة الناس ، كقوله تعالى : {خذ العفوَ وأمُرْ بالعُرْفِ وأعرضْ عن الجاهلين} ( الأعراف : 199) قال الشيخ السعدي رحمه الله : " هذه الآية جامعة لحسن الخلق مع الناس ، وما ينبغي في معاملتهم . فالذي ينبغي أن يعامل به الناس أن يأخذ العفو ، أي : ما سمحت به أنفسهم ، وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق ، فلا يكلفهم ما لا تسمح به طبعائهم ، بل يشكر من كل أحد ما قابله به ، من قول وفعل جميل ، أو ما هو دون ذلك ، ويتجاوز عن تقصيرهم ، ويغض طرفه عن نقصهم ، ولا يتكبر على الصغير لصغره ، ولا ناقص العقل لنقصه ، ولا الفقير لفقره ، بل يعامل الجميع باللطف والمقابلة بما تقتضيه الحال ، وتنشرح له صدورهم ، ** وأمر بالعرف} أي : بكل قول حسن ، وفعل جميل ، وخلق كامل للقريب والبعيد . فاجعل ما يأتي إلى الناس منك إما تعليم علم ، أو حثا على خير ، من صلة رحم ، أو بر والدين ، أو إصلاح بين الناس أو نصيحة نافعة ، أو رأي مصيب ، أو معاونة على بر وتقوى ، أو زجر عن قبيح ، أو إرشاد إلى تحصيل مصلحة دينية ، أو دنيوية . ولما كان لا بد من أذية الجاهل ، أمر الله تعالى أن يقابل الجاهل ، بالإعراض عنه ، وعدم مقابلته بجهله . فمن آذاك بقوله أو فعله لا تؤذه ، ومن حرمك لا تحرمه ، ومن قطعك فَصِلْه ، ومن ظلمك فاعدل فيه " .
وكذلك السنة النبوية فهي مليئة بالأحاديث التي تنظم معاملة الناس قولا وعملا ، تنظيرا وتطبيقا ، وقد اعتنى العلماء بجمعها ودراستها ، وخصصوا لها أبوابا خاصة في كتب السنة ككتاب الأدب الذي نجده في صحيح البخاري، وسنن أبي داود ، وسنن الترمذي ، وسنن ابن ماجه ، وغيرها من كتب الحديث ، وفي هذا الباب يروي المحدثون أحاديث كثيرة متنوعة في معاملة الإنسان لغيره ، من مسلم وكافر وقريب وجار وحيوان ونبات . وإليك بعض عناوين كتاب الأدب من صحيح البخاري : من أحق الناس بحسن الصحبة ، صلة الوالد المشرك ، صلة الأخ المشرك ، فضل صلة الرحم ، رحمة الولد وتقبيله ومعانقته ، فضل من يعود يتيما ، الساعي على الأرملة ، رحمة الناس والبهائم ، الوصاة بالجار ، كل معروف صدقة ، طيب الكلام ، الرفق في الأمر كله ، تعاون المؤمنين بعضهم بعضا ، حسن الخلق والسخاء ومايكره من البخل ، كيف يكون الرجل في أهله ، ماينهى من السباب واللعن ، الغيبة ، النميمة من الكبائر ، ماقيل في ذي الوجهين ، مايكره من التمادح ، ماينهى عن التحاسد والتدابر ، الكبر ، من تجمل للوفود ، الإخاء والحلف ، التبسم والضحك الصبر في الأذى ، من لم يواجه الناس في العتاب ، الحذر من الغضب ، يسروا ولاتعسروا ، الانبساط إلى الناس ، المداراة مع الناس . وماذكرته هو ثلث الأبواب الموجودة في كتاب الأدب ، ولوتأملت كتاب (استمتع بحياتك) لوجدت أن غالب موضوعاته لاتخرج عن مضمون هذه العناوين .
ولو تتبعتَ جميع الأبواب في جميع كتب الأدب لوجدت مادة ضخمة من النصوص النبوية في معاملة الناس تغنيك عن كل تلك الدورات المستغرِبة ، وتعطيك أضعاف ماتعطيكه تلك الدورات ، بحقائق مصدرها الوحي لابظنون وتخرصات كما في تلك الدورات المبنية على تجارب ومشاهدات تخطىء وتصيب .
وهناك كتب موضوعية أخرى في كتب الحديث تعنى بهذا الموضوع غير كتاب الأدب ككتاب البر والصلة والآداب في صحيح مسلم ، وكتاب البر والصلة في سنن الترمذي ، وفي شرح السنة للبغوي ، وغيرها . وهناك أبواب لها علاقة بهذا الموضوع تجدها في كتب موضوعية أخرى ككتاب الاستئذان ، وكتاب اللباس .
ولم يكتف أئمة الحديث بتخصيص موضوع معاملة الناس بجزء داخل كتب الحديث بل أفردوه بالتصنيف كما فعل ابن أبي شيبة في كتاب الأدب ، والبخاري في كتاب الأدب المفرد ، وابن أبي الدنيا في كثير من كتبه التي خصصها لموضوعات أدبية تفصيلية ، والبيهقي في كتاب الآداب ، والخرائطي في مكارم الأخلاق ، وغيرهم .
ورأى آخرون من العلماء أن يضيفوا إلى ذلك ماوقفوا عليه من آداب العرب وأشعارهم وقصصهم ، وتجاربهم الشخصية فألفوا كتبا جمعوا فيها ذلك ، كما فعل الإمام ابن عبدالبر رحمه الله في كتابه الكبير بهجة المجالس وأنس المجالس المطبوع في ألف ومائتي صفحة ، قال في أوله : فإن أولى ماعني به الطالب ، ورغب فيه الراغب ، وصرف إليه العاقل همه ، وأكد فيه عزمه بعد الوقوف على معاني السنن والكتاب مطالعة فنون الآداب ، ومااشتملت عليه وجوه الصواب من أنواع الحكم .... إلى أن قال : من تقييد الأمثال السائرة ، والأبيات النادرة ، والفصول الشريفة ، والأخبار الظريفة ، من حكم الحكماء وكلام البلغاء من أئمة السلف وصالحي الخلف الذين امتثلوا في أفعالهم وأقوالهم آداب التنزيل ومعاني سنن الرسول صلى الله عليه وسلم .
وألف ابن حبان في ذلك كتاب روضة العقلاء ونزهة الفضلاء ، وألف ابن حزم كتاب الأخلاق والسير في مداواة النفوس ، وألف ابن الجوزي كتابه صيد الخاطر ، وغيرهم .
والمقصود أن موضوع التعامل مع الناس خدمه العلماء من جميع جوانبه بمالامزيد عليه ، فينبغي أن تكون دورات فن التعامل مع الناس تعقد على أساس تلك الثروة التي خلفها لنا السابقون ، فيدرس كتاب الأدب من صحيح البخاري مثلا ، فيخرج المشاركون في تلك الدورة بخير عظيم من نور النبوة لا من فلسفة الغرب

