أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا

             
5366 139530

العودة   {منتديات كل السلفيين} > منابر الأخوات - للنساء فقط > منبر الصوتيات والمرئيات والكتب و التفريغات - للنساء فقط

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 04-21-2010, 03:27 PM
أم زيد أم زيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 5,264
افتراضي [ تفريغ ] فقه الدعوة إلى الله : محاذير وبدع دعوية - علي بن حسن الحلبي

بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحِيمِ

فِقْهُ الدَّعوةِ إلى اللهِ

(مَحَاذِيرُ وَبِدَعٌ دَعَويَّة)
(1)

لِفَضيلةِ الشَّيخ عليِّ بنِ حسن الحلبيِّ
-حفظهُ اللهُ ونفَعَ بهِ-


إنَّ الحمْدَ للهِ، نَحمدُهُ، ونَستعينُه، ونَستغفِرُه، ونَعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفُسِنا، وسيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِلْ فلا هادِي له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله، وحدهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، أما بعدُ:


فلقاءات الخير تتجدَّد، ويتجدَّد معها الإيمان، وتعظُم معها المحبَّة في الرَّحمن، ولا نزالُ مُتواصلين مُتواصين بالحق والصبر؛ تعظيمًا لهذا الأصلِ الذي هو مِن أعظم أصول النَّجاة: {وَالْعَصْرِ - إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ - إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر]، وفي سورةٍ أخرى، وآيةٍ أخرى -مِن كتاب الله- أضيف إلى هذا التَّواصي نوعٌ آخر: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد: 17]؛ فالحق إذا لم يكنْ معه مَرحمَة، وعليه صبرٌ؛ فسرعانَ ما ينفلت عنه أصحابُه، ويتفلت منهُ أربابُه.


وكانت هذه الدَّورة المباركة الميمونة في ظروف -تَمرُّ بها الأمة- صعبة، وصعبة جدًّا؛ لكننا على ما نحن عليه؛ لا تغيِّرنا الظُّروف، ولا تكدِّرنا سوءُ الأحوال؛ وإنما نمشي ونسير على سَننِ الاستعانةِ بالله، والثَّبات على أمر الله -تَبارَك وتَعالَى-.


الموضوع الذي أنيط إليَّ الكلامُ حولَه: أُطلِقَ عليه: " مَحاذير وبِدع دَعَويَّة ".


وإذ قد خَصصنا القول في الدَّعوة -فيما يتعلق بالمحاذير والبِدع-؛ فلأن الدَّورة -كلَّها- متعلقة بالدَّعوة؛ وإلا فإن البِدع والمَحاذير التي تعيشها الأمَّة -جماعات وأفرادًا-وللأسف- كثيرة وكثيرة جدًّا.


لكن -كما قلتُ وأسلَفت- لِكَونِ ما نحن فيه موصولاً بالدَّعوة إلى الله؛ كان لا بُد مِن إلقاء ضوءٍ خاصٍّ على هذه الدَّعوة وما يتَّصلُ بها مِن محاذير وبدع.


وبين يديْ ذلك: لا بُد مِن مقدمة تنتظِم نقاطًا عِدَّة:


أمَّا أوَّلها وأهمُّها: فهو أن الدَّعوة إلى الله توقيفِيَّة؛ كما أن الأحكام الشَّرعية توقيفِيَّة، وكما أنَّ أسماءَ الله -تعالى- وصِفاتِه توقيفِيَّة، وكما أن أحكامَ الشَّرع -كلَّها- نحن فيها على سَننِ الدَّليل -لا نتجاوزُه، ولا نتعدَّاهُ ولا نتحدَّاه-؛ فكذلك الأمرُ فيما يتعلق بهذه الدَّعوةِ إلى الله.


فالدَّعوة إلى اللهِ توقيفِيَّة في وَسائلها، توقيفِيَّة في مسائِلها.


وقد يَعترِض بعضُ النَّاس، ويُشكِل عليهم إشكالاتٍ -لكنها ليست قائمة-؛ كأن يقولوا -مثلاً-: مكبِّرات الصَّوت.. المُسجِّلات.. الكمبيوتر، الكتب.. الدَّفاتر.. الأوراق .. ! فهذه جاءت عليها نصوصٌ عامَّة، ودخلت فيها أفرادُها، فأفرادُ العامِّ تَنتظمُه، وتدخلُ تحتَه، وتَندرج تحتَه. عندما قال النَّبي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-: " قَيِّدُوا العِلْمَ بِالْكِتابِ "؛ فتقييدُ العِلم بالكتاب صورةٌ مِن صُوَر العام، وفَرد مِن أفراده، فإذا قُيِّد العلم -لِحفظه- في مسجِّل، أو في كمبيوتر، أو في غير ذلك؛ لا يَخرج عن التَّقييد، ولا يتجاوزه إلى غيره.
وكذلك الحال في السَّماعات -أو الميكروفونات، والمكبِّرات- لها أصلٌ؛ لأن المقصودَ منها: الإبلاغ، والمُبلِّغ -باتِّفاقِ أهل العلم-عند الحاجة إليه- أمرُه قد يصلُ إلى الوُجوب، والآثار عن السَّلف -في ذلك- متعدِّدة.


فإذا كان التَّبليغ بالصَّوت الإنساني، وإذا كان التَّبليغ بالجهاز الذي يَنقل الصَّوت؛ هذا -كلُّه- لا يُعارِض الأصلَ الذي نحنُ في صَدَدِ تقريرِه؛ وهو: أن الدَّعوة إلى الله -في وسائلها، وفي مسائلِها- توقيفِيَّة.


ومن أهم الأدلَّة على ذلك: ما وصف الله -تعالى- به نبيَّه -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- في كتابِه العزيز، في قوله -تعالى- في وصف نبيِّه محمدًا -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} [الأحزاب: 46]؛ فالدَّعوة إلى الله متوقِّفة على الإذن، وعلى الأمر، وعلى المُباشرة بالفعل التَّابع لهذا الإذن. أما أن لا يكون -هنالك- إذن، ثم أن تكون الدَّعوة نَهَبًا للآراء والأذواق والمواجيد، والأفكار والاجتهادات؛ فسيكون -هنالك- من المفاسد والبلايا ما لا يعلم قَدْره إلا الله رب العالمين.


ولأخينا الشَّيخ عبد السَّلام بن برجس رسالة مفردةٌ في إثبات أن وسائل الدَّعوة إلى الله توقيفِيَّة.


ولا اعتراض صحيح فيمن تصوَّر أن بعض الأمورِ المستحدَثة التُّكنولوجية؛ نحن نجيزُها ونسوِّغها في الوقت الذي نقول فيه إن الدعوة إلى الله توقيفِيَّة. بيَّنَّا أنه لا تعارض في ذلك البتة.


النقطة الثانية: متعلقة بخطورة البِدع، وأن السُّكوت عنها، أو التَّهاون بها يُضفي عليها ثوبًا من الشَّرعية، ويُسدِل عليها لَبوسًا من الإقرار، ونحن لَسنا إلى هذا، ولَسنا إلى ذاك، ليست البِدع -مهما صغرت أو كبرت- شرعيَّة، وليست هي مُقرَّة في الشَّرع.
والنُّصوص على ذلك -أيضًا- متكاثرة؛ لكنني أذكر أثرًا عن ابن مسعود -رضي الله-تعالى-عنه- يقول فيه: " كيف أنتم إذا لبِستكم فِتنة؛ يَربُو فيها الصَّغير، ويَهرَم فيها الكَبير، ويتَّخذُها النَّاس سُنَّة، حتى إذا تُركت؛ قيل تُركت السُّنَّة "، قالوا: ومتى ذاك يا أبا عبد الرَّحمن؟ قال: " إذا كَثُرت قُرَّاؤكم وقلَّت فُقهاؤكم، وكثُرت أمراؤُكم وقلَّت أُمناؤكم، وتُفُقِّه لغير الدِّين، والتمستْ الدُّنيا بعملِ الآخرة ".


سُكوت النَّاس مِن أهل الثقة عن بيان الخطأ، عن دحض الفتنة؛ يَقْلِبها -عبر التَّاريخ- إلى سُنَّة -في تصوُّر النَّاس، وفي أذهانهم، وفي مُخيَّلاتهم-؛ لذلك كان لا بُدَّ من البيان -ولو في أدنى نِطاق، وفي أقلِّ مجال-؛ لأن اللهَ -عزَّ وجلَّ- لم يوجِب علينا أن يكون بيانُنا تامًّا في الخلق! هذا لا يمكن! حتى ما أمر الله -تعالى- به نبيَّه -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- في بداية الأمر: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ثم بعد ذلك توسَّع النَّبي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- في الدَّعوة إلى الله -تَبارَك وتَعالَى-.


إذًا: علينا أن نُبيِّن، وأن لا نسكت؛ لكن: بالعِلم والحِلم والبصيرةِ والحُجة النيِّرة المُنيرة، مِن غيرِ مُصادَمة، ومِن غيرِ مُواجهة تكون مفاسِدُها أشد وأنكى مِن مَصالحها؛ بل تكون مفاسدُها المتيقَّنة أشد بألفِ مرَّة مِن مصالحها المتوهَّمة والمظنونة.


ومِن هذا الباب: كلمة الإمام البَربهاري التي نقلها عنه الإمامُ ابن رجب، وغيره مِن أهل العلم، قال: " واحذَرْ صِغار المحدَثات؛ فإنها تعظُم وتَكبر حتى تصيرَ كِبارًا "؛ تبتدئ بشيء صغير، ثم تكبر وتعظم.


وأثر ابنِ مسعود في مسجد الكوفة، وقصته مع أبي موسى الأشعري: عندما مرَّ على الحِلَق الذين كانوا يُسبِّحون بالحصى، قال: " عُدُّوا سيئاتِكم وأنا ضامنٌ أن لا يضيعَ مِن حسناتكم شيء "، قالوا: لم نُرد بذلك إلا الخير! قال: " وكم مِن مريد للخير لن يصيبَه "! رواي الحديث يقول: رأيتُ عامةَ أولئك الحِلَق يوم النَّهْروان يُطاعنوننا مع الخوارج!
بدعة توهَّموها صغيرة، واستسهلوا شأنها؛ فكبرت وعظمت، حتى وصلت إلى سُويداء القلوب فأفسدتها وسوَّدتها، وأظلمت فيها أشدَّ الظُّلم وأظلمه.


القضيَّة الثَّالثة: أن الواجب سُلوك منهج الأنبياء في الدَّعوة إلى الله -تَبارَك وتَعالَى-.
وهذا المنهج هو المنهج الذي ارتضاهُ الله -تعالى- لنبيِّه -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-؛ عندما ذكَر اللهُ -تَعالَى- الأنبياء ومنهجهم في كتابِه؛ ماذا قال؟ {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90]، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] عبادة، وتوحيد، وبُعد عن الشِّرك والبِدعة، {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]؛ كلها تأصيل لسلوك منهج الأنبياء في الدَّعوة إلى الله المبنيِّ على العِلم والحِلم والبصيرة والحُجة والإِذن في كل حَركة وسَكْنة، في كلِّ قولٍ وفِعل، لا يَستعجلون ولا يتعجَّلون، وكيف ذلك يَكون وهم -مَن هم!- قد هيأهم الله -تعالى- لحمل الرسالة، وأداء الأمانة.


كذلك أهل العلم فيهم جزء مِن هذا الاصطِفاء، كما قال النَّبي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-: " مَن يرِدِ اللهُ به خيرًا يفقهه في الدِّين "؛ إذًا: الأمر متعلق بإرادة الله؛ فهو نوع مِن الاصطفاء؛ لذلك جاء الربط بين العلماءِ والأنبياء، ماذا قال النَّبي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-؟ " العُلماءُ وَرَثة الأنبياء، وإن الأنبياءَ لم يُوَرِّثوا دِرهمًا ولا دينارًا؛ وإنما ورَّثوا العلمَ النَّافع ".


فسلوك أهل العلم في الدَّعوة إلى الله ينبغي أن يكون على نسَق الأنبياء، وبخاصة سيِّدهم ومقدَّمهم رسولنا محمدًا -عليه أفضلُ الصَّلاةِ وأتمُّ التسليم-.


النقطة الأخرى: واجب العلم والبيان.


الله -تَبارَك وتَعالَى- أخذ الميثاق على أهل العلم {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187]؛ فواجب البيان فيه تأصيل لسلوك منهج الأنبياء، فيه تأكيد على أن الدَّعوة إلى الله توقيفيَّة، فيه تثبيتٌ لمقدارِ خُطورة البِدع والحد مِن هذه الأخطار التي تتهدَّد الأمة -ولا نشعر به-.


ما تواجهه الأمة من أخطار الاقتصاد والسِّياسة -والله- إنه عُشر معشار ما يتهدَّدها من أخطارها الدِّينية والعقائديَّة؛ لأن السِّياسة -وما حولها- تدور، دُوَل؛ {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140] لكن الحق هو الذي يَثبت، وهو الذي يبقى؛ {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد: 17] فالحقُّ هو الباقي، وما سواه يَثبُت بقَدر تمسُّكه بالحقِّ وصِلته به؛ أما بُعدُه عنه، واجتنابُه له؛ فهو طريق التَّسريع له في مَزيدٍ مِن الغواية والانحِراف والعَماية والضَّلالة -عياذا بالله-تَبارَك وتَعالَى-.


لذلك كان مِن مشهور كلمات أهل العلم: " لَولا أصحابُ المَحابِر، وحَمَلةُ الدَّفاتر؛ لخطبتِ الزَّنادقة على المنابِر"؛ لولا بيانُهم وتحذيرُهم، لولا قولُهم وصَدْعُهم؛ لاختلطَ الحابلُ بالنَّابل! كما قال الإمام أحمد وقد جاءه بعضُ أصحابه، يقولون: (نحن -الآن- في فتنة لو نسكت قليلا)! وهذا أشبه بالمثَل الذي نقرأه -أيضًا-هنا وهنالك- يقولون: (إذا جاءت فتنة معينة؛ لا بد من الانحناء بين يدي العاطفة)! هذا ليس صوابًا دائمًا؛ قد يكون صوابًا بظرف معين، وبضوابط معينة.


عندما جاء هذا الرجل إلى الإمام أحمد يقول له هذه الكلمة؛ ماذا كان جوابُه؟ قال له -رحمهُ الله-: " إذا سكت أنت، وسكت أنا؛ فمتى يتعلَّم الجاهل؟ " واجب، حِمل ثقيل، أمانة {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72].


إذًا: هذه الأمانة في ثِقَلها، وفي كِبَر شأنها؛ أولى النَّاس بحَملها -فعلًا وعملًا وتصوُّرًا واعتقادًا- هم الأنبياء، ثم العُلماء، ثم الدُّعاة السَّائرون على نهج هؤلاء وأولئك.
فواجب العلم والبيان مهم ومهم جدًّا؛ لصيانة هذا الدِّين، وحماية هذا الحقِّ اليقين؛ كما قال النَّبي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-: " يَحملُ هذا العلمَ مِن كلِّ خَلَفٍ عُدُولُه؛ يَنفون عنه تحريفَ الغالِين، وانتحالَ المُبطِلين، وتأويلَ الجاهِلين "، والعِلم هو الدِّين؛ كما قال ابنُ سِيرين: " إن هذا العلمَ دِين؛ فانظروا عمَّن تأخذون دِينَكم " لماذا قال: " انظروا عمَّن تأخذون دِينَكم "؟ حتى لا يكون هذا الأخذ سبيلاً للتَّضليل، وسبيلاً للتَّلبيس؛ فالنَّاس -اليوم- تثق بكل ذي لِحيةٍ! تثق بكل مَن يتكلَّم في الدِّين -حتى لو لم يكن له لحية!-! يأنسون ويَستأنِسون؛ هذا إنسان يخاف الله ويتَّقيه! هذا إنسان يتكلَّم بالشَّرع! وليس عند العامَّة منهم -وكثيرٍ مِن الخاصَّة- الضَّوابط الشَّرعية التي يُميِّزون بها صدقَ هذا القول أو كذبه، صوابَه أو خطأهُ، هُداه أو ضلاله؛ إلا بذلك الأصلِ الذي نحنُ في صدد بيانِه والدَّندنةِ حولَه؛ وهو وُجوب البيان على نهجِ سُلوك سبيل الأنبياء جميعًا -عليهم أفضلُ الصَّلاة وأتم التَّسليم-.


