أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا

             
68427 104572

العودة   {منتديات كل السلفيين} > المنابر العامة > منبر الفقه وأصوله

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 09-22-2017, 09:13 PM
ابوخزيمة الفضلي ابوخزيمة الفضلي غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: May 2012
المشاركات: 1,952
افتراضي دورة في الفقه الإسلامي وأدلته للشيخ / صادق البيضاني - متجدد -

الحلقة (1 )
بقلم الدكتور : صادق بن محمد البيضاني
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد:

المقدمة الأولى : قضايا لها أهميتها
قبل البدء في هذه السلسلة المباركة من دروس الفقه الإسلامي، أضع بين أيديكم قضايا لها أهميتها في الفقه الاسلامي، أجملها في التالي :
القضية الأولى : هناك مسائل فقهية ورد تفصيلها في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم, وهي على ثلاثة أقسام :
القسم الأول مسائل فعلية : حيث أمر الشرع بفعلها، ويكون دليلها تفصيلياً, ومثال ذلك إقامة الصلاة, قال الله عز وجل فيها: "وأقيموا الصلاة"([1]), فهذا الدليل دل على وجوب الصلاة، فسماه الفقهاء دليلاً تفصيلياً؛ لأنه ورد مفصلًا في الكتاب العزيز في مسألة بعينها، وهي مسألة الصلاة بغض النظر عن كيفيتها التي وردت في السنة المطهرة، وكذلك ورد دليل الصلاة تفصيلياً في السنة، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال كما في الصحيحين: "بني الإسلام على خمس"([2]), وذكر من ذلك "وإقام الصلاة", فهذا يقال له دليل تفصيلي, والفعل قد يكون واجبًا، وقد يكون مستحبًا، كما ستأتي أمثلته من خلال الدروس القادمة بمشيئة الله.
القسم الثاني مسائل تتعلق بالترك : حيث نهى الشرع عن فعلها, ودليلها تفصيلي, ومن ذلك ما جاء في قول الله عز وجل: "إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه"([3]), هذا دليل تفصيلي في ترك الخمر والميسر والأنصاب والأزلام وأنها رجس محرمة, ومن ذلك أيضاً ما ورد عن النبي صلى الله وعلى آله وسلم أنه: نهى عن لبس الحرير([4]).
والترك يرد على سبيل التحريم، وقد يرد على سبيل الكراهة كما ستأتي أمثلته قريباً بمشيئة الله.
القسم الثالث مسائل فيها التخيير وهو: الإباحة؛ فإن الله عز وجل أباح لنا الألبسة التي لم ينه عنها التشريع وأباح لنا أن نشرب الماء ونطعم الطعام متى شئنا، فهذا مما ورد دليله تفصيلياً في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ومثال ذلك قوله تعالى : " كلوا واشربوا ولا تسرفوا"([5])، فهذا دليل تفصيله، وفيه إباحة الأكل والشرب.
القضية الثانية : أن هناك مسائل فقهية دليلها إجمالي بمعنى لا دليل عليها مفصلاً في الكتاب أو السنة, لكن فيها الإجماع عن الصحابة أو اتفاق العلماء, ومن أمثلتها : عدم جواز تزويج المسلمة من كتابي، فهذا لم يرد فيه نص ينهى عن هذا النوع من التزويج؛ لكنه يؤخذ من أدلة مجملة كقول الله عز وجل : "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا"([6]).
القضية الثالثة : أن هناك مسائل احتاجت إلى آلة الاجتهاد، ودخلت في أدلة إجمالية، ولم يرد فيها نص مفصل, فأفتى فيها علماء الأمة بمجمل كثير من الأدلة وإن كان في بعضها مقال من حيث الاستدلال لكن كثراً منها موافق لقاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وسنرى من خلال هذه الدروس أمثلة كثيرة ترد في موضعها إن شاء الله، ومن أمثلة ذلك بناء منارات المساجد حتى يفرق الناس إذا أرادوا الصلاة بينها وبين الكنائس والمعابد ونحوها، وحتى تكون دليلاً على أماكن المساجد لمن كان غريباً على البلد النازل فيها على قول بعض أهل العلم، وليس بناؤها بلازم شرعاً، ففي المسألة سعة حسب المصالح والمفاسد.
وكذلك من المسائل التي طريقها الاجتهاد : المسائل العارضة التي تحصل من عصر إلى عصر.
ومن هذه المسائل في عصرنا الحاضر : مسألة أطفال الأنابيب ومسألة العقاقير التي ركبت من بعض الحيوانات المنوية من الإنسان أو الحيوان, لعلاج الشخص المصاب بضعف الإخصاب، ومسألة البنوك الإسلامية ومسائل كثيرة تتعلق بالأسهم والشركات والتأمينات، فمنها ما يوافق الشرع في الجملة ومنها ما يخالف.
القضية الرابعة : أن هناك مسائل حدثت في عهد الصحابة ومن بعدهم وليست عصرية : فقد ينفرد الصحابي عن الصحابة أو غيره عن غيرهم بالخوض في حكمها أو يختلفون, ولم يرد فيها دليل أو إجماع أو اتفاق كمسألة القراءة من المصحف في قيام الليل، ونحوها.
أهمية الفقه الإسلامي: من لا يعرف الفقه فلن يعرف الحلال والحرام, ولن يسعد المسلمون إلا بمعرفة الفقه الإسلامي بأدلته الصحيحة من الكتاب والسنة.
وإلى لقاء قادم بإذن الله، وفق الله الجميع لطاعته، وألهمهم رشدهم.
___ا
([1]) سورة البقرة, الآية (43).
([2]) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عمر.
([3]) سورة المائدة, الآية (90).
([4]) أخرجه الترمذي في سننه من حديث أبي موسى، والحديث صحيح.
[5] سورة الأعراف، الآية (31).
([6]) سورة النساء, الآية (141).
__________________
قال سفيان بن عيينة رحمه الله : ( من جهل قدر الرّجال فهو بنفسه أجهل ).


قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله- كما في «مجموع الفتاوى»:

«.من لم يقبل الحقَّ: ابتلاه الله بقَبول الباطل».

وهذا من الشواهد الشعرية التي إستشهد بها الشيخ عبد المحسن العباد في كتابه
رفقا أهل السنة ص (16)
كتبتُ وقد أيقنتُ يوم كتابتِي ... بأنَّ يدي تفنَى ويبقى كتابُها
فإن عملَت خيراً ستُجزى بمثله ... وإن عملت شرًّا عليَّ حسابُها
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 09-26-2017, 06:58 AM
ابوخزيمة الفضلي ابوخزيمة الفضلي غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: May 2012
المشاركات: 1,952
افتراضي

دورة في الفقه الإسلامي وأدلته

الحلقة (2 )

بقلم الدكتور : صادق بن محمد البيضاني
مقدمات ومبادئ ينبغي التنبيه عليها قبل الخوض في مسائل الفقه

أولاً : معنى الفقه

الفقه لغةً : الفهم, وقيل الفهم الدقيق النافذ؛ وهذا مأخوذ من قول الله عز وجل "قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرًا مما تقول"([1]) بمعنى "لا نفهم", وأيضًا مأخوذ من قوله تعالى " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين" - بمعنى ليتفهموا - "ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم"([2]).

وأما في الاصطلاح, فله عدة معان منها:

1) الإدراك؛ لقوله سبحانه: " وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم"([3]) بمعنى لا تدركون, ومن الشريعة ما يُدرك فإن مَنْ تعلم العلم أدرك المسائل الفقهية، ومن لم يتعلم العلم فلن يدرك هذه المسائل حتى يتعلم.

2) معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها التفصيلية أو ما طريقه الاجتهاد.

فأما ما دليله تفصيلي فقد تقدم كما في قوله تعالى: "وأقيموا الصلاة"([4]), وأما ما طريقه اجتهادي فقد أشرنا له في الحلقة السابقة, وذلك كالمسائل العارضة فدليلها لم يُفصل في الكتاب والسنة ولكن استدل الفقهاء لها بأدلة مجملة, وأما ما كان دليله على سبيل الإجمال فلا شك أن المجتهد سيجتهد فيه ثم يحكم بما يراه وقد يخالفه غيره، والصواب لمن كان دليله قويًا، وقد بينا أمثلة ذلك في الحلقة الماضية.

ثانياً : تاريخ الفقه الإسلامي

مر الفقه الإسلامي بثلاث مراحل :

المرحلة الأولى: المرحلة العامة " الكلية " فلم يكن الفقه في بداية أمره بما نُعَرِّفه به اليوم من أنه: معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها التفصيلية من طهارة وصلاة وزكاة وصوم ونحوها, بل كان في بداية الأمر كما عرفه الإمام أبو حنيفة أنه: "معرفة النفس ما لها وما عليها", فدخل في تعريفه : معرفة العقائد والتوحيد, وما يتعلق بالوجدانيات: وهي المتعلقة بالقلب والنوايا كالحسد والحقد والكراهية والرياء, وما يتعلق بالأخلاق والآداب: كالتواضع وخفض الجناح, هذا فضلًا عن دخول الأحكام الشرعية كأحكام الصلاة وغيرها في هذا التعريف من باب أولى.

فهذا كله يدخل في تعريف الفقه عند أبي حنيفة؛ ولذا نجد أن الإمام أبا حنيفة لما ألف كتاب العقائد سماه "الفقه الأكبر": وهو أصول الدين وهذا هو الفقه الأول الذي يجب على المسلم أن يتعرف عليه, فيتعرف على ما يجب عليه نحو ربه من توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات, وما يتعلق بالحذر من الشرك ونحوه.

المرحلة الثانية : هي المرحلة التي جعل العلماء الفقه فيها عبارة عن: "معرفة الأحكام الشرعية", فخرج ما يتعلق بالعقائد وبقي ما يتعلق بالوجدانيات والأخلاق فضلًا عن الأحكام الفرعية التفصيلية العملية كأحكام الصلاة وغيرها؛ فنجد أن في هذه المرحلة ادخال فقه بعض الأخلاق والآداب, بل ومضى على ذلك فيما يظهر الحافظ ابن حجر كما في كتابه بلوغ المرام, وأدخل البعض: ما يتعلق بالوجدانيات كالحسد والكراهية، وهذا في الجملة يختلف عن المرحلة الأولى.

المرحلة الثالثة : وهي المرحلة المتأخرة، التي خُصَّ فيها الفقه الإسلامي بأنه: ما يتعلق بالأحكام الشرعية التفصيلية العملية وما طريقه الاجتهاد, وعلى ذلك لن يكون كلامنا متعلقًا بأحكام الأخلاق أو الوجدانيات أو العقائد, وإنما سيكون متخصصًا ببيان الأحكام الشرعية الفرعية التفصيلية العملية أعني المرحلة الثالثة لأنها صارت المقصودة من الفقه إذا أطلق.