عنوان الكتاب
سمى الدكتور العريفي كتابه "استمتع بحياتك" ، ولم يفصح في مقدمته عن سبب اختياره هذا الاسم ، ولا عن مراده به ، لكن الذي يظهر من مجمل كلامه في الكتاب أنه يقصد بذلك أن إتقان مهارات التعامل مع الناس والعمل بها يجعل من الحياة متعة ، وقد قال في ص 8 : " سنتعلم هنا كيفية الاستمتاع بالحياة : أساليب جذب الناس والتأثير فيهم ، تحمل أخطائهم ، التعامل مع أصحاب الأخلاقيات المؤذية إلى غير ذلك ".
وقال في ص 25بعنوان استمتع بالمهارات : " المهارات متعة حسية ، لا أعني بها الأجر الأخروي فقط ، لا وإنما هي متعة وفرح تشعر به حقيقة ، فاستمتع بها ، ومارسها مع جميع الناس" .
وقال في ص 196 :" إذا أردت أن تستمتع بحياتك فاعمل بهذه القاعدة : لاتهتم بصغائر الأمور" .
أقول : ركز المؤلف في هذا الكتاب على جزئية صغيرة جعلها الأساس في الاستمتاع بالحياة ، وفاته التذكير بالأصل العظيم الجامع الذي به يسعد الإنسان في حياته وآخرته ألا وهو الإيمان والعمل الصالح ، فلا سبيل إلى السعادة الحقيقية والاستمتاع بالحياة مهما كان الإنسان ماهرا في فن التعامل مع الناس مالم يحقق ذلك الأصل العظيم : الإيمان والعمل الصالح كما قال تعالى :{من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } (النحل : 97) ، قال ابن القيم رحمه الله : فهذا خبر أصدق الصادقين ، ومخبره عند أهله عين ، بل حق اليقين فلا بد لكل مَنْ عَمِل صالحا أن يحييه الله حياة طيبة بحسب إيمانه وعمله ؛ ولكن يغلط الجفاة الأجلاف في مسمى الحياة حيث يظنونها التنعم في أنواع المآكل والمشارب والملابس والمناكح أو لذة الرياسة والمال وقهر الأعداء والتفنن بأنواع الشهوات ، ولا ريب أن هذه لذة مشتركة بين البهائم بل قد يكون حظ كثير من البهائم منها أكثر من حظ الإنسان ، فمن لم تكن عنده لذة إلا اللذة التي تشاركه فيها السباع والدواب والأنعام فذلك ممن ينادى عليه من مكان بعيد ، ولكن أين هذه اللذة من اللذة بأمرٍ إذا خالط بشاشته القلوب سلا عن الأبناء والنساء والأوطان والأموال والإخوان والمساكن ، ورضي بتركها كلها والخروج منها رأسا ، وعرض نفسه لأنواع المكاره والمشاق ، وهو مُتَحَلٍّ بهذا منشرح الصدر به ، يطيب له قتل ابنه وأبيه وصاحبته وأخيه ، لا تأخذه في ذلك لومة لائم حتى إن أحدهم ليتلقى الرمح بصدره ، ويقول :"فزت ورب الكعبة" ويستطيل الآخر حياته حتى يلقي قوته من يده ، ويقول : إنها لحياة طويلة إن صبرت حتى آكلها ، ثم يتقدم إلى الموت فرحا مسرورا ، ويقول الآخر مع فقره : لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن عليه لجالدونا عليه بالسيوف ، ويقول الآخر : إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها طربا ، وقال بعض العارفين : إنه لتمر بي أوقات أقول فيها : إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب . ومن تأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم ، لما نهاهم عن الوصال فقالوا : إنك تواصل ، فقال : " إني لست كهيئتكم إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني" علم أن هذا طعام الأرواح وشرابها وما يفيض عليها من أنواع البهجة واللذة والسرور والنعيم الذي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذروة العليا منه ، وغيره إذا تعلق بغباره رأى ملك الدنيا ونعيمها بالنسبة إليه هباء منثورا بل باطلا وغرورا .(مفتاح دار السعادة 1/182)
وقال ابن القيم أيضا : فأعظم أسباب شرح الصدر التوحيد ، وعلى حسب كماله وقوته وزيادته يكون انشراح صدر صاحبه قال الله تعالى:** أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه }(الزمر:22)
وقال تعالى :** فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء } (الأنعام : 125) فالهدى والتوحيد من أعظم أسباب شرح الصدر ، والشرك والضلال من أعظم أسباب ضيق الصدر وانحراجه (زاد المعاد 2/24) .
وقال أيضا : وقد عبر النبي صلى الله عليه وسلم عن إدراك حقيقة الإيمان والإحسان وحصوله للقلب ومباشرته له بالذوق تارة ، وبالطعام والشراب تارة ، وبوجود الحلاوة تارة ، كما قال :"ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ من رضي بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا"، وقال :"ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار "ولما نهاهم عن الوصال ؛ قالوا : إنك تواصل قال :" إني لست كهيئتكم إني أطعم وأسقى " وفي لفظ " إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني " (مدارج السالكين 3/88)
والمقصود أن الإيمان والعمل الصالح هو سبيل السعادة والمتعة بالحياة ، فالذي يجد حلاوة الإيمان يجد سعادته ومتعته الحقيقية في إيمانه وعبادته ربه ، قال الإمام ابن تيمية رحمه الله : " وكان صلى الله عليه وسلم يقول :"جعلت قرة عينى في الصلاة" ، وكان يقول: " أرحنا يا بلال بالصلاة " ، ولم يقل : أرحنا منها ، فمن لم يجد قرة عينه ، وراحة قلبه في الصلاة فهو منقوص الإيمان (مجموع الفتاوى 11/541) .
وعن عبد اللَّهِ بن عَمْرِو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال : جَمَعْتُ الْقُرْآنَ فَقَرَأْتُ بِهِ في كل لَيْلَةٍ فَبَلَغَ ذلك رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فقال : " إني أَخْشَى أَنْ يَطُولَ عَلَيْكَ زَمَانٌ أَنْ تَمَلَّ ، اقْرَأْهُ في كل شَهْرٍ" قلت : يا رَسُولَ اللَّهِ ، دعني أَسْتَمْتِعُ من قوتي وشبابي ، قال :"اقْرَأْهُ في كل عِشْرِينَ "قلت : يا رَسُولَ اللَّهِ دعني أَسْتَمْتِعُ من قوتي وشبابي . قال :" اقْرَأْهُ في عَشْرٍ " قلت : يا رَسُولَ اللَّهِ ، دعني أَسْتَمْتِعُ من قوتي وشبابي قال : "اقْرَأْهُ في كل سَبْعٍ "قلت : يا رَسُولَ اللَّهِ ، دعني أستمتع من قوتي وشبابي ، فَأَبَى . متفق عليه ، وهذا لفظ أحمد في مسنده ، والشاهد فيه قول عبدالله بن عمرو في لفظ أحمد " دعني أستمتع من قوتي وشبابي" ، فمتعته في العبادة ؛ إنهاحلاوة الإيمان في قلبه تجعله يشعر بمتعة شبابه وقوته في صلاته وقيامه بين يدي ربه .
وروى الإمام أحمد رحمه الله في فضائل الصحابة(2/814) بسند صحيح عن خالد بن الوليد رضي الله عنه أنه قال : " ما ليلة تهدى إلي فيها عروس أنا لها محب ، أو أبشر فيها بغلام بأحب إلي من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين أصبح بها العدو " . ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه (7/34 طبعة الرشد) بلفظ : "ما كان في الأرض ليلة أبشر فيها بغلام وتهدى إلي عروس أنا لها محب أحب إلي من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين أصبح بهم العدو ، فعليكم بالجهاد" . فمتعته بالجهاد في تلك الحال الشديدة أعظم من متعته بعروس هو لها محب .
وقال ابن القيم رحمه الله : سَمِعْت شَيْخَ الإِسْلامِ ابْنَ تيمية قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ يَقُولُ : إنَّ فِي الدُّنْيَا جَنَّةً مَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا لَمْ يَدْخُلْ جَنَّةَ الآخِرَةَ . وَقَالَ لِي مَرَّةً : مَا يَصْنَعُ أَعْدَائِي بِي ؟! أَنَا جَنَّتِي وَبُسْتَانِي فِي صَدْرِي ، أَيْنَ رُحْت فَهِيَ مَعِي لا تُفَارِقُنِي , أَنَا حَبْسِي خَلْوَةٌ , وَقَتْلِي شَهَادَةٌ , وَإِخْرَاجِي مِنْ بَلَدِي سِيَاحَةٌ . وكان يقول في محبسه في القلعة : لو بذلت ملء هذه القلعة ذهبا ما عدل عندي شكر هذه النعمة أو قال : ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير ، ونحو هذا . وكان يقول في سجوده ، وهو محبوس : " اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك " ما شاء الله . وَقَالَ لِي مَرَّةً : الْمَحْبُوسُ مَنْ حُبِسَ قَلْبُهُ عَنْ رَبِّهِ تعالى , وَالْمَأْسُورُ مَنْ أَسَرَهُ هَوَاهُ . ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال :** فضُربَ بينهم بسُورٍ له بابٌ باطنُه فيه الرحمةُ وظاهرُه مِنْ قِبَلِه العذاب}(الحديد :13) . وَعَلِمَ اللَّهُ مَا رَأَيْت أَحَدًا أَطْيَبُ عَيْشًا مِنْهُ قَطُّ مَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ ضِيقِ الْعَيْشِ وخلاف الرَّفَاهِيَةِ وَالنَّعِيمِ بَلْ ضِدِّهَا ، ومَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ الْحَبْسِ وَالتَّهْدِيدِ وَالإِرْجَافِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ أَطْيَبُ النَّاسِ عَيْشًا وأشرحهم صَدْرًا , وَأَقْوَاهُمْ قَلْبًا وَأَسَرُّهُمْ نَفْسًا، تَلُوحُ نَضرَةُ النَّعِيمِ عَلَى وَجْهِهِ . وَكُنَّا إذَا اشْتَدَّ بِنَا الْخَوْفُ ، وَسَاءَتْ مِنَّا الظُّنُونُ ، وَضَاقَتْ بِنَا الأَرْضُ أَتَيْنَاهُ فَمَا هُوَ إلا أَنْ نَرَاهُ وَنَسْمَعَ كَلامَهُ فَيَذْهَبَ ذَلِكَ كُلُّهُ , وَيَنْقَلِبَ انْشِرَاحًا وَقُوَّةً وَيَقِينًا وَطُمَأْنِينَةً , فَسُبْحَانَ مَنْ أَشْهَدَ عِبَادَهُ جَنَّتَهُ قَبْلَ لِقَائِهِ ، وَفَتَحَ لَهُمْ أَبْوَابَهَا فِي دَارِ الْعَمَلِ ، فَأَتَاهُم مِنْ رَوْحِهَا وَنَسِيمِهَا وَطِيبِهَا مَا استفرغ قُوَاهُمْ لِطَلَبِهَا وَالْمُسَابَقَةِ إلَيْهَا . وكان بعض العارفين يقول : لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف وقال آخر : مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها ، قيل : و ما أطيب ما فيها؟ ، قال : محبة الله تعالى ومعرفته وذكره ، أو نحو هذا ..... فبمحبة الله تعالى ومعرفته ودوام ذكره والسكون إليه والطمأنينة إليه وإفراده بالحب والخوف والرجاء والتوكل والمعاملة بحيث يكون هو وحده المستولي على هموم العبد وعزماته وإرادته هو جنة الدنيا والنعيم الذي لا يشبهه نعيم ، وهو قرة عين المحبين وحياة العارفين ، وإنما تقر عيون الناس به على حسب قرة أعينهم بالله عز وجل ، فمن قرت عينه بالله قرت به كل عين ، ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات (الوابل الصيب /69) .
والمقصود أنه كان ينبغي للدكتور العريفي أن يركز على هذا الأصل الأصيل فهذا هو طريق السعادة والاستمتاع الحقيقي بالحياة .
وقال المؤلف في ص 3 : " إلا أني أجد أن أحب كتبي إلي وأغلاها إلى قلبي وأكثرها فائدة عملية – فيما أظن- هو هذا الكتاب الذي كتبت كلماته بمداد خلطته بدمي ، سكبت روحي بين أسطره ."
أقول : أرى أن هذه مبالغة كبيرة ينبغي تركها . فإن حمل هذاالكلام على الحقيقة خالف الواقع ، فمداد الكتاب ليس فيه شيء من دم الدكتور العريفي ، وليست روحه مسكوبة بين أسطره ، وإن حمل على المجاز فمستوى الكتاب لايرقى إلى أن يقال فيه ذلك ، وإن كان فيه فوائد طيبة . وأكاد أجزم أن الدكتور العريفي بعلمه وخبرته قادر إن شاء الله على تأليف كتاب أفضل من هذا الكتاب بمراحل .
وأما قول الحافظ الطبراني عن معجمه الأوسط : "هذا الكتاب روحي" فقول مقبول من أحد أئمة الحديث وحفاظهم يقوله عن كتاب نفيس تعب في جمعه وتصنيفه ، وأثنى عليه أهل العلم والاختصاص ، فهذا الحافظ الذهبي يذكر في كتابه تذكرة الحفاظ (3/912) أن الطبراني صنف المعجم الأوسط في ست مجلدات كبار على معجم شيوخه ، يأتي فيه عن كل شيخ بما له من الغرائب والعجائب ، فهو نظير كتاب الأفراد للدارقطني ، بَيَّنَ فيه فضيلته ، وسعة روايته ، وكان يقول : "هذا الكتاب روحي" ؛ فإنه تعب عليه .
وقال الدكتور الطحان محقق الكتاب في أول تحقيقه : " وقد ظهر في هذا الكتاب سعة روايته وكثرة اطلاعه على طرق الحديث ، وتمييز الطرق التي اشترك فيها عدد من الرواة عن هذا الراوي ، عن الطرق التي انفرد بها بعض الرواة عن بعض . وهذا الأمر لاينقاد إلا لإمام جهبذ من جهابذة هذا الفن الدقيق الواسع . وقد تعب كثيرا في إخراج هذا الكتاب على هذه الطريقة ، لذلك كان يقول :" هذا الكتاب روحي" .
والمعجم الأوسط مطبوع بتحقيق الطحان في عشرة مجلدات ، وعدد أحاديثه : 9485 .
ومما له علاقة بموضوع الكتاب ماقاله الدكتور العريفي في ص 5-6 بعد أن ذكر قصة الشيخ الكبير الذي كان يفتخر في أحد المجالس أنه كان أحد زملاء الشيخ ابن باز في الدراسة عند الشيخ محمد بن إبراهيم قبل أربعين سنة [ ولاأدري من أي سنة تحسب تلك الأربعون سنة لأن الشيخ محمد بن إبراهيم توفي في سنة 1389 أي قبل أربعين سنة من الآن ] ، فقال العريفي : جعلت أردد في نفسي : " ولماذا يامسكين ماصرت ناجحا مثل ابن باز ؟ مادام أنك عرفت الطريق لماذا لم تواصل ؟ لماذا يموت ابن باز فتبكي عليه المنابر والمحاريب والمكتبات وتئن أقوام لفقده وأنت ستموت يوما من الدهر ولعله لايبكي عليك أحد إلا مجاملة أو عادة . كلنا قد نقول يوما من الأيام عرفنا فلانا وزاملنا فلانا وجالسنا فلانا وليس هذا هو الفخر إنما الفخر أن تشمخ فوق القمة كما شمخ " .
أقول : لي على هذا الكلام عدة ملحوظات :
الأولى : أنني أخشى أن يكون الكلام المذكور من سوء الظن بالمسلم ، فأنت يا أخي لاتدري ماسبب عدم وصول ذلك الشيخ الكبير إلى ماوصل إليه ابن باز ، أهو تقصيره في الوصول إلى ذلك مع قدرته عليه مع توافر الظروف وانتفاء الموانع ؟ فهنا لك أن تعاتبه على تفريطه ، فليس بعاقل من أمكنه درجة ورثة الأنبياء ثم فوتها كما قال النووي رحمه الله في مقدمة المجموع . لكن الدكتور العريفي ذكر في وصفه لذلك الشيخ ومن كان معه في المجلس أنهم متواضعو القدرات ، فكيف يطلب ممن يكون كذلك أن يكون مثل ابن باز ، وطالب العلم له مواصفات تؤهله للولوج في بحره والتقاط درره ، وليس كل الناس تتوافر فيهم تلك المواصفات ، وإلا لكان الناس كلهم علماء ؟!
قال ابن القيم رحمه الله : وَلَوْ كُلِّفَ الناس كلهم الِاجْتِهَادَ ، وَأَنْ يَكُونُوا عُلَمَاءَ فُضَلَاءَ لَضَاعَتْ مَصَالِحُ الْعِبَادِ وَتَعَطَّلَتْ الصَّنَائِعُ وَالْمَتَاجِرُ ، وكان الناس كلهم عُلَمَاءَ مُجْتَهِدِينَ ، وَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ شَرْعًا ، وَالْقَدَرُ قد مَنَعَ من وُقُوعِهِ (إعلام الموقعين 2/204) .
والصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا متساويين في العلم والفهم ، وهم قد أخذوا من منبع واحد . قال مسروق : لقد جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدتهم كالإخاذ [غدير الماء] فالإخاذ يروي الرجل ، والإخاذ يروي الرجلين ، والإخاذ يروي العشرة ، والإخاذ يروي المائة ، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم ، فوجدت عبد الله بن مسعود من ذلك الإخاذ (الطبقات الكبرى لابن سعد 2/343) .
فهل يجوز لنا أن نعيب الصحابة الذين لم يبلغوا في العلم درجة أبي بكر وعمر وغيرهما من كبار علماء الصحابة ، ونقول : إنهم قصروا في الوصول إلى ذلك كماقصر ذلك الشيخ الكبير في نظر الدكتور العريفي في الوصول إلى درجة ابن باز ؟ اللهم لا .
ألم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبابكر الصديق أن يصلي بالناس في مرضه عليه الصلاة والسلام ، وفيه إشارة إلى أنه أولى الناس بخلافته ، وقال لأبي ذر رضي الله عنه حين سأله أن يستعمله :" يا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ " الحديث رواه مسلم ، ولم يلمه النبي صلى الله عليه وسلم على ضعفه ولم يقل له : لماذا لاتكون مثل أبي بكر وعمر المؤهلين للخلافة ؟
لماذا لم يصبح سائر من رافق الإمام مالك بن أنس في طلب العلم مثله ؟ ولماذا لم يصبح سائر من رافق الإمام أحمد بن حنبل في طلب العلم مثله ؟ ولماذا لم يكن سائر من رافق الإمام ابن تيمية في طلب العلم مثله ؟ وهكذا قل في سائر أئمة العلم في مختلف العصور ، كان لهم زملاء رافقوهم في طلب العلم ، ولم يصيروا مثلهم ، لماذا ؟ أكل أولئك الطلبة كانوا مقصرين مفرطين ؟!
اجتمع خلق كثير من الطلاب عند الإمام الكبير سفيان الثوري رحمه الله فقال لتلميذه الفريابي : ترى هؤلاء ما أكثرهم ، ثلث يموتون ، وثلث يتركون هذا الذي تسمعونه ، ومن الثلث الآخر ما أقلَّ من ينجب !
وقال شعيب بن حرب الذي وصفه الذهبي بالإمام القدوة العابد شيخ الإسلام قال : كنا نطلب الحديث أربعة آلاف فما أنجب منا إلا أربعة .(الجامع لأخلاق الراوي 1/113)
إنها القدرات والملكات والمواهب التي تتفاوت بين العباد كماأراد الله ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
وقد قال تعالى :** أنزل من السماء ماءً فسالت أوديةٌ بقدرِها } قال ابن القيم رحمه الله : شبه سبحانه العلم الذي أنزله على رسوله بالماء الذي أنزله من السماء لما يحصل لكل واحد منهما من الحياة ومصالح العباد في معاشهم ومعادهم ثم شبه القلوب بالأودية فقلب كبير يسع علما كثيرا كواد عظيم يسع ماء كثيرا ، وقلب صغير إنما يسع علما قليلا كواد صغير (مفتاح دار السعادة 1/61) .
ووجود الفروق الفردية بين الناس وأثر ذلك في تحصيلهم وكسبهم ونشاطاتهم أمر لايحتاج إلى الإطالة في تقريره لأنه بين ظاهر ، ولاينكره إلا منكر للواقع ، والنصوص من الكتاب والسنة في الدلالة على ذلك كثيرة وليس هذا محل بسطها .
وأمر آخر يحسن التنبيه عليه هنا ، وهو أن القدرة وحدها لاتكفي لتحقيق المقصود ، فقد يكون الإنسان ذا قدرة على تحقيق غايته ، ويجتهد في ذلك لكنها لاتتحقق له ، إما بسبب وجود مانع أوفوات شرط ، أو أن الله تعالى لم يرد له ذلك ، ولم يقدره له . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :"من يُرِدْ الله بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ وَإِنَّمَا أنا قَاسِمٌ وَاللَّهُ يُعْطِي وَلَنْ تَزَالَ هذه الْأُمَّةُ قَائِمَةً على أَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ من خَالَفَهُمْ حتى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ " متفق عليه . وقد ذكر ابن حجر رحمه الله أن ممايفيده هذا الحديث إثبات الخير لمن تفقه في دين الله ، وأن ذلك لا يكون بالاكتساب فقط بل لمن يفتح الله عليه به ، وأن من يفتح الله عليه بذلك لا يزال جنسه موجودا حتى يأتي أمر الله (فتح الباري 1/164) . وقال التوربشتي رحمه الله : "اعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام أعلم أصحابه أنه لم يفضل في قسمة ما أوحى الله إليه أحداً من أمته على أحد ، بل سوَّى في البلاغ وعدل في القسمة ، وإنما التفاوت في الفهم وهو واقع من طريق العطاء ، ولقد كان بعض الصحابة ، رضي الله عنهم ، يسمع الحديث فلا يفهم منه إلاّ الظاهر الجلي ، ويسمعه آخر منهم ، أو من بعدهم ، فيستنبط منه مسائل كثيرة ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" (عمدة القاري 2/51) .
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم :" احْرِصْ على ما يَنْفَعُكَ ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ ولا تَعْجز ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فلا تَقُلْ لو أَنِّي فَعَلْتُ كان كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وما شَاءَ فَعَلَ فإن لو تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ" رواه مسلم . قال ابن القيم رحمه الله : " فهذا إرشاد له قبل وقوع المقدور إلى ما هو من أعظم أسباب حصوله ، وهو الحرص عليه مع الاستعانة بمن أزمة الأمور بيده ومصدرها منه ومردها إليه . فإن فاته ما لم يقدر له فله حالتان : حالة عجز وهي مفتاح عمل الشيطان فيلقيه العجز إلى "لو" ولا فائدة في "لو" ههنا ، بل هي مفتاح اللوم والجزع والسخط والأسف والحزن ، وذلك كله من عمل الشيطان ، فنهاه صلى الله عليه وسلم عن افتتاح عمله بهذا المفتاح ، وأمره بالحالة الثانية ، وهي النظر إلى القدر وملاحظته ، وأنه لو قدر له لم يفته ، ولم يغلبه عليه أحد فلم يبق له ههنا أنفع من شهود القدر ومشيئة الرب النافذة التي توجب وجود المقدور ، وإذا انتفت امتنع وجوده " (شفاء العليل 1/97) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " يعني بعد أن تحرص وتبذل الجهد وتستعين بالله وتستمر ، ثم يخرج الأمر على خلاف ماتريد فلاتقل لو أني فعلت لكان كذا ؛ لأن هذا أمر فوق إرادتك ، أنت فعلت الذي تؤمر به ، ولكن الله عزوجل غالب على أمره ...فالإنسان إذا بذل مايستطيع بذله ، وأخلفت الأمور فحينئذ يفوض الأمر إلى الله ؛ لأنه فعل مايقدر عليه (شرح رياض الصالحين 3/98) .
وهذا كله يبين خطأ ماهو مقرر فيما يسمى بالبرمجة اللغوية العصبية في إحدى قواعده الرئيسة وهي :" إذا كان أي إنسان قادرا على فعل شيء فمن الممكن لأي إنسان آخر أن يتعلمه ويفعله باتباع نفس الطريقة والخطوات حتى تحصل على نفس النتائج التي حصل عليها " (البرمجة اللغوية لناصر العبيد /9) .
وهذا الكلام بهذا الإطلاق باطل يرده الواقع ، فكم من ناس فعلوا مثلما فعل غيرهم من الناجحين فلم ينجحوا مثلهم ، ولم يحصلوا على مرادهم ، وشواهد هذا لاحصر لها في كافة الميادين .
وهذه القاعدة من قواعد البرمجة العصبية موافقة لكلام أهل الضلال من المبتدعة الذين يغالون في إثبات الأسباب ، ويعتقدون استقلالها في التأثير . قال الإمام ابن تيمية رحمه الله : " اعتقاد تأثير الأسباب على الاستقلال دخول في الضلال " (مجموع الفتاوى 8 / 392) .
وقال ابن القيم في بيان قول بعض العلماء بأن الالتفات إلى الأسباب شرك قال : " فالشرك أن يعتمد عليها ويطمئن إليها ، ويعتقد أنها بذاتها محصلة للمقصود ، فهو معرض عن المسبب لها ، ويجعل نظره والتفاته مقصورا عليها " (مدارج السالكين 3/499) .
وقال الإمام ابن تيمية : " فالأسباب التي من العباد بل ومن غيرهم ليست موجِبات لا لأمر الدنيا ولا لأمر الآخرة بل قد يكون لا بد منها ومن أمور أخرى من فضل الله ورحمته خارجة عن قدرة العبد ، وما ثَمَّ موجِبٌ إلا مشيئة الله ، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وكل ذلك قد بينه النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو معروف عند مَنْ نَوَّرَ الله بصيرته " (الاستقامة 1/176) .
وقال أيضا : " ومجرد الأسباب لا يوجب حصول المسبَّب فإن المطر إذا نزل وبذر الحب لم يكن ذلك كافيا في حصول النبات بل لابد من ريح مربية بإذن الله ، ولابد من صرف الانتفاء عنه فلابد من تمام الشروط وزوال الموانع ، وكل ذلك بقضاء الله وقدره ، وكذلك الولد لا يولد بمجرد إنزال الماء في الفرج ، بل كم من أنزل ولم يولد له بل لا بد من أن الله شاء خلقه فتحبل المرأة وتربيه في الرحم وسائر مايتم به خلقه من الشروط وزوال الموانع " (مجموع الفتاوى 8/70) .
وصدق من قال :
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأكثر مايجني عليه اجتهاده
الملحوظة الثانية : قول الدكتور العريفي في ذلك الشيخ :" ولماذا يامسكين ماصرت ناجحا مثل ابن باز " .
أقول : قد يكون ذلك الشيخ نجح في ميادين أخرى غير العلم الذي نجح فيه ابن باز ، وكل ميسر لما خلق له كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه ، قد يكون نجح في تجارة ، أو صناعة ، أو وظيفة اتقى الله فيها وعمل فيها بإخلاص وأمانة ، ونفع بها المسلمين . وقد يكون نجح في تربية أبنائه فنشأوا في كنفه صالحين مصلحين ، فصور النجاح كثيرة ، وكونه لم يصر مثل ابن باز لايعني أنه لم يحقق أي نجاح في حياته .
وصدق من قال :
عند أهل العلم للعلم مذاق فإذا فاتك هذا فافتراق
طلب المحروم للعلم سدى ليس للأعمى على الضوء هدى
فإذا فاتك توفيق العليم فامتنع عن كل تحصيل عقيم
واطلب الرزق هناأو ههنا كم مع الجهل يسار وغنى
الملحوظة الثالثة : قول الدكتور العريفي في ذلك الشيخ :" لماذا يموت ابن باز فتبكي عليه المنابر والمحاريب والمكتبات وتئن أقوام لفقده ، وأنت ستموت يوما من الدهر ولعله لايبكي عليك أحد إلا مجاملة أو عادة "
أقول : أخشى أن تكون هذه نظرة احتقار للمسلم ، واحتقار المسلم حرام ، أكل هذا لأنه لم يصر مثل ابن باز ؟ ! سبحان الله! المسلم لايخلو من خير مهما قل شأنه ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :" المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير" رواه مسلم . وروى البخاري عن مُصْعَبِ بن سَعْدٍ قال : رَأَى سَعْدٌ رضي الله عنه أَنَّ له فَضْلًا على من دُونَهُ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :"هل تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إلا بِضُعَفَائِكُمْ ".
إن من يدرك رضوان الله وجنته فلن يضره قلة الباكين عليه أو عدمهم ، وإن من يحل عليه سخط الله فلن ينفعه كثرة الباكين عليه . هل ضر حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه كونه لابواكي له ؟ وهل هناك أحد من أهل هذا العصر مات فبكى عليه أكثر ممن بكى على (ديانا ) تلك الكافرة الفاجرة ؟ فهل كثرة الباكين عليها دليل على منزلتها عند الله ؟
إنه لاعبرة بكثرة الباكين وقلتهم في منزلة الإنسان عند الله ، فقد يكون من لم يبك عليه خيرا عند الله ممن بكي عليه . روى مسلم في صحيحه أن عمر بن سعد بن أبي وقاص قال لأبيه : أَنَزَلْتَ في إِبِلِكَ وَغَنَمِكَ وَتَرَكْتَ الناس يَتَنَازَعُونَ الْمُلْكَ بَيْنَهُمْ ، فَضَرَبَ سَعْدٌ في صَدْرِهِ ، فقال : اسكت ؛ سمعت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول :" إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ "
وروى الترمذي بسند ضعيف حديث " إنَّ أَغْبَطَ أَوْلِيَائِي عِنْدِي لَمُؤْمِنٌ خَفِيفُ الْحَاذِ ذُو حَظٍّ من الصَّلَاةِ أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ ، وَأَطَاعَهُ في السِّرِّ ، وكان غَامِضًا في الناس لَا يُشَارُ إليه بِالْأَصَابِعِ ، وكان رِزْقُهُ كَفَافًا فَصَبَرَ على ذلك- ثُمَّ نفض بيده فقال - عُجِّلَتْ مَنِيَّتُهُ ، قَلَّتْ بَوَاكِيهِ ، قَلَّ تُرَاثُهُ " .
ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم :" رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لو أَقْسَمَ على اللَّهِ لَأَبَرَّهُ " رواه مسلم .
ألم يقل :"طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ في سَبِيلِ اللَّهِ أَشْعَثَ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ إن كان في الْحِرَاسَةِ كان في الْحِرَاسَةِ ، وَإِنْ كان في السَّاقَةِ كان في السَّاقَةِ ، إن اسْتَأْذَنَ لم يُؤْذَنْ له ، وَإِنْ شَفَعَ لم يُشَفَّعْ" رواه البخاري .
وروى البخاري عن سَهْلِ بن سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ قال : مَرَّ رَجُلٌ على رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقال لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ : "ما رَأْيُكَ في هذا ؟ " فقال : رَجُلٌ من أَشْرَافِ الناس ، هذا واللهِ حَرِيٌّ إن خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ . فَسَكَتَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ فقال له رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :" ما رَأْيُكَ في هذا ؟" ، فقال : يا رَسُولَ اللَّهِ ، هذا رَجُلٌ من فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ هذا حَرِيٌّ إن خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لَا يُشَفَّعَ ، وَإِنْ قال أَنْ لَا يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ ، فقال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :"هذا خَيْرٌ من مِلْءِ الأرض مِثْلَ هذا ".
اللهم إني أسألك عفوك ومغفرتك ورضوانك ، وألا تجعلني ممن يكون عند الناس عظيما ، وهو عندك صغير ولاممن يحبه الناس فيك ، وأنت له مبغض أو ماقت .
قال الدكتور العريفي : " لماذا يموت ابن باز فتبكي عليه المنابر والمحاريب والمكتبات وتئن أقوام لفقده ، وأنت ستموت يوما من الدهر ولعله لايبكي عليك أحد إلا مجاملة أو عادة " .
أقول : قد وردت أحاديث في النهي عن البكاء على الميت ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم :"إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ " متفق عليه . وقال عبدالله بن عمر رضي الله عنهما لِعَمْرِو بن عُثْمَانَ حين ماتت أخته : ألا تَنْهَى عن الْبُكَاءِ فإن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال :" إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عليه" متفق عليه . وقد نقل النووي في شرحه على مسلم وفي المجموع الإجماع على أن المراد بالبكاء هنا ماكان بصوت ونياحة لا مجرد دمع العين ، وذكر مذاهب العلماء في هذه المسألة .