وهذا البيان، وهذا التحذير، وهذه المحاذير، وهذه البِدع؛ تلتقي -تمامًا- ذلك الحديث المرويَّ في "الصَّحيحين": عن حذيفة بن اليمان -رضي الله-تعالى-عنه-، قال: (كان أصحاب رسول الله -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- يسألونهُ عن الخير، وكنتُ أسأله عن الشَّر؛ مخافةَ أن يُدركَني) ...


العِلمُ مَعرفةُ الهُدى بِدَليلِهِ ...

الضِّدُّ يُظهرُ حُسنَه الضِّدُّ ... وبِضدِّها تتميَّزُ الأشياءُ


من كلمة التَّوحيد فما دون؛ كل ذلك فيه -إن جاز التعبير- سالب وموجب: (لا إله إلا الله)، واجبات الصلاة، أركانها، نواقضُها، السُّنة وجوبًا وتعلمًا وتعليمًا، والبِدعة تحذيرًا واجتنابًا . . وهكذا في كثير؛ بل في كل قضايانا الشَّرعية الإسلاميَّة؛ يجب أن نفهم الأمور بأضدادِها؛ لأننا إذا لم نعرف الضِّد . . كما ذُكر عن الإمام عبدِ الله بن الإمام أحمد أنه علَّم ولدَه عبد الله الآلاف المؤلَّفة من الأحاديث، ثم قال له: (انتبيه! هذه -كلها- أحاديث لا تصِح ولا تثبت! الآن نبدأ بتعليمِك الأحاديث الصحيحة)!


لا بُد من معرفة الباطل ومعرفة الحقِّ؛ حتى لا تختلط الأمور، وحتى لا تتداخلَ الحقائق -بأضدادِها وأغيارها-؛ أمَّا إذا أخذنا جانبًا -فقط- كما هو -يعني- موجود ومقرَّر -الآن- في كثيرٍ من المدارس الفكريَّة والدعويَّة والحركيَّة، يقولون: (نحن لا نتكلَّم إلا بما عندنا مِن الحق، ولا نذكُر الباطل، ولا نذكر الخطأ)! ويقولون: (أميتوا الباطلَ بِهجرِه)!!


(أميتوا الباطلَ بِهجرِه) -على فرض صحَّة هذه العبارة-: لها مَوضعُها، ولها موقعُها، ولها حيويتها -وُجودًا وعدَمًا-. ومَن ذا الذي يُقرِّر (أميتوا الباطلَ بِهجرِه) والرَّسول -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- مكث بضعةَ عشر عامًا وهو يُعلِّم النَّاس التَّوحيد، ويحذِّرهم من الشِّرك، يُعظِّم في قلوبهم الإيمان، ويُحذِّرهم من الأصنام والأوثان.


الرَّسول -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- في حياتِه -كلِّها- وهو يُكرِّر خطبة الحاجة على أسماع الصَّحابة؛ لتنغرسَ في قلوبهم وعقولهم: " وخير الهدي هديُ محمَّد، وشَرَّ الأُمورِ مُحدَثاتُها "؛ بيَّن لهم الحق وحذَّرهم مِن الباطل، بيَّن لهم السُّنة وحذَّرهم من البِدعة، بيَّن لهم التَّوحيد وحذَّرهم من الشِّرك، بيَّن لهم الصَّواب وحذَّرهم من الخطأ... وهكذا.


هذه هي مدرسة الحقِّ الذي -نحن- نتفيأ ظلالَه، ونَذكُرُه، ونُذكِّر به إخوانَنا وأنفسنا -آناءَ الليل وأطراف النهار-ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً-.


النقطة الأخيرة في هذا المدخل: أن هذه المحاذير والبِدع تختلف باختلافِ الزَّمان والمكان؛ وجودًا وعدمًا مِن حيث الأصل، أو كثرةً وقلةً من حيث الوجود والاعتبار.
فنحن نقرأ في كتب العلماء المتعلِّقة بالبِدع والتي تَذكرها وتُحذِّر منها؛ مثل: " تلبيس إبليس "، مثل: " الاعتصام "، مثل: " اقتضاءِ الصِّراط المستقيم "؛ هذه كتب أصول مِن أصول أهل العلم؛ نقرأ لهم بعض البِدع التي ذَكَروها وحذَّروا منها -سواء في الدَّعوة -خصوصًا، أو على وجه العموم- لا نراها، أو لا نرى بعضها -على الأقل-؛ لماذا؟ لهذا الملحَظ الذي ذَكَرتُه وأشرتُ إليه؛ وهو: أن وجود البِدع وانتفاءَها، أن وجود بعضِ هذه المحاذير أو عدمها، أن كثرتَها أو قلَّتها؛ كل ذلك يكون بِحسَبِه -زمانًا ومكانًا-؛ فما قد يوجد في بلادِ الشَّام قد لا يوجد في مصر، وما يوجد في مصر قد لا يوجد في الحجاز، وما يوجد في الحجاز قد لا يوجد في المغرب العربي، ما وُجد في هذه السَّنوات لم يكن موجودًا قبل عُقود قليلة، وما هو موجود الآن قد لا يكون بعد سنوات يسيرة . . هكذا.
هنالك عوامل متعدِّدة لهذا التغيير، ولهذا التَّبديل، لهذا الوجود -قلة أو كثرة-، لهذا العدم والانتفاء -حينًا-، وهذا الوجود -أصلًا- حينا آخر.


وهذا يجعل القضية فيها ملحظ دقيق.


يعني أنا أضرب مثالًا -وذكرتُه غير مرة-: في عصر الإمام أحمد كانت هنالك بدعةٌ عُظمى تصدَّى لها الإمام بقوَّة، وصبَر، وثبت؛ بينما غيرُه -ممن لا يقلُّون عنه-إمامةً وعلمًا ومكانةً- لم يثبتوا وأخذوا بالرُّخصة، هو لم يأخذ بالرُّخصة؛ وإنما ثبت على العزيمة؛ حتى لُقِّب -بحق-: (الصَّابر في المحنة، والثَّابت في الفِتنة) -رحمه الله- الإمام المبجَّل أحمد بن حنبل.


حتى الإمام أبو الحسن الأشعري -الذي له-الآن- مدرسة طويلة عريضة في العقائد وفي الفِرَق والتَّوحيد- في كتابه: " مقالات الإسلاميِّين " عندما ذَكَر مقالة أصحاب الحديث في العقيدة، قال: (وهذا هو قول الإمام المبجَّل أحمد بن حنبل، ونحن بِقَولِه قائلون)؛ فصار تبعًا له؛ لكنَّها تبعيَّة الحقِّ والحُجة، ليست تبعيَّة التَّقليد والتَّعصب مما هما مِن المحاذير والبِدع التي سنتكلَّم عنها.


إذًا: الذي كان في عصر الإمام أحمد قد لا يوجد اليوم.


الآن: لو أن أحدًا من النَّاس عقد درسًا -أو دروسًا- يتكلَّم فيها عن فِتنة خلْق القرآن؛ ماذا سيقول أقرب النَّاس إليه، وأدنى النَّاس منه، وأحب النَّاس إلى قلبِه ومنهجه؟ سيقولون: هذه معلومات قديمة، وليس لها وجود حاضر -على الأقل في بلادِنا-! قد توجد هذه في عُمان.. في بعض أطراف الجزائر حيث يوجد المناوئ -في فكرة، أو قضية- فيناقَش ويُرَد عليه؛ لكن هذه البلاد ليس هذه هي الفتنة فيها.


شيخ الإسلام ابن تيميَّة -في عصره- كان واقفًا وقفة عظمى في الرَّد على الأشاعرة، وبخاصة مسألة الصِّفات -صفات الباري-، وألَّف فيها كتبًا كثيرة، يرجع فيها ويدور إلى أصلٍ واحد وثابت -كذلك تلميذُه الإمام ابن القيم-: " دَر تَعارُض العقل والنَّقل "، " الصَّواعق المرسَلة "، " بيان تلبيس الجهميَّة ".. وهكذا كتب كثيرة في هذا الأصل، مجلدات، وفتاوى كثيرة.


انظروا كم لشيخ الإسلام من قاعدةٍ في مسألة كذا: " الفَتوى الحمويَّة "، " العقيدة الواسِطيَّة "، " القاعدة المراكشيَّة " . . كل هذه -من الشرق والغرب- تأتيه وهو [27:50] في القلوب والعُقول، كلُّها في باب الأسماء والصفات، لم يقل لهُ أحد: (لقد أكثرت)! لأنه هو الذي يُقدِّر، هو العالِم، هو الذي يقدِّر مدى الحاجة، ومِقدار المصلحة في بيان هذه المحاذير والبِدع التي هي عَقائديَّة -من جهة-، ودَعويَّة -مِن جهة أخرى-؛ لارتباطها في واقع النَّاس وحياتِهم ومعاشِهم، وصِلَتِها بمعادِهم عند ربِّهم يوم القيامَة.


فالأمر في باب المحاذير والبِدع قائمٌ على خمسةِ أُصول:


أولها -تلخيصًا-: بيان أن الدَّعوة إلى الله توقيفِيَّة.
ثانيها: خطورةُ البِدع.
ثالثها: سُلوك سبيل الأنبياء ومنهجهم.
رابعها: واجبُ البيان لأهلِ العِلم.
وخامسُها: تغيُّر مقادير هذه المحاذير -وجودًا وعدمًا، قلةً وكثرةً- بحسب الزمان والمكان.
والأمثلة عليها -في الحقيقةِ- كثيرة.


أما هذه المحاذير؛ فسبحان الله! -يعني- وأنا أنظر وأجمع همَّتي فيها -يعني- ذكرتُ بالقَلم -هكذا- منها، واجتمع لدي منها نحو مِن عشرين، وهي -طبعًا- قابلة للزِّيادة، وقابلة للجَمع والفَرق -كما يُقال-، وقد لا يتنبَّه البعضُ إلى واحدة، أو لا يتفطَّنون لها؛ بينما يتفطَّن الآخرون؛ بل قد يكون الذي بين أيديكم ويتكلَّم معكم غافلاً عن شيءٍ يُنبِّهُه عليه إخوانُه وأحبَّاؤه؛ الدِّين تَواصٍ وتواصُل -ولله الحمد- واعتصام، وذِكر وتذكير وتَذكُّر، ونحن عليه، ونسأل الله حُسن الختام.


وأنا رأيتُ أن أهم وأعظم هذه المحاذير والبِدع في العصرِ الحديثِ: (الحزبيَّة)؛ لأن الحزبيَّة -اليوم- أصبح لها أعلامُها، وأصبح لها مدارِسُها، وأصبح لها حُضورُها، وأصبح لها المدافِعون عنها، فالأمر فيها ليس سَهلًا، وليس يَسيرًا.


ولئن كانت هذه الحزبيَّة في شأن مِن شؤون الدنيا؛ لسَهُل الأمر -كما لو فُتح سوق خضار، أو سوق ملابس، وما أشبَه-؛ لكن أن تكون هذه الحزبيَّة مرتبطةً بالشَّرع والدِّين والدَّعوة إلى دِين ربِّ العالمين، ثم تُلبَس لَبوسَ الحق، وتُزيَّن بزينةِ الشَّرع؛ فهنا المصيبةُ العُظمى!


ويكفي في بيان خطر الحزبيَّة والتَّحذير منها: أن الله -تَبارَك وتَعالَى- يقولُ في كتابِه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}، قال: {بِحَبْلِ اللَّهِ}، وأمر بالاعتصام، ثم ختمَ بالنَّهيِ عن التَّفرُّق؛ مع أن الاعتصام -وحدَهُ- دليلٌ على عدمِ التَّفرُّق؛ لكنْ زيادةً في التَّثبيتِ والتَّوكيد وتعميقِ الفِكرة في القُلوب والعُقول، ليس -فقط- في الأسماع -لتدخل مِن هنا، وتخرج مِن هناك؛ كالأقماع- لا؛ وإنما مِن باب التَّثبيت والتَّأكيد؛ لتصلَ القُلوبَ والعقول، وأكاد أقول: قبل أن تصلَ إلى الأسماع.


{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} انظروا -أيضًا- التَّوكيد بـ {جَمِيعًا}، والاعتصام لا يكون إلا بالجميع؛ مُؤكِّدات -واحدة، وثانية، وثالثة، ورابعة- في آيةٍ واحدةٍ -لا تكاد كلماتُها تكون خمس كلماتٍ، أو سِت كلمات-! وهذا مِن إعجاز النَّظم القرآني في كثيرٍ مِن آياته، وكثير مِن كلماته.


بينما نرى أن الحزبيَّة المعاصرة منذ أن انبثق نارُها -في أوائلِ هذا العصر- نَرى أنها لا تقومُ على الاعتصام بحبلِ الله؛ وإنَّما تقومُ على مواثيق الحِزب، ولوائِحه الداخليَّة؛ فلا يَنظرون إلى الفرد بِمقدار طاعته لله، أو مقدار التزامِه بكتاب الله، أو اتِّباعه سُنَّةَ رسولِ الله -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-؛ وإنما يَنظرون إليه بمقدارِ مُوافقتِه للحزب، ومتابعتهِ لأفكارِه، وإخلاصه في الدِّفاع عنه -حتى ولو كان ذلك -وللأسفِ!- بخلاف الحق-!


وهذا ما نلمسُه لَمس اليدِ -ولا أريد أن أقول: نَراهُ رأيَ العين!-، نلمسُه لمسَ اليد؛ لخطورتِه وآثارِه.


بل إنك ترى صُوَر هذه الحزبيَّة المَقيتة -أحيانًا- في بيت الله! تضع كتفَك بكتف أخيك، وقدَمك بقدمِه، ثم إذا به إذا دخل أو خرج كأنك ساريَة مِن سواري المسجد؛ لا يُسلِّم عليك! لأن الأوامرَ صدرتْ: (لا تسلم على فلان)! فهو لا يخالف؛ لأنه (إذا اعترض انطرد)؛ هذه قواعدهم -لا مجال-؛ تنفذ أوامر الحزب ولو خالفتْ أوامرَ الربِّ -جلَّ وعلَا-.


ولئن كان أهلُ العلم السابقون قد ردُّوا ونقضُوا ونَقدوا وانتقدوا الحزبيَّة المذهبيَّة -إن جاز التَّعبير- وإن كان علماء تلكم المذاهبِ في تلكم الأزمان أئمة، وكبارًا وعلماء؛ لكن لأنهم تقوقَعُوا في إطار لا يَخرجون عنه، ولا يُغادِرونه -حتى غدا ذلك نوعًا مِن أنواع التَّحزب- نَهوا عنه، وحذَّروا مِنه؛ فما بالنا -الآن- التَّعصب لرؤوس الجهَّال؟!
وأنا تابعتُ -قريبًا- بعضَ الأحزاب المنتسبة إلى الإسلام، وما يُسمَّى: (الانتخاباتِ الداخليَّة) -في الجرائد؛ هذا الخبر الذي سأقوله من أخبارِ الصحف والجرائد؛ ليس سرًّا، ولا أمرًا مَخفيًّا-؛ فنظرتُ وتأملت في قضية رأيتُها خطيرةً -على خطورتها في أصلِها-: هذا الحزب كان القائمون عليه مِن أصحاب الشَّهادات الشَّرعية، ومِن حملةِ الألقابِ العلميَّة -وكيفما كان الأمر؛ وجودُهم على هذا النَّسَق أهوَن من عدمِه-؛ فإذا بالأمور كأن فيها سحبًا لبِساطٍ مِن تحت أقدامهم! يأتي طاقم جديد، بانتخاباتٍ جديدة، بأسماء جديدة، ليس فيهم واحدٌ مِن أصحابِ الشَّهادات الشَّرعية، أو الألقابِ العِلميَّة، أو الملَكة الفِقهيَّة -حتى لو كانت في حدٍّ أدنى مِن حدودها-.