ثالثاً : مسميات الفقه

له عدة مسميات وعدة معاني, وأشهرها ما يلي :

1) شِرْعة: وقد سماه ربنا سبحانه بهذا الاسم كما في قوله تعالى: "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا"([5]).

2) شريعة: ودليله قوله سبحانه "ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها"([6]), أي على فقه في الدين.

3) الدين الإسلامي: لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"([7]), ومعنى أمرنا : ديننا، ومنه قوله تعالى : " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي"([8]).

4) فقه الفروع : هكذا سماه بعض الفقهاء.

5) فقه العبادات والمعاملات : وهي أيضاً تسمية اشتهرت لدى بعض الفقهاء.

6) فقه الحلال والحرام : وهي أيضاً تسمية اشتهرت لدى بعض الفقهاء.

رابعاً : موضوع الفقه الإسلامي وما يتعلق به

موضوع الفقه : أفعال المكلفين من حيث الترك أو الفعل أو التخيير؛ لأن الشريعة الإسلامية جاءت بخمسة أحكام وهي :

الأول : الوجوب, كـ "أقيموا الصلاة"([9]) والحكم فيه الوجوب.

الثاني: الاستحباب, كـحكم تحية المسجد عند دخوله الاستحباب على الراجح؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: " إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين"([10]).

الثالث : التحريم, ومن ذلك قوله تعالى: "ولا تقربوا الزنا"([11]).

الرابع : الكراهة, وذلك في الدليل الذي يعارض الدليل الذي ظاهره التحريم إذا لم يتبين النسخ, كحكم الصلاة في الأوقات المنهي عنها, ففي حديث النبي عليه الصلاة والسلام "ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا"([12]), وذكر منها: "وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب"؛ فإن تحية المسجد مستحبة للدليل السابق: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين"([13]).

لكن لو صلاها في وقت النهي فقد وقع في الكراهة؛ لأنه عارض ذلك الاستحباب دليل النهي الظاهر.

الخامس: التخيير: بمعنى الإباحة كالشرب والطعم ولبس أنواع الثياب المباحة وما إلى ذلك.

خامساً : شروط من يصح تكليفه

لا يكلف الله عبداً بعبادة شرعية إلا إذا استوفى شروط التكليف، وهي :

الأول : العقل.

لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول كما في الحديث الذي في مسند الإمام أحمد وعند بعض أهل السنن عن عائشة وجماعة من الصحابة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "رفع القلم عن ثلاث", بمعنى: رفع الحكم الشرعي عن ثلاثة, "عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يعقل"([14]), فالمجنون لو صلى لم تقبل صلاته؛ لأنه لا يدرك ذلك, كيف والله عز وجل يقول في كتابه الكريم: "ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى"([15]), لماذا؟؛ لعدم الإدراك, فالذي يسكر هو أهون من الذي لا عقل له من حيث خاصية بقاء العقل وذهابه.

الثاني : البلوغ.

ودليله ما ورد في الحديث السابق "والصبي حتى يحتلم".

الثالث : الإسلام.

فلا يقول قائل الكافر بالغ وهو عاقل, إذن فهو مكلف!!
لا يمكن هذا القول، لأنه لا تكليف إلا بإسلام، فالإسلام شرط لصحة العبادة.
قال تعالى: "إن الدين عند الله الإسلام"([16]), وقال سبحانه "ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه"([17]), فالكافر يطالب بالعبادات وبفروع الشريعة كالصلاة والصيام, لكنه لن يقبل منه حتى يأتي بالمفتاح, وهو شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ ولذا يقول الله عز وجل عن أهل الكفر وما سيحصل لهم يوم القيامة: "ما سلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلين، ولم نك نطعم المسكين، وكنا نخوض مع الخائضين"([18]), فلو أطعموا المسكين أو صلوا أو لم يخوضوا كانوا من أهل النار؛ لأنهم لم يأتوا بالمفتاح الذي يدخلهم الإسلام وهو الشهادتان.

وإلى لقاء قادم بإذن الله، وفق الله الجميع لطاعته، وألهمهم رشدهم.

______
([1]) سورة هود, الآية (91).
([2]) سورة التوبة, الآية (121).
([3]) سورة الإسراء, الآية (44).
([4]) سورة البقرة, الآية (43).
([5]) سورة المائدة, الآية (48).
([6]) سورة الجاثية, الآية (18).
([7]) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أم المؤمنين عائشة.
[8] سورة المائدة، الآية (3).
([9]) سورة البقرة, الآية (43).
([10]) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي قتادة, واللفظ للبحاري.
([11]) سورة الإسراء, الآية (32).
([12]) أخرجه مسلم في صحيحه من حديث عقبة بن عامر الجهني.
([13]) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي قتادة, واللفظ للبحاري.
([14]) أخرجه أحمد في مسنده والنسائي في سننه وغيره من أصحاب السسن عن أم المؤمنين عائشة.
([15]) سورة النساء, الآية (43).
([16]) سورة آل عمران, الآية (19).
([17]) سورة آل عمران, الآية (85).
([18]) سورة المدثر, الآية [45:42].
__________________
قال سفيان بن عيينة رحمه الله : ( من جهل قدر الرّجال فهو بنفسه أجهل ).


قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله- كما في «مجموع الفتاوى»:

«.من لم يقبل الحقَّ: ابتلاه الله بقَبول الباطل».