المحور الثاني : المنهج العام للكتاب

لم يتكلم المؤلف عن منهجه في كتابه ، أو الخطة التي اتبعها في عرض مادة الكتاب . وبتأمل الكتاب يتضح أن
المؤلف قسم مادة الكتاب على مباحث متعددة ، يحمل كل مبحث عنوان مهارة من مهارات التعامل مع الناس ، وهذه المباحث متفاوتة ، فبعضها يكون في عدة صفحات ، وبعضها في صفحتين ، ويسوق في كل مبحث مايرى أنه يشهد له من الأحاديث والسيرة النبوية ، ويسوق الأمثلة من الآثار والقصص القديمة والحديثة ، والتجارب التي مر فيها المؤلف نفسه ، ويكثر من ذكر الأمثلة والمواقف الافتراضية ويقترح الحلول المناسبة لها في نظره .
وقد كتب المؤلف على غلاف كتابه : " فنون التعامل مع الناس في ظل السيرة النبوية ، حصيلة بحوث ودورات وذكريات أكثر من عشرين سنة " ، وقد التزم بذكر مايشهد للمهارات التي يذكرها من الحديث والسيرة في أغلب مباحث الكتاب ، لاجميعها . فعدد مباحث الكتاب تسعون تقريبا ، منها نحو خمسة عشر مبحثا خلت من ذكر الشواهد من الحديث والسيرة .
ولي على منهج المؤلف مآخذ منها مايلي :
1- المأخذ الأول أنه لايعتني كثيرا بذكر أدلة المبدأ الذي يتكلم عنه من الكتاب والسنة ، وإنما يعتني بالأمثلة العملية من السيرة التي تثبت تطبيق النبي صلى الله عليه وسلم لهذا المبدأ ، فكان ينبغي أن يقدم في أول كل مبحث بعض ماورد في تقريره من الكتاب والسنة ، ثم يذكر تطبيقات هذا المبدأ في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن المؤلف لم يفعل هذا إلا في مباحث قليلة .
وإليك مثالا لتوضيح ماذكرته ، وهو مبحث (العفو عن الآخرين ) ، فهو لم يذكر فيه أي نص من الكتاب والسنة في تقرير هذا المبدأ ، كقول الله تعالى في وصف المتقين أهل الجنة :** والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين} (آل عمران :134)، وقوله :** وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم} (النور :22) ، وقوله :{وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم} (التغابن : 14) ، وقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم :{فاعف عنهم واستغفر لهم} (آل عمران : 159) ، وقوله :{فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين } (المائدة : 13) وغير ذلك من الآيات ، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم :"ومازاد الله عبدا بعفو إلا عزا" رواه مسلم ، وحديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما في وصف النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة بأنه ليس بفظ ولا غليظ ولاسخاب في الأسواق ، ولايدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر" رواه البخاري وغير ذلك من الأحاديث ، لم يذكر المؤلف شيئا منها ، وإنما اكتفى بذكر أن الحياة لاتخلو من عثرات تصيبنا من الناس ، وأن بعض الناس يكبر الموضوع في نفسه وليس عنده استعداد للعفو والنسيان ، فكن كبيرا ، انس الماضي ، وعش حياتك ، ثم أورد ثلاثة أمثلة على عفو النبي صلى الله عليه وسلم : الأول حديث "اذهبوا فأنتم الطلقاء" [ وهو حديث ضعيف] ، وقدأطال في سرد تفصيلات ماحدث يوم فتح مكة في أربع صفحات ، ومقصوده الاستشهاد بهذه الجملة "اذهبوا فأنتم الطلقاء" ، والثاني قصة عفو النبي صلى الله عليه وسلم عن صفوان بن أمية في فتح مكة [وهو حديث ضعيف ] ، واستغرقت صفحتين ، والثالث حديث المقداد رضي الله عنه في قصة شربه نصيب النبي صلى الله عليه وسلم من اللبن ، وأنه خشي أن يدعو عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، لكنه عليه الصلاة والسلام لم يفعل ، [وهو في صحيح مسلم] وقد استغرقت هذه القصة صفحتين من صفحات المبحث . وكان ينبغي له في كل مبحث أن يبدأ بتقرير المبدأ الذي يتحدث عنه من نصوص الكتاب والسنة الدالة على مشروعيته ، ثم يسوق الأمثلة التطبيقية من السنة فيختار أصح الأمثلة وأوضحها ، وبهذا يحقق الكتاب مقصوده على أتم وجه ، ويعظم الانتفاع به . ومن المعلوم أن بناء قاعدة على مثال أو مثالين أو عدة أمثلة قصصية قد ينقض باعتراضات توجه إلى الاستدلال بتلك الأمثلة بأن يطعن في ثبوتها أو تحمل على بعض الأحوال أو الأزمان ، بخلاف ماإذا بنيت القاعدة على نصوص واضحة من الآيات والأحاديث الثابتة الدالة على التشريع العام كما سيأتي بيانه في المأخذ الثالث . والوصول إلى مايحتاج إليه المؤلف من نصوص الكتاب والسنة في تقرير المبادىء التي ذكرها في الكتاب أمرسهل في هذا العصر، ولله الحمد ، باستخدام برامج الحديث الحاسوبية ، والكتب التي ألفت في هذا الموضوع كموسوعة نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، فلو راجع المؤلف هذه الموسوعة لوجد فيها مادة ضخمة من الآيات والأحاديث في غالب الموضوعات التي تناولها في كتابه .
2- المأخذ الثاني أن المؤلف في كثير من المباحث يذكر أمثلة ، غيرها أولى منها من حيث الثبوت أو من حيث الدلالة . وإليك مثالا على هذا ، وهو المثال السابق الذي ذكر فيه الأمثلة السابقة من السيرة والتي استدل بها على عفو النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنا أرى أن المؤلف لو أمعن النظر لوجد أمثلة أدل وأصح من بعض ماذكره ، كعفو النبي صلى الله عليه وسلم عن عبدالله بن أبي بن سلول في عدة مواقف ، منها ماجاء في حديث أُسَامَةَ بن زَيْدٍ رضي الله عنهما المتفق على صحته في قصة ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى عبدالله ابن أبي بن سلول ومن معه من المشركين يدعوهم إلى الإسلام ، وفيه : فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ حتى كَادُوا يَتَثَاوَرُونَ فلم يَزَلْ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُخَفِّضُهُمْ حتى سَكَتُوا ثُمَّ رَكِبَ رسول اللَّهِ دَابَّتَهُ ، فَسَارَ حتى دخل على سَعْدِ بن عُبَادَةَ فقال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :" أَيْ سَعْدُ ، أَلَمْ تَسْمَعْ ما قال أبو حُبَابٍ - يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بن أُبَيٍّ - قال كَذَا وَكَذَا " فقال سَعْدُ بن عُبَادَةَ : أَيْ رَسُولَ اللَّهِ ، بِأَبِي أنت اعْفُ عنه وَاصْفَحْ فَوَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ لقد جاء الله بِالْحَقِّ الذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ ، وَلَقَدْ اصْطَلَحَ أَهْلُ هذه الْبَحْرَةِ على أَنْ يُتَوِّجُوهُ وَيُعَصِّبُوهُ بِالْعِصَابَةِ فلما رَدَّ الله ذلك بِالْحَقِّ الذي أَعْطَاكَ شَرِقَ بِذَلِكَ ، فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ ما رَأَيْتَ ، فَعَفَا عنه رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وكان رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عن الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ ؛ كما أَمَرَهُمْ الله ، وَيَصْبِرُونَ على الْأَذَى قال الله تَعَالَى :** وَلَتَسْمَعُنَّ من الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } الْآيَةَ ، وقال : ** وَدَّ كَثِيرٌ من أَهْلِ الْكِتَابِ } فَكَانَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَأَوَّلُ في الْعَفْوِ عَنْهُمْ ما أَمَرَهُ الله بِهِ حتى أَذِنَ له فِيهِمْ .
وماجاء في حديث جابر رضي الله عنه المتفق على صحته في قصة قول عبد اللَّهِ بن أُبَيٍّ : فَعَلُوهَا أَمَا والله لَئِنْ رَجَعْنَا إلى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ منها الْأَذَلَّ ، فَبَلَغَ النبي صلى الله عليه وسلم ، فَقَامَ عُمَرُ فقال : يا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هذا الْمُنَافِقِ ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" دَعْهُ لَا يَتَحَدَّثُ الناس أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ " . وكعفوه عمن اتهمه بالجور في القسمة ، كما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال لَمَّا كان يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَاسًا في الْقِسْمَةِ فَأَعْطَى الْأَقْرَعَ بن حَابِسٍ مِائَةً من الْإِبِلِ ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذلك ، وَأَعْطَى أُنَاسًا من أَشْرَافِ الْعَرَبِ وَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ في الْقِسْمَةِ ، فقال رَجُلٌ والله إِنَّ هذه لَقِسْمَةٌ ما عُدِلَ فيها وما أُرِيدَ فيها وَجْهُ اللَّهِ . فقلت : والله لَأُخْبِرَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَأَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قال ، فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ حتى كان كَالصِّرْفِ ، ثُمَّ قال :" فَمَنْ يَعْدِلُ إن لم يَعْدِلْ الله وَرَسُولُهُ" ، ثُمَّ قال :" يَرْحَمُ الله مُوسَى قد أُوذِيَ بِأَكْثَرَ من هذا فَصَبَرَ" . وكعفوه عن لبيد بن الأعصم الذي سحره ، وقصة السحرهذه ثابتة في الصحيحين ، وكعفوه عن اليهودية التي وضعت له السم في الشاة كما في حديث أَنَسِ بن مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ يَهُودِيَّةً أَتَتْ النبي صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ فَأَكَلَ منها ، فَجِيءَ بها ، فَقِيلَ ألا نَقْتُلُهَا قال :" لَا" . متفق عليه .
وهذا المأخذ أعني استدلاله بأمثلة غيرها أولى منها في الاستدلال لايقتصر على الأحاديث النبوية بل يشمل مايستدل به أحيانا من أمثال أو قصص .
مثال ذلك قول المؤلف في ص 249 بعنوان ( لاتبال بكلام الخلق ) : " أعجبتني عبارة رددها ابني عبدالرحمن يوما ، وأظنه في ذلك السن لم يكن يفقه معناها ، كان يقول : طنش تعش تنتعش ... تأملت في هذه العبارة وأنا ألاحظ انتقادات الناس وآراءهم وأحاديثهم ..." ثم ذكر قصة جحا وابنه مع الحمار ، واقتصر عليهما في تقرير العنوان الذي ذكره .
أقول : ألم يجد المؤلف مايقرر به هذا المعنى إلا عبارة سمعها من طفل ، وقصة جحا؟! أليس في كلام السلف الصالح وعلماء الأمة مايغني عن هذا ؟ لقد كتب كثير من العلماء في هذا المعنى وساقوا كثيرا من كلام السلف في تقريره ، فكان الأولى بالمؤلف أن يذكر بعض ماذكروه .
ومن ذلك أن الخطابي رحمه الله عقد بابا في كتابه العزلة ص 76 فقال : باب في ترك الاعتداد بعوام الناس وقلة الاكتراث بهم والتحاشي لهم ، ثم روى عدة نصوص عن السلف في هذا المعنى ، فروى بسنده عن يونس ابن عبد الأعلى أنه قال : قال لي الشافعي رحمة الله عليه : يا أبا موسى رضاء الناس غاية لا تدرك ، ليس إلى السلامة من الناس سبيل ، فانظر ما فيه صلاح نفسك فالزمه ودع الناس وما هم فيه . وروى بسنده عن النضر بن شميل أنه قال : كتب إلي الخليل أن دع الناس واشمئزازهم . إذا عرفت الحق فالزم .
وروى أبونعيم في حلية الأولياء 6/305 بسنده عن الربيع بن صبيح أنه قال : قلت للحسن : إن ههنا قوما يتبعون السقط من كلامك ليجدوا إلى الوقيعة فيك سبيلا ، فقال : لا يكبر ذلك عليك ؛ فلقد أطمعتُ نفسي في خلود الجنان فطَمِعَتْ ، وأطمعتها في مجاورة الرحمن فطمعت ، وأطمعتها في السلامة من الناس فلم أجد إلى ذلك سبيلا ؛ لأني رأيت الناس لا يرضون عن خالقهم ، فعلمت أنهم لا يرضون عن مخلوق مثلهم .
وروى أيضا في 9/147 بسنده عن بحر بن نصر قال : قيل للشافعي : الناس يقولون إنك شيعي فقال : ما مثلي ومثلهم إلا كما قال نصيب الشاعر :
وما زال كتمانيك حتى كأنني لرجع جواب السائلي عنك أعجم
لأسلم من قول الوشاة وتسلمي سلمت وهل حي على الناس يسلم
ثم قال : ليس إلى السلامة من الناس سبيل فانظر إلى ما يصلح دينك فالزمه .
وروى البيهقي في الزهد الكبير ص 105بسنده عن الشافعي قوله : إنك لا تقدر ترضي الناس كلهم فأصلح ما بينك وبين الله عز وجل ، فإذا أصلحت ما بينك وبين الله عز وجل فلا تبال بالناس .
وروى في ص 101 بسنده عن مالك بن دينار أنه قال : منذ عرفت الناس ما أبالي من حمدني ولا من ذمني لأني لا أرى إلا حامدا مفرطا أو ذاما مفرطا .
3- المأخذ الثالث أن المؤلف قد يذكر أدلة أوأمثلة ليستدل بها على أمر ، ولايكون فيها دلالة على ذلك الأمر أو تكون دلالتها عليه غير واضحة .
من أمثلة ذلك قوله في ص 176 ، تحت عنوان ( فر من المشاكل ) : " كان يدخل صلى الله عليه وسلم على أهله أحيانا في الضحى ، وهو جائع ، فيسألهم : هل عندكم من شيء ، عندكم طعام ؟ فيقولون : لا ، فيقول صلى الله عليه وسلم : " إني إذاً صائم " . ولم يكن يصنع لأجل ذلك مشاكل ، ماكان يقول : لِمَ لم تصنعوا طعاما ، لِمَ لم تخبروني لأشتري .. إني إذا صائم ، وانتهى الأمر " .
أقول : إنما يصح استدلال المؤلف بهذا الحديث لو كان عند أهل النبي صلى الله عليه وسلم طعام يمكنهم إعداده لكنهم لم يعدوه ، لكن الواقع أنه ماكان عندهم شيء ليطبخوه ، فاحتمال أن يعاتبهم النبي صلى الله عليه وسلم على عدم الطبخ غير وارد هنا ، فالحديث الذي أشار إليه المؤلف رواه مسلم عن عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها قالت : قال لي رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ : يا عَائِشَةُ ، هل عِنْدَكُمْ شَيْءٌ ؟ قالت : فقلت : يا رَسُولَ اللَّهِ ، ما عِنْدَنَا شَيْءٌ . قال : فَإِنِّي صَائِمٌ ، قالت : فَخَرَجَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَأُهْدِيَتْ لنا هَدِيَّةٌ أو جَاءَنَا زَوْرٌ ، قالت : فلما رَجَعَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قلت : يا رَسُولَ اللَّهِ أُهْدِيَتْ لنا هَدِيَّةٌ أو جَاءَنَا زَوْرٌ وقد خَبَأْتُ لك شيئا ، قال : ما هو ؟ قلت : حَيْسٌ ، قال : هَاتِيهِ فَجِئْتُ بِهِ فَأَكَلَ ، ثُمَّ قال : قد كنت أَصْبَحْتُ صَائِمًا ".
وقد قالت عَائِشَةَ رضي الله عنها لابن أختها عروة : ابن أُخْتِي إن كنا لَنَنْظُرُ إلى الْهِلَالِ ثُمَّ الْهِلَالِ ثم الهلال ثَلَاثَة أَهِلَّةٍ في شَهْرَيْنِ ، وما أُوقِدَتْ في أَبْيَاتِ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَارٌ ، فقال عروة : يا خَالَةُ ما كان يُعِيشُكُمْ ؟ قالت : الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ إلا أَنَّهُ قد كان لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِيرَانٌ من الْأَنْصَارِ كانت لهم مَنَائِحُ وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم من أَلْبَانِهِمْ فَيَسْقِينَاه . متفق عليه
ومن أمثلة ذلك قول المؤلف في ص 63 : " هذا تعامله صلى الله عليه وسلم مع أعرابي بال في المسجد ، ورجل تكلم في الصلاة ، عاملهم مراعيا أحوالهم لأن الخطأ من مثلهم لايستغرب أما معاذ بن جبل فقد كان من أقرب الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أكثرهم حرصا على طلب العلم فكان تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع أخطائه مختلفا عن تعامله مع غيره ، ثم ذكر قصة إطالة معاذ القراءة في صلاة العشاء وقول النبي صلى الله عليه وسلم له "أفتان أنت يامعاذ" ثم قال المؤلف : فتأمل الفرق في طبائع الرجال ومقاماتهم وكيف أدى إلى اختلاف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم معهم ، بل انظر إلى تعامله صلى الله عليه وسلم مع أسامة بن زيد وهو حبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تربى في بيته ، ثم ذكر قصة قتله الرجل بعد أن قال لاإله إلا الله ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم له : " يا أُسَامَةُ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ ما قال لَا إِلَهَ إلا الله " ، وقول أسامة : فما زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حتى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لم أَكُنْ أَسْلَمْتُ قبل ذلك الْيَوْمِ ".