هذا يدلِّل أن الحزبيَّة تتعمَّق، وتُزيل ما في طريقِها -مما قد يُكدِّر عليها، ويكرِّس بعضَ المفاهيم المخالفة لها-، وحصل هذا الانقلابُ الأبيض -إن جاز التَّعبير-، الانقلاب الحرَكي والفِكري على أناس كان ممكن -في يوم من الأيام- أن يقولوا: (هذا حرام) -وإن كانوا يقولونها بِنُدْرة-؛ لكن -الآن- لا يوجد مَن يقول! أصبحت القضية سياسيَّة محضة! بعيدةً عن الشَّرع -ولو في ملامِحه العامَّة، ولو في نمطِه الظَّاهر- بعيدًا عن حقائقِه الباهِرة.


فلئن كانت الحزبيَّة ممقوتةً إذا كانت مُرتبطةً بالعلماء؛ فإنها أشدُّ مقتًا، وأعظمُ بلاءً، وأشد تنكيلًا إذا ارتبطتْ بالجُهَلاء.


وفي هذا القدر كفاية.



وصلى الله على نبيِّنا محمدٍ ...






يتبع -إن شاء الله- المحاضرة الثانية






________________


[تفريغ لـ : محاضرات: ( فقه الدعوة إلى الله؛ محاذير وبدع دعوية ) من الموقع الرسمي للشيخ -حفظه الله-].
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 04-29-2010, 07:59 PM
أم زيد أم زيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 5,264
افتراضي

بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحِيمِ


فِقْهُ الدَّعوةِ إلى اللهِ
(مَحَاذِيرُ وَبِدَعٌ دَعَويَّة)
(2)


لِفَضيلةِ الشَّيخ عليِّ بنِ حسن الحلبيِّ
-حفظهُ اللهُ ونفَعَ بهِ-


إنَّ الحمْدَ للهِ، نَحمدُهُ، ونَستعينُه، ونَستغفِرُه، ونَعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفُسِنا، وسيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِلْ فلا هادِي له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله، وحدهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، أما بعدُ:


فإنَّ أصدقَ الحديثِ كلامُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضَلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النَّارِ، أمَّا بعدُ:
فلا يزال كلامُنا موصولًا في المحاذير والبِدع التي اشتملت عليها بعضُ الدَّعوات، وكان واجبًا التَّحذيرُ منها، وكشفُ أمرِها -مِن بابِ البيان، والميثاق- ببيانِ هذا الواجبِ المُناطِ في أعناق أهل العِلم وطلَّابه؛ حتَّى يتنبَّه المسلمون، وحتَّى يَحذَر المسلمون ولا يختلطَ عليهم الباطلُ بالحقِّ، ولا يلتبسَ عليهم الحقُّ بالباطل.


هنالك ثلاثةُ مَحاذير -أُخرى- تَرتبط بالحزبيَّة، وهي أوَّل المحاذير -في هذا العَصر- وأشدُّها.


ولقد ذكرنا -في مجلسِ أمسِ- أن التَّعصُّب -قديمًا- كان لِعُلماء، وكان مذمومًا؛ فكيف إذا كان حالُه وواقعُه مُرتبطًا بالجُهلاء، وموصولًا بمَن ليسُوا أهلًا للعِلم ولا للتَّعليم! فإن المصيبةَ تكونُ أشدَّ وأنكَى!


هذه المحاذيرُ المذكورة وهي الَّتي تُحيط بالتَّقليد كأضلاع المثلَّث -مِن كل جانب-؛ أوَّلها: هذا الذي أشرتُ إليه -أخيرًا-: وهو التَّعصُّب. فترى المقَلِّد مُتعصِّبا، ولا يمكن أن يكون المُقلِّدُ إلا مُتعَصِّبا -وإلا ما كان مُقلدًا-؛ لهذا قال الإمام أبو جعفر الطَّحاوي: "لا يقلِّد إلا جاهل أو غَبي"! فماذا تظن هذا الجاهل الغَبي فاعلًا غير التَّعصُّب الذي يُواري به سوأته، ويُغطِّي -من خلاله- عورته! لا يستطيع إلا ذلك!


وأما الأمر الثَّاني: فهو التَّقليد. فهذا المُقلِّد لا يرى إلا بعينيْ مُقلَّدِه، ولا يسمع إلا بأذنيه؛ بل تُحرِّكه الأوامر الحزبيَّة مِن غير أن يُعمِل فيها فكرًا، ولا يجيل فيها نظرًا -لا في قريب ولا في بعيد، ولا في قليل ولا في كثير-.


وأما الأمر الثَّالث: فهو البَيْعة الحزبيَّة التي يُكبِّل فيها الحزبيُّون أتباعَهم، ويقيِّدونهم، ويكمِّمون أفواهَهم؛ وبالتَّالي: فإن هذه البَيْعةَ صُورتُها وصفتُها كبَيْعة النَّبيِّ -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- للصَّحابة؛ يقولون -مُبايعين أمراءَهم-: " نُبايعك على السَّمع والطَّاعة، في المنشط والمكرَه، والعُسْر واليُسر "، ثم يَتناقَضُون زاعِمين أن هذه البَيْعة جزئيَّة وليست كليَّة! إذا كانت هذه البَيْعة جزئيَّة وليست كليَّة؛ فما الفَرق بينها وبين البَيْعة الكليَّة، واللَّفظ واحد، والعهد المترتِّب عليها واحد؟!! لا شك، ولا رَيب أن هذا -كلَّه- مِن باب التَّلاعب بالألفاظ!


ويتلاعبون بالألفاظ حينما نراهم يُسمون هذه البَيْعة عهدًا؛ فيقولون: هذا عَهد، وليس بَيْعة، وربُّنا أمر بالإيفاء بالعهود!


الإيفاءُ بِالعُهود ليس مُتعلِّقًا بأمرٍ له صِلة بالشَّرع، وُجد المقتضِي له في عصرِ النُّبوة، وفي عصر الأئمة؛ أئِمَّة القرون المَشهود لها بالخَير، ثم لَم يُفعَل ذلك بِانتِظار أن يَفعلَه فاعِلون، أو أن يتلبَّس به متلبِّسون! ليس الأمر كذلك!


ثمَّ هذه البَيْعة -التي لا يُراد مِن ورائِها إلا تَكريس الحزبيَّة، وتَكريس التَّقليد، وتكريسُ التَّعصُّب، لا يُراد مِن ورائها إلا ذلك-؛ نقول: هذه البَيْعة؛ هل مَسموحة لهذه الجماعة الفُلانيَّة -فقط-؟ أم هي مسموحة للجماعةِ الفُلانية وما قبلها وما بَعدها مِن جماعات حتَّى ولو بَلغت عشرًا -مِن الجماعات-، أو ثلاثين، أو مائة، أو ألف جماعة؟ إذا قالوا: هذه لنا -فقط-؛ فنقول: بأيِّ دليلٍ؟ وأي حقٍّ؟ ولا يوجد نصٌّ يستثنيكم مِن عمومِ النَّاس -لا بِالإذنِ، ولا بالمنع!-، فإن قالوا وعقِلوا: هذا لنا ولغيرنا؛ فهذا -لا شكَّ، ولا ريبَ- فتحٌ لبابٍ مِن الشَّرِّ والتَّفرُّق المناقِض لآيةِ الاعتِصام المذكورة -قبلًا- بصورةٍ مباشرةٍ مِن باب (الصَّدر بالصَّدر).


ويكفي -سوءًا وضلالًا- لِتصوُّر كُنهِ حقيقة هؤلاءِ المنحَرِفين في حزبيَّتهم وتعصُّبهم وتَقليدهم وبيعتِهم: أن نَنظر إلى ثمرةِ ما يزعُمون وما يدَّعون.


لذلك؛ مِن آثارِ بني إسرائيلَ المرويَّة عن عيسى ابن مريم -عليه الصَّلاةُ والسَّلام- أنه حذَّر حواريه قائلا: " إنَّه سيكون أنبياء كَذَبة "، قالوا: كيف نعرفهم؟ قال: " مِن ثِمارِهم تَعرِفونهم ".


فلننظر إلى ثمرة ناضجة يكون أثرُها قائمًا على الوِحدة والتَّوحيد والتوحُّد والاتِّفاق؛ ولننظر إلى ثمرةٍ -أخرى- فِجَّة؛ نراها قائمةً على التفرُّق والتشرذُم والتشتُّت والتمَحوُر؛ بحيث لا تخرج جماعة إلا وتتلوها أخرى، ولا تخرج فرقة إلا وتنبع منها ثانية! وهذا مما يُخالف مقاصدَ الشَّرع، ومما يخالف نصوصَ القُرآن وأحاديثَ رسول الإسلامِ -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-.


فالبَيْعة الحزبيَّة -التي تُقام في الجماعاتِ- مِن شَرِّ البِدع؛ لِما ذكَرنا مِن تَفتيتٍ وتشتيتٍ للأمَّة -مِن جهة-، ومِن تَقييد وتَكبيل للعُقول -أعني: عقولَ الأَتباع -مِن جهةٍ أخرى-.


ولكن هنا مسألة لا بُدَّ مِن بيانها؛ حتَّى لا تختلط المسائل ببعضها بعضًا.


نحن نفرِّق بين بَيْعات الدُّوَل وبين بيعات الجماعات، وهذا التَّفريق ذَكَرهُ شيخُ الإسلام ابنُ تَيميَّة، وذكره الشَّوكاني، وذكرَهُ الصَّنعاني، وذَكَره صدِّيق حسَن خان، وذَكَره محمَّد رشِيد رِضا، وذكَره عُلماء سابِقون -مِن قبلُ، ومِن بعد-؛ فالنَّاظر في تاريخِ الإسلام -منذُ عُصوره الأولى- يَرى أن هنالك دُوَلًا في الشَّرق ودُوَلًا في الغرب: بينما دولة المماليك قائمة؛ كانت -هنالك- دولة المرابِطين في الغرب -دولة المماليك في الشَّرق، ودولة المُرابطين في الغرب-، بينما دولة العباسيِّين في الشَّرق؛ رأينا دولة الموَحِّدين، كما المُرابِطين، كما الصَّمادِحة، وغيرها مِن الدُّول كثير منتشرة، وأحيانًا أكثر مِن دولة؛ في الشَّرق كانت دولة وفي اليمن؛ في مِصر والشام دولة، وفي اليمن دولة أخرى؛ هذه دولة إسلاميَّة؛ لها قيادتُها، ولها بَيعتها، ولها أميرُها، وهذه كذلك.


الذي ذَكَره شيخُ الإسلام ابن تَيميَّة: أن هذا خلافُ الأصل، وأن الأصلَ أن يجتمع المسلمون -جميعًا- على إمام واحد وفي بَيْعةٍ واحدة؛ لكن إذْ قد وُجد الأمر على هذا الحال، وكان الاتِّفاق والتواؤُم قائمًا بين هذه الدُّول في هذه البَيعات وهؤلاءِ الأمراء؛ فهذا لا شك أنه جائز؛ لحال الضَّرورة المفروضة.


لكن: لو نوزِع سلطانٌ بِسلطانه -مِن آخر-؛ حينئذٍ: نأتي إلى مثلِ قولِ النَّبي -عليهِ الصَّلاة والسَّلامُ-: " فُوا -أي: أوفوا- ببَيْعة الأولِ فالأول "، وفي حديثٍ آخر: " اقْتُلُوا الآخِرَ مِنهُما "؛ لماذا؟ لأنه يريدُ أن يُفرِّق جمعَ الأمَّة ويُشتِّت كلمتَهم؛ وهذا يُخالف ويضادُّ مصالحَ الشَّريعة وأهدافَها ومقاصِدَها.


هذا استطرادٌ في مسألة البَيْعة؛ حتَّى يُفهم الأمرُ على وجهِه؛ لأنني كتبتُ -قبلَ أكثرَ مِن عشرينَ عامًا- رسالةً بعنوان: " البَيْعة بين السُّنَّة والبِدعة عند الجماعاتِ الإِسلاميَّة "، كلمة: " عندَ الجماعات الإسلاميَّة " مِن العنوان، ثمَّ رأيتُ بعض الحمقَى يتعقبُّونني بأنني أقصدُ الدُّول الإسلاميَّة -التي لها حكَّامها، ولها رُؤساؤها، ولها بَيعاتها-، وأنها غير مُعترف فيها، وأنها بدعة!! مع أن عنوان الكتاب ناطقٌ بخلاف هذا التوهُّم الذي لم يَقُم على عِلم، ولا على معرفة؛ وإنما قام على جهلٍ وتَخرُّص وظَن.


فهذا توكيد لذلك الأصل، وبيانٌ للحق؛ حتَّى لا يختلط بالباطل.


الحقيقة المسائل كثيرة؛ لكن أريد أن أذكر أهمَّها؛ لأن المجالَ قد يَضيق علينا.


مِن الأمورِ المهمَّة -في محاذير الدَّعوة وبِدَعها-، والتي يجب بَيانُها وكشفُها: ما أُسمِّيه (الوَعظ المنحرِفَ)؛ لأن الوَعظ وَعظان:


(الوَعظ الشَّرعي) منصوص عليه في كتاب الله؛ بل مِن وصف القُرآن الكريم أنه موعظة، وأنه عظة؛ في كتاب الله وصف كِتاب الله أنه موعظة وأنه عِظة، وهذا حال الأنبياءِ والصَّالحين.


النَّبي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-وقد هذا ذكرناه هذا مرارًا- في حديثِ العرباض قال: وعظَنا رسول الله موعِظة بليغة. وفي سورة لُقمان: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ}؛ لكن: هل كان هذا الوَعظ الذي ارتبطَ بالقُرآنِ الكريم، وارتبَط بالسُّنَّة، وارتبط بسِيَر الصَّالحين؛ هل كان وعظًا شَرعيًّا؟ أم كان وعظًا غيرَ شرعيٍّ؟ لا شكَّ، ولا ريبَ؛ أن السُّؤال مِن البديهة بمكان أنْ يُقال في الجوابِ عنه: إنَّه وعظ شَرعي.


وما يُقال في الوَعظ؛ يُقال في القَصص -تمامًا-، ولا تجد واعظًا مِن الوُعاظ غير الشَّرعيِّين؛ إلا وهو مِن القُصَّاص.


وإذ نتكلَّم بلفظٍ القُصَّاص -ههنا- لا نتكلَّم فيه على جهة الذَّم -على وجهِ الإطلاق-؛ ولكنَّنا نتكلَّم فيه على وجه الواقِع، ومِن هُنا ألَّف أهلُ العِلم كُتُبًا خاصة في مسألة القُصَّاص:


ألَّف ابنُ الجوزي كتاب " القُصَّاص "، ألَّف العراقي " الباعث على الخلاصِ مِن أخبار القُصاص " -أو بهذا المعنى-، وألَّف السُّيوطي " تحذير الخواصِّ مِن أخبار القُصَّاص "، ومنقولٌ عن عليٍّ -رضي اللهُ عنهُ-: أنه كان إذا رأى قاصًّا يقصُّ في المسجد؛ سألَه: أتعرفُ النَّاسخ والمنسوخ مِن القُرآن؟ فإن قال: نعم؛ اختبرَه، وإن قال: لا؛ أمرَ بإخراجِه من المسجد! ويقول: " لا يَقصُّ في مسجدِنا هذا إلا عالِم ".