وهذا من الشواهد الشعرية التي إستشهد بها الشيخ عبد المحسن العباد في كتابه
رفقا أهل السنة ص (16)
كتبتُ وقد أيقنتُ يوم كتابتِي ... بأنَّ يدي تفنَى ويبقى كتابُها
فإن عملَت خيراً ستُجزى بمثله ... وإن عملت شرًّا عليَّ حسابُها
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 09-29-2017, 01:44 PM
ابوخزيمة الفضلي ابوخزيمة الفضلي غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: May 2012
المشاركات: 1,952
افتراضي

دورة في الفقه الإسلامي وأدلته

الحلقة (3)
بقلم الدكتور : صادق بن محمد البيضاني

المراحل التاريخية للفقه الإسلامي

مر الفقه الإسلامي عبر التاريخ بخمس مراحل، وهي مرحلة النبوة، ومرحلة الصحابة، ومرحلة التابعين، ومرحلة صغار التابعين وتسمى بمرحلة تدوين المسائل، ومرحلة تفريع المسائل وضبطها بقواعد وأصول الفقه.

وإليكم في هذه الحلقة بيان المرحلتين الأوليين، فأقول وبالله التوفيق :

المرحلة الأولى :
مرحلة العهد النبوي، وهو العصر الذي كان ينزل فيه الوحي على رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وفي هذه المرجلة : كان الناس يرجعون في مسائلهم وأمورهم الشرعية إلى النبي عليه الصلاة والسلام في حياته، وكان يأتيه حكم مسائل الشرع وحياً من عند ربه بواسطة جبريل فيفتي فيها النبي عليه الصلاة والسلام لفظاً من خلال آيات القرآن الكريم والأحاديث القدسية أو معنى من خلال الوحي فيذكر حكم المسألة بقوله أو فعله، وكانت المسائل التي يُسأل عنها النبي عليه الصلاة والسلام في الجملة قليلة في مقابل ما يرد به الوحي.
وهناك مسائل وقعت قولاً أو فعلاً من صحابي أو جماعة من الصحابة بحضور رسول الله صلى الله عليه وسلم أو حال غيابه فلم يتكلم فيها النبي عليه الصلاة والسلام بل سكت، وهذا إقرار منه بصحة حكمها لأنه لم يأته وحي يعارضها، ولو كانت على خلاف الحق لنزل به الوحي ولأنكرها النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا ما يُسمى في علم الحديث بـ " السنة التقريرية ".
وهناك مسائل يُسأل عنها ويسكت حتى يأتيه الوحي بالجواب, كما جاء اليهود إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وسألوه عن الروح، فسكت حتى أتاه الوحي بالجواب، حيث نزل عليه قوله سبحانه وتعالى "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي"([1]) فقال النبي لليهود وللسائلين عن ذلك : الروح من أمر ربي, فجعل ذلك من أمر الغيب الذي خُفِيَ أمره حتى على رسول الله عليه الصلاة والسلام.
هذا العهد الزاهر لم يحصل فيه خلاف البتة, ولو وجد شيء ظاهره خلاف، فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يحسمه بالوحي.
المرحلة الثانية :

عهد الصحابة, ويعتبر هذا العصر أفضل العصور بعد عصر رسول الله عليه الصلاة والسلام, وهو العصر الأول الذي بدأ فيه الاجتهاد في المسائل؛ إذ لم يكن هناك اجتهاد في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام وإنما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يصدر حكمه على ضوء الوحي.

ولما مات النبي عليه الصلاة والسلام جَدَّت مسائل لا دليل عليها لا من كتاب ولا من سنة، فعُرضت على فقهاء الصحابة لكي يفتوا فيها وفقاً لعموم أدلة الشرع.

فإنه لما جاء عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أرسلوا جيوشًا إلى بلاد فارس وبلاد الروم وغيرها من البلدان، فكثرت الفتوحات الإسلامية واختلط العرب بالعجم، ودخل الأعاجم في دين الله أفواجاً, فظهرت بعض الأعراف التي عُرفت عند العجم وقد أسلموا, فعرضوها على الصحابة من أجل بيان الحكم الشرعي فيها, فلم يجد الصحابة دليلًا تفصيليًا في كثير منها فرجعوا إلى جملة أدلة الكتاب والسنة واجتهدوا فخرجوا بالحكم الشرعي, وحصل الاتفاق في مسائل، وحصل الخلاف في مسائل أخرى سنبينها في مواضعها إن شاء الله, فكانت الخلافات في المسائل الفقهية قد انبثقت ابتداءً من عهد الصحابة رضوان الله عليهم، أما في زمن النبوة فلا يظهر خلاف في مسألة إلا وقد حسمه الوحي كما تقدم.

عدد الفقهاء المفتين في عهد الصحابة :

ليس كل الصحابة أهل فتيا، بل كان الفقهاء آنذاك لا يتجاوز عددهم ثلاثة عشر فقيهًا، وقيل أكثر، وعلى رأس هؤلاء : عمر وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعائشة وأمثالهم من أهل الحديث من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.