أقول : رأى المؤلف أن اختلاف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع المذكورين في هذه المواقف كان بسبب اختلاف طبائعهم ومقاماتهم ، والحوادث التي ذكرها لاتفيد النتيجة التي خلص إليها ، وإنما يُسلَّم له ذلك إذا أتى بحادثتين متماثلتين لشخصين مختلفين ، اختلف موقف النبي صلى الله عليه وسلم فيهما ، فهنا يقال : اختلف موقفه ؛ لاختلاف الشخص ، أما أن تأتي بحوادث مختلفة في قضايا متفاوتة ، وتجزم بأن سبب اختلاف موقفه هو اختلاف الأشخاص فهذا لايُسلَّم ؛ فقد يكون اختلاف تعامله بسبب اختلاف الحوادث لااختلاف الأشخاص ، فلو أن الذي قتل ذلك الرجل بعد أن قال لاإله إلا الله رجل آخر غير أسامة ، أو أن الذي أطال القراءة في الصلاة رجل آخر غير معاذ أكان سيختلف موقف النبي صلى الله عليه وسلم ؟ وهل البول في ناحية من نواحي المسجد أو الكلام في الصلاة يساوي أو يداني قتل رجل بعد أن قال لاإله إلا الله ، أو تنفير الناس عن الصلاة والدين ؟
والمقصود أن الأمثلة التي ذكرها المؤلف لاتدل على النتيجة التي ذكرها ، فليستدل لها بأدلة أخرى .
ومن أمثلة ذلك قول المؤلف في ص 66 : " فالأحاديث التي تثيرها مع شاب تختلف عن الأحاديث مع الشيخ .. من أساليب جذب الناس اختيار الأحاديث التي يحبونها وإثارتها ... وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يراعي ذلك فحديثه مع الشاب يختلف عن حديثه مع الشيخ ... ثم ذكر قصة جابر رضي الله عنه فقال : التفت صلى الله عليه وسلم إلى جابر ، وأراد أن يتحدث معه ، فماهي الأحاديث التي اختارها النبي صلى الله عليه وسلم ليثيرها مع جابر .. جابر كان شابا في أول شبابه .. هموم الشباب في الغالب تدور حول الزواج وطلب الرزق ..قال صلى الله عليه وسلم : ياجابر هل تزوجت ... ثم ذكر المؤلف قصة جليبيب رضي الله عنه وقال : فماهي الأحاديث التي حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إثارتها معه ؟ شاب في ريعان شبابه أعزب هل يتحدث معه عن أنساب العرب ، والرفيع منها والوضيع ؟ أم يتحدث عن الأسواق وأحكام البيوع ؟ لا .. فهذا شاب له نوع خاص من الأحاديث يفضله على غيره ، أثار معه صلى الله عليه وسلم موضوع الزواج والحديث حوله ، فلطالما طرب الشباب لهذه المواضيع " .
أقول : إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم حدث جابرا وجليبيبا في الزواج ؛ لأنه الحديث الذي يناسب الشباب كما ذكر المؤلف ، فماذا يقول في الحديث الذي رواه البخاري عن عبد اللَّهِ بن عُمَرَ رضي الله عنهما قال : أَخَذَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبِي ، فقال :"كُنْ في الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ ، أو عَابِرُ سَبِيلٍ " ، فابن عمر شاب كما قال رضي الله عنه :"كنت غُلَامًا شَابًّا عَزَبًا في عَهْدِ النبي صلى الله عليه وسلم وَكُنْتُ أَبِيتُ في الْمَسْجِدِ " رواه البخاري ، فلماذا لم يحدثه عن الزواج كما حدث جابرا وجليبيبا ، وهو شاب مثلهما ، وإنما أمره بأن يكون في الدنيا كالغريب أو عابر السبيل ؟ قال ابن رجب : " وهذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا ؛ فإن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطنا ومسكنا فيطمئن فيها ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر يهيئ جهازه للرحيل (جامع العلوم الحكم 1/379) .
وماذا يقول في الحديث الذي أخرجه الترمذي وصححه عن ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال :كنت خَلْفَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا ، فقال :" يا غُلَامُ إني أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ : احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ ، إذا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وإذا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لو اجْتَمَعَتْ على أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لم يَنْفَعُوكَ إلا بِشَيْءٍ قد كَتَبَهُ الله لك ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا على أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لم يَضُرُّوكَ إلا بِشَيْءٍ قد كَتَبَهُ الله عَلَيْكَ ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ " .
والمقصود أن بناء قاعدة على مثال أو مثالين يقابله مايعارضه غير صحيح . فلوقال العريفي : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث الشاب بما يحتاج إليه وينفعه ، لكان هذا مقبولا .
ومن أمثلة ذلك قول المؤلف في ص 71 : " جلس صلى الله عليه وسلم يوما مع زوجه عائشة ، فماالأحاديث المناسب إثارتها بين الزوجين؟ هل كلمها عن غزو الروم ، ونوع الأسلحة التي استخدمت في القتال ؟ كلا فليست هي أبوبكر[كذا ، والصواب : أبابكر] ، أم حدثها عن فقر بعض المسلمين وحاجتهم ؟ كلا فليست عثمان ، إنما قال لها بعاطفة الزوجية : إني لأعرف إن كنت راضية عني ، وإذا كنت غضبى . قالت : كيف ؟ قال : إذا كُنْتِ رَاضِيَةً قلت: لَا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، وإذا كُنْتِ غَضْبَى قُلْتِ : لَا وَرَبِّ إبراهيم ، فقالت : نعم والله يا رَسُولَ اللَّهِ لا أَهْجُرُ إلا اسْمَكَ . فهل نراعي هذا نحن اليوم ؟ "
أقول : وهل كل الأحاديث التي دارت بين النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة أحاديث عاطفية كما يوهم كلام المؤلف ؟ إن عدد الأحاديث التي روتها عائشة رضي الله عنها تزيد على ألفين ومائتي حديث ، فهل هذه الأحاديث كلها من جنس ماذكره المؤلف ؟ اللهم لا ، فهي أحاديث متنوعة تشمل أبواب الدين . وإليك أمثلة على ذلك ، منها الحديث الذي أخرجه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال لها :" أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ لَمَّا بَنَوْا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عن قَوَاعِدِ إبراهيم " فقلت : يا رَسُولَ اللَّهِ ألا تَرُدُّهَا على قَوَاعِدِ إبراهيم ؟ قال :" لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَفَعَلْتُ"
وفي رواية لمسلم : "إِنَّ قَوْمَكِ اسْتَقْصَرُوا من بُنْيَانِ الْبَيْتِ وَلَوْلَا حَدَاثَةُ عَهْدِهِمْ بِالشِّرْكِ أَعَدْتُ ما تَرَكُوا منه فَإِنْ بَدَا لِقَوْمِكِ من بَعْدِي أَنْ يَبْنُوهُ فَهَلُمِّي لِأُرِيَكِ ما تَرَكُوا منه " فَأَرَاهَا قَرِيبًا من سَبْعَةِ أَذْرُعٍ .
ومنها مارواه البخاري عن ابن أبي مُلَيْكَةَ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النبي صلى الله عليه وسلم كانت لَا تَسْمَعُ شيئا لَا تَعْرِفُهُ إلا رَاجَعَتْ فيه حتى تَعْرِفَهُ ، وَأَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال :"من حُوسِبَ عُذِّبَ" قالت عَائِشَةُ : فقلت : أو ليس يقول الله تَعَالَى ** فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا } ؟ فقال :" إنما ذَلِكِ الْعَرْضُ وَلَكِنْ من نُوقِشَ الْحِسَابَ يَهْلِكْ " ، ورواه مسلم أيضا ، فهو متفق عليه .
ومنها حديث عَائِشَةُ رضي الله عنها أنها قالت : قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :"يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ فإذا كَانُوا بِبَيْدَاءَ من الأرض يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ " قالت : قلت : يا رَسُولَ اللَّهِ ،كَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ وَمَنْ ليس منهم ؟ قال :" يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ثُمَّ يُبْعَثُونَ على نِيَّاتِهِمْ " متفق عليه .
فهل هذه الأحاديث من جنس ماذكره المؤلف ؟ والمقصود أن الحديث الذي ذكره المؤلف لايعني أن كل الأحاديث التي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة أحاديث عاطفية كمايوهم كلامه .
وهذا المأخذ أعني استدلاله بأحاديث ليس فيها دلالة على مايريد تقريره ، أو دلالتها عليه غير واضحة لايقتصر على الأحاديث ، وإنما يشمل بعض القصص التي يذكرها .
ومن أمثلة ذلك قول المؤلف في ص 243 : " نايف أحد الأصدقاء كان له أم صالحة لاترضى أن يبقى في البيت صور أبدا ؛ لأن الملائكة لاتدخل بيتا فيه كلب ولاصورة . كان عندها طفلة صغيرة عندها ألعاب متنوعة إلا الدمى العرائس كانت الأم تمنعها من شراء الدمى والعرائس وتأذن لها في بقية أنواع الألعاب . أهدت إليها خالتها دمية عروسة وقالت لها : العبي بها في غرفتك واحذري أن تراها أمك . وبعد يومين علمت الأم فأرادت أن تقدم النصيحة بأسلوب مناسب . جلسوا على الطعام فقالت أم نايف : ياأولاد من يومين وأنا أشعر أن البيت ليس فيه ملائكة لاأدري لماذا خرجت ، لاحول ولاقوة إلا بالله . والبنت الصغيرة تسمع وهي ساكتة . وبعد الغداء رجعت الصغيرة إلى غرفتها فإذا بين يديها ألعاب كثيرة ، والعروسة من بينها فالتقطتها وجاءت بها إلى الأم ، وقال [كذا] : ماما هذه التي طردت الملائكة ، افعلي بها ماشئت .
فما أجمل هذه الأساليب ليكون أحدنا مصلحا لأخطاء الناس ناصحا لهم " .
أقول : لقد استحسن المؤلف هذه القصة لأنها أدت في النهاية إلى ما أرادته الأم من التخلص من الدمية ، وفاته جانب آخر من القصة ، وهو أنها استعملت الكذب في تربية أولادها ، والمؤلف نفسه حذر من هذا في ص 288 ، وذكر حديث أبي داود " أَمَا إِنَّكِ لو لم تعطيه شيئا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةٌ " ، وهاهي تلك الأم تكذب على أولادها فتدعي أنها تشعر بوجود الملائكة وبعدم وجودهم . والفعل الذي فعلته البنت بالعروسة يدل على أنها أيقنت صدق مازعمته الأم ، وبالتالي صارت البنت تعتقد أن أمها أو غيرها يمكنهم الشعور بوجود الملائكة وعدم وجودهم ، وهذه عقيدة فاسدة . وهل هذه المرأة خير من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لم يشعر بما زعمت أنها شعرت به ، فقد روى مسلم في صحيحه عن عَائِشَةَ رضي الله عنها أنها قالت : " وَاعَدَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِبْرِيلُ عليه السَّلَام في سَاعَةٍ يَأْتِيهِ فيها ، فَجَاءَتْ تِلْكَ السَّاعَةُ ولم يَأْتِهِ ، وفي يَدِهِ عَصًا فَأَلْقَاهَا من يَدِهِ وقال : ما يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ ولا رُسُلُهُ ، ثُمَّ الْتَفَتَ فإذا جِرْوُ كَلْبٍ تَحْتَ سَرِيرِهِ ، فقال : يا عَائِشَةُ مَتَى دخل هذا الْكَلْبُ ها هنا ؟ ، فقالت والله ما دَرَيْتُ ، فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ فَجَاءَ جِبْرِيلُ فقال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : وَاعَدْتَنِي فَجَلَسْتُ لك فلم تَأْتِ فقال : مَنَعَنِي الْكَلْبُ الذي كان في بَيْتِكَ ؛ إِنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فيه كَلْبٌ ولا صُورَةٌ " .
فمنذ دخول الكلب البيت حتى مجيء وقت موعد جبريل لم يشعر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الملائكة غير موجودة في البيت ، فكيف تزعم تلك المرأة أنها تشعر بعدم وجودهم ؟!
وأمر آخر وهو أن الدمى أو مايسمى بالعرايس التي تلعب بها البنات مستثناة من النهي عن اتخاذ الصور ، فقد ثبت عن عَائِشَةَ رضي الله عنها أنها قالت : كنت أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ النبي صلى الله عليه وسلم وكان لي صَوَاحِبُ يَلْعَبْنَ مَعِي فَكَانَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذا دخل يَتَقَمَّعْنَ منه فَيُسَرِّبُهُنَّ إلي فَيَلْعَبْنَ مَعِي متفق عليه .
قال ابن حجر : واستدل بهذا الحديث على جواز اتخاذ صور البنات واللعب من أجل لعب البنات بهن ، وخص ذلك من عموم النهي عن اتخاذ الصور ، وبه جزم عياض ونقله عن الجمهور ، وأنهم أجازوا بيع اللعب للبنات لتدريبهن من صغرهن على أمر بيوتهن وأولادهن (فتح الباري 10/527) .
وإن كان بعض علمائنا المعاصرين يرون الاقتصار على العرايس التي تصنع من الصوف والقماش ونحوذلك دون أن تظهر معالم كاملة للوجه ، لكن القصة التي ذكرها المؤلف ليس فيها تفصيل .
4- المأخذ الرابع : أن الكتاب خلا من النقل عن العلماء والاستفادة من كلامهم ، وهذا شيء غريب ، فكثير من موضوعات هذا الكتاب قد خدمها العلماء بالبحث والدراسة ولهم فيها كلام نفيس ، لكن المؤلف لم ينقل عنهم شيئا . وفي هذا الكتاب نحو خمسة وثلاثين ومائتي حديث ، ومؤلفات أهل العلم في شرح الأحاديث واستنباط فوائدها قديما وحديثا لاتكاد تحصى ، ومع ذلك لم ينقل المؤلف في هذا الكتاب شيئا منها
5- المأخذ الخامس : أن المؤلف لم يعتن بلغة كتابه ، فوقع في الكتاب كثير من الأخطاء النحوية واللغوية .
من أمثلة ذلك : ص 8 : أليس كلاهما أب . ص 71 : فليست هي أبوبكر . ص 107 : الآن أنهيت العمرة فلم أنساك من الدعاء . ص 139 : وتركت أبواي يبكيان . ص 247: ألا تصليان أي ألا تقوما الليل .ص 257 مَن الاثنين ؟ . ص323 : أحد الأراضي .
والأشد من ذلك أنه أكثر من استعمال العامية ، وهو أمر غير مقبول مطلقا ، والذي يظهر أن أصل الكتاب محاضرات مسجلة فَفُرِّغت كماهي ، وجعلت في كتاب ، ومن المعلوم أن أسلوب الحديث في المحاضرات والمجالس غير أسلوب الكتابة والتأليف .
من أمثلة استعمال العامية : ص : 118وينك ياحمار . ص 121: الملاقيف . ص 121 : طالع مشوار .
ص 249: طنش . ص 254: من باب الميانة . ص :288 بنشر علي الكفر . ص 337 : نحن خدامينك ص362 : الله ياهي بتنبسط البنت اللي بتتزوجك .
6- المأخذ السادس : أن المؤلف يذكر بعض العبارات التي قد يفهم منها القارئ أن المؤلف يمدح نفسه ، وهذه العبارات لايكون لها علاقة ظاهرة بموضوع البحث بمعنى أنه يستقيم ذكر القصة بدونها .
كقوله في ص 109 : جرت العادة بعد المحاضرات العامة أن يزدحم عليَّ بعض الشباب يصافحون ويشكرون.
وقوله في ص 123 ذاما أحد زملائه : أسأله عن كتاب ألفتُه ، وقد أثنى عليه أناس كثيرا وطبع منه مئات الآلاف فيقول ببرود : والله جيد ، ولكن فيه قصة غير مناسبة ...
وكحديثه عن نشاطه في إلقاء المحاضرات في عدة مواضع ، كقوله في ص 204 : كنت في رحلة إلى أحد البلدان لإلقاء عدد من المحاضرات ، وكقوله في ص 119 : سافرت إلى المدينة النبوية قبل مدة ، كنت مشغولا بعدد من المحاضرات .
وكقوله في ص 323 : دخلت قبل فترة في مشكلة بين عائلتين للإصلاح بينهما . مع أن القصة التي ذكرها ليستدل بها على المبحث الذي ذكرها فيه لاعلاقة لها بالجملة المذكورة .
وكقوله في ص353 : في موسم الحج قبل ثلاث سنوات ذهبت لإلقاء كلمة في إحدى حملات الحج الكبرى في صلاة العصر . بعد الكلمة ازدحم الناس يسألون ويسلمون ، حاولت التخلص السريع لارتباطي بمحاضرة بعدهم فورا في حملة أخرى .
وكقوله في ص 35 ناقلا قول صديقه له : ماذا فعلت بولدي ؟ يسألهم مدرسهم قبل أيام عن أمنياتهم في المستقبل ، فمنهم من قال : أكون طبيبا ، والآخر قال : أكون مهندسا ، وولدي قال : أكون محمد العريفي .
ولا يعني هذا اتهام الشيخ الدكتور العريفي في قصده ونيته ، معاذ الله أن أقصد هذا ، بل إنني أكاد أجزم أن الدكتور لم يَخطر بباله قط أن يفهم أحد من تلك العبارات أنه يمدح نفسه بها ، ولكن الناقد بصير ، والكتاب يقرؤه الألوف ، ويستفيدون منه ، ولا شك أن الدكتور العريفي يهمه أن يربي قراءه على الابتعاد عن كل مافيه مدح النفس والثناء عليها من غيرحاجة .