كيف يَقصُّ جاهلٌ وهو لا يَعرف الحلال والحرام؟ وهو لا يَعرفُ عقيدةَ أهلِ الإسلام، ولا المنهج الحقَّ الصَّواب المنضبِط -الذي يجبُ سُلوكه، والعملُ به، والدَّعوة إليه-؟!


نحن مع الوَعظ، ومع القَصص؛ لكن بصورتِها الشرعيَّة المُرتبطة بما صحَّ فهمُه مِن آياتِ الله، وما صحَّ الاستدلالُ به على المقصودِ مِن القرآن الكريم، وما كان ثابتًا سندُه، وصحيحًا استنباطُه من أحاديثِ الرسولِ الكريم -عليهِ الصلاةُ والسلامُ-؛ كل ذلك يَرتبط بالمنهج، ويرتبط بالعقيدة، وترتبطُ به القلوبُ والعقولُ، لا بالأشخاص؛ وإنَّما بالمنهج الذي يَدعو إليه هؤلاءِ الأشخاص.


فالقُرآن الكريمُ فيه قَصص؛ والقصصُ فيه كثير؛ حتى ذكرَ أهلُ العلم أن ثُلثَ القُرآن قَصص؛ لكن هذه القَصص كلُّها لأهداف ومقاصد كثيرة، ويوجد مؤلَّفات خاصَّة في أهداف وخصائص القَصص القُرآني.


وكذلك الوَعظ: له دَورُه، وله مكانُه، وله مجالاتُه؛ لكن إذا خرج -هذا الوَعظ- مِن إطاره الشَّرعي؛ أصبح مذمومًا سلوكُه -كما نراه اليوم-، لا أقول مِن وعاظ الفضائيَّات؛ ولكن أقول: مِن نُجوم الفضائيَّات! فقد صاروا كنُجوم السِّينما والتلفزيون والمسرح!! بعيدًا عن العِلم، وبعيدًا عن بهجة العِلم، وبعيدًا عن أُبهة العِلم، وبعيدًا عن منزلة العِلم المَبنيَّة على الكتاب والسُّنَّة، وصاروا يَنظرون إلى الأمورِ لا بحسب حاجة النَّاس؛ ولكن: بحسب ما يُريده النَّاس! فأشبهوا بذلك تِلكُم البرامج التِّلفزيونيَّة وما أشبهها: (ما يطلبه الجمهور.. ما يطلبُه المستمِعون .. ما يطلبه المشاهِدون..)!! ماذا تُريدون؛ أعطيكم؛ حتَّى تستمروا معي، وحتَّى أظل مقبولًا عندكم!! أما: (ماذا تحتاجون؟ ماذا ينقُصكم؟) . . (إذا قُلتُ لكم: ماذا تحتاجون؟ وماذا ينقُصكم؟ ستغضبون مني، وتَنفِرون عني، وتنفضُّون مِن حولي؛ وهذا لا أريدُه؛ حتَّى أُرضي هَوَايَ، وأُرضي غُروري، وأَخدع نفسي)!! عياذًا بالله -تبارك وتعالى-.


هذا ليس هو المنهَج الحق.


إن المنهجَ الحق هو المنهَج المَبنيُّ على (ماذا يحتاج النَّاس)؛ لأنهم هُم المرضى وأنتَ الطبيب.


أما أن لا يكون منكَ إلا لِسان مَعسول، وأن يكون مِنك حُسنٌ للبيان، وطَلاوةٌ في القول، ثم تَغريرٌ للناس، وتأثيرٌ -ولو في الآن، وفي اللحظة-؛ فهذا ليس هذا منهج الحق، ولا طريقَ الحق.


بل إني أقول -عطفًا واستدراكًا-: لو أن بعضًا من هؤلاءِ -الذين أوتُوا طلاقة في اللِّسان، وطلاوة في البيان- وفقهم الله -عزَّ وجلَّ- لأن يَضعُوا أيديَهم على المِحَك، وأن يَضعُوا أيديَهم على الجرْح؛ ليرتُقوا الفَتق، ويُصلِحُوا الخَرق، ويوضِّحُوا السَّبيل؛ لكان هذا نافعًا جدًّا؛ لأن مِن النَّاس مَن عنده العِلم وليس عنده الأُسلوب لِتوصِيلِه، من الناس مَن عنده الأسلوبُ الحسَن؛ لكن ليس عندهُ أساسُ العلمِ وبُنيانُه الذي يستطيع -مِن خلال هذا الأسلوب- أن يُقدِّم الأفضل مما يَنتفعُ به النَّاس، ويَنصلح فيه حالُهم وشأنُهم.


نعم؛ نحن لا نقول بأنَّ واجبَ بيانِ العقيدة والمنهج فَرض عَيْني، نحنُ مع أنه فرضٌ كِفائِيٌّ -وليس فرضًا عينيًّا-.


لكن لننتبِهْ إلى أمرٍ مُهِم: وهو أنَّ الفرض الكفائي -إلى الآن- لم يَذهبْ حُكمُه عن مَجموعِ الأمَّة! نحن نتكلَّم عن الفَرض الكِفائيِّ، لا نتكلم عن الفَرض العيني.


لذلك: أن يعترض علينا مُعترِض بأن يقول: يا شيخ! هأنتم تتكلَّمون في العقيدة والمنهج؛ إذًا فليكُنْ غيركم: واحد يتكلَّم في القَصص، وثانٍ يتكلم في الوعظ، وثالث في الرَّقائق . . ويكمِّل بعضكم بعضًا!


هذا قد يُقبل في حالةِ الاكتِفاء بالفَرض؛ أما في حالة النُّقصان والتَّناقص والاستمرار، في حالة توفر الفُرصة لهذا الواعظ القَصَّاص المتكلِّم بمثل هذه الأمور، والفُرصة التي لم تُتَحْ لِغيره -بحيث يكونُ واصِلًا كلام ذاك إلى أضعافِ أضعاف ما يَصِلُه-أو وَصَله-كلامُ هذا-؛ أين التَّساوي -فضلًا عن الاكتفاءِ بذلك الفَرض الكِفائي-؟!!


فهذه فُرصة نُذكِّر فيها كلَّ قادرٍ على أن يكونَ منه عطاء، وعلى مَن يستطيعُ أن يُؤدي -بحُسنِ البَيان- كلامًا يُبلِّغ فيه -بأسلوبِه، وبطلاقة لِسانه، وطلاوة بيانِه- حقَّنا وعقيدَتَنا ومنهجَنا، ولا مانع -أبدًا- أن يَربط ذلك بالقَصص، وأن يَربطَ ذلك بالوَعظ.
الوعظُ في قصة لُقمان: بيانٌ للشِّرك وتحذيرٌ منه، وأمرٌ بالتَّوحيد وتَوكيد له، والقَصص.
والقَصص والوَعظ في حديثِ العِرباض: بَيانٌ للسُّنة، ولزومٌ للأئمة، وتحذيرٌ للبِدعة.
إذًا: لا يلزم أن يكونَ الوعظُ -فقط- هو الصُّورة المرسومة في الأذهان؛ أنه: قِصة وخَبر؛ اللهُ أعلم مدى صحة هذه القصة، وذلك الخبر! وقد تكون خرافة! بل إن بعضَهم قد يَخترع! كما قيل لذلك الكذَّاب -في قديمِ الزَّمان- قيل له: كيف تكذب على النَّبي؟! قال: أنا لا أكذب عليه؛ وإنما كذبتُ له؛ لما رأيت النَّاس منفضِّين عن الدِّين وعن القُرآن؛ اخترعت أحاديث أشجِّع بها الناسَ على حفظِ القُرآن!!


هذا على مذهبِ أبي نواس:
وَداوِني بالَّتي كانت هي الدَّاءُ !!


هذا لا يصلح في شَرعِنا، ولا يصلح في دينِنا، ولا يصلحُ في مدرسة العِلم التي نتفيأ ظِلالَها.


فهذه مِن القضايا المهمَّة التي يجبُ ذِكرُها والتَّذكير بها.


أيضًا مِن القضايا المهمَّة في هذا الباب -أعني: المحاذير والبِدع الدَّعوية-: ما أُطلق عليه: " التَّفريق بين العقيدة والمنهج ".


وهذا التَّفريق مِن حيث الواقع -لا مِن حيث الصِّحة والشَّرع-.


فمِن حيث الصِّحةُ والشَّرعُ: المنهجُ هو الإطارُ والسِّياج الذي تُحاط به العقيدةُ، وتُحفظ في أصحابها.


فلنتخيلْ: قصرًا مَشيدًا عُرضةً للُّصوصِ والسُّرَّاق، دون سُورٍ واقٍ، ودون جِدار حامٍ؛


ماذا يستفيد أصحابُه منه؟! وكيف يحرِصون عليه ولا يوجد ما يَحميه؟!! كذلك العقيدة.
العقيدة إذا لم يكن لها منهج يحوطُها ويحرسُهُا؛ فإنها تتغيَّر وتتبدَّل.


فدعوى التَّفريق بين المنهج والعَقيدة؛ بأن يُقال -مثلًا-: فُلان عقيدتُه عقيدةُ أهلِ السُّنَّة؛ لكن منهجُه يُخالف منهجَ أهل السُّنَّة! نقول: هذا -ونُكرر- هذا -مِن حيث الواقع- موجود، ولكنه -من حيث الشَّرعُ- مرفوضٌ. ومع ذلك: مع النَّظر إلى وجودهِ -واقعًا-؛ فينبغي النَّظر إلى أمرٍ آخَر؛ وهو أن هذا الوجودَ لن يستمِرَّ؛ فسُرعانَ ما تتأثَّر هذه العقيدةُ بِبُعدِ المنهجِ عن الحقِّ، وبِبُعدِ الصِّيانة لها، والحراسةِ فيها.


بلَغَنَا أن أناسًا -فعلًا- إذا نظرنا بعضَ المؤلِّفين -مثلًا- المشاهير؛ نرى أن مؤلفاتهم العقائديَّة -يعني- صحيحة -ولا أبالغ إذا قلتُ: صحيحة مائة في المائة! أو -فلنُقلِّل -قليلًا- فَلْنَقُلْ: تسعين، أو خمسًا وتسعين بالمائة-؛ ولكنْ منهجُهم -باعتِرافهم واعترافِ كلِّ ذي نَظَر- أنه مُخالفٌ للحقِّ، ومخالفٌ لِطريق الحقِّ؛ فهم سالِكون لطريقِ التحزُّب؛ وبالتَّالي: لطريقِ التَّعصُّب، وبالتَّالي: لطريقِ التَّقليد؛ وبالتَّالي لسبيلِ البَيْعة المبتَدَعة المحدَثة، وما لفَّ لفَّها، وما دار في فَلَكِها!


هل استمرَّ أولئك على هذا النهج في تِلكمُ الكُتب الَّتي فيها بيانٌ لِعقيدة أهل السُّنَّة على وَجهِها النَّقي؟! أم أنَّهم انحرَفوا، أو -على الأقل- بدؤُوا في الانحراف؟ أنا أقول: إن الأمر كذلك!


والأمثلة -حقيقة- لا تكاد تُحصى، ولا تكاد تُستقصى! كثيرة، وكثيرة جدًّا؛ نراها رأي العين، ونلمسها لمس اليد باليد!


إذًا: هذا من جهة.


بعض النَّاس نراهم يأتون إلى طريقةٍ أخرى في التَّفريق؛ يقولون -في دعوتهم-: (نحن أصحابُ دعوةٍ عقيدتُها سلفيَّة، ومنهجها عَصريٌّ)! ويُسمِّيه بعضهم -بعضٌ آخر- بـ " عصريَّة المُواجَهة "!


ماذا يقصدون بـ "عصرية المواجهة "؟


أول ما ينبغي النَّظر إليه: أنهم يقصدون -بذلك- مخالفةَ علمائنا وأئمتِنا الَّذين أخذنا العِلمَ عنهم والمنهجَ والعقيدة، ثم هذه المخالفة تنعكسُ على طَريقِهم؛ فنراهُم يَسلُكون دَرب أهلِ السِّياسة ومَسالِكَها الوَعرةَ المنعرجةَ اللَّولبيَّة، نَراهم يَسلكون طريقَ التَّثويرِ والتَّهييج؛ وهذه -بحدِّ ذاتِها- مِن المحاذير والبِدع؛ لكنْ -كما قيل-: إذا تزوَّجت البِدعةُ الجهل؛ ماذا سيكون الأولاد؟ ماذا نتخيَّل الأولاد -أو الذريَّة- الناتجة من البِدع والجهل؟ ضلال -وأيُّ ضلال!-كبيرًا كان أم صغيرًا، قليلًا أم كثيرًا!


فكلمة (عصريَّة المواجَهة وسلفيَّة الاعتقاد) -أو ما أشبَهها من عبارات-؛ ظاهرُها فيه الرَّحمة، وباطنُها مِن قِبله العذاب؛ مما يَنبغي أن يحذرَ منه طلبة العِلم والدُّعاةُ إلى الكتاب والسُّنة، وينبغي أن لا يَنظروا إلى الألفاظِ المزوَّقة، والعبارات المزخرَفة التي تأخذهم ذاتَ الشِّمال وذاتَ اليمين، فلا يَرَوْن أنفسَهم إلا تائِهين ضائِعين.


هذا مما لا يَجوز، ولا ينبغي -بحالٍ من الأحوال-.


فالزَّعم بالتَّفريق -أو بالقولِ بالتفريق- بين العَقيدة والمنهَج؛ زعمٌ باطِلٌ -شرعًا-، وإنْ وُجد له أثرٌ -واقِعًا-؛ فإنه أثرٌ محدود سرعَان ما يَزول ويَذهب، وسَرعَان ما يطغى انحرافُ المنهج على صوابِ العقيدة.


من بابِ الأمانة، وأداء الحقِّ لأهلِه: رأينا العكس؛ أن صواب العقيدة غلب انحرافَ المنهج -لكن قليل-، الأكثر -وللأسف!- أن انحرافَ المنهج يؤثِّر على صوابِ العقيدة.


وإلا -أنا أسأل- الخوارج: هل كانوا قُبوريِّين؟ هل كانوا مُخرِّفين؟ هل كانوا للأسماءِ والصِّفات مُؤوِّلين، أو محرِّفين، أو مُعطِّلين، أو مفوِّضين؟ لم يكونُوا كذلك؛ وإنما انحرفوا في منهجِ التلقِّي؛ فأدَّاهم ذلك إلى خللٍ في أصلِ الاعتقاد؛ كفَّروا فيه المسلمين، وخرجُوا فيه على أولياءِ أمورِهم، وفرَّقوا جمعَ الأمةِ، وشتَّتوا كلمتَها.


أيضًا: من القضايا المهمَّة التي ينبغي ذِكرُها والتَّحذير منها-مِن محاذير وبِدَع الدَّعوة- ما أُطلِق عليهِ (أكاديميَّة العِلم)؛ أن يكون النَّظر إلى العِلم الشَّرعي نظرةً أكاديميَّة؛ كأنَّه دراسة محضة؛ لا تنعكِس على الجَوهرِ، ولا على المظهَر، ولا تنعكِسُ على السُّلوك، ولا على الاعتقاد، ولا على التَّصوُّر!


هذا مِن أخطر المحاذير الدَّعوية!