لفتة تاريخية :

كان الفقهاء قديماً محصورين في الجملة, أما اليوم فمن أخذ شهادة دكتوراه أو درس عند شيخ أو صار واعظًا أو خطيبًا أو إمامًا وربما مؤذنًا حشر نفسه في صف الفقهاء، وصار يفتي الناس إلا من رحم ربي ، فربما تُعرض عليه المسألة ويفتي وليس أهلاً للفتيا ولم يزكه العلماء, فينبغي للشخص إذا عرضت عليه مسألة وهو ليس أهلًا للفتيا أن يعرض عن جوابها، لأن الإعراض عن الجواب دليل على التورع, فهؤلاء الصحابة الثلاثة عشر عندما كانت تعرض عليهم المسألة لم يكونوا جميعًا يفتوا, بل كان بعضهم يقول سل عنها ابن عباس أو عبد الله بن عمر أو عائشة وهكذا كان من بعدهم من أهل القرون المفضلة، وقد جاء عن الإمام مالك -وهو من صغار التابعين على الراجح- حيث عرضت عليه أربعون مسألة على المشهور، فقال في ست وثلاثين مسألة الله أعلم وأفتى في أربع, فقال الرجل لمالك : لقد جئتُ إلى فقيه دار الهجرة إلى الإمام مالك أسأل عن أربعين، وتقول في ست وثلاثين: الله أعلم، ثم تفتيني في أربع, فقال له الإمام مالك : اذهب وحدث الناس عن ذلك.

وهذه قصة مروية في ترجمة الإمام مالك، وقد ذكرها الإمام أبو زرعة الدمشقي في تاريخه (ص 194)، وأوردها القاضي عياض بن موسى بن عياض السبتي في كتابه ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، وأصحها ما أسنده ابن عبد البر في التمهيد أن مالكاً سُئل عن ثمان وأربعين مسألة، فأجاب منها عن اثنتين وثلاثين مسألة بقوله : " لا أدري".

يعني ليس عيبًا أن تقول الله أعلم, ولذلك جاء في صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ عَلِمَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ بِهِ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ فَإِنَّ مِنْ الْعِلْمِ أَنْ يَقُولَ لِمَا لَا يَعْلَمُ اللَّهُ أَعْلَمُ"([2]), فالرسول عليه الصلاة والسلام عندما كان يتأخر عنه الوحي في المسألة فيسكت حتى يأتيه الجواب, وهو رسول الله ونبي هذه الأمة.

فهذه المدارس والجامعات والكليات الشرعية في عصرنا اليوم : تُخرج نبذة طيبة من المتعلمين، ولكن هناك من ليس أهلًا لذلك, فمن أخذ عن العلماء وزاحمهم في بيوتهم ومجالسهم ومساجدهم، وأخذ عنهم سنين طويلة، وزكوه، فهذا الذي يصلح أن يكون فقيهًا, احترامًا للعلم وللآداب الشرعية واحتراماً لهذا الدين العظيم, بل وتورعًا وتدينًا في أن نجعل الفتيا في العلماء.

وقد صح أن المسألة الواحدة كانت تُعرض في عهد أبي بكر وعمر وغيرهما فيجمع الخليفة لها أهل الفقه، فإذا أفتى فيها فقهاءالصحابة الثلاثة عشر بقول واحد أو بقول جماعة منهم وكانت راجحة لدى ولي الأمر- الخليفة الراشد - أمضاها لكونه رأساً في العلم، وربما كانت إجماعًا؛ لذلك لا عيب ألا يجيب من لا علم له بقوله : " الله أعلم".

نكتفي بهذا القدر، ونرجئ بقية المراحل للحلقة القادمة بإذن الله.

وفق الله الجميع لطاعته، وألهمهم رشدهم.
______
([1]) سورة الإسراء, الآية (85).
([2]) أخرجه البخاري في صحيحه من حديث عبدالله بن مسعود موقوفًا.
__________________
قال سفيان بن عيينة رحمه الله : ( من جهل قدر الرّجال فهو بنفسه أجهل ).


قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله- كما في «مجموع الفتاوى»:

«.من لم يقبل الحقَّ: ابتلاه الله بقَبول الباطل».

وهذا من الشواهد الشعرية التي إستشهد بها الشيخ عبد المحسن العباد في كتابه
رفقا أهل السنة ص (16)
كتبتُ وقد أيقنتُ يوم كتابتِي ... بأنَّ يدي تفنَى ويبقى كتابُها
فإن عملَت خيراً ستُجزى بمثله ... وإن عملت شرًّا عليَّ حسابُها
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 10-02-2017, 01:24 PM
ابوخزيمة الفضلي ابوخزيمة الفضلي غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: May 2012
المشاركات: 1,952
افتراضي

دورة في الفقه الإسلامي وأدلته

الحلقة (4)
بقلم الدكتور : صادق بن محمد البيضاني

بقية المراحل التاريخية للفقه الإسلامي

في الحلقة السابقة تكلمت عن المرحلتين الأوليين من مراحل الفقه الإسلامي، وهي مرحلة العهد النبوي ومرحلة الصحابة، وفي هذا اللقاء سأتكلم عن المرحلتين الأخيرتين وهما : مرحلة كبار التابعين، ومرحلة صغار التابعين، وتسمى بمرحلة تدوين المسائل، وتفريعها وضبطها بقواعد وأصول الفقه، فأقول وبالله التوفيق :

المرحلة الثالثة : مرحلة كبار التابعين، وهم الذين أخذوا عن الصحابة، وكانت الخلافات في هذه المرحلة أكثر, وتُعد أيامها من أيام العهود الزاهرة الكبرى الداخلة في القرون المفضلة لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"([1]).