المحور الثالث : عبارات أطلقها المؤلف ، وفيها نظر

من أمثلة ذلك قول المؤلف في ص 66: " شاب في ريعان شبابه أعزب هل يتحدث [يعني النبي صلى الله عليه وسلم ] معه عن أنساب العرب ، والرفيع منها والوضيع . أم يتحدث عن الأسواق وأحكام البيوع ؟ لا .. فهذا شاب له نوع خاص من الأحاديث يفضله على غيره " .
أقول : حاشاه عليه الصلاة والسلام أن يطعن في الأنساب ، فماكان ليحدث أحدا شابا أوغيرشاب عن نسب وضيع ، أو يصف نسبا بأنه وضيع ، كيف وقد حذر من الطعن في الأنساب وعده من أمر الجاهلية ، كما في الصحيح ، بل قال صلى الله عليه وسلم :"اثْنَتَانِ في الناس هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ الطَّعْنُ في النَّسَبِ وَالنِّيَاحَةُ على الْمَيِّتِ" رواه مسلم . قال الشيخ سليمان بن عبدالله : والطعن في الأنساب أي الوقوع فيها بالذم والعيب أو بقدح في نسب أحد من الناس فيقول : ليس هو من ذرية فلان ، أو يعيره بما في آبائه من المطاعن ولهذا لما عير أبو ذر رضي الله عنه رجلا بأمه قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر :" أعيرته بأمه ؟ إنك امرؤ فيك جاهلية " متفق عليه ، فدل ذلك أن التعيير بالأنساب من أخلاق الجاهلية (تيسير العزيز الحميد /390) .
ومن أمثلة ذلك قول المؤلف في ص 49 : القلوب لاتكسب بالقوة ولابالمال ...
أقول : إطلاقه القول بأن القلوب لاتكسب بالمال غير صحيح . بدليل أن الله تعالى جعل المؤلفة قلوبهم من مصارف الزكاة . وفي صحيح مسلم أن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أعطى يوم حنين صَفْوَانَ بن أُمَيَّةَ مِائَةً من النَّعَمِ ثُمَّ مِائَةً ثُمَّ مِائَةً ، قال صَفْوَانَ : والله لقد أَعْطَانِي رسول اللَّهِ ما أَعْطَانِي وَإِنَّهُ لَأَبْغَضُ الناس إلي فما بَرِحَ يُعْطِينِي حتى إنه لَأَحَبُّ الناس إلي . وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه أنه قال : ما سُئِلَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم على الْإِسْلَامِ شيئا إلا أَعْطَاهُ ؛ قال : فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَأَعْطَاهُ غَنَمًا بين جَبَلَيْنِ فَرَجَعَ إلى قَوْمِهِ فقال : يا قَوْمِ أَسْلِمُوا فإن مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لَا يَخْشَى الْفَاقَةَ .
وفي رواية له : فقال أَنَسٌ : " إن كان الرَّجُلُ لَيُسْلِمُ ما يُرِيدُ إلا الدُّنْيَا فما يُسْلِمُ حتى يَكُونَ الْإِسْلَامُ أَحَبَّ إليه من الدُّنْيَا وما عليها " . ولماذا شرعت الهدية ، وهي مادية ؟ أليس لما لها من أثر في القلوب وكسب ودها ؟ ولهذا حذر من هدايا العمال لأنها تعمل عملها في قلوبهم ثم في تصرفاتهم .
وفي ديوان الشافعي رحمه الله :
وإن كثرت عيوبك في البرايا وسرك أن يكون لها غطاء
تستر بالسخاء فكل عيب يغطيه كما قيل السخاء
ثم قال المؤلف في ص 50 : " الذي يوفر لأولاده وزوجته المال والطعام والشراب لم يكسب قلوبهم ، وإنما كسب بطونهم " .
أقول : من وفر ذلك لأهله فقد أحسن إليهم في هذا الجانب ، وأدى ماأوجبه الله عليه من النفقة عليهم ويرجى له الأجر والثواب ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه :"إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ من أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ الناس وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بها وَجْهَ اللَّهِ إلا أُجِرْتَ بها حتى ما تَجْعَلُ في في امْرَأَتِكَ " متفق عليه . وقال عليه الصلاة والسلام :" دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ في سَبِيلِ اللَّهِ ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ في رَقَبَةٍ ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ على مِسْكِينٍ ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ على أَهْلِكَ ؛ أَعْظَمُهَا أَجْرًا الذي أَنْفَقْتَهُ على أَهْلِكَ"رواه مسلم .
وهذه النفقة سبب من أسباب كسب قلب الزوجة والأولاد ، وقد ذكر المؤلف حديث أم زرع في كتابه ، فليتأمل قول أم زرع وهي تعدد مناقب زوجها ومنها إنفاقه عليها بالحلي وبالطعام فقالت :" زَوْجِي أبو زَرْعٍ فما أبو زَرْعٍ ! أَنَاسَ من حُلِيٍّ أُذُنَيَّ ، وَمَلَأَ من شَحْمٍ عَضُدَيَّ ، وَبَجَّحَنِي فَبَجحَتْ إلي نَفْسِي ، وَجَدَنِي في أَهْلِ غُنَيْمَةٍ بِشِقٍّ ، فَجَعَلَنِي في أَهْلِ صَهِيلٍ وَأَطِيطٍ وَدَائِسٍ وَمُنَقٍّ ، فَعِنْدَهُ أَقُولُ فلا أُقَبَّحُ ، وَأَرْقُدُ فَأَتَصَبَّحُ ، وَأَشْرَبُ فأتقنح " متفق عليه .
وقال البخاري رحمه الله : بَاب وُجُوبِ النَّفَقَةِ على الأهل وَالْعِيَالِ . حدثنا عُمَرُ بن حَفْصٍ حدثنا أبي حدثنا الْأَعْمَشُ حدثنا أبو صَالِحٍ قال : حدثني أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :" أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ ما تَرَكَ غِنًى ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ من الْيَدِ السُّفْلَى ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ " . تَقُولُ الْمَرْأَةُ : إِمَّا أَنْ تُطْعِمَنِي وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَنِي ، وَيَقُولُ الْعَبْدُ : أَطْعِمْنِي وَاسْتَعْمِلْنِي ، وَيَقُولُ الِابْنُ : أَطْعِمْنِي ! إلى من تَدَعُنِي ؟ . فَقَالُوا : يا أَبَا هُرَيْرَةَ سَمِعْتَ هذا من رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لَا هذا من كِيسِ أبي هُرَيْرَةَ [يعني الزيادة المذكورة في آخره] .وهذا يبين عاقبة التقصير في واجب النفقة ، وأثره في موقف الزوجة والأولاد والمماليك تجاه من يعولهم عندما يقصر في واجبه .
والمقصود أن الزوج يكسب قلب زوجته وأولاده بإحسانه ، والإحسان نوعان : نوع مادي ، وهو النفقة ومايتعلق بنفعهم في جانب دنياهم ، ونوع معنوي وهو نفعهم في جانب دينهم ، وطيب العشرة والمعاملة .
ولايغني أحد النوعين عن الآخر . فالمؤلف يرى أن الذي يوفر النفقة لزوجته وأولاده لايكسب قلوبهم وإنما يكسب بطونهم ، ويرى أنه إنما يكسب قلوبهم بابتسامته ولطفه وحسن حديثه . وأقول : لو أن الزوج فعل ماذكره المؤلف فاقتصر على الابتسامة واللطف ، ولم ينفق على زوجته وأولاده شيئا ، وهو قادر وتركهم في فقر وحاجة يتكففون الناس ، أكان سيكسب قلوبهم أيضا بابتسامته العريضة ؟!
ومن أمثلة ذلك قول المؤلف في ص 56 : " عائشة كانت شخصيتها انفتاحية " .
أقول : الشخصية الانفتاحية مصطلح معروف في علم النفس ، ولها صفات وعيوب مذكورة في ذلك العلم وأرى أنه لاينبغي إطلاق هذه المصطلحات على الصحابة لما قد يترتب على ذلك من مفاسد .
ومن أمثلة ذلك قول المؤلف في ص 290 بعنوان الشجاعة : " قال لي بعدما خرجنا من الوليمة : تصدق كنت أعرف اسم الصحابي الذي ذكرتم قصته ، ولم تتذكروا اسمه ؟ قلت : عجبا ! لماذا لم تذكره ، وقد رأيتنا متحيرين ؟! . خفض رأسه وقال : خجلت أن أتكلم . قلت في نفسي : تبا للجبن ".
أقول : لايكون ذلك جبنا في كل الأحوال ، بل ربما كان أمرا يحمد عليه . ومن هذا مارواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :" إِنَّ من الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ فَحَدِّثُونِي ما هِيَ ؟" فَوَقَعَ الناس في شَجَرِ الْبَوَادِي ، قال عبد اللَّهِ : وَوَقَعَ في نَفْسِي أنها النَّخْلَةُ ، فَاسْتَحْيَيْتُ ، ثُمَّ قالوا : حَدِّثْنَا ما هِيَ يا رَسُولَ اللَّهِ قال : "هِيَ النَّخْلَةُ " . وفي رواية لهما :فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ وَثَمَّ أبو بَكْرٍ وَعُمَرُ . وفي رواية لمسلم : فَجَعَلْتُ أُرِيدُ أَنْ أَقُولَهَا فإذا أَسْنَانُ الْقَوْمِ فَأَهَابُ أَنْ أَتَكَلَّمَ . قال ابن القيم في فوائد هذا الحديث : " وفيه ما كان عليه الصحابة من الحياء من أكابرهم وإجلالهم وإمساكهم عن الكلام بين أيديهم " (زاد المعاد 4/397) .
وقال ابن حجر في فوائد الحديث : " وفيه توقير الكبير وتقديم الصغير أباه في القول ، وأنه لا يبادره بما فهمه وإن ظن أنه الصواب " (فتح الباري 1/147) .
ومن أمثلة ذلك قول المؤلف في ص 291 : " أسمع هذه التصرفات كثيرا ، فأتمنى أن أصرخ فيهم : ياجبناء إلى متى ؟ الجبان لايبني مجدا ، هو صفر على الشمال دائما . إن حضر مجلسا تلحف بجبنه ولم يشارك برأي أو ينطق بكلمة . وإن ذكروا نكتة ضحكوا وعلقوا أما هو فخفض رأسه وتبسم . وإن حضر اجتماعا لم ينتبه أحد لوجوده " .
أقول : هذا الكلام على إطلاقه غير صحيح ؛ لأن معناه أن الإنسان مطلوب منه أن يتكلم في أي مجلس يجلس فيه ، وأن يشارك في أي شيء يطرح فيه ولو كان الضحك على نكتة والتعليق عليها ولايكتفي بالتبسم فهذا غير كاف عند المؤلف ليخرج الشخص من الجبن !
ليس في كل الأحيان تكون المشاركة في الحديث مطلوبة أو محمودة ، فأحيانا يكون الامتناع عن المشاركة هو المطلوب والمحمود . قال الله تعالى:** وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين } (القصص:55) قال الطبري في تفسيرها : " وإذا سمع هؤلاء القوم الذين آتيناهم الكتاب اللغو ، وهو الباطل من القول أعرضوا عنه ، وقالوا : لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين ، لا يجارون أهل الجهل والباطل في باطلهم ، أتاهم من أمر الله ما وقذهم عن ذلك " (تفسير الطبري 20/90) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" متفق عليه . قال النووي : معناه أنه إذا أراد أن يتكلم فإن كان ما يتكلم به خيرا محققا يثاب عليه واجبا أومندوبا فليتكلم وإن لم يظهر له أنه خير يثاب عليه فليمسك عن الكلام سواء ظهر له أنه حرام أو مكروه أو مباح مستوي الطرفين فعلى هذا يكون الكلام المباح مأمورا بتركه مندوبا إلى الإمساك عنه مخافة من انجراره إلى المحرم أو المكروه وهذا يقع في العادة كثيرا أو غالبا وقد قال الله تعالى ** ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } (شرح النووي على صحيح مسلم 2/19) .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن قيل وقال كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث المغيرة رضي الله عنه . قال النووي : وأما قيل وقال فهو الخوض في أخبار الناس وحكايات مالا يعني من أحوالهم وتصرفاتهم (شرح النووي على صحيح مسلم 12/11) .
وأحيانا يكون الامتناع من المشاركة والكلام في المجلس لاعتبارات أخرى ، كوجود من هو أكبر سنا أو علما أو خشية مفسدة . ففي الصحيحين قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن أراد أن يتكلم ومعه من هو أكبر منه :"كَبِّرْ كَبِّرْ "يُرِيدُ السِّنَّ . قال ابن بطال : " يريد ليتكلم الأكبر ، وهذا من باب أدب الإسلام " (شرح صحيح البخاري لابن بطال 1/64)
وقال سلمة بن كهيل : كان إبراهيم والشعبي إذا اجتمعا لم يتكلم إبراهيم بشيء ؛ لسنه .
وقال الحسن بن علي الخلال :كنا عند معتمر بن سليمان يحدثنا إذ أقبل ابن المبارك فقطع معتمرحديثه ، فقيل له : حدثنا ، فقال : إنا لا نتكلم عند كبرائنا (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 1/320)
وروى البخاري عن ابن عُمَرَ رضي الله عنهما أنه قال : فلما تَفَرَّقَ الناس خَطَبَ مُعَاوِيَةُ قال : من كان يُرِيدُ أَنْ يَتَكَلَّمَ في هذا الْأَمْرِ فَلْيُطْلِعْ لنا قَرْنَهُ فَلَنَحْنُ أَحَقُّ بِهِ منه وَمِنْ أبيه . قال حَبِيبُ بن مَسْلَمَةَ : فَهَلَّا أَجَبْتَهُ قال عبد اللَّهِ : فَحَلَلْتُ حُبْوَتِي وَهَمَمْتُ أَنْ أَقُولَ : أَحَقُّ بهذا الْأَمْرِ مِنْكَ من قَاتَلَكَ وَأَبَاكَ على الْإِسْلَامِ فَخَشِيتُ أَنْ أَقُولَ كَلِمَةً تُفَرِّقُ بين الْجَمْعِ وَتَسْفِكُ الدَّمَ وَيُحْمَلُ عَنِّي غَيْرُ ذلك فَذَكَرْتُ ما أَعَدَّ الله في الْجِنَانِ ، قال حَبِيبٌ : حُفِظْتَ وَعُصِمْتَ .
ومن الصفات المحمودة عند أهل العلم قلة الكلام وكثرة السكوت وطول الصمت ، فكثيرا مايثنون على شخص بأنه كثير السكوت طويل الصمت . بل جاء في مسند أحمد عن سِمَاكٍ أنه قال : قلت لِجَابِرِ بن سَمُرَةَ : أَكُنْتَ تُجَالِسُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم فَكَانَ طَوِيلَ الصَّمْتِ قَلِيلَ الضَّحِكِ ، وكان أَصْحَابُهُ يَذْكُرُونَ عِنْدَهُ الشِّعْرَ وَأَشْيَاءَ من أُمُورِهِمْ فَيَضْحَكُونَ وَرُبَّمَا تَبَسَّمَ . والجزء الأخير رواه مسلم في صحيحه ، وهو أن الصحابة رضي الله عنهم َكَانُوا يَتَحَدَّثُونَ فَيَأْخُذُونَ في أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَيَضْحَكُونَ ، وَيَتَبَسَّمُ النبي صلى الله عليه وسلم . وفي رواية الترمذي قال جَابِرِ بن سَمُرَةَ : جَالَسْتُ النبي صلى الله عليه وسلم أَكْثَرَ من مِائَةِ مَرَّةٍ فَكَانَ أَصْحَابُهُ يَتَنَاشَدُونَ الشِّعْرَ وَيَتَذَاكَرُونَ أَشْيَاءَ من أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ ، وهو سَاكِتٌ فَرُبَّمَا تَبَسَّمَ مَعَهُمْ . لاحظ : الصحابة يضحكون ، والرسول صلى الله عليه وسلم يتبسم ، والدكتور العريفي يقول عن الجبان في نظره : وإن ذكروا نكتة ضحكوا وعلقوا ، أما هو فخفض رأسه وتبسم !
ومن أمثلة ذلك قول المؤلف في ص 292 : " أحيانا يكون من مبادئك عدم أخذ الرشوة ... مهما ملحوا أسماءها بخشيش هدية عمولة فاثبت على مبدئك " .
أقول : هذا المبدأ يجب أن يكون دائما لا أحيانا كما ذكر المؤلف ، وهو لايقصده لكن التعبير خطأ .
ومن أمثلة ذلك قول المؤلف في ص 332 تحت عنوان (المفتاح) بعد أن ذكر أن المدح هو مفتاح القلوب وساق عدة أمثلة يرى أنها تشهد لقاعدته ثم ختم ذلك كله بقوله : " باختصار : أسرف في المديح ، واقتصد في النقد " .
أقول : الإسراف مذموم ، وقد قال تعالى :{ولاتسرفوا إنه لايحب المسرفين}(الأعراف:31) ، فكيف إذا كان في المدح ؟ ! وقد روى الشيخان في صحيحيهما عن أبي بكرة رضي الله عنه أنه قال : مَدَحَ رَجُلٌ رَجُلًا عِنْدَ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " وَيْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ - مِرَارًا - إذا كان أحدكم مَادِحًا صَاحِبَهُ لَا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أَحْسِبُ فُلَانًا وَاللَّهُ حَسِيبُهُ ولا أُزَكِّي على اللَّهِ أَحَدًا أَحْسِبُهُ ، إن كان يَعْلَمُ ذَاكَ كَذَا وَكَذَا "، وروى الشيخان أيضا في صحيحيهما عن أبي مُوسَى رضي الله عنه قال : سمع النبي صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يثني على رَجُلٍ وَيُطْرِيهِ في الْمِدْحَةِ ، فقال :" لقد أَهْلَكْتُمْ أو قَطَعْتُمْ ظَهْرَ الرَّجُلِ "
وروى مسلم في صحيحه عن أبي مَعْمَرٍ قال : قام رَجُلٌ يثني على أَمِيرٍ من الْأُمَرَاءِ فَجَعَلَ الْمِقْدَادُ يَحْثِي عليه التُّرَابَ وقال : أَمَرَنَا رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَحْثِيَ في وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ التُّرَابَ .
وروى عن هَمَّامِ بن الْحَارِثِ أَنَّ رَجُلًا جَعَلَ يَمْدَحُ عُثْمَانَ فَعَمِدَ الْمِقْدَادُ فَجَثَا على رُكْبَتَيْهِ وكان رَجُلًا ضَخْمًا فَجَعَلَ يَحْثُو في وَجْهِهِ الْحَصْبَاءَ فقال له عُثْمَانُ : ما شَأْنُكَ ؟ فقال : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال "إذا رَأَيْتُمْ الْمَدَّاحِينَ فَاحْثُوا في وُجُوهِهِمْ التُّرَابَ "
وروى ابن ماجه بسنده عن معاوية رضي الله عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إياكم والتمادح ؛ فإنه الذبح" ، وحسنه الألباني في الصحيحة ح1284 .
قال البغوي : وفي الجملة المدح والثناء على الرجل مكروهٌ ، لأنه قلما يسلم المادح من كذب يقوله في مدحه وقلما يسلم الممدوح من عجبٍ يدخله (شرح السنة 13/151) .
وأما ماورد من أحاديث تدل على إباحة المدح في بعض الأحيان أو الأحوال أو بقيود فذكر النووي أن العلماء جمعوا بينها بأنه إن كان الممدوح عنده كمال إيمان ويقين ورياضة نفس ومعرفة تامة بحيث لا يفتتن ولا يغتر بذلك ، ولا تلعب به نفسه فليس بحرام ولا مكروه ، وإن خيف عليه شيء من هذه الأمور كره مدحه في وجهه كراهة شديدة (رياض الصالحين 326) .
ومن أمثلة ذلك قول المؤلف في ص 23 معلقا على قول النبي صلى الله عليه وسلم :" لَيُتِمَّنَّ الله هذا الأَمْرَ حتى تَخْرُجَ الظَّعِينَةُ مِنَ الْحِيرَةِ حتى تَطُوفَ بِالْبَيْتِ في غَيْرِ جِوَارِ أَحَدٍ" قال الدكتور : " أي سيقوى الإسلام إلى درجة أن المرأة المسلمة الحاجة تخرج من الحيرة حتى تصل إلى مكة ليس معها إلا محرم ".
أقول : لم أجد أحدا من العلماء السابقين فسر الحديث بمافسره به الدكتور العريفي أعني حمل الحديث على وجود محرم مع المرأة ، لأن ظاهر الحديث وسياقه يخالفه .
وقد استدل بالحديث من جوز سفر المرأة للحج الواجب بلامحرم ، إذ لم يذكر لها زوجا ولامحرما، قالوا : فلولا جوازه لما أقر عليه (انظر شرح فتح القدير 2/420 ، الحاوي الكبير 11/265 ، فتح الباري 4/76)
والمانعون من ذلك لم يجيبوا عن هذا بماذكره العريفي من أنه محمول على أن معها محرما ، وإنما أجابوا عنه بأن ماذكر فيه لايقصد إقراره وإنما يقصد به بيان ماسيقع بالفعل دون بيان حكمه ، كما جاء الإخبار في أشراط الساعة من بيع أمهات الأولاد أو أنه يكثر القتل ، وليس هذا إقرارا عليه ، وإنما هو بيان لماسيكون .
(انظر المغني 3/97 ، فتح الباري 4/76 )
ومن أمثلة ذلك قول المؤلف في ص 22 معرفا الركوسية : ديانة نصرانية مشربة بشيء من المجوسية .
أقول : الذي قاله العلماء في تعريف الركوسية أنه دين بين النصارى والصابئين .
قال أبوعبيد القاسم بن سلام : فيروى تفسير الركوسية عن ابن سيرين أنه قال : هو دين بين النصارى والصابئين (غريب الحديث 3/87) . وبهذا فسره كل من وقفت عليه من العلماء الذين فسروا هذه اللفظة .
والصابئون غير المجوس كماهو معلوم ، وقد قال تعالى:** إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا } (الآية من سورة الحج 17) .