لأن الدعوة -كما قلنا- [...] لا يمكن أن تُبنَى إلا على عِلم، فإذا كان هذا العِلم ليس هو المطلوبَ الشَّرعي مِن العبد من الدَّاعي إلى الله؛ فماذا نتخيَّل الدَّعوة التي يقومُ بها ذُو العِلم هذا، النَّاظر إلى العِلم نظرةً أكاديميَّة مجرَّدة؛ ليست نظرةً شرعيَّة، ليست نظرةً إصلاحيَّة، ليست نظرةً ربانيَّة؛ وإنما يَنظر إليه نظرةً؛ أن أمامَه واجبًا يُؤدِّيه؛ أمَّا آثار هذا الواجبِ على سُلوكِه، وعلى سَمْتِه، وعلى لفْظِه، وعلى عَمَلِه؛ فإن هذا يكادُ يكونُ معدومًا -إلى مَن رحِم الله-!


لذلك رأينا بعضَ أصحابِ الألقابِ الكبيرة يَكتبون شيئًا ويُخالِفونه -تصوُّرًا واعتقادًا-، لو كانت مخالفتُهم له تقصيرًا؛ لكانت هذه طبَيْعة البَشر؛ التَّقصير طبيعةُ البشر؛ لكن هو يَكتب ما لا يعتقد! ويُثبِّت ما هو يُخالفه -بل يُناقضُه-!! لماذا؟ لأنه يقول: واللهِ هذه مِهنة! مهنَنة العِلم، أو أكاديميَّة العِلم! (هذه مهنة؛ تختلف! أنا أتصوَّر شيئًا وأنا أكتب شيئًا آخر؛ لأن هذا هو المطلوب! إذا لم أفعلْ ذلك؛ أنا سيُحاربُني النَّاس، أو لا يُقبِلون عليَّ، أو لا يَسمعون مِنِّي!!!


هذا عينُ الباطل، وعين الضلال!


اكتُب الحقَّ الذي تعتقدُه -إن كنتَ واثقًا منه-، فإن كان حقًّا -عليه بهاؤُه-؛ فسيَسعدُ به أهلُ العِلم، ويَتقبَّلونه، ويكون لك بينهم مَوطئ قَدَم، وإن كان غلطًا وباطلًا؛ فسيُناصِحونَك ويُبيِّنون لك الحقَّ؛ فينبغي أن تَرجِع، أن تعود، وأن تَؤُوب وتَتوب وتتوب.



أما السُّكوت والصَّمت و الإدبار عن الحقِّ؛ فهذا ليس طريق العالِم الذي يَعيش في عِلمه وعبادَتِه ودعوتِه وذِكرِه ربَّه بين جَناحيِ الخوفِ والرَّجاء في دعوته إلى الله، في التِزامه بأمرِ الله؛ كما قال النَّبي -عليهِ أفضلُ الصلاةِ وأتمُّ التَّسليم-: " خَصْلَتانِ لا تَجْتَمِعَانِ فِي مُنافِقٍ: حُسْنُ سَمْتٍ، وَفِقْهٌ فِي دِينٍ ".


من الأمور التي -أيضًا- ينبغي ذِكرُها -باعتِبارِها مَحاذيرَ وبِدَعًا دَعويَّة-: ما أُطلق عليه (عَصْرَنةَ الدَّعوة)؛ وبخاصة في هذا الوقتِ النَّحس الذي نعيشُه؛ حيث ضَعُف المسلمون، وضَعُف وُجودُهم، وضَعفت كلمتُهم، وصارُوا في ذيل القافلةِ -بعد أن كانوا سادتَها والمقدَّمين فيها-، فأدَّى ذلك بِبعضِ أهلِ البَيان وأهل الدَّعوة إلى أن يُعَصْرِنوا هذه الدَّعوة؛ لكي تُقبَل! فنراهم يَطلبون تجديدَ الدِّين!!


وأعجبتني كلمة قرأتُها في بعضِ الصُّحف مِن إنسانٍ ليس مِن أهلِ العِلم-ونحن مع الاستفادة مِن كلِّ صاحب حقٍّ-إن كان حقًّا-بشيء مِن الضوابط-ليس هذا هو المجال لبيانِها-؛ لكن أقول: قرأت كلمة؛ يقولُ: (ليس المطلوبُ تجديدَ الدِّين؛ ولكن المطلوب تَجدِيد خطابِ الدِّين).


أن تجدد الدِّين ليس هو الأمرَ الذي أشار إليه النبيُّ -عليهِ الصلاةُ والسَّلام- بقولِه: " إنَّ اللهَ يَبْعَثُ عَلى رَأسِ كُلِّ مِائةِ سَنَةٍ مَن يُجدِّد لهذهِ الأمَّةِ أمرَ دِينِها " (أَنْ يُجدِّد) -هنا- بمعنى: أن يُحيِي، وأن يَبعث.


أما تَجديد الدِّين الذي يَطلبُه العَصرانيُّون والعقلانيُّون والكلاميُّون الجُدد؛ فهو تحريف الدِّين!


وأنا أقول: يُريدون تجديد الدِّين وينبغي أن يكون هذا تبديدًا للدِّين -وليس تجديدًا للدِّين-!


هم يبدِّدون الدِّين في دعوى التَّجديد! لأنهم لا يُريدون ولاءً ولا براءً، لا يُريدون حلالًا ولا حرامًا، لا يُريدون فَرْقًا بين كافرٍ ومسلم، بين رجلٍ وامرأة!! يريدون أن يكونَ الأمر -هكذا فقط- دِينًا بكلمةِ الدِّين؛ ليس تحته أيُّ حُجة تدل عليه؛ إلا أنه دِين!!
العالِم من أهل الدِّين والجاهِل مِن أهل الدِّين، العاصي من أهل الدِّين والطائع من أهل الدِّين، الواثق من أهل الدِّين والضَّائع من أهل الدِّين!! وهذا ليس من الدِّين.


أما تجديدُ الخطاب الدِّيني؛ بمعنى: أن يكون هذا الخطاب موصولًا بأهل العِلم الَّذين يَعرفون واقع النَّاس وما يُصلِحُهم وما يَصلُح لهم وما يَنفعهم، وما يكون سبيلًا في رَفعِهم مِن وَهدَتِهم، وإِزالتهم مِن حُفرتِهم؛ فهذا أمر مطلوب؛ لكن: لا على حِساب الدَّليل، ولا على حِساب الحُجَّة، ولا على حساب البُرهان؛ وإنما قد يكون ذلك تَوكيدًا وتوطيدًا لمعنى قولِ الله -تَباركَ وتَعالى-: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، أليس هذا الخطاب الشَّرعي مَطلوبًا مِنَّا وفينا -نحن طلبةَ العِلم والدُّعاةَ إلى الله-؟ مطلوب؛ لأنه منصوص القُرآن وفعل النَّبي -عليهِ الصلاةُ والسلام-.


وكلُّكم يعلم -وكم مرة ذكرنا- قصة عائِشَة أم المؤمنين -رضي الله-تعالى-عنها-: عندما مرَّ يهود -إخوان القِردة والخنازِير- بِرسول الإسلامِ محمد -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- فسلَّم عليه مِنهم واحدٌ، فالرَّسول -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- زكيٌّ ذكِي، صفيٌّ نَقي؛ قال: " وَعَلَيْكَ "، لم تتنبَّه عائِشَة إلى ما قال النَّبي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-، ولكنها سمِعَتْ كلمة -يعني- لم تعتَدْها مِن الرَّسول -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-! الرَّسول إذا حيِّي بتحيةٍ حيَّى بأحسن منها، أو ردَّها كما هي -على الأقل-كما هو نصُّ في القرآن-؛ لكن قال:" وَعَلَيْكَ "؛ فعجبت عائشةُ؛ قالت: " يا رسول الله! قال لك: السلام عليك؛ قلت: وعليك؟! "، قال: " لا؛ إِنَّما قَال: السَّام، والسَّام الموتُ "، فكأنها استدركتْ على نفسِها، وطاردَت بصوتِها ذاك اليهودي: " عليكَ السَّام واللَّعنة -إخوانَ القردة والخنازير!- ".


الله أكبر! الحق معها؛ لكن: الموقع مَوقع دعوة، والمجال مجال نُصح -ولو كان في أخطر لحظة؛ أن يُسب الرَّسول-عليهِ الصَّلاة والسَّلام-؛ فقال لها النبي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-: " يا عائِشَة! مهلًا! مَا كَانَ الرِّفْقُ في شَيْءٍ إِلا زَانَهُ، وما نُزعَ من شيءٍ إلا شانَهُ، إن اللهَ رفيقٌ يُحبُّ الرِّفقَ "، في موضع يَحتاجُ الغِلظة: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}.


شَيخ الإسلام ابن تيميَّة له كلمة رائعة يقول: " الآياتُ التي فيها الإِغلاظ تَكون عند العِزَّة والمنَعَة، وعند القوَّة والسَّيطرة؛ وأما الآيات التي فيها الجُنوح والخُضوع -وما أشبهها-؛ تكون عند الضَّعف والمَسكَنة ".


مَن الذي يفرِّق هذا التَّفريق، ويعرفُ هذا الفرقَ الدقيق إن لم يكونوا أهل العِلم؟!
فبالتَّالي: فإن الدَّعوة إلى عَصرنة الإسلام بحُجَّة بيان سماحة الدِّين، بحُجة بيان رَحمة الدِّين، بحجة أن نقرِّب الدِّين إلى غير المسلمين؛ هذه حُجج مَقبولة؛ لكنَّ الطَّريق إليها مرفوضٌ، الطَّريقُ إليها -على هذا النَّسَق- [مَردود]؛ (لا) لتحريفِ الأدلَّة، (لا) لتبديدِ الدِّين، (لا) لتَغيير معالِمه؛ (نعم) للرُّجوع إلى العِلم والعِلماء والسُّنة والهديِ القُرآني في بيانِ الواجباتِ والأولويَّات وتَرتيبِها وإعطائِها حُقوقَها؛ لكن أن يُعصرَنَ الدِّين، وأن تتغيَّر أحكامُه ومَعالمُه بِحُجَّة الدَّعوة والحُسنى؛ هذا عين الباطِل الذي نرفضه، ولا يمكِن أن نرتضيَه -بحالٍ من الأحوال-.


ثم إذا كانت هذه العَصرنة في هذا الزَّمان؛ ما الذي يؤْمِنُنا أن يكونَ الزَّمان القادم أشدَّ خُسرانًا لواقع الأمة؛ فنُغيِّر هذه العصرنة إلى ما هو أسوأ منها! أو في مكان آخر!
نحن نتكلَّم في الشَّرق، وعندنا غرب، وعندنا غرب الغرب؛ فيُصبح الدِّينُ أديانًا! وتصبحُ الملَّةُ مِللًا! ويصبحُ الشَّرع شرائع!!


وكل ذلك باطل.


الدِّين واحد؛ كما الرَّب واحد، كما النَّبي واحد، كما القِبلة واحدة، كما الكِتاب واحد؛ أما تمزيقُ الدِّين وتشتيتُه وتفتيتُه -حسبًا للآراء، ونهبًا للأهواء-؛ فهذا لا يُرتَضَى -ولو تحت العناوين البرَّاقة-.


ولعل القاصِيَ والدَّاني سمع تِلكُم الاجتهادات -وكلمة (الاجتهادات)-هنا-مجاز، وليست حقًّا!- تلكم الاجتهادات الباطِلة المنقوصة المنكُوسَة مِن ذلكمُ التُّرابي الذي تكلَّم بغيرِ عِلم وأساءَ؛ وما ذلك إلا لِيوجِد لنَفسِه مَوطئًا في بلده!


وأخبرني -اليومَ- أحدُ إخوانِنا السُّودانيين عن وزيرٍ في السُّودان -يعني: كأنَّه وزير للأوقاف، أو ما أشبه- أنه كفَّر التُّرابي -ونحن لَسْنا مع هذا الرَّأي-، وهنالك: الدُّكتور جعفر شيخ إدريس -أيضًا- دُكتور سُوداني له كلمة وموقع في السودان -أيضًا- أطلق القَولَ بِتكفِيرِه.


ونحنُ لسْنا مع هذا القول؛ لأن التكفير -عندنا- له ضوابطُه، وله شُروطُه، ولا يَنبغي أن نذهبَ إلى التَّكفير -هكذا- عصبيَّةً، أو حَمِيَّة، أو رَدَّةَ فِعل؛ وإنَّما التَّكفير له أهلُه وله شُروطُه؛ له أهلُه الحاكِمون به، وله شُروطُه الواثِقة الواجبَةُ؛ ليُقال ويُحكَم به في الأعيان، وإن كانت كلماتُه فيها مثلُ هذا المعنى -مِن بعضِ الكُفريَّات-؛ ولكن: نحن نُذكِّر ونُنبِّهُ -دائمًا- على أصلٍ مُعتَبَر؛ وهو: أنه (ليس كلُّ مَن وقع في الكُفر؛ وقَع الكُفر عليه).


فـ (عصرَنة الدَّعوة) أسلوبٌ خبيثٌ جدًّا فيه تغييرُ صفحة هذا الدِّين، وتَبديل مَعالِمه، بِغَضِّ النَّظر عن حُسن نَوايا القائِمين بذلك أو خُبثِها؛ فالنَّوايا مَوكُولةٌ إلى ربِّ النَّوايا؛ نحنُ نتكلَّم عن الأفعالِ والأقوالِ والأعمالِ، نتكلَّم عمَّا يَظهر لنا، وأمَّا ما هو مَخفيٌّ عنا؛ فإلى ربِّنا.


وفي هذا القَدْر كفاية.


وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِه وصحبِه أجمعين.


وآخِرُ دَعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 05-08-2010, 02:09 AM
أم زيد أم زيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 5,264
افتراضي

فِقْهُ الدَّعوةِ إلى اللهِ
(مَحَاذِيرُ وَبِدَعٌ دَعَويَّة)


(3)



إنَّ الحمْدَ للهِ، نَحمدُهُ، ونَستعينُه، ونَستغفِرُه، ونَعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفُسِنا، وسيِّئاتِ أعمالنَّا، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِلْ فلا هادِي له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله، وحدهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، أمَّا بعدُ:


فلا يزال الكلام موصولاً -أيها الإخوةُ الأحبَّة!- في مسألة مهمَّة، وقضيةٍ مُلمَّة؛ وهي: مسألةُ المحاذير والبِدع التي ارتبطت في بعضِ الدَّعوات -وللأسفِ الشديد!-.


وقد ذكرْنا بعضَها -على تفاوتٍ فيما بينهما-كِبَرًا وصِغرًا، شُهرةً وانضواءً-؛ لكن -كما ذكرنا عن الإمامِ البربهاريِّ: " احذرْ صغارَ المحدَثات؛ حتى لا تغدوَ كِبارًا "؛ فهذه قضيةٌ -في أصلها- منهجية؛ يجبُ التنبُّه لها، والتَّوقُّف عندها.


ومِن الأمور المهمَّة -من هذه المحاذير-مما ينبغي ذِكرُه-: ما أسمِّيهِ (تبديل المواقِع).


وهو ما أشار إليه النَّبي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-: " إن بين يدي السَّاعة سنواتٍ خدَّاعات؛ يُؤتمَن فيها الخائِن، ويُخوَّن فيها الأمين، ويُصدَّق فيها الكاذِب، ويُكذَّب فيها الصَّادق، وينطق فيها الرُّويبِضة "، قالوا: مَن الرُّويبِضةُ -يا رسولَ الله!-؟ فقال -عليه أفضل الصَّلاة وأتم التسليم-: " الرجل التَّافه يتحدَّث في أمرِ العامَّة ".


فهذه حقيقة -في هذا الزَّمان- مِن أكبر المحاذير الدَّعوية، ومِن أخطرها، وأشدِّها أثرًا.
يتكلَّم أهلُ العلم؛ فلا يجدونَ آذانًا صاغية!


ويتكلَّم الرُّويبِضات؛ فيجدون ألف أذن -وأذنًا-!


يتكلم الجاهل، ويُصغي له مَن هو معدودٌ في العُقلاء!


ويتكلَّم العالِم؛ فلا يجدُ إلا النُّكرَة!