ولذا فأهل هذه المرحلة عاشروا مرحلة الصحابة، وعاشروا عامة الفتن التي حصلت آنذاك لكونهم أبناء الصحابة، ولعل من أعظم الفتن تلكم الفتنة التي حدثت في أواخر مقتل عثمان, حيث ظهر الخوارج وظهرت مدرسة الجدل والرأي وكثير ممن يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم من حديثي الإسلام وخاصة من العجم أو من العرب الذين دخلوا متأخرين وتأثروا بمدرسة الرأي والجدل، وبعضهم ربما كان من الزنادقة ودخلاء اليهود والنصارى للقضاء على بيضة المسلمين، فصاروا يكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم ويلفقون بعض الأحاديث ليقووا مذهبهم ورأيهم في ما يخالفون فيه الصحابة أو صغار الصحابة آن ذاك, وفي هذا العصر ظهرت مدرستان فقهيتان: المدرسة الأولى: مدرسة أهل الحجاز أو المدرسة الحجازية أو الحديثية : وكان عندها الحديث قويًا لوفرة أهل الحديث وشروطهم في هذا المكان, وذلك في بلدتين :

الأولى: مكة, وفيها: عبد الله بن عباس, وأخذ عنه مولاه عكرمة وابن جريج وغيرهما.

الثانية : مدينة رسول الله, وفيها : مدرسة عبد الله بن عمر: الذي أخذ عنه مولاه نافع وجماعة, وكان ابن عمر يحبه ويقربه إليه, ويقول: "لقد مَّن الله علينا بنافع"([2]), فنجد أن للموالي مكانة.

وأيضاً بالمدينة مدرسة عبد الله بن مسعود : الذي أخذ عنه سعيد بن جبير وجماعة من التابعين.

المدرسة الثانية : مدرسة أهل العراق أو المدرسة العراقية أو مدرسة الرأي : فإنهم لبعدهم عن أهل الحديث وشروط المحدثين أدخلوا على الحديث شروطًا, فشددوا في ذلك فقل عندهم الحديث، وأيضاً قل عندهم لقلة المحدثين في بلدتهم.

وفي هذه المرحلة وخصوصاً أواخرها نجد أن المسائل الخلافية بدأت تكثر لأنه لم يبق من الصحابة سوى الندرة والصغار منهم, والندرة هذه دلالة على أن الشر بدأ يتفاقم وبدأ يكثر، وهذا مصداق قول النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث أنس " لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ " قال أنس سمعته من نبيكم عليه الصلاة والسلام([3])؛ ولذلك كلما ابتعد الناس عن العلماء الذين قبلهم كلما كثرت الفتن.

وبموت علماء وفقهاء الصحابة عظمت الفتن وتقوت مدرسة الجدل والرأي، وعظم أمر الخوارج والزنادقة والمتكلمين والفلاسفة وغيرهم من أهل الضلال.

والخلاصة أن أصحاب هذه المرحلة أخذوا الحديث وفقه المسائل من الصحابة بما في ذلك المسائل العارضة في أوقات كثرت فيها الفتن وظهرت فيها مسائل جدلية تتصادم مع أصول الشريعة، ولذا لم يتم ضبط الفقه ومسائله بقواعد الأصول الاصطلاحية إلا في المرحلة الرابعة كما سيأتي، حيث أن الحاجة لأصول الفقه وضوابطه صارت ملحة بسبب ما ظهر من الجدل والخلاف والضلال العظيم في المرحلة الثالثة.

المرحلة الرابعة : وهي مرحلة صغار التابعين وأواخر الدولة الأموية, ابتداء من عهد عمر بن عبد العزيز, حيث رأى أهل الحل والعقد وجماعة من أهل العلم أهمية تدوين الحديث والمسائل الفقهية؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام كان ينهى في زمانه عن كتابة الحديث فكيف يكتب الفقه, وكان نهيه خشية أن يختلط بالقرآن الكريم, وصح عنه أنه أذن لعبد الله بن عمر أن يكتب بعض الأحاديث وبعض المسائل([4]) وكذلك ما جاء عن علي وكتابه في المسائل المتعلقة بالدماء والديات([5]), وفي هذا العهد قيل لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين لقد كثر القتلى في حفظة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بكتابة الحديث وبعض المسائل, وخصوصًا أنه كثر في ذلك العهد الحفاظ لكتاب الله, وقد جُمِع القرآن الكريم وحُفِظ من أن يختلط بغيره في زمن أبي بكر وعمر ثم في زمن عثمان, وليس هناك ما يدل على أنه سيختلط بآيات قرآنية أو غيرها, فأمر أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أن يُكتب الحديث([6]), ويقال إنه كلف في ذلك العهد الإمام العلامة المحدث الحافظ الكبير محمد بن مسلم بن شهاب بن عبيد الله الزهري، وجاء أيضاً كما في بعض الروايات أنه كلف القاضي أبا بكر بن حزم([7]) وجماعة من أهل العلم، وهذا يدل على تكرار التكليف لأهميته، ولكن سبحان الله مع الأيام فُقد كتاب الزهري وبعض المدونات وبقي غيرها كثير والحمد لله, وبعد ذلك تسارع الحفاظ وكتبوا كابن جريج وعبدالرزاق الصنعاني ومالك وأحمد بعدهم, فَجُمِعَ الحديث في بلاد الحجاز والشام واليمن والعراق، ثم جمعت المسائل الفقهية ولذلك نجد أن موطأ الإمام مالك عبارة عن مجموعة من الآحاديث مع بعض الآثار مع بعض المسائل, ومن هنا بدأ التدوين ويقال إن الإمام مالك هو أول من دون في الفقه الإسلامي؛ لأنه لم يحفظ كفن أو كعلم مستقل بمسائله كما صار من الإمام مالك, والصواب أن المشهور في جمع الفقه هو أبو حنيفة لكنه خلطه مع بعض المسائل التي بعضها لا تتعلق بالمسائل التفصيلية، بل كل مسألة لا يجد فيها حديثاً أدخل فيها الرأي، وله عذره رحمه الله لأنه لم يطلع على بعض الأحاديث فقد كان في الكوفة، وهي بلدة قليلة الحديث والمحدثين في ذلك العصر, ثم بعد ذلك تسارع أهل العلم وكتبوا في الفقه الإسلامي كتبًا مستقلة، كما كتبوا في الحديث وجردوه عن الآثار، وكذلك كتبوا في الحديث وجردوه عن الضعيف كما فعل البخاري ومسلم، ثم بعد ذلك كثرت الكتب وبدأوا يشرحون هذه الأحاديث ويفصلون المسائل, وكان العلماء في ذلك العهد يختلفون من جماعة إلى جماعة؛ فبعض العلماء كان يكتب الحديث ويستدل بالدليل من الكتاب والسنة, وكان أهل الكوفة إذا ما وجدوا الدليل من الكتاب والسنة اجتهدوا بما يقربهم إلى الله ثم يحكمون في المسألة حتى وإن خالفوا الدليل, ولو اطلعوا على الدليل لرجعوا إليه, ولذا يقول الإمام مالك : " إذا صح الحديث فهو مذهبي", وأفتى رحمه الله في مسائل فنُبه عليها وفق الدليل الصحيح فتراجع, وكان الإمام مالك رحمه الله عندما يكتب هذه المسائل الفقهية يعلق الحكم بالكتاب والسنة الصحيحة, وقد جاء في كتب التراجم أن أمير المؤمنين المنصور قال لمالك : " لو جمعنا الناس على كتابك الموطأ, قال: لا, فإن الناس اطلعوا على مالم نطلع عليه", ومنع أن يحمل أمير المؤمنين الناس على كتابه, فالناس في ذلك الوقت قد ألفوا([8]) كتباً كثيرة, ومن هؤلاء الإمام عبدالرزاق في اليمن، والإمام أحمد بن حنبل في بغداد، والإمام الليث بن سعد المصري في أرض مصر، وكذلك ابن جريج في مكة، والإمام مالك وجماعة في المدينة.

