أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا
79190 | 73758 |
#1
|
|||
|
|||
منهج تحليل الواقع بالاستعانة بالتاريخ - لشيخنا مختار طيباوي
منهج تحليل الواقع بالاستعانة بالتاريخ بسم الله الرحمن الرحيم الحقيقة الموجودة و الحقيقة المقصودة ، الواقع و المشروع، الواقع يجب معرفته و الصدق في الإخبار عنه ، و على أساسه يستدعى الشرع لنقل الناس من الحق الموجود إلى الحق المقصود. الأساس الأول لدراسة الواقع المعاصر هو دراسة التاريخ بالنقد الداخلي و الخارجي ، أي التحقق من الأسانيد و الوثائق ثم التحقق من الوقائع المشابهة بعرضها على عللها و المقارنة بينها وبين الواقعة العصرية. إنه العلم بالوجود العيني و الثبوت العلمي ، العلم بالواقع علما دقيقا محيطا بالشروط الراهنة ، وبمختلف مراكز التأثير فيه ، ثم الإخبار عنه بصدق لأن من الناس من يجحد الحقائق ، ومنهم من يجهل العلم بها ، ومنهم من يجعلها تابعة لاعتقاده : تمنياته وخياله ورغباته. فهذه آفات المنهج العلمي في تحليل الواقع وتقييم شروط تغييره: 1 ـ عدم معرفة حقيقية ما الناس عليه (الوجود العيني) من عقيدة وثقافة وفكر وعادات وتوجهات و تطلعات تسير في اتجاه تغيير الواقع نحو المقصود بها شرعا أو مجرد إعادة ترتيب الواقع الموجود فهو اختلال زمني لشروط تغيير هذا الواقع. 2 ـ العلم بما بعث الله به رسوله لتغيير الناس [ هذا الثبوت العلمي] ، فيعلم الوجود العيني و الثبوت العلمي ، كما قال تعالى: {اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان مالم يعلم}. (العلق) أي العلم بسنن الله في خلقه ، في الشعوب و الدول ، في مراد الله من خلقه وطرق تحقيقه وسائل وجوده وطرق دفع موانعه. و قال تعالى: { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم}. فالشطر الأول أو الخطوة الأولى في هذا المنهج العلمي هو معرفة أخبار الأمم المتبعين للرسل و المخالفين لهم ، و عاقبة هؤلاء وهؤلاء ، كان له في ذلك عبرة و حجة توافق القرآن ، وهنا يلتقي الوجود العيني مع الثبوت العلمي ، يلتقي الواقع الموجود ليخدم الواقع المقصود ، تلتقي الحقيقة الكونية لتخدم الحقيقة الدينية. إنه باختصار: إدراك حركية ودينامكية التاريخ ، ومعرفة السنن و القوانين التي تدير هذا التاريخ ، إدراك مغاير للعبثية والارتجال في فكر وتصور بعض الدعاة ، ومغاير لمدارس النقد التاريخي المعاصرة سواء كانت جدلية مادية تقول بصراع الطبقات ، أو مثالية تقول بمركزية الفكر و التصور في تقرير الحقائق التاريخية. فهذا إدراك لنقاط التقاء التاريخ بالواقع بمنظور المنهج الرباني النبوي الإسلامي التاريخ فيه يسير في دورات ، تخلف كل دورة دورة أخرى ، على مبدأ: { وتلك الأيام نداولها بين الناس}. هذا إدراك للواقع و التاريخ ينطلق من خلال الآيات القرآنية ، إنه الاعتبار التاريخي للتحكم في سننه التي يناط بها التغيير ، فمعرفة سبب اندثار الأمم ، ونحن إذا نظرنا في تاريخ البشرية وجدنا الأسباب متعددة و متنوعة ، و بالتالي نجتنب هذه الأسباب فيحصل الاعتبار ، وتحصل لنا الحجة العلمية التي توافق القرآن. ودراسة التاريخ تحتاج إلى معرفة مذاهب الناس و مقالاتهم و دياناتهم و مللهم و نحلهم و آرائهم ، لمعرفة مدى ما كانوا فيها تابعين للرسل أو مخالفين لهم. وحتى لا يتأثر الاعتبار و القياس ، و بالتالي تضبط سنن التاريخ يجب الحياد في هذا السرد ، ومركزية التاريخ التي نقيس عليها الأحداث التي يسردها المؤرخون هي أحوال الأنبياء الثابتة في القرآن ، والأخبار الصحيحة ، فهذه معيار النقد الخارجي،وعليها يكون البناء و التطلع للمستقبل ، فالشأن في تمييز الصدق من الكذب و الاعتبار بالصدق فيها كما قال تعالى :{ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى} فدل على أن فيما يقصه الناس في تواريخهم و مقالاتهم و مذاهبهم ماهو مفترى لا حقيقة له. فالاعتبار بالتاريخ يجب أن يخضع لعملية تمييز بين الحقائق الثابتة ، و بين الأساطير و الخرافات و الحكايات المنسوجة ، إما لخدمة أغراض سياسية أو طائفية دينية ، فالتاريخ وهو من الأقوال يخضع للصدق و الكذب ، و الاعتبار يكون بالصدق فقط. والخطاب الاعلامي المعاصر بشقه السياسي و الثقافي فيه كثير من الكذب يضلل المحلل ، ويبيع له الأحلام و الأوهام من خلال بث صورة مفبركة مضخمة بتعليقات خارج زمن الحدث ، فتراه ينسى مشروعه وتصوره ويجري خلف السراب . الخلاصة: يمكن تلخيص هذه القاعدة حول الوجود العيني و الثبوت العلمي في عبارة أخرى هي فقه الواقع و معرفته و معرفة أسبابه و مشاكله ، فهذا عين الوجود العيني ثم تطلب ما يشبهه في التاريخ لمعرفة كيف جاء ، و كيف انتهى ، و ما هي العوامل التي أزالته؟ ثم مطابقة ذلك مع الثبوت العلمي إلى الحقيقة الشرعية. وعليه يتبين أن الإخلال بإدراك الواقع لا ينفع معه العلم الشرعي ، بل قد يكن العلم الشرعي من عوامل الفرقة و الاختلاف لأنه حينئذ لن يعتبر المقاصد ليتحرك وفق فقه المصالح و المفاسد ، بل سيكون ظاهريا ظرفيا ، و يزيد الأمور تعقيدا بدلا من أن يحلها. فمدار النهضة الإسلامية في مجال الإصلاح الشامل على عاملين اثنين: 1 ـ الفقه في الدين ، فمن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ، والفقه في الدين ليس هو علم الأحكام كما قد يظنه بعضهم ، ولكن معرفة الله كما عرف نفسه لأنبيائه وعباده ، في كتابه و في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، المعرفة التي يشهدها القلب ، ويعبر عنها السلوك اليومي الاجتماعي و العلمي ، ثم بعد ذلك معرفة أمره و نهيه أي شريعته. 2 ـ ومع ذلك فليس هذا كافيا للداعية حتى يكون فقيها لدين الله في فهم طبيعة النفس البشرية ، وطبيعة البشر و عاداتهم و شبهاتهم و شهواتهم ، فقيها بأحوالهم وواقعهم ، يسوسهم بلطف ورفق بحسب حاجاتهم و بحسب ما يقدرون عليه. فاستعمال العالم الداعية لوسائل العصر يمكنه من معرفة حركية المجتمع ، ووعيه الجماعي ، و مكنونات مجالاه اللاشعوري ليخطط لدعوته ، ويوفر لها أسباب النجاح. فالفقه في الدين هو الفقه لأسباب الهدى و أسباب الضلال، هو معرفة ثقافة الناس وما عندهم من العلم و تقييمه ثم تمحيصه ، فيستعمل الصحيح الجيد منه للتدليل على دين الله و شرعه. لقد أصبح خطاب بعضنا خاليا من أي تحليل تاريخي ، أو اعتبار لمجريات التاريخ والوقائع المشابهة ، وكيف تعامل معها أهل العلم في زمنهم ، لقد أبهرتنا اللحظة ولم نتعود التفكير العميق ، ومرة أخرى سيفرض علينا الواقع الجديد شروطا جديدة ، وعلينا بحكم الضرورة المدافعة بما يتجاوب معها . إن الفكر العلمي الذي يجتنب الرخاوة في التحليل هو الذي يطرح باستمرار السؤال عن الشروط النظرية و العملية لصلاحية أو عدم صلاحية أي مشروع له هدف معرفي أو اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي ، أوديني شامل لكل ذلك. فإذا كانت الشروط الراهنة بمثل هذه السلبية، و الصورة مزيفة ، فهذا يعني أن عناصرالواقع في شكله الحالي لن تقوم بأية نهضة حقيقية ، لأنه بكل بساطة لا يستطيع أن يحافظ على إيقاع منتظم في التقدم و الإصلاح ، أو قل هو لن يصلح شيئا ما إلا للحفاظ على آخر فاسد. ربما يقضي الله لهذه الأمة الخير من حيث لا تحتسب فإنه ولي كل خير وعلى كل شيء قدير. |
|
|