وما هذه النُّكرة إلا بسبب أنَّ المجتمعات التي نعيشُها مجتمعاتٌ عاوَدت الغُربة، وعادت إليها الغُربة!


والنَّبي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- يقول: " إنَّ الإسلامَ بَدَأَ غَرِيبًا، وسَيَعُودُ غَرِيبًا كَما بَدَأَ؛ فَطُوبَى لِلغُرَباءِ " قالوا: مَن الغُرباء -يا رسول الله!-؟ قال: " الَّذين يَصلُحونَ عندَ فَسادِ النَّاس ".


أما رواية: " يُصلِحونَ ما أَفسَدَ النَّاس مِن سُنَّتِي "؛ فلا تَصِح -على شُهرتِها-؛ لكنَّ ضبطَ الرِّواية قد يُعين على مثل المعنى: " يَصلحون عند فساد النَّاس " أي: في أنفسهم، وممكن أن يُقال: " يُصلِحون عندَ فسادِ النَّاس " أي: في غيرِهم، وهذه صفة الدَّاعي إلى اللهِ على بصيرةٍ: أنه صالحٌ في نفسِه، مُصلِح لغيرِه، دائبٌ على هذا وذاك، لا ينفكُّ عنهما، ولا ينفصِلُ منهما.


وأنا لا زِلتُ أذكرُ -كرأيِ العَين- حربَ الخليج الأولى -أو ما سُمِّي بـ (حَربِ الخليج الأُولى)-قبل ستةَ عشرَ عامًا- في أول صُعودٍ لمَن سُمُّوا بـ(الدُّعاة)، ولمن كان نجومُهم وخروجُهم سببًا في هذا الفَصلِ النَّكِد، وهذا الفِصام المُحدَث بين العُلماء والدُّعاة؛ مما أدَّى إلى (تبديل المواقع)، واستبدال المواقف.


ولا زلتُ أذكرُ تلكمُ الكلمةَ المُنكَرة التي قالَها بعضُهم -ولبئسَ ما قال!-، قال: ( الأمةُ -الآن- فاقدةٌ لمرجِعِيَّتها الشَّرعيَّة )! في الوقت الذي كان فيه أكابرُ أهلِ العلم، ورُؤوس أئمة هذا الزَّمان: الشيخ ابن باز، والشَّيخ الألباني، والشيخ العثيمين -رحمهم الله-جميعًا-.


إذا كانت الأمةُ -ذلك الحين- فاقدةً لمرجعيَّتها الشَّرعيَّة -وفيها مَن فيها-؛ فكيف الحالُ -اليومَ- وليس فيها مَن فيها -وللأسف!-؟!


فتِلكُم كَلمة -فيما أجزِم وأعتقد- أنَّها كانت مَدروسَة؛ لِغرس مفاهيمَ معيَّنة في قلوبِ الشَّباب؛ كانت المحاضَرة أو الرِّسالة أو المنشور أو المكتوب يَصدُر هنا؛ ويتردَّد هناك وهنالك في نفس الوقتِ، بنفس المعاني، في شرق البلاد وغربها، وطولِها وعرضِها!! مما كان له أثرٌ -لا نُنكِر- أثر كبيرٌ -وكبير جدًّا- في تغيير مفاهيم الكثيرٍ مِن الشَّباب -للأسف!-؛ لأن العواطفَ كانت سائِبة، والحماسات كانت مُشتعلة؛ فلم يكنْ -ثمَّةَ- مجال للإدراكِ العلميِّ المنضبط، ولم يكنْ -ثمَّةَ- حضورٌ للتعقُّل المرتبط بالشَّرع على وجهه الحق، وعلى صورتِه الأحقِّ.


فلا زالت الآثار -منذ ذلك الحين إلى هذه السَّاعة- شديدةً وعظيمةً -وللأسف-.
وإنْ كان كثيرٌ من أولئكَ الذين أشعَلوا تلكمُ النَّار قد اكتَوَوا بها -الآن-! فصاروا يتراجَعون؛ لكن: إذْ هم تراجعوا -نظريًّا-؛ فقد غرسوا غرسًا التفَّ على رقابِهم وأعناقِهم وأبدانِهم؛ فضُلِّلوا -بل كُفِّروا- مِن بعضِ مَن هُم مِن غرسِهم -وللأسف! وللأسف الشديد!-؛ هذا غرسُهم، وهذا حصدُهم وحصادهم!! والسَّبب في ذلك: هذا ما أشرتُ إليه مِن ( تبديل المواقع ).


وأعجبني -في ذلك الزَّمان- رسالة كتبها بعضُ من كان مظنونًا أنهُ منهم، ثم أبدت الأيامُ أنه ليس كذلك -ولو في الجُملة-؛ حيث كتب رسالةً سمَّاها " العُلماء هُم الدُّعاة "؛ لأنَّ ذلك الوقت ظهرت هذه البِدعة المستنكَرة؛ مِن أن العلماء شيء، والدُّعاة شيء آخر!!


ونحن -على وجه الدَّيمومة- نُكرِّر: أن الدعوةَ إلى اللهِ ينبغي أن يكونَ عِمادُها العلم، واعتِمادُها على العلم، وأن دعوةً بغير علم؛ دعوة مَنقوصة ومَنكوسة -لا خِطام لها ولا زِمام، ولا وراءَ لها ولا أمام-.


والعلماءُ هم الدُّعاة، هم الرَّبَّانيُّون، هم الحريصون على الأمَّة -ولو تَوهَّم المتوهِّمون-في بعض مواقِفهم- أنهم غير ذلك، وأنهم ليسُوا كذلك؛ لكنَّه توهُّم فاشِل!


وتُعجبني -في هذا المقام- تِلكم الكلمة المَرويَّة عن بعضِ أئمةِ السَّلف لمَّا قال: " إذا أقبلتِ الفتنةُ لا يَعرفُها إلا العُلماء، وإذا أدبرتْ يعرفُها العُلماء والجُهلاء ".


إذا أقبلت يعرفونها بما يَستشعرون، وبما يَستبصِرون، ويتبصَّرون، ويَستشرفون الواقع -ربطًا بالماضي، ونظرًا للمستقبل، معرفةً لحقيقةِ الأمَّة ومُقدَّراتِها، واعتِبارًا بمَقدرةِ الأعداءِ وغُلَوائِهم-.


هذا كلُّه نظرُ العالِم الرَّبَّاني.


أما ذلك الدَّاعي الدَّعي -أو المُدَّعي-؛ فلا ينظر أكثرَ من أرنبةِ أنفِه، ولا يَطالُ بصرُه أكثر مما يرى بعينيْه!! أما ذلكم الاستشراف -بعيد المدى، كبيرُ الصَّدى-؛ فهذا ليس هو إليه بِسَبيل!


فيجب أن يكونَ النَّظرُ -في التَّعريف بهذا الخطر- نظرًا دقيقًا؛ لأنه إذا لم تَنضبط صورةُ العلمِ وترتبط بأصولها الشَّرعيَّة وقواعدِها المَرعيَّة؛ فإنها ستكونُ ذاتَ خطرٍ كبير على الدَّعوة والمَدْعوِّين، وعلى العِلم، وعلى سائرِ أصنافِ النَّاس.


ومما يُذكر -أيضًا-في هذا الباب-أعني: المحاذير والبِدع المرتبطة بالدَّعوة-: (المُراجَحةُ بين الغُلو والتَّقصير)، والحق بينهما: الوسط الشَّرعي.


ولقد نبَّه بعضُ إخوانِنا الأفاضل إلى لطيفةٍ دقيقةٍ رائعة -نَذكُرها له-وهو أخونا الشَّيخ أسامة القُوصي-حفظه اللهُ ونفعَ به- قال: ليسَ الوَسط هو نُقطة النِّصف بين مُنحرِفَيْن؛ لأنَّه مِن الممكن -جدًّا- أن يكونَ انحرافُ الغالي أشدَّ مِن تقصير المُقصِّر، أو أنَّ يكون تقصيرُ المقصِّر أعظم مِن انحرافِ الغالي، فإذا وضعتَه -وضعت الحقَّ- في النِّصف؛ فإنَّك تُكرِّسُ الخطأ، ولن يكونَ الحق هو الحق المَرضي بوجهه النَّدي؛ لكن الحق هو الأَصل، ثم ينحرفُ عنه الطَّرفان.


الوسَط هو الأصل العدل؛ كما صحَّ في السُّنَّة: عن النَّبي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- {وَكَذَلِكَ جعلناكم أمة وسطًا}؛ قال: " أي: عدلًا "، ثم ينحرف إلى طرفَين؛ قد ينحرف الغُلاة مائة مِيل، وقد ينحرف المُقصِّرون خمسين ميلاً، أو مائتي ميل، فلو أردنا أن ننظرَ إلى الوسط بين المائة والمائتين، أو المائة والخمسين، أو الثلاثمائة والأربعين؛ لا يكون الوسَط هو الحق؛ لكن: الوسَط هو الأصل الذي ينحرف إلى طرفيهِ أهل الغُلو وأهل التَّقصير.


ومِن أعجب ما رأيتُ -في هذا الزَّمان-: ما كرَّرَتْهُ أيادي الحدَثان -كما يُقال-؛ فعليٌّ -رضي الله عنه- أمير المؤمنين، قال كلمةً رائعة -جدًّا-؛ قال: " هلَك فيَّ طرفان: مُبغِضٌ ومُحب "؛ المبغِض ناصَبَه العَدَاء؛ فكان -هنالك- النَّواصب، والمُحِب تشيَّع -غُلوًّا-، وانحرف -عقيدةً-؛ فكان هذا ضلالاً، وذلك كان ضلالاً -أيضًا-.


من أعجب العجب -الَّذي ذكرني بهذا الأثر وهذا الواقع-: هو تلكم الواقعة -ما سمعناه وسمِعتموه، وقرأناه وقرأتموه- مِن اتهامِ بعضِ الجُهَّال بعضَ مشايخِ أهلِ السُّنَّة -وبخاصَّة منهم: شيخنا أبا عبد الرَّحمن محمَّد ناصِر الدِّين الألباني-رحمهُ الله-تعالى-وجمعنا وإيَّاكم وإيَّاه في الصَّالحين مِن عبادِه- مِن أنه مُرجئ!! في الوقت الذي يتَّهمُه آخرون -وقرأتُ هذا في رسالة مُفردة مؤلَّفة خاصَّة- يتَّهمونَه بأنه خارجي!!


فطَرَف يتَّهمونَه بالخُروج والخارجيَّة، وطرف آخَر يتَّهمُه بالإرجاء والمُرجئة!!


وكِلا طرفيْ قصدِ الأمورِ ذميمُ!


هذا مُبطِل، وذاك مُبطِل!


ولم يكن لشَيخِنا -رحمهُ الله-في سِيرته المُشرِقة المُنيرة المُضيئة التي لم تَكنْ -قطُّ-في أصلِها وفَرعِها، في جَذرها وآثارِها- إلا دعوةً إلى الكِتاب والسُّنَّة، ودعوةً إلى منهج سلفِ الأمة، وربطًا للنَّاس -كافَّة- بأدلةِ الوَحيَين دون ربطٍ بأشخاص، أو أحْزاب، أو أسماء، أو أعيان؛ إلا بِعُموم مَنهج السَّلف الصَّالح -رضيَ اللهُ-تعالى-عنهم-؛ لأنَّهم كانوا أعلمَ النَّاس، وأتقَى النَّاس، وأروعَ النَّاس في سَمتهِم، وفي هَديِهم، وفي خُلُقهم، وفي دِينهم، وفي خاصَّة أنفسِهم، وفي سائِر شُؤونهم؛ فكانوا هم القُدوة.


{ومنَ يُشاققِ الرَّسولَ مِن بعدِ ما تبيَّن له الهُدى ويتَّبع غيرَ سبيلِ المؤمِنين نُولِّهِ ما تَوَلَّى ونُصلِه جهَنَّمَ وساءَتْ مَصيرًا} [النساء: 115].


فينبغي أن يكون الدَّاعي إلى الله على مَنهج الوَسط العَدل، بعيدًا عن غُلوِّ الغَالِين، ونائيًا -بنَفْسِه- عن تَقصِير المُقصِّرين -مِن غير إِفراطٍ، ولا تَفرِيطٍ-.


هذا هو الحَقُّ.


ولا عليكَ أن يُطعَنَ فيك، أو أنْ تُلتَمَس لكَ التُّهم، أو أن تُجهَّزَ لك الفِرَى!! كلُّ ذلك لا وَزنَ له طالَما أنَّك واثقٌ بنَفْسِك، مُطمِئِنٌّ بما بينك وبين ربِّك، سائرٌ بإسنادٍ أوُّلُه شُيوخ هذا الزَّمان، وأئمَّتُه الكِرام، وآخرُه: أبو بَكرٍ وعُمر وعُثمان وعَلي، وفَوقَهمْ سَيِّدُنا النَّبي -صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم-، وبين هذا وذاك: الشَّافعي، وَأحمد، والدَّارَقُطني، والطَّحاوِي، وابن تيميَّة، وابنُ كَثِير، والمِزِّي، والإمام محمَّد بن عبدِ الوهَّاب، والشَّوكاني، والصَّنعاني، والمُعلِّمي . . وهذه الأسماء اللمَّاعة التي يَحِقُّ أن يُقالَ فيها:

جَمالَ ذي الأَرضِ كَانُوا فِي الحياةِ وَهُمْ ... بعدَ المَماتِ جَمالُ الكُتْبِ والسِّيرِ


كانوا في الحياةِ هم جمالَ الأرض، وبعد أنْ ماتُوا صارُوا جَمالَ الكتب، لولا هذه الأسماء في الكُتب -التي بين أيدينا-؛ لكانت خِلوًا مِن كل مُتعةٍ علميَّة، ومِن كل فائدة شرعيَّة، ومن كلِّ فقهٍ صحيح ونظرٍ رجيح؛ لأنَّنا لم نعرف الحقَّ إلا مِن خلالِهم، وهُم أدِلاَّء على الحق، وليسُوا علاماتٍ على الحقِّ، هُم أدِلاء، ويَربِطون النَّاس بالحقِّ؛ لا يربطونهم بأنفسِهم.


فتِلْكُمُ المُراوحة بين الغُلوِّ والتَّقصير؛ مُراوحةٌ سيئةٌ -جدًّا-؛ فالغُلو يؤدِّي إلى التَّقصير -ولو بعدَ حين-، والتَّقصير إذا لم يكنْ فيه رجوعٌ إلى الحق وثَباتٌ عليه؛ فإنه قد يوصِل بأصحابه إلى الغُلو.


وأنا أضربُ -على ذلك- مَثَلَيْن:


كم مِن إنسانٍ كان مِن الغُلاة؛ فجاءتْه ردَّةُ فِعل؛ فـ -لا أقول: صار مِن المقصِّرين؛ بل أقول:- قد يكونُ انحرف إلى غيرِ الدِّين! وإلى الخُروج مِن الدِّين!


وأنا أرى هذا في بعضِ الكُتَّاب -اليَوم- بعد أن كانوا مُنظِّرين في الفِكر التَّكفيري، وفي الفِكر التَّثويري، والفِكر التَّهييجي؛ صاروا -اليَومَ- ألعوبةً بأيدي العِلمانيين، بأيدي الكافِرين المُشرِكين -الذين لا يُريدون اللهَ، ولا رسولَه -عليه الصَّلاة والسَّلام-، وما ذلك إلا بسببِ ردَّة فِعلٍ أودَت -بهم- مِن انحرافٍ إلى انحراف!


ولا يَخفى -على إخوانِنا- ذلك الأثرُ -المرويُّ عن ابن سِيرين-: عندما جاءه أحدُ تلاميذِه يبشِّره: يا إمام! أبشركَ: أن فلانًا خارجي قد ترك الخارجيَّة! قال: " لا تَعجَل! ولكن انظُر إلى أيِّ بدعة -أخرى- صار "!!