ولذا ربما اطلع الصنعاني على أحاديث لم يطلع عليها أحمد بن حنبل، واطلع الإمام مالك على أحاديث لم يطلع عليها الصنعاني, وهكذا فالفقه مر بهذه الأطوار الأربعة حتى وصل إلينا منقحًا خلال عصور المحدثين والفقهاء.

وقد قعَّد أبو حنيفة بعض قواعد ومسائل الفقه وأصوله في ورقات لم تُحفظ في كتاب مستقل، وعنه أخذ تلميذاه محمد بن الحسن الشيباني وأبو يوسف القاضي، وعنهما أخذ الإمام محمد بن إدريس الشافعي فجمع أصول الفقه كفن مستقل في كتابه " الرسالة" والذي ضمه لكتابه " الأم"، ثم تطور علم أصول الفقه وتوسعت أبوابه، وظهرت كتب كثيرة في أصول الفقه، وأخرى في القواعد الفقهية، وأخرى أيضاً في القواعد الأصولية الإجمالية "الكلية"، كما صارت كتب الفقه مستقلة عن الحديث النبوي، وعن المسائل الفقهية وأصولها.

وفق الله الجميع لطاعته، وألهمهم رشده.

_______
([1]) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن مسعود.
([2]) المزي, تهذيب الكمال (29/303).
([3]) أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك.
([4]) أخرجه أبو داود في سننه من حديث عبدالله بن عمرو, وفيه: "اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق".
([5]) أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أبي جحيفة موقوفًا عليه, وفيه: "قلت لعلي هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن فقال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهمٌ يعطيه الله رجلاً في القرآن وما في هذه الصحيفة قلت وما في هذه الصحيفة قال العقل وفكاك الأسير وألا يعقل مسلمٌ بكافر", وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث علي بن ابي طالب موقوفًا بنحوه.
([6]) يدل عليه ما في صحيح البخاري: أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن حزم الذي تقلد القضاء أن أنظر ما كان من سنة أو حديث فإني خفت اندراس العلم وذهاب الحديث, وبنحوها أخرجها الإمام مالك في الموطأ من رواية محمد بن الحسن.
([7]) ذكره ابن حجر, في فتح الباري (1/218), وابن عبد البر, في جامع بيان العلم وفضله (1/ 331), وفيه: أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن فكتبناها دفترًا دفترًا, فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفترًا.
([8]) ابن فرحون, الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب, دراسة وتحقيق: مامون بن محيي الدين الجنان, دار الكتب العلمية, بيروت, لبنان, الطبعة الأولى, 1417هـ, 1996م, ص (72)
__________________
قال سفيان بن عيينة رحمه الله : ( من جهل قدر الرّجال فهو بنفسه أجهل ).


قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله- كما في «مجموع الفتاوى»:

«.من لم يقبل الحقَّ: ابتلاه الله بقَبول الباطل».