__________________
د/ بسام بن عبدالله الغانم العطاوي
أستاذ السنة وعلومها ورئيس قسم الدراسات الإسلامية في كلية المعلمين في جامعة الدمام
================

يتبع

__________________
.

((تابعوا فوائد متجددة على قناة التليغرام)) :

https://telegram.me/Kunnash
.
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 02-03-2010, 08:37 AM
أبو معاوية البيروتي أبو معاوية البيروتي غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: بلاد الشام
المشاركات: 7,435
Lightbulb


المحور الرابع : الأحاديث المذكورة في الكتاب


لم يذكر المؤلف في كتابه منهجه في اختيار الأحاديث التي يوردها في كتابه ، وقد تتبعت مافي هذا الكتاب من الأحاديث فوجدت فيه خمسة وثلاثين ومائتي حديث (235) تقريبا ، ويؤخذ على المؤلف في طريقته في ذكر الأحاديث مايلي :
1- المأخذ الأول : أنه لم يذكر تخريجا إلا لأربعة وتسعين حديثا منها ، وأما الباقي فقد ذكرها من غير تخريج ولاعزو ، ولابيان لدرجة الحديث من حيث الثبوت وعدمه .
2- المأخذ الثاني : أن التخريج الذي يذكره أحيانا ليس دقيقا في بعض المواضع .
من أمثلة ذلك قول المؤلف في ص 53 : وقال صلى الله عليه وسلم :" أكمل المؤمنين إيمانا أحاسنهم أخلاقا الموطنون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون ، ولا خير فيمن لايألف ولا يؤلف" رواه الترمذي (صحيح) .
أقول : هذا الحديث بهذا التمام لم يروه الترمذي ، وإنما الذي رواه الطبراني في معجمه الصغير ح605 ، ومعجمه الأوسط ح 4422 بسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، وقد حسنه الألباني وذكره في الصحيحة ح 751 . وإنما روى الترمذي حديث أبي هريرة رضي الله عنه :" أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ خُلُقًا" ، وحديث عائشة رضي الله عنها :" إِنَّ من أَكْمَلِ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنهُمْ خُلُقًا وَأَلْطَفهُمْ بِأَهْلِهِ "
ومن أمثلة ذلك قول المؤلف في ص 53 : وقال صلى الله عليه وسلم :"إن الرجل ليبلغ بحسن خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار" رواه الترمذي(صحيح) .
أقول : اللفظ المذكور ليس للترمذي ، وإنما الذي رواه الترمذي حديث أبي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :"ما من شَيْءٍ يُوضَعُ في الْمِيزَانِ أَثْقَلُ من حُسْنِ الْخُلُقِ ، وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الْخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ " . والحديث الذي ذكره المؤلف رواه أحمد في مسنده عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : سمعت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول :"إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَاتِ قَائِمِ اللَّيْلِ صَائِمِ النَّهَارِ "
ومن أمثلة ذلك قول المؤلف في ص 88 : وفي الحديث : "لايقضي القاضي وهو غضبان" . رواه أبوداود والترمذي وقال : حديث حسن صحيح .
أقول : كان الأولى أن يذكر ما في الصحيحين ، وهو حديث أبي بكرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :"لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بين اثْنَيْنِ وهو غَضْبَانُ " . والأصل أن الحديث لايكتفى بعزوه إلى مصدر ، وهو في مصدر أعلى منه ، فلايقتصر على عزو الحديث إلى أبي داود ، دون البخاري وهو فيه كماهو معروف عند أهل العلم .
ومن أمثلة عدم الدقة في ذكر الحديث قول المؤلف في ص 37 : دخل عليه عمر وهو صلى الله عليه وسلم غضبان على نسائه لما أكثرن عليه مطالبته بالنفقة ، فقال عمر : يارسول الله ، لو رأيتنا وكنا معشر قريش نغلب النساء فكنا إذا سألت أحدنا امرأته نفقة قام إليها فوجأ عنقها ، فلما قدمنا المدينة إذا قوم تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم .
أقول : خلط الدكتور العريفي بين حديثين : الأول حديث جَابِرِ بن عبد اللَّهِ رضي الله عنهما ، وفيه قول عمر رضي الله عنه : يا رَسُولَ اللَّهِ لو رَأَيْتَ بِنْتَ خَارِجَةَ سَأَلَتْنِي النَّفَقَةَ فَقُمْتُ إِلَيْهَا فَوَجَأْتُ عُنُقَهَا فَضَحِكَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وقال : هُنَّ حَوْلِي كما تَرَى يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَةَ .... الحديث رواه مسلم .
والحديث الآخر حديث عمر رضي الله عنه ، وفيه قوله : يا رَسُولَ اللَّهِ لو رَأَيْتَنِي وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ فلما قَدِمْنَا على قَوْمٍ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ .....الحديث متفق عليه .
قال ابن حجر : قوله " وكنا معشر قريش نغلب النساء " أي نحكم عليهن ولا يحكمن علينا بخلاف الأنصار فكانوا بالعكس من ذلك ، وفي رواية يزيد بن رومان "كنا ونحن بمكة لا يكلم أحد امرأته إلا إذا كانت له حاجة قضى منها حاجته" وفي رواية عبيد بن حنين "ما نعد للنساء أمرا " وفي رواية الطيالسي "كنا لا نعتد بالنساء ولا ندخلهن في أمورنا" (فتح الباري 9/281)
ومن أمثلة ذلك قول المؤلف في ص 330 : ومرة أراد أن ينصح ابن عمر بقيام الليل فقال :"نعم الرجل عبدالله لو كان يقوم الليل" ، وفي رواية قال :"ياعبدالله لا تكن مثل فلان ،كان يقوم الليل فترك قيام الليل" .
أقول : ظاهر ماذكره أن الحديث الثاني موجه لابن عمر أيضا ، وهذا خطأ ، وإنما هو لعبدالله بن عمرو بن العاص فقد أخرجه الشيخان في صحيحيهما من طريق أبي سَلَمَةَ بن عبد الرحمن قال : حدثني عبد اللَّهِ بن عَمْرِو بن الْعَاصِ رضي الله عنهما قال : قال لي رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :" يا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ كان يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ "
ومن أمثلة عدم الدقة أن المؤلف قد يكرر الحديث في مبحث واحد ، كما فعل في ص 96 تحت عنوان اهتم بالآخرين فقال : قام صلى الله عليه وسلم على منبره يوما يخطب الناس فدخل رجل من باب المسجد نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : يارسول الله ، رجل يسأل عن دينه مايدري مادينه ...نزل عن منبره الشريف ودعا بكرسي فجلس أمام الرجل ...ثم ذكر العريفي قصة كعب بن مالك رضي الله عنه ثم عاد فذكر الحديث السابق في آخر ماذكره تحت عنوان اهتم بالآخرين ص 105 ، وقال : انظر إليه وقد قام يخطب على منبره يوم جمعة ، وفجأة فإذا بأعرابي يدخل إلى المسجد ويتخطى الصفوف وينظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصيح قائلا : يارسول الله ، رجل لايدري مادينه فعلمه دينه ، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم من منبره وتوجه إلى الرجل وطلب كرسيا فجلس عليه ...
وهذا مما يدل على أنه الكتاب لم يراجع ، وإلا لما كرر الكلام نفسه في أول المبحث وآخره .
3- المأخذ الثالث : أن المؤلف لم يقتصر على الأحاديث الثابتة ، بل ذكر أحاديث ضعيفة ومنكرة ولم ينبه على ضعفها واحتج بها . وربما تكون القصة مروية في الصحيحين أو أحدهما ، ومروية في كتب السيرة بسياق أطول وتفصيلات أكثر لكن بأسانيد لاتثبت ، فيفضل المؤلف ذكر الرواية المطولة بزياداتها غير الثابتة على الرواية المختصرة الثابتة ، لأجل الغرض الذي سيأتي ذكره في المأخذ الرابع .
من أمثلة هذا المأخذ أن المؤلف ذكر في ص 36 حديث "زوجك الذي في عينه بياض " ، وجزم به ، ولم يبين ضعفه ، وهو حديث ضعيف رواه زيد بن أسلم مرسلا كما ذكر العراقي في تخريج أحاديث الإحياء .
وذكر المؤلف في ص 135 قصة إسلام خالد بن الوليد رضي الله عنه بطولها وقد استغرقت ثلاث صفحات وهي من رواية الواقدي وقد تفرد بها(انظر البداية والنهاية 6/405طبعة التركي) ، والواقدي متروك كما هو معروف عند أهل العلم ، فالقصة لاتصح ، ولم ينبه المؤلف على ذلك ، وإنما ذكرها محتجا بها .
وذكر في ص 154 حديث دعاء النبي صلى الله عليه وسلم قافلا من الطائف : "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس " الحديث ، ولم ينبه على أنه ضعيف كما ذكر الألباني رحمه الله في الضعيفة ح 2933 .
وقال المؤلف في ص 166 في آخر ماذكره عن سرية مؤتة : " فلما أقبلوا إلى المدينة لقيهم الصبيان يتراكضون إليهم ولقيتهم النساء فجعلوا يحثون التراب في وجوه الجيش ويقولون : يافرار فررتم في سبيل الله فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك علم أنهم لم يكن أمامهم إلا ذلك وأنهم فعلوا مابوسعهم فقال صلى الله عليه وسلم مدافعا عنهم : ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله عزوجل . نعم انتهى الأمر وهم أبطال ماقصروا لكنهم بشر والأمر كان فوق طاقتهم ، إذن الصلاة على الميت الحاضر ..أحيانا انتهى الأمر فلافائدة من اللوم . كان هذا منهجه صلى الله عليه وسلم دائما " .
أقول : هذا الخبر لايصح كمانبه عليه أهل العلم .
قال ابن كثير : " وهذا مرسل من هذا الوجه وفيه غرابة. وعندي أن ابن إسحاق قد وهم في هذا السياق فظن أن هذا لجمهور الجيش، وإنما كان للذين فروا حين التقى الجمعان ، وأما بقيتهم فلم يفروا بل نصروا، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين وهو على المنبر في قوله: "ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله على يديه "، فما كان المسلمون ليسموهم فرارا بعد ذلك ، وإنما تلقوهم إكراما وإعظاما " (البداية والنهاية 6/431 ) .
وقال الألباني : " فهذا منكر بل باطل ظاهر البطلان ؛ إذ كيف يعقل أن يقابل الجيش المنتصر مع قلة عدده وعُدده على جيش الروم المتفوق عليهم في العدد والعُدد أضعافا مضاعفة ، كيف يعقل أن يقابل هؤلاء من الناس المؤمنين بحثو التراب في وجوههم ورميهم بالفرار من الجهاد ، وهم لم يفروا ، بل ثبتوا ثبوت الأبطال حتى نصرهم الله وفتح عليهم كمافي حديث البخاري "حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم " (دفاع عن الحديث النبوي والسيرة /31) .
وذكر المؤلف في ص 171 قصة وفد الصدف ، واحتج بها ، وهي لاتصح فهي من رواية الواقدي ، وهو متروك .
وذكر في ص 172قصة كلثوم بن الحصين حين أصاب رجل النبي صلى الله عليه وسلم وهو لايشعر ، ولم يذكر من أخرجها ، ولم ينبه على ضعفها ، وإنما ذكرها محتجا بها ، وهي ضعيفة كماذكر الألباني في ضعيف الأدب المفرد ح116 .
وقال المؤلف في ص 387 : " ثم مضى أبو سفيان حتى وصل المدينة فتوجه إلى بيت ابنته أم حبيبة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما دخل أقبل ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فطوته من تحته ، فقال : يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني ؟ قالت : بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنت مشرك نجس فلم أحب أن تجلس على فراشه فعجب منها وقال : يابنية والله لقد أصابك بعدي شر" .
أقول : ذكر الألباني رحمه الله في تخريج أحاديث فقه السيرة أن هذا الحديث ضعيف ، وأن ابن إسحاق رواه بدون إسناد .
وذكر المؤلف في ص 208 غزوة ذات السلاسل ، وقال في آخرها : " فقال صلى الله عليه وسلم : يرحم الله أباعبيدة بن الجراح ".
أقول : لم ينبه المؤلف على أن هذه الزيادة لاتصح ، فقد تفرد بروايتها الواقدي (انظر البداية والنهاية 6/499 ) ، وهو متروك .
وقال المؤلف في ص 288 : قال صلى الله عليه وسلم :"يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب" ثم ذكر المؤلف في الحاشية أن الحديث رواه أحمد وأبويعلى ورجاله رجال الصحيح .
أقول : كلمة "رجاله رجال الصحيح" لاتقتضي صحة الحديث كماهو معروف عند أهل الحديث . وهذا الحديث ضعيف كما حكم عليه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب ح1749 . والصواب أن هذا الحديث موقوف على سعد بن أبي وقاص وليس مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر الإمامان أبوزرعة الرازي والدارقطني .
وقال المؤلف في ص 288 : " وسئل صلى الله عليه وسلم فقيل له : يارسول الله ، أيكون المؤمن جبانا ؟ قال : نعم ، فقيل : أيكون المؤمن بخيلا ؟ فقال : نعم ، فقيل : أيكون المؤمن كذابا ؟ فقال : لا . ثم قال المؤلف في الحاشية : مالك في الموطأ وهو مرسل " .
أقول : كثير من القراء لايعرفون معنى المرسل ، ولا أن المرسل من أنواع الحديث الضعيف ، فكان ينبغي التصريح باللفظ المعروف عند أكثر قراء هذا الكتاب ، كماحكم عليه الألباني في ضعيف الترغيب ح 1752 بقوله : مرسل ضعيف .
4- المأخذ الرابع ، وهو أخطرها وأقبحها وهو أن المؤلف يزيد في الأحاديث زيادات من عند نفسه دون أن يبين ذلك ، واضطره إلى ذلك استعماله للأسلوب التمثيلي في ذكر الأحاديث بمعنى أنه يريد أن يصور مشهد الحديث ويمثله (أي يجعله تمثيلية) ، فيحتاج إلى أن يزيد في الحديث زيادات قائمة على الاستنتاج العقلي يمط بها الرواية مطا لتكتمل صورة المشهد التمثيلي الذي يريد أداءه . وهذا من جنس مايفعله مؤلفو مايسمى بالمسلسلات التاريخية فإنهم يضعون قصة كاملة بكافة أحداثها وتفصيلاتها قد لا تمثل الحقيقة منها سوى العشر أو أقل ، والباقي كله مخترع . وهذا أحد الأمور التي أنكرها العلماء على القصاص قديما . روي عن أبي الوليد الطيالسي قال : كنت مع شعبة ، فدنا منه شاب ، فسأل عن حديث فقال له : أقاص أنت ؟ قال : نعم قال : اذهب ؛ فإنا لا نحدِّث القصاص . فقلت له : لم يا أبا بسطام ؟ قال : يأخذون الحديث منا شبرا ؛ فيجعلونه ذراعا ( الجامع للخطيب 2/164 ، القصاص لابن الجوزي /308)
وقال ابن الجوزي : وقد صنف من لا علم له بالنقل كتبا فيها الموضوع والمحال ، فترى القصاص يوردون منها ويزيدون فيها ما يوجب تحسينا لها (القصاص /309)
وقد ذكر المؤلف في هذا الكتاب مايدل على عنايته بتمثيل القصة ، وتأمُّل أثر ذلك التمثيل في وجوه الحاضرين ، فقال في ص 84 : " أذكر أني ألقيت يوما خطبة ضمنتها قصة مقتل عمر رضي الله عنه ، ولماوصلت إلى كيفية طعن أبي لؤلؤة المجوسي لعمر رضي الله عنه قلت بصوت عال : وفجأة خرج أبولؤلؤة من المحراب على عمر ثم طعنه ثلاث طعنات ، وقعت الأولى في صدره ، والثانية في بطنه ، ثم استجمع قوته وطعن بالخنجر تحت سرته ثم جhttp://www.ahlalhdeeth.com/vb/images/icons/radia.gifرر الخنجر حتى خرجت بعض أمعائه ..لاحظت وأنا أنظر في الوجوه أن الناس تنوعوا في كيفية تأثرهم ، فمنهم من أغمض عينيه فجأة وكأنه يرى الجريمة أمامه ، ومنهم من بكى ، ومنهم من كان يستمع دون أدنى تأثر ، وكأنه ينصت إلى حكاية ماقبل النوم !!"
ومما يدخل في هذا مايفعله بعض من يذكر حديثا في خطبة أو محاضرة أو نحوذلك ، فيلتزم ألفاظ الحديث لكنه يزيد عليها انفعالات لم تشر إليها الرواية . مثال ذلك أني سمعت الدكتور العريفي في إحدى محاضراته يذكر حديث أبي ذر رضي الله عنه المتفق على صحته قال : إني سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ ، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم :" يا أَبَا ذَرٍّ ، أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ . إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمْ الله تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كان أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ ولا تُكَلِّفُوهُمْ ما يَغْلِبُهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ" ، فالدكتور العريفي حين ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر : " يا أَبَا ذَرٍّ ، أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ" قال ذلك بصراخ وغضب شديد ، مع أن الرواية لم يذكر فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم صرخ في وجه أبي ذر ، وقال له ذلك بصوت الغاضب ، وإنما ذلك مجرد احتمال ، ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم خاطب أباذر بهدوء ، ولم يصرخ في وجهه .
فالأسلوب التمثيلي الذي اتبعه الدكتور في سرد الحديث جعل المشاهد والمستمع يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم صرخ في وجه أبي ذر ، وكلمه بصوت الغاضب ، وليس في الرواية شيء من ذلك ، وإنما هو استنتاج من الدكتور العريفي . فأين هذا ممن كان يتحرج من حكاية إشارة النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال الإمام مالك رحمه الله : أما سمعت قول البراء حين حدث أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يضحى بأربع من الضحايا وأشار البراء بيده كما أشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده ، قال البراء : ويدي أقصر من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكره البراء أن يصف يد رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا له (التمهيد 7/146، الفتاوى الكبرى 5/94)
والمقصود أن الواجب الالتزام بذكر ماجاء في الرواية وتجنب الزيادة عليها ، ولاسيما إذا كانت زيادة يضيفها المتكلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن هذا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد تواترت الأحاديث في النهي عن الكذب عليه ، وتوعد من يفعل ذلك ، كقوله صلى الله عليه وسلم :" من كذب عليَّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" متفق عليه ، وقوله :" إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ ليس كَكَذِبٍ على أَحَدٍ فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ من النَّارِ" متفق عليه ، وقوله :" من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين " رواه مسلم في المقدمة . واتفق العلماء على أن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم من أشد المحرمات ، وأنه فاحشة عظيمة ، وموبقة كبيرة ، وأن من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمدا فى حديث واحد فُسِّق ، ورُدَّت رواياته كلها وبطل الاحتجاج بجميعها كما ذكر النووي رحمه الله . وقال النووي : لافرق فى تحريم الكذب عليه صلى الله عليه وسلم بين ما كان فى الأحكام وما لا حكم فيه كالترغيب والترهيب والمواعظ وغير ذلك فكله حرام من أكبر الكبائر وأقبح القبائح بإجماع المسلمين (شرح النووي على صحيح مسلم 1/70)
وحذر العلماء من الإدراج في الحديث بإدخال جملة فيه ليست منه ؛ لمايتضمن من عزو الشيء لغير قائله .
قال السيوطي : وَكُلُّه أي الإدراج بأقسامه حرام ، بإجماع أهل الحديث والفقه . وعبارة ابن السمعاني وغيره : من تعمد الإدراج فهو ساقط العدالة ، وممن يحرف الكلم عن مواضعه ، وهو ملحق بالكذابين (تدريب الراوي 1/460)
من أمثلة المأخذ الرابع قول المؤلف في ص 128 : في يوم من الأيام ، وفي خيمة أعرابي في الصحراء ، جعلت امرأة تتأوه تلد ، وزوجها عند رأسها ينتظر خروج المولود . اشتد المخاض بالمرأة حتى انتهت شدتها وولدت لكنها ولدت غلاما أسود !! نظر الرجل إلى نفسه ، ونظر إلى امرأته فإذا هما أبيضان ، فعجب كيف صار الغلام أسود . أوقع الشيطان في نفسه الوساوس ، لعل هذا الولد من غيرك ، لعلها زنى بها رجل أسود فحملت منه لعل ..اضطرب الرجل وذهب إلى المدينة النبوية حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أصحابه ، فقال : يارسول الله ، إن امرأتي ولدت على فراشي غلاما أسود ، وإنا أهل بيت لم يكن فينا أسود قط ؟ نظر النبي صلى الله عليه وسلم إليه فإذا الرجل عليه آثار البادية ، وإذا هو مضطرب تتزاحم الأفكار في رأسه حول امرأته ، فقال له صلى الله عليه وسلم : هل لك من إبل؟ قال : نعم ، قال : فما ألوانها؟ قال : حمر ، قال : فهل فيها أسود ؟ قال : لا ، قال : فيها أورق ؟ قال :نعم ، قال : فأنى كان ذلك ؟ فكر الرجل قليلا ثم قال : عسى أن يكون نزعه عرق ، فقال صلى الله عليه وسلم : " فلعل ابنك هذا نزعه عرق " . قال المؤلف في تخريجه : رواه مسلم ، وابن ماجه واللفظ له .
أقول : ذكر المؤلف أن اللفظ الذي نقله هو لفظ ابن ماجه فإليك أيها القارئ الكريم لفظ رواية ابن ماجه :
عن ابن عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا من أَهْلِ الْبَادِيَةِ أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ على فِرَاشِي غُلَامًا أَسْوَدَ وَإِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ لم يَكُنْ فِينَا أَسْوَدُ قَطُّ ؟ قال : هل لك من إِبِلٍ ؟ قال : نعم ، قال : فما أَلْوَانُهَا ؟ قال : حُمْرٌ ، قال : هل فيها أَسْوَدُ ؟ قال : لَا ، قال : فيها أَوْرَقُ؟ قال : نعم ، قال : فَأَنَّى كان ذلك ؟ قال : عَسَى أَنْ يَكُونَ نزعة عِرْقٌ ، قال : فَلَعَلَّ ابْنَكَ هذا نزعة عِرْقٌ (سنن ابن ماجه ح 2003) .
والحديث أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة بنحو حديث ابن عمر ، وليس في أول الحديث كماترى ماذكره الدكتور العريفي من زيادات من ذكر الخيمة والمرأة التي تتأوه وغير ذلك مما ذكره ليحكم المشهد التمثيلي . وهذا لايجوز ، فالواجب الاقتصار على مافي الرواية .


ومن أمثلة ذلك أن المؤلف ذكر في ص19 قصة إسلام عدي بن حاتم رضي الله عنه وأطال في ذكر تفصيلاتها في خمس صفحات وحين انتهى من ذكرها في ص 24 عزا القصة كلها في الحاشية إلى مسلم وأحمد .
وهذا يوهم القارئ أن كل ماذكره في هذه القصة رواه مسلم في صحيحه ، وأحمد في مسنده ، وهذا غير صحيح ، فمسلم لم يرو من تلك القصة التي استغرقت خمس صفحات سوى سطرين ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم :"ما مِنْكُمْ من أَحَدٍ إلا سَيُكَلِّمُهُ الله ليس بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ منه فلا يَرَى إلا ما قَدَّمَ وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ منه فلا يَرَى إلا ما قَدَّمَ وَيَنْظُرُ بين يَدَيْهِ فلا يَرَى إلا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ "
وأماباقي مافي الصفحات الخمس فبعضه رواه البخاري ، وبعضه رواه أحمد ، وبعضه مماليس له إسناد ، وإنما ذكره ابن إسحاق في السيرة بلاإسناد كمانبه على ذلك ابن كثير في البداية والنهاية (7/290 طبعة التركي ) ، ومنه ماهو مجرد استنتاجات من الدكتور العريفي ، كقوله في ص 21 :" عدي وهو يمشي بجانب النبي صلى الله عليه وسلم يرى أن الرأسين متساويان ؛ فمحمد صلى الله عليه وسلم ملك على المدينة وماحولها ، وعدي ملك على جبال طي وماحولها ، ومحمد صلى الله عليه وسلم على دين سماوي ، وعدي على دين سماوي النصرانية ، ومحمد صلى الله عليه وسلم عنده كتاب منزل : القرآن ، وعدي عنده كتاب منزل : الإنجيل ، كان عدي يشعر أنه لافرق بينهما إلا في القوة والجيش " .
أقول : ومايدريك أن هذا كان رأيه وشعوره ؟!
والحاصل أن الدكتور العريفي عفا الله عنه جمع ذلك كله ، وعزاه إلى مسلم ، وهذا خطأ كبير ، فالعزو إلى مسلم يفهم منه القارئ أن كل ماذكر في القصة صحيح ، والأمر بخلاف ذلك .
ومن أمثلة ذلك ماذكره المؤلف في أثناء قصة إسلام خالد بن الوليد في ص 135 : " قضى النبي صلى الله عليه وسلم عمرته ، وجعل ينظر في طرقات مكة وبيوتها ويستعيد الذكريات " .
أقول : لم يذكر المؤلف مصدر ماذكره ، ولم أجد أحدا ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن قضى عمرته جعل ينظر في طرقات مكة وبيوتها ويستعيد الذكريات ، فإن كان هذا استنتاجا من المؤلف فهو خطأ كبير ، كما تقدم بيانه .
ومن أمثلة ذلك قول المؤلف في ص 300 في وصف حال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة :
شريط طويييييل (كذا) من الذكريات المؤلمة يمر أمام ناظريه صلى الله عليه وسلم ، وهو ينظر إلى وجوه كفار قريش بين يديه ، ويقلب طرفه في فجاج الحرم ، وربما امتد بصره إلى جبال مكة حول الحرم أو إلى شوارعها وطرقاتها ، ليس هو فقط بل تمر هذه الذكريات أمام ناظري أبي بكر وعمر ، وعثمان وعلي ، وبلال وعمر ، فكل واحد من هؤلاء له مع قريش قصة حزينة .
أقول : من أين لك أن النبي صلى الله عليه وسلم استرجع شريط الذكريات الذي تقول عنه ، وكذلك أصحابه ؟!
ومن أمثلة ذلك قول المؤلف في ص 330 : وفي يوم آخر لاحظ صلى الله عليه وسلم أن عمر رضي الله عنه إذا طاف بالكعبة وحاذى الحجر الأسود زاحم الناس وقبله ، وكان صلبا قوي البدن ، وربما زاحم الضعفاء ، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يقدم له نصيحة ، فقال على سبيل التهيئة لقبول النصيحة : ياعمر إنك رجل قوي ..فرح عمر بهذا الثناء .. فقال صلى الله عليه وسلم : فلاتزاحمن عند الحجر .
أقول : من أين لك أن عمر رضي الله عنه فرح بهذا الثناء ؟ وهل هذه الكلمة يقصد منها الثناء أصلا ؟ إنما المقصود بيان العلة من نهيه عن المزاحمة على الحجر فهو قوي البدن فإذا زاحم الضعفاء آذاهم لقوة بدنه ، فالكلمة لايفهم منها ثناء ليفرح بها عمر كماذكر المؤلف ، ولهذا لم أجد أحدا ذكر هذا الحديث في مناقب عمر رضي الله عنه . وليس في الروايات أنه صلى الله عليه وسلم قال "إنك رجل قوي" ثم سكت ثم أكمل الجملة ليقال : إن عمر حين سمع الجملة الأولى فرح ، ففي رواية أحمد : "يا عُمَرُ إِنَّكَ رَجُلٌ قوي لاَ تُزَاحِمْ على الْحَجَرِ فَتُؤْذِىَ الضَّعِيفَ " ، وفي رواية الطبري في تهذيب الآثار "يا أبا حفص إنك رجل قوى وإنك تزاحم على الركن فتؤذي الضعيف"، وفي رواية أخرى للطبري أيضا "إنك رجل شديد تزاحم على الحجر "