هكذا يتردَّدون -مِن بدعة إلى بِدعة، ومِن هَوًى إلى هَوى-!!


وكذلك الحال -مِن أولئكَ المُقصِّرين الذين انتَقَلُوا مِن أسفلِ السُّلَّم إلى أعلاه -خَبطَ عَشواء-؛ وهؤلاء مثلهم ظاهر مَرئي لِكلِّ ذي عَينين- في أناسٍ كانوا -بالأمسِ القَريب- مِن عامَّة النَّاس وفُجَّارهم، وفُسَّاقهم، وجُهَلائهم، ثم تابوا -وهذا شيءٌ محمود؛ أن يتوبَ الفاسِق، ويعودَ الفاجِر، ويهتديَ الضَّال؛ هذا شيءٌ مرغوبٌ محمود، والنَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- يقول: " لا يُؤمِنُ أحدُكُمْ حتَّى يُحبَّ لأخِيهِ مَا يُحبُّ لِنَفْسِه "؛ لكن أن يكون هذا الانتِقال؛ كما في المَثل العامِّي -ولا أجد مَثلاً عربيًّا فصيحًا-يعني- يُؤيِّده ويَشهَد له-: " مِن القُفَّةِ على أُذُنَيها "؛ إذا بهم بعد أن كانوا -بالأمِس- فُجَّارًا وجُهَّالاً؛ كانوا يَستحيُون منكَ -أيها الملتحي! أيها الملتزِم! أيها الطَّالب للعلم! إذا رأَوْك؛ بل يَقترِبون منك -على استحياءٍ-وهم فُجَّار!- يَقولون لك: يا شيخ! ادعُ لنا! وإذا كان الواحدُ منهم بيده الدُّخان والسِّيجارة؛ قد يدسُّها في جيبِه، فيحرِق ثيابه؛ حتى لا تراه! وإذا كان يسمع الموسيقا والمعازف قد يُغلقُها أو يكسِر الجهاز؛ حتى لا تؤاخِذَه! هذا وهو غير مُلتزِم!


فلما التزم؛ صار إذا رآك لا يُسلِّم عليك! وصار إذا رآك؛ يَنظر إليك نظرةً عُلويَّة! وصار إذا رآك؛ يُعرِض عنك وكأنَّه لم يَرَك!


هذا مِن التَّفريط لا الإفراطِ -بالجهل-.


وهذا يُذكِّرني بالكلِمَة المرويَّة عن الإمامِ الأوزاعيِّ -رحمهُ اللهُ-لمَّا قال: " إنَّ مِن سعادة الحَدَث والأعجميِّ أن يُوفِّقَه اللهُ لِرَجلٍ مِن أهل السُّنَّة ".


إنسان حَدَث ثم كَبر، وإنسان آخر أعجمي، لا يَعرِف العلمَ، ولا الدِّين، ولا اللُّغة-، ثم دخلها؛ إذا وفَّقه الله -تعالى- لرجلٍ مِن أهل السُّنَّة؛ فهي أعظم نِعمَة، وأكبر مِنَّة؛ لأنه سيأخذُ بيدِه إلى الهُدى، وسيتَناولُه إلى الحق. لكن: إذا كان أصولُه إلى مُبتَدِع، أو إِلى غالٍ، أو إلى حَرَكي، بِدْعِيِّ؛ ماذا ستكون النَّتيجة؟ وماذا سيكون الأثر؟!!


قال بعضُ أئمة السَّلف -ولعلَّها مرويَّة عن الأوزاعيِّ-نفسِه- قال: " لَأَن يَصحبَ ولدِي شاطِرًا سُنِّيًّا " (شاطِر) يعني: قاطِع طريق، في اللغة: الشَّاطر هو القاطع للطريق؛ يعني: لص.


" لأن يصحبَ وَلدي شاطرًا سُنِّيًّا؛ أحب إليَّ مِن أن يصحبَ عابدًا مُبتَدِعا ".


لأن هذا السُّنِّي في شَطارته وسرقتِه وقَطْعه للطَّريق؛ -يعني- إذا آذى فإنَّما يؤذي نفسَه، أو مَن معه -في هذه المحدوديَّة الضَّيِّقة-على ما فيه مِن انحراف-؛ فضلًا عن أنَّه لا يَنسِب انحرافَه إلى الشَّرع -وهذه الأخطر!-، لا يَنسِب انحرافَه إلى الشَّرع؛ تقول له: يا ابن الحلال! أنت حرامي! يقول لك: الله يتوب علينا! لكن ذاك؛ تقول له: أنت خارجي! يقول لك: وما له؟! الله يهديك زي ما هداني!!


هذا الذي يجري، وهذا الذي يُقال -وللأسَف-!!


" لَأَن يَصحبَ وَلدي شاطرًا سُنِّيًّا؛ أحب إليَّ مِن أن يصحبَ عابدًا مُبتَدِعا ".


ومِن هنا: كانت الكلِمَة الرَّائعة عن شَيخ الإسلام، والتي لها أصلٌ في كلامِ أئمةِ السَّلف -كسُفيان وغيره-؛ قال سُفيان -أوَّلاً-: " البِدعةُ أحبُّ إلى إبليسَ مِن المعصيَّة؛ فإنَّ المعصيَّة يُتابُ منها، وأمَّا البِدعة؛ فلا يُتاب منها "، وقال شيخُ الإسلام: " أجمعَ السَّلف والعُلماء على أنَّ شرَّ البِدع والشُّبهات أعظمُ مِن شرِّ المعاصي والشَّهَوات "؛ لماذا؟ لأنَّ صاحب المعصيَّة والشَّهوة يستحيي مِن عملِه، ويستخفي مِن فعله؛ بل إذا رآكَ ينكسِر بين يديْك، ويضعف أمام َعينيك؛ بينما صاحب البِدعة تراهُ يختالُ كالطَّاووس؛ يظن نفسَه مقدَّمًا، ويراكَ مؤخَّرًا! يراك ولا يقيمُ لك وزنَك؛ لأنه ليس عندَه ميزان العِلم، ولا ميزانُ الشَّرع! عنده أنه كلما تعنْتَر؛ كلما كان أثبتَ للدِّين، كلما عبسَ وقطَّب -ما بين حاجبَيْه-؛ كلما كان أكثر تديُّنًا والتزامًا، كلما تمشكَل مع النَّاس؛ كلما كان أديَن وأكثر عبادةً!! قُدوتُه أولئك الذين يتخيَّلُهم مُجاهِدين، يتخيَّلهم هم القائِمين بهذا الدِّين! وأما أولئك القَعَدة، أولئك القاعِدُون، أولئك المُتخاذِلون -حتى لو كانوا عُلماء-؛ فلا يرفعهم عِلمُهم عنده، ولا يُقيم له وزنًا فيهم! عنده إطار، عنده نظارات، عنده عَقليَّة يحكُم فيها على النَّاس، على الأغيار -مِن غير نظرٍ إلى الهُدى، ومِن غير اعتبار إلى الحقِّ، وإلى بهائه، وإلى حُجتِه، ونقائه، وصفائِه-.


فهذا الغُلُوُّ ضَلال -في نفسِه-، كما أن ذلك التَّقصير ضَلال -في نفْسه-؛ لكن: إذا أردنا أن نُحاكم بين ضَلالتين؛ فلا شكَّ عندي -قِيد أُنملة- أن ضَلالةَ الغُلو أشدُّ بألف مرةً -ومرة- مِن ضَلالة التَّقصير -وكلاهما شَرٌّ-!


والسَّببان اللذان ذكرتُهما -مِن قبلُ- أعيدهما السَّاعة:


السبب الأول: أن الغاليَ ينسُب غلوَّه للدِّين؛ بينما المقصِّر يَنسب غلوَّه لضعفِه.
الأمر الثَّاني: أن الغاليَ شررُه ينتشر، وضررُه يتَّسع؛ بينما المقصِّر لا يفعل ذلك إلا في أضيق بُؤرَة، ونُكرِّر: على ما فيه مِن انحراف، وعلى ما فيه من إثم؛ لكن: نحن -كما قلتُ- ننظر في أيهما أشدُّ ضَلالا ونُكرانًا وفسادًا وتأثيرًا مُنحرفًا.


نقطة أخرى -مِن المحاذير والبِدع-: ما أسمِّيه: " المَنهَج التَّرقيعِي ".


فقد سمعنا عن بعض الجماعات والأحزاب والحرَكات؛ أنها قالت: نحن نُريد لفِكرِنا، وجماعتِنا، وحرَكتِنا أن يكونَ عندها السِّياسة التي تقومُ بها جماعةُ كذا، والتَّنظيم الذي تقوم به جماعةُ كذا، والنَّشاط الذي تقوم به جماعةُ كذا، والتَّربيَّة التي تقوم بها جماعةُ كذا . .!!


ترقيع -مِن هنا ومن هناك-!!


فهذا الترقيع؛ ماذا ستكون النَّتيجة -في أصحابِه وأهله-؟!!


لن تكون النَّتيجة إلا كحالِ ذلك القِرد؛ يقال: أراد أن يتعلَّم مشيَّة الأرنب؛ فلم يتعلَّمها، ونسِي مشيتَه!!


وهكذا هؤلاء: أضاعُوا الحقَّ، وما عَرفوا الباطِل! لأنهم أرادوا التَّرقيع -مِن هنا وهناك-!


وأنا -أكادُ- أجزمُ أنهم -في السَّبب الرَّئيس لِترقيعِهم هذا- أنهم أرادوا أن يَجمَعوا -حولَهم- مَن فيهم استنكارٌ لبعضِ وقائعِ جماعاتِهم وأحزابهم؛ فأرادوا استرضاءَ الجميع بهذا المَنهَج التَّرقيعي -الذي يجدُ كل باحثٍ ضالتَه فيه-، ولو كانوا -بتفرُّقهم وتشتُّتهم- مُنحرِفين؛ كلٌّ إلى طرف، وقد لا يلتقي الطَّرفان -ولو إلى آخرِ الزَّمان-.
فهذا المَنهَج التَّرقيعي بعيدٌ عن الحق.


والعجبُ: أن هؤلاء انطلقوا مِن الخطأ، ولو أنهم انطلقُوا مِن الصَّواب؛ لعرفوا أن مَنهج السَّلف الصَّالح -رضِيَ اللهُ-تعالى-عنهُم-في عقيدتهم وسُلوكهم ومنهجهم ومُعاملاتِهم وعِلمهم ودعوتِهم- أن هذا المَنهَج هو المَنهَج التكامُلي، وأن هذا المَنهَج هو المَنهَج العِلمي الرَّبَّاني؛ وأمَّا الأفراد والأعيان؛ فليسُوا -هم- علامةً على الحق -لا في كَثرتهم، ولا في قِلَّتهم-.


ألم يَقُل عبدُ الله بن مسعودٍ -رضِيَ اللهُ-تعالى-عنهُ-: " الجماعةُ ما وافقَ الحقَّ -وإن كُنتَ وحدك-


ألم يُقَل لذلك العالِم؛ قال: " فلان الجماعة .. أبو حمزة السُّكَّري هو الجماعة "؟!


فَرق! فَرق!


لم تكن المقايسة في كثرة أو قِلَّة، في نُدرَة أو وَفرة، في خُمول أو شُهْرة؛ وإنما كان النَّظرُ والحُكمُ قائمًا على ماذا؟ على النَّظرِ المُرتبِط بالحقِّ المبنيِّ على دلائل الهُدى؛ أما غير هذا وذاك -مما هو مخالف لهذا الحقِّ-مهما كان قدْرُ أصحابِه، ومهما كان موقع أربابِه-؛ فإنه ليس هو نظرًا شرعيًّا -لا في قليلٍ، ولا في كثير-.


النَّظر الشَّرعي: هو الذي يضبط الأمور بالحقِّ.


أمَّا التَّرقيع والتَّمزيع والتَّنتيف -مِن هنا ومن هنالك- ادعاءً لشرعيَّة مزعومةٍ، ولجماعةٍ مُرادةٍ موهومة، يُراد منها -فقط- الاستقطاب والتَّكتيل -دون النَّظر إلى الشَّرع ولا الدَّليل-؛ فهذا -والله- واقعٌ ذليل، وحق مَرفوض، ومبدأ مَرِيض؛ ليس له إلى الحقِّ نصيب.


نقطةٌ أُخرى -في هذا البَاب-، وهي: خطأُ كثيرٍ مِن الشَّباب -ممارسةً، وواقِعًا- في فَهمِهم لآثارِ السَّلف الصَّالح في مَسائل كثيرة؛ أهمها -عندي-في هذا المقام- أَمران:


أما الأوَّل؛ فهو: الجَرح والتَّعديل.


وأما الأمرُ الثَّاني -وهو راجع إليه؛ لكن له باب آخر- وهو: الهَجْر والتَّبدِيع.


فكثيرٌ مِن الشباب قرؤُوا -ونحن نحمَد لهم ذلك، ونفرَح لهم بذلك-، لكن إذا لم تكن القراءة منضبطةً بالإرشاد والتَّوجيه؛ كما قيل:

ألا لا يُنال العِلمُ إلا بسِتَّةٍ ... سَأُنبِيكَ عن مَجمُوعِها بِبَيانِ
ذَكاءٍ وحِرصٍ واصْطِبارٍ وبُلغَةٍ ... وَإرشادِ أُستاذٍ وطُولِ زَمانِ


إذا لم يكن العِلم مبنيًّا على الإرشاد والتَّوجيه، والبيان والتَّنبيه؛ فإنه يُوقِع -أو قد يُوقِع- أصحابَه في بلاءٍ كبير، وقديمًا قيلَ: " إن مِن البَليَّة تشيُّخَ الصحفيَّة "! وقيل -أيضًا-: " مَن كان شيخُه كتابَه؛ غَلب خطؤُه صَوابَه ".


والحقُّ: أن هذا الإرشادَ، وذلك التَّوجيه -كلاهُما- مَبنِيَّان على أصلِ التَّناصُح في الدِّين، والتَّواصي بالحقِّ والصَّبر -على وجه اليقين-.


فالجَرح والتَّعديلُ لمَّا يقرؤُه القارئُ يَنبغي أن يُراعيَ أَمرَيْن:


أمَّا الأمرُ الأوَّل: أن الممارِسِين للجَرحِ والتَّعديلِ أئمةٌ كِبار؛ وبالتَّالي: ليسُوا هم على نَسقِ الصِّغار -ذوي الصَّغار-.


أما المُمارسة الخاطِئة: أنهم يُريدون إحياءَ هذا المَنهَج مِن خلال أنفسِهم؛ فيُجرِّحون أو يُعدِّلون، وإن لم يَفعلوا؛ فنَراهُم يَعبَثون، وفي الأرض الفَسادَ يَعيثون؛ في ماذا؟ في نقلِهم كلامَ بعضِ عُلماء الجَرحِ والتَّعديل دون دِرايَّة -أولًا-، وعلى وجهِ الإِجماع -ثانيًا-؛ فلا يكونُ هذا إجماعًا مِنهم، ثم يُوالون ويُعادون عليه!! وهذا باطِل!!
إذا والَيت وعادَيت على قول هذا العالِم؛ فما بالك بالعالِم الآخر الذي يُخالِف الأول -وكلاهما مِن أئمة أهل السُّنَّة-؟!


ثم يجعلون دَيدَنهم وهِجِّيراهُم في نقل هذه القَالات والمقولات، يَملؤون بها مجالسَهم، ويُعبِّئون بها قلوبَهم وقلوب الآخرين مِن أمثالهم؛ حتى إذا خَلا المجلسُ مِن هذا الصِّنف مِن القَول؛ كان مجلسًا مرفوضًا عندهم، وغيرَ مَقبول منهم!