وهذا من الشواهد الشعرية التي إستشهد بها الشيخ عبد المحسن العباد في كتابه
رفقا أهل السنة ص (16)
كتبتُ وقد أيقنتُ يوم كتابتِي ... بأنَّ يدي تفنَى ويبقى كتابُها
فإن عملَت خيراً ستُجزى بمثله ... وإن عملت شرًّا عليَّ حسابُها
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 10-18-2017, 02:24 PM
ابوخزيمة الفضلي ابوخزيمة الفضلي غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: May 2012
المشاركات: 1,952
افتراضي أسباب اختلاف العلماء :

دورة في الفقه الإسلامي وأدلته

الحلقة (5)

أسباب اختلاف العلماء :
عندما يقرأ المتصفح في كتب الفقه وغيرها من كتب التفسير وشروح الحديث يجد أن أكثر مسائل الفقه الاسلامي لا تسلم من تباين في أقوال الفقهاء والمحدثين وعامة العلماء، وبالنظر إلى أسباب هذا الخلاف نجدها في الجملة كما يلي :
السبب الأول : اختلاف العلماء في المصادر.
فبعضهم يقول لا حجة إلا في الكتاب والسنة والاجماع، فيرد القياس وحجية الصحابي وغيرهما من الأدلة الأخرى.
السبب الثاني : اختلافهم في فهم بعض نصوص الشرع.
ومثاله كأن يقول الحنبلي على الفتوى المشهور: ينبغي وضع اليدين على الصدر بعد القيام من الركوع، ويقول الحنفي أو المالكي أو الشافعي بل يسدلهما وحجة الطرفين : ما أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي حميد الساعدي قال : " كنت أحفظكم لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيته إذا كبر جعل يديه حذاء منكبي ، وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ثم هَصَرَ(1) ظهره ، فإذا رفع رأسه استوى حتى يعود كل فَقَار(2) مكانه"، فهذا اختلاف في فهم النص، والذي يظهر لي والله أعلم في هذه المسألة بعينها صحة الفهمين ظاهرياً، وجواز العمل بأيهما شاء المصلي لعدم ترجيح أحدهما كلياً على الآخر مع الأخذ في البال أن أحدهم صحيح والأخر خطأ إلا أن الجزم على واحد بعينه بالصحة أو الضعف قطعاً يترتب عليه الدليل ، ولا نص في ذلك، فالعمل بأحدهما لا ينافي ضعف الآخر قطعاً، ولكن قد يستلزمه في الجملة، وإن كنا نرى قوة مذهب الجمهور.
السبب الثالث : اختلافهم في القواعد الفقهية والقواعد الأصولية الكلية.
فالقواعد الأصولية : هي كل قاعدة أكثر اطراداً وعموماً، سيقت من الألفاظ العربية والعقلية، سابقة للجزئيات، قائمة على الاستنباط، متشابهة الأدلة، تدل على الحكم بواسطة، وتختص بالفقهاء والمجتهدين، ومثالها قاعدة : الأمر يقتضي الوجوب.
فهذه قاعدة لغوية عقلية شاملة لكل دليل جاء بصيغة الأمر وهي أكثر اطراداً وعموماً لكون الأدلة في الأوامر كثيرة في الكتاب والسنة لاختلاف كثرة الجزئيات كجزئية وجوب إقامة الصلاة وجزئية إيتاء الزكاة.
وأهم الكتب في هذه القواعد الأصولية الكلية " الاجمالية" : كتاب الفروق للقرافي، وكتاب تأسيس النظر للدبوسي، وكتاب القواعد الأصولية عند الإمام الشاطبي للدكتور الجلالي المريني، وكتاب القواعد والفوائد الأصولية لابن اللحام.
وأما القواعد الفقهية فهي : القواعد والضوابط التي تجمع الأحكام الفقهية المتشابهة والمتعلقة بأفعال المكلفين حيث يستعملها كل الناس : فقهاء ومجتهدون وغيرهم، ومثالها قاعدة : قاعدة اليقين لا يزول بالشك.
فإذا قال شخص توضأت وشكيت، فهل انتقض الوضوء أم لا؟ أجبناه بالقاعدة الفقهية، وهو نفسه كشخص من العوام قد يعرف ذلك لكونها قضية فرعية مشهورة لدى عموم الناس.
وأهم الكتب في هذه القواعد الفقهية : كتاب قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام، وكتاب القواعد الفقهية لابن رجب، وغيرهما كثير.
السبب الرابع : اختلافهم في صحة الأحاديث وضعفها.
فهناك فقهاء لم يدرسوا علم الحديث وليس لهم باع في صناعة التخريج والحكم على الأحاديث وفقاً لقواعد هذا العلم الشريف، فيرجح بعضهم أو يفتي بناء على حديث لا يصح، فيتصادم قوله أو فتواه مع فتوى محدث فقيه بنى فتواه على حديث آخر صحيح، وهكذا، ولا يعني هذا اسقاط مزية الفقهاء غير المحدثين، فلكل عالم فضل.
السبب الخامس : اختلافهم في الناسخ والمنسوخ.
وأمثلة ذلك كثيرة، ومن ذلك : هل الوضوء من أكل لحم الابل منسوخ أم لا؟ ومثله من توضأ ثم مس ذكره، ونحوهما من المسائل، والصواب عدم النسخ في المسألتين كما سيأتي في موضعه من هذا الموجز بإذن الله.
السبب السادس : اختلافهم في الترجيح.
ومثال ذلك اختلافهم في تقديم الركبتين أو اليدين عند الهبوط من الركوع إلى السجود، وقد رجحت تقديم اليدين على الركبتين في كافة شروحي على الدرر البهية وشرح عمدة الأحكام وشرح بلوغ المرام، وسيأتي بيان هذه المسألة في موضعها إن شاء الله من هذا الموجز.
فهذه هي الأسباب التي أدت إلى اختلاف الفقهاء، وهناك أسباب أخرى، ترجع في الأصل إلى هذه الستة.
ورغم الخلاف في المسائل