ومن أمثلة ذلك أن المؤلف ذكر في ص 28 قصة زاهر بن حرام رضي الله عنه ، ولم يذكر من أخرجها ، وقد أخرجها أحمد وابن حبان وغيرهما ، لكن المؤلف ذكر فيها زيادة لم أجد لها مصدرا ، وهي قوله :( خرج زاهر يوما من باديته فأتى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجده ، وكان معه متاع فذهب به إلى السوق ، فلماعلم به النبي صلى الله عليه وسلم مضى إلى السوق يبحث عنه فأتاه فإذا هو يبيع متاعه ، والعرق يتصبب منه ، وثيابه ثياب أهل البادية بشكلها ورائحتها) .
ولفظ الحديث عند أحمد :" أَنَّ رَجُلاً من أَهْلِ الْبَادِيَةِ كان اسْمُهُ زَاهِراً كان يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم الْهَدِيَّةَ مِنَ الْبَادِيَةِ فَيُجَهِّزُهُ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن زَاهِراً بَادِيَتُنَا وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُحِبُّهُ وكان رَجُلاً دَمِيماً ، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يَوْماً وهو يَبِيعُ مَتَاعَهُ فَاحْتَضَنَهُ من خَلْفِهِ وهو لا يُبْصِرُهُ " الحديث ، ونحوه في غيره من المصادر ولم أجد ماذكره المؤلف .
ومن أمثلة ذلك أن المؤلف ذكر ص 370 في مبحث فن الاستماع قصة إسلام ضماد وقال : فلما لقيه ضماد وتأمل في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا وجه مشرق وزين ، لكن ضمادا صرح بما جاء لأجله وقال : يامحمد إني أرقي من هذه الرياح وإن الله يشفي على يدي من شاء فهلم أعالجك ، وجعل يتكلم عن علاجه وقدراته ، والنبي صلى الله عليه وسلم ينصت إليه ، وذاك يتكلم ، والنبي صلى الله عليه وسلم ينصت أتدري ينصت إلى ماذا ؟ ينصت إلى كلام رجل كافر جاء ليعالجه من مرض الجنون ! آآآه ماأحكمه صلى الله عليه وسلم حتى إذا انتهى ضماد من كلامه قال صلى الله عليه وسلم بكل هدوء : إن الحمدلله نحمده ونستعينه ...
أقول : الحديث رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهماأَنَّ ضِمَادًا قَدِمَ مَكَّةَ ، وكان من أَزْدِ شَنُوءَةَ ، وكان يَرْقِي من هذه الرِّيحِ ، فَسَمِعَ سُفَهَاءَ من أَهْلِ مَكَّةَ يَقُولُونَ : إِنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ ، فقال : لو أني رأيت هذا الرَّجُلَ لَعَلَّ اللَّهَ يَشْفِيهِ على يَدَيَّ ، قال فَلَقِيَهُ فقال : يا محمد إني أَرْقِي من هذه الرِّيحِ وَإِنَّ اللَّهَ يَشْفِي على يَدِي من شَاءَ فَهَلْ لك ؟ فقال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُه الحديث .
فقارن بين ماذكره المؤلف والقصة في مصدرها ، ولاحظ كيف زاد المؤلف في القصة مايجعلها تؤدي مقصوده من الاستدلال بها على فن الاستماع ، فأطال في تقرير إنصات النبي صلى الله عليه وسلم لضماد ، وأن ضمادا تكلم عن قدراته وعلاجه ، والنبي صلى الله عليه وسلم ينصت وينصت ، وهذا كله ليس في الرواية كما ترى .
ومن أمثلة ذلك ماذكره المؤلف في ص 40 في قصة الرجل الذي اخترط سيف النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم ، فقال فيها : كان الرسول صلى الله عليه وسلم وحيدا ليس عليه إلا إزار .
أقول : لم يذكر المؤلف مصدر هذه الزيادة ، والحديث في الصحيحين وغيرهما من كتب الحديث، ولم يذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عليه آنذاك إلا إزار .
ومن أمثلة ذلك ماذكره المؤلف في ص 44 في قصة حصين والد عمران بن حصين ، فقال : يدخل أبوعمران على النبي صلى الله عليه وسلم ، وحوله أصحابه فيردد عليه ماتردده قريش دوما : فرقت جماعتنا شتت شملنا والنبي صلى الله عليه وسلم ينصت بلطف حتى إذا انتهى قال له صلى الله عليه وسلم بكل أدب : أفرغت ياأباعمران؟ قال : نعم قال : فأجبني عما أسألك عنه ، قال : قل أسمع ، فقال صلى الله عليه وسلم : يا أبا عمران كم إلها تعبد اليوم ..
أقول : لم يذكر المؤلف مصدر هذه القصة ، ولم ينبه على ضعفها .
وإليك أقرب لفظ من ألفاظ هذا الحديث لماذكره المؤلف فيما وقفت عليه ، وهو ماأخرجه ابن خزيمة في كتاب التوحيد 1/278 بسنده عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن قريشا جاءت إلى الحصين وكانت تعظمه فقالوا له : كلم لنا هذا الرجل فإنه يذكر آلهتنا ويسبهم فجاؤوا معه حتى جلسوا قريبا من باب النبي صلى الله عليه وسلم ، ودخل الحصين فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال :"أوسعوا للشيخ"، وعمران وأصحابه متوافدون ، فقال حصين : ما هذا الذي يبلغنا عنك أنك تشتم آلهتنا وتذكرهم ، وقد كان أبوك جفنة وخبزا . فقال :" يا حصين إن أبي وأباك في النار ، يا حصين كم إلها تعبد اليوم؟ " ، قال : سبعة ... الحديث .
أقول : قارن بين اللفظين ، لتعرف الزيادات التي زادها المؤلف في الرواية ، ولاندري مصدرها .
والحديث ضعيف كما ذكر الألباني في ضعيف سنن الترمذي ح 690 ، ولم ينبه المؤلف على ذلك .
ومن أمثلة ذلك قول المؤلف في ص 53 : وإن شئت فانظر إلى أم سلمة رضي الله عنها ، وقد جلست مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذكرت الآخرة وماأعد الله فيها ، فقالت : يارسول الله ، المرأة يكون لها زوجان في الدنيا فإذا ماتت وماتا ودخلوا جميعا إلى الجنة فلمن تكون ؟ فماذا قال ؟ : تكون لأطولهما قياما؟ أم لأكثرهما صياما؟ أم لأوسعهما علما؟ كلا وإنما قال : تكون لأحسنهما خلقا ، فعجبت أم سلمة فلما رأى دهشتها قال عليه الصلاة والسلام : ياأم سلمة ذهب حسن الخلق بخيري الدنيا والآخرة .
أقول : أولا : لم يذكر المؤلف مصدر هذه الرواية ، وذكر فيها زيادات في الحديث لم أجد من خرجها ، فلم أقف في طرق هذا الحديث على ماذكره من أن أم سلمة تذكرت الآخرة وماأعد الله فيها وأنها عجبت وأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى دهشتها فقال .
ثانيا : لم ينبه المؤلف على أن هذا الحديث لايصح ، بل قال الإمام أبوحاتم الرازي : هذا حديث موضوع لا أصل له (علل الحديث 1/416) . وحكم عليه الألباني بأنه منكر ، وقال : هو مع ضعف إسناده مخالف للحديث الصحيح بلفظ "المرأة لآخر أزواجها" ، وهذا مخرج في الصحيحة 1281 ( ضعيف الترغيب والترهيب 2/190)
ومن أمثلة ذلك أن المؤلف حين ذكر في ص 60 قصة الأعرابي الذي بال في المسجد ، ذكر في أولها زيادات من استنتاجاته لم ترد في الرواية ثم ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الأعرابي يكمل بوله ثم نصحه برفق ثم جاء وقت الصلاة فصلى الأعرابي معهم ، ثم قال المؤلف : فلما رفع صلى الله عليه وسلم من ركوعه قال : سمع الله لمن حمده ، فقال المأمومون : ربنا ولك الحمد ، إلا هذا الرجل قالها وزاد بعدها : اللهم ارحمني ومحمدا ولاترحم معنا أحدا ...إلى أن قال : فناداه النبي صلى الله عليه وسلم فلما وقف بين يديه فإذا هو الأعرابي نفسه ، وقد تمكن حب النبي صلى الله عليه وسلم من قلبه حتى ود لو أن الرحمة تصيبهما دون غيرهما ..فانظر كيف ملك قلبه لأنه عرف كيف يتصرف معه .
أقول : الذي جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري أن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قام في صَلَاةٍ وَقُمْنَا معه ، فقال أَعْرَابِيٌّ وهو في الصَّلَاةِ : اللهم ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا ولا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا ...الحديث ، ولم أقف على رواية ذكر فيها أن الأعرابي قال ذلك بعد الرفع من الركوع كما نقل الدكتور العريفي .
والأمر الآخر أن المؤلف جعل بول الأعرابي سابقا على صلاته ودعائه المذكور ، وجعل سبب تخصيص الأعرابي نفسه مع النبي صلى الله عليه وسلم دون غيرهما أنه صلى الله عليه وسلم كسب قلب الأعرابي برفقه به بعد بوله ، والواقع أن الروايات تفيد عكس ماذكره المؤلف أي أن دعاء الأعرابي سبق بوله . ففي سنن أبي داود عن أبي هُرَيْرَةِ أَنَّ أَعْرَابِيًّا دخل الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فَصَلَّى ثُمَّ قال اللهم ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا ولا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد تَحَجَّرْتَ وَاسِعًا ، ثُمَّ لم يَلْبَثْ أَنْ بَالَ في نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَأَسْرَعَ الناس إليه ...الحديث .
وهكذا هو عند الشافعي والحميدي وأحمد والترمذي وابن الجارود وغيرهم ، ولم أجد من ذكر أن بوله سبق دعاءه كماذكر المؤلف .
ومن أمثلة ذلك قول المؤلف في ص 19 : " فكان [أي عمرو بن العاص] إذا لقي النبي صلى الله عليه وسلم في طريق رأى البشاشة والبشر والمؤانسة ، وإذا دخل مجلسا فيه النبي صلى الله عليه وسلم رأى الاحتفاء والسعادة بمقدمه ، وإذا دعاه النبي صلى الله عليه وسلم ناداه بأحب الأسماء إليه . شعر عمرو بهذا التعامل الراقي ، ودوام الاهتمام والتبسم أنه أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأراد أن يقطع الشك باليقين ، فأقبل يوما إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وجلس إليه ، ثم قال : يارسول الله ، أي الناس أحب إليك " .
أقول : ذكر المؤلف هذه القصة وتفصيلاتها ، ولم يذكر مصدرها ، وقد بحثت عن بعض ماذكره من تفصيلات في مظانها فلم أجدها . ولعله اعتمد في بعض ماذكره على مارواه الترمذي في الشمائل /285 من طريق محمد بن إسحاق عن زياد بن أبي زياد عن محمد بن كعب القرظي عن عمرو بن العاص قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل بوجهه وحديثه على أشر القوم يتألفهم بذلك ، فكان يقبل بوجهه وحديثه علي حتى ظننت أني خير القوم فقلت : يا رسول الله ، أنا خير أو أبو بكر ؟ فقال : أبو بكر .... الحديث . وقد ذكر الألباني رحمه الله هذا الحديث في السلسلة الضعيفة ح1461 وضعفه .
والحديث في الصحيحين بسياق آخر وهو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ عَمْرَو بن الْعَاصِ على جَيْشِ ذَاتِ السلَاسِلِ قال ، فَأَتَيْتُهُ، فقلت : أَيُّ الناس أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ قال : عَائِشَةُ ، قلت : من الرِّجَالِ ؟ قال : أَبُوهَا ، قلت : ثُمَّ من ؟ قال : عُمَرُ ، فَعَدَّ رِجَالًا ، فَسَكَتُّ مَخَافَةَ أَنْ يَجْعَلَنِي في آخِرِهِمْ .
استطراد للفائدة
مماوقفت عليه في سبب سؤال عمرو بن العاص النبي صلى الله عليه وسلم عن أحب الناس إليه غير ماذكره الدكتور العريفي مايلي :
1- ماجاء في رواية ابن أبي شيبة في مصنفه 11/108 أن عمرا علل ذلك بقوله :"لنحب من تحب" .
وكذلك ماجاء عن ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني 2/103 ، ففيه قول عمرو :"يا رسول الله من أحب الناس إليك ؟ قال : لِمَ ، قال : لأحب من تحب "، ومثله عند ابن حبان في صحيحه (الإحسان 10/404) ، وكذلك ماجاء عند الطحاوي في مشكل الآثار 13/328 ، ففيه قول عمرو :"أي الناس أحب إليك فأحبه" .
2- مارواه البيهقي في دلائل النبوة 4/401 عن عمرو بن العاص قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش ذي السلاسل ، وفي القوم أبو بكر وعمر ، فحدثت نفسي أنه لم يبعثني على أبي بكر وعمر إلا لمنزلة لي عنده ، فأتيته حتى قعدت بين يديه فقلت : يا رسول الله من أحب الناس إليك ؟ الحديث .
وأما سبب تأمير النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص على تلك السرية وفيها أبوبكر وعمر فروى ابن أبي شيبة أن أبابكر الصديق قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما : دعه فإنما ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا لعلمه بالحرب . وسنده ضعيف لانقطاعه كما قال ابن حجر في المطالب العالية 10/80 .
وفي مسند أحمد 4/203 أن رجلا قال لِعَمْرِو بن الْعَاصِ : أَرَأَيْتَ رَجُلاً مَاتَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وهو يُحِبُّهُ أَلَيْسَ رَجُلاً صَالِحاً ؟ قال : بَلَى . قال : قد مَاتَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وهو يُحِبُّكَ وَقَدِ اسْتَعْمَلَكَ . فقال : قَدِ استعملني فَوَاللَّهِ ما أدري أَحُبًّا كان لي منه أَوِ اسْتِعَانَةً بي وَلَكِنْ سَأُحَدِّثُكَ بِرَجُلَيْنِ مَاتَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وهو يُحِبُّهُمَا عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ وَعَمَّارُ بن يَاسِرٍ .
وسنده ضعيف لانقطاعه أيضا .
وروى الطبري في تاريخه 2/146 ، والبيهقي في دلائل النبوة 4/399 أن النبي صلى الله عليه وسلم اختار عمرو ابن العاص لأن من بعثه إليهم كانوا أخوال أبيه ، فأراد أن يتألفهم بذلك . ولكنه ضعيف لإرساله .

======================

يُتبع
__________________
.

((تابعوا فوائد متجددة على قناة التليغرام)) :

https://telegram.me/Kunnash
.
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 02-03-2010, 08:41 AM
أبو معاوية البيروتي أبو معاوية البيروتي غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: بلاد الشام
المشاركات: 7,435
Lightbulb تعريف بـ د . بسام بن عبدالله الغانم العطاوي


تعريف بـ د . بسام بن عبدالله الغانم العطاوي


الشيخ من أهل الحديث المنكبين عليه المنقطعين إليه .. وهو من المحققين المدققين بجدارة ولا ادل على ذلك من كون الشيخ العلامة عبد الكريم الخضير .. قد طلب منه النظر في رسالته المعدة لنيل الدكتوراه قبل أكثر من عشرن سنة ! .. فمن هذا الذي يطلب منه العلامة الخضير هذا الطلب قبل عشرين سنة وهو آنذاك لم يصل للثلاثين من عمره بل هو من طلاب الشيخ الخضير قبل ذلك كله ومن قرأ ملاحظاته على الرسالة علم علو كعبه في هذا الفن ..
الدكتور بسام يمتلك مكتبة هائلة فيها مايربوا على الأحد عشر ألف عنوان ولا أقول مجلد ..
يقول عن نفسه أنه إذا دخل بينها فإنها تكون شغل له شاغل .. وأصحاب دور النشر يعرفونه جيداً في المدينة .. فهو كما حكى لي أحدهم لا يترك كتاباً جديداً في فن من الفنون إلا اقتناه وقرأه فإن رآه يستحق الاقتناء اقتناه وإلا أهداه للمشايخ في كلية المعلمين .. وأهل العلم يعرفون قدره جيداً في الدمام وينتظرون دروسه بفارغ الصبر ولكن للشيخ وجهة نظر في وقت ابتدائه للتدريس ولعل الموعد قد اقترب بإذن الله .. والشيخ يبغض الشهرة أيما بغض ولا يحب الظهور أبداً .. ولكن مع ذلك هو من هو في البلد صداع بالحق لا يحابي في دين الله .. وقد من الله علي ووفقني بان درست عليه بعض المقرارات في الكلية .. فلا تسل عن سعة الاطلاع والعلم والتحقيق والنفائس التي يلقيها في محاضراته .. وما زال كبار العلماء وطلبة العلم الكبار كأمثال الشيخ خالد السبت ومن قبله العلامة الخضير .. يطالبونه بفتح الدروس ليسد النقص في المدينة .. وفقه الله لكل خير

=======================

كتبه عبد العزيز 44
__________________
.

((تابعوا فوائد متجددة على قناة التليغرام)) :

https://telegram.me/Kunnash
.
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 03-17-2011, 06:28 PM
أبو معاوية البيروتي أبو معاوية البيروتي غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: بلاد الشام
المشاركات: 7,435
افتراضي


يُرفع للفائدة .
__________________
.

((تابعوا فوائد متجددة على قناة التليغرام)) :

https://telegram.me/Kunnash
.
رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:22 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.