وأنا أذكر -جيدًا- أننا -في بعضِ الدَّورات السَّابقة- كان هنالك -لي- عدَّة دُروس فيما سمَّيته: " ضوابط الجَرح والتَّعديل المعاصِرة "، وقد ذكرتُ عشرةَ ضوابط -في هذا الباب-؛ فإهمالُ أيٍّ منها سببٌ للوُقوع في هذا الانحراف النَّاشئِ عن عدم تفهُّم حقيقةِ الجَرح والتَّعديل المنقولة عن أئمة السَّلف، وأئمة أهل العِلم.


أمَّا الهَجْر والتَّبدِيع -أو فَلْنقلْ: التَّبدِيع والهَجْر-: فهذه طامَّة أخرى!


فقد رأينا أناسًا إذا رأَوا منك مخالفةً في شَخصٍ تَبِعوا فيه قولًا؛ نراهم ألحقوكَ به! وجَعلوكَ معه في قرَنٍ واحد!


وهذا ضَلال -وأي ضَلال!-.


لم يكن لأهل العِلم -فيما بينهم- أن يَنصِبوا الخِلاف بينهم بسبب خِلافهم في غيرِهم؛ هذا أصلٌ يجب أن يُفهَم، وأن يُحفَظ.


لم يكنْ لأهل العِلم -فيما بينهم- أن يَنصِبوا الخِلاف بينهم بسبب خِلافهم في غيرِهم، فإن فَعلُوا؛ فمَن المستفيد؟ غيرهم. وهُم في الخطأ واقعون، وبالباطِل متلبِّسون!
لكن: هذا -كما قلتُ- فيمَن اختلف فيه أهلُ العِلم -مِن أهل السُّنَّة-؛ أما مَن اتَّفقوا عليه . .


يعني: لو أن أحدًا جاء -اليَوم- قال: قرأتُ مقولةً للجهم بن صفوان (رضِيَ اللهُ عنهُ)، أو للجعد بن درهم (رضِيَ اللهُ عنهُ)!! لماذا؟ قال: كان في القُرون الثلاثة المشهودِ لها بالخير! هذا باطِل!! لأنَّ مثل هذَيْن الرَّجلين القَميعين لم يَكونا -قطُّ- مَأخُوذَيْن بكلِمَة حقٍّ مِن أهل العِلم؛ وإنما أهل العِلم على كلِمَة الإجماع في ذمِّهم، وذمِّ اعتقادهم، وبيان ضَلالهم وانحرافهم؛ بل وكُفرِهم -في قول بعض أهل العِلم-.


فكيف تضطربُ الحقائق بين مِثل هؤلاء المتَّفق على ضَلالتهم، وبين آخَرين انتقَدهم عُلماء؛ لكن سكت عنهُم آخَرون -أو أثنى عليهم آخَرون-.


فأنت إمَّا أن تسكت -في هذا الخِلاف السُّنِّي-في زيدٍ أو عمرو-؛ وإمَّا أن تكونَ قادرًا على النَّظر والتَّرجيح بالمَنهَج الصَّحيح؛ وإمَّا أن تكونَ ناقلاً للعلم بأمانة؛ أن تقول: قال فلان كذا، وقال فلان كذا.


أمَّا أن توالي وتُعادي، ثم تَهجر، وتستنكر، وتَستدبِر -زيدًا وعَمْرًا-؛ بسبب مثل هذا وذَاك، بسببِ هذا القَول وأخذِك له على عَواهِنِه -مِن غير نظرٍ، ولا تدبُّر، ولا اعتبار مِن قول المخالِف له-؛ فهذا ليس سَبيل الحق، ولا طريقَ أهل الحق.


السَّلف الصَّالح -رضِيَ اللهُ-تعالى-عنهُم- عندما كانوا يحذِّرون من المُبتَدِعة ويهجرونهم؛ كانوا -أولاً- أصحابَ قلوبٍ نظيفة، وأصحابَ هِمَمٍ عاليَة، وأصحابَ إيمانٍ راقٍ، وأصحابَ نفوسٍ شفَّافة صافيَة.


وأين هذا فينا -اليَوم-؟!!


لا مُفرِّج إلا الله!


فقد سمعتُ شَيخَنا أبا عبدِ الرَّحمن -رحمهُ اللهُ-تَعالَى- يقولُ: " لا هجرَ في هذا الزَّمان ".


لماذا؟!


مع أنه -في الحقيقة- هو -نفسُه- قد هجر غير واحد!


لو نظر بعضُ القاصِرين بين قولِ الشَّيخ وفِعله؛ لاتهمَه بالتناقض كما فعل ذلك الخبيث الدعي المُبطِل الزَّاعم بالمُنكَر والجَهل: " تَناقُضات الألباني "! وهو بها أحرَى!


لكن: النَّاظر إلى الأمر بمنهاج العِلم يَعرفُ أن لشَيخِنا -رحمهُ الله- نظرًا مسدَّدًا في هذا التَّفريق عندما يقول: " لا هجر -اليَوم- في واقع النَّاس "؛ لأنَّ من النَّاس القليلين مَن يستطيع أن يُفرِّق بين هواهُ وشَرعِه، بين ذاتِه وحُكمِ ربِّه.


فنرى -اليَوم- أناسًا يُخالِفونَ آخَرين، ويَهجُرونهم، ويبتعدون عنهُم؛ ظانِّين مِن أنفسهم أنهم فَعلوا ذلك للهُدى، والحقيقة أنهم قد فعلوهُ للهَوى! فلم يُميِّزوا.
والشَّيطان له مَداخلُه، وله مصايدُه،وله خُطواته في الجلْب والجذب، {وَلا تتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيطانِ}.


لكنْ: شَيخُنا -وقد بلغ من العُمر عِتيًّا في العِلم والسُّنَّة والدَّعوة إلى الله على بصيرة؛ حتى اختلطت السُّنَّة بلَحمِه وعَظمِه ودمِه،وقد شبِع مِن هذا الحقِّ الذي صار فيه ريَّان، وغيره لا يزال فيه عطشان؛ فميَّز في فِعله وقولِه وحُكمِه بين ما هُو هَجرٌ للهَوى، وبين ما هو هجْر للهُدى.


الممارسة الشَخصيَّة من العالِم منضبطة.


ماذا يحتاجُ من هذه الدُّنيا وقد جاوز السَّبعين، أو وصل إلى الثمانين، أو قد تجاوزها؟!
لكن: مَن كان في شرخِ الشَّباب؛ فإن أملَه في الحياةِ كبير؛ وبالتَّالي: التَّسويف عنده مُستمِر، وبالتَّالي : الشَّيطان عليه مُجتَهد؛ ليلبِّس ويُزيِّن ويزخرِف، يقول: اهجُر فلانًا؛ فهو مُبتَدِع!!


طيب؛ قبل أن تَهجرَه؛ تثبَّت مِن أنه مُبتَدِع أم لا! ثم: إذا قلتَ إنه مُبتَدِع؛ هل اتَّبعت الخطوات الشَّرعيَّة التي كانت عند أئمةِ السَّلف عندما بدَّعوا هذا أو ذاك.


هذا أمرٌ.


الأمر الثَّاني: عصر السَّلف كان عصرًا مُشرقًا منيرًا أزهرَ؛ بينما عُصورنا -نحن الخَلف- عصور مُظلمَة، مُنتِنة -وللأسف!- كما كان يُروَى عن عائشة أمِّ المؤمنين كانت تقول -وقد أدركت من أدركت من خِيار الصَّحابَة-فضلاً عن النَّبي المصطفى-عليه الصَّلاة والسَّلام-وأدركها خِيار الخيار التَّابعين-، لكن الحق يتجزَّأ ويُقاس بعضُه على بعض، كانت تقول:

ذهبَ الذِين يُعاشُ في أكنافِهِم ... وبَقيتُ في خَلَفٍ كَجِلدِ الأَجْربِ


هذا في عصرها؛ فكيف عُصورنا؟!


آخرُ نُقطة: أتذكَّر كلِمَة الإمام سُفيان الثَّوري عندما كان يقول -وقد أرسل ليوسفَ بن أسباط- قال: " يا يوسف! إذا بلغك عَن رجلٍ مِن أهلِ المغربِ أنَّه صاحبُ سُنَّة -وأنتَ بالمشرق-؛ فأرسل إليه بالسَّلام؛ فإنَّ أهل السُّنَّة قليل "!


هذا في عصور التَّابعين، العصور المُنيرة المُشرِقة، في العصور الفوَّاحة بِزهر العِلم، وندَى السُّنَّة؛ لكن: ما بالُنا؟ وما حالُنا في عصورِنا؟!


فالأمرُ الذي يجب أن يُنظر إلى أفهام أو فهمًا إلى آثار السَّلف أنهم كانوا في عزٍّ، وكانوا في مَنعة -على ما في هذه الآثار مِن خطر ونظر ومُعتَبر-؛ فما بالُنا -اليَوم- ونحن في آخر الزَّمن؟!!


وصلى الله وسلَّم وبارَك على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِه، وصحبِه أجمعين.


وآخرُ دَعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمَين.







-تم بحمد الله-
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 05-10-2010, 03:51 AM
أم زيد أم زيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 5,264
افتراضي

الأسئلة :
[1] الأخ يسأل عن الكُحل للعَين. (37:37)
[الجواب] هذا النبي -صلى الله عليه وسلم- حض عليه، وقال: " عَلَيْكُمْ بِالإِثْمِدِ ".
لكن الإثمد نوع خاص لا يظهر بالصُّورة الجليَّة الواضحة التي يظهر بها الكُحل الموجود والمشهور -الآن- بين الناس. والله -تعالى- أعلم.

[2] يقول الأخ السَّائل: هل يجوز للإنسان رفع اليدين للتَّكبير في تكبيرات الجَنازة؟ (38:13)
[الجواب] نقول: السُّنَّة النبوية المنصوص عليها -من حيث الفِعل- أن النَّبي -عليه الصَّلاةُ والسَّلام- كان [يَرفَعُ يَديْهِ] -فقط- [في] التَّكبيرةَ الأولى، والحديث في ذلك رُوي مِن طريقَين ضعيفَين؛ لكن يقوِّي أحدُهما الآخَر.
نعم؛ وَرد عن ابنِ عمر -رضيَ الله-تَعالى-عنهُ- أنه فعَلَ ذلك -بالسَّند الصَّحيح-؛ فكان يرفع يَدَيْه مع كلِّ تَكبيرةٍ.
خير الهدي هدي محمد -صلَّى الله علَيهِ وسَلَّم-.
لكن لو أن أحدًا جاء وقال: ابن عمر معروفٌ عنه أنه شديدُ الاتِّباع، وأنه مِن أهلِ العِلم والرِّواية، وفعل ذلك؛ مِن هذا الباب -لا مِن باب أنه اجتهادٌ محض؛ ولكن باب غَلبة الظَّن: أنَّ ابن عمر لا يَفعل إلا ما فَعله الرَّسول -عليه الصَّلاةُ والسَّلام-، وتسنَّن بهذا الفِعل-؛ فأنا أقول: لا حرجَ في ذلك.
وهذا ما أشار إليه شيخُنا -رحمهُ الله- في آخر طبعةٍ من طبعات " أحكام الجنائز "، وهو قولٌ جيِّد.
واللهُ -تعالى- أعلَم.

[3] الأخ يسأل سؤالاً -جيِّدًا- فيقول: كيف نتعامل مع الحِزبي؟ (39:24)
[الجواب] أقول: التَّعامل له ثلاثُ درَجات:
الدَّرجة الأولى: درجة حقِّ المسلم على المُسلم؛ هذا ينبغي أن يكون مع الجميع.
وحقُّ المسلم على المسلم معروف: أن تُسلِّم عليه، أن تَعودَه، أن تدعوَ له بالهداية . . الأصول الإسلاميَّة العامَّة -وللهِ الحَمد-.
ثم -هنالك- دَرَجة ثانية: وهي القُرب منه، والتَّذكير له، ودعوتُه؛ لكي يَترك ما هو عليه -مِن خطأ-؛ لأن النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- ماذا يقول؟ " الدِّين النَّصيحة، الدِّين النَّصيحة، الدِّين النَّصيحة " قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: " للهِ، ولرَسُولِه، ولِكِتابِه، ولأئمةِ المُسلمِين وعامَّتِهم "؛ فهذا مِن واجب النَّصيحة، {وتَواصَوا بالحقِّ وتَواصَوا بالصَّبر}، حديث جَرِير في -"الصَّحيحين"-: بايعنا رسُول اللهِ على السَّمع والطَّاعة، والنُّصح لكلِّ مسلم، وكان يُلقِّنُنا: فيما استطعت.
فهذا مِن الواجب المرتبِط بالعُنق نحو أخيكَ المسلم -ما استَطَعْت-.
المؤمن مِرآة المؤمن، المؤمِن أخو المؤمن، هذا أخوك حتى لو خالَفَك، حتى لو نَظر إليكَ نظرةً استِعلائيَّة، أنت انظر إليه النَّظرة الشَّرعية.
تبقى الدَّرجة الثَّالثة: أن يُنظر؛ هل تَجاوَبَ مع الحق؟ أم كما يقال في لسانِ العامَّة: (أذن مِن طِين، وأخرى مِن عَجين)!؟ ويا ليت لو كانت (عجين)! يمكن تثقب! كلا الأذنين مِن طين -نسأل الله العافية-إلا مَن رحم-.
فمَن كان على هذه الحال، وقد استَوفَيتَ معه حقَّ الإسلام، واستوفيتَ معه حقَّ البيان؛ فحينئذٍ: تَهجُره لتزجرَه -كما ألَّف السُّيوطي رسالةً سمَّاها: " الزَّجر بالهَجر "-.
أنتَ لا تهجرُه انتقامًا لنفسِك؛ ولكن تهجرُه حتى يَرتدِع.
وأصلُ الهجر ثابتٌ في الكتابِ والسُّنة: الهجرُ الجميل، وفعلُ النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- مع المُخلَّفين . .
ولأخينا الشَّيخ مَشهُور -حفظهُ الله- كتابٌ جيِّد في بابِ الهجرِ -في مجلَّد-طُبع قديمًا- ذَكر فيه الأصول العِلميَّة، والقواعد المرعيَّة، والنُّصوص الشَّرعيَّة في مسألة الهجر.
ولنا عودة إلى مسألةِ الهجر -في بعضِ المسائل إذا أعاننا الله-عزَّ وجلَّ-فيما نستقبل مِن المجالس- نذكر فيها: أن بعضَ النَّاس لا يُقدِّرون الهجرَ الشَّرعي بضوابطِه الشَّرعيَّة؛ فيَقعُون في الخطأ -مِن حيث يتوهَّمون أنهم يُريدون الصَّواب-؛ وهذا لنا معه عودة.
إذًا: هذه ثلاث درجات؛ نبدأ بالأَصل، ثم نُضيِّقه، ثم نضيِّقه . . -بحَسب كل إنسانٍ وطبيعتِه-.
ليس عندنا ختمٌ: (هذا حِزبي؛ إذًا: نَتركُه، نَهجُره، نَحذَرهُ . . )!! لا؛ مَن كان على سويَّة مِن العلم، وقدرة مِن المعرفة؛ فَلَهُ أن يأخذَ هذه الأمورَ على وجهِها الشَّرعي.
وفي هذا القَدر كفايَة، وانتهى الوقت!
وصلَّى الله على نبيِّنا محمد، وعلى آلهِ، وصحبِه أجمعين.
وآخرُ دعوانَا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالَمين.

[جاءت هذه الأسئِلة في آخرِ المحاضرَة الأولى مِن مُحاضَرات: " فقهِ الدَّعوة إلى اللهِ؛ مَحاذير وبِدع دعويَّة "].



وَالحَمْدُ للهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ
رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
تفريغات أم زيد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:41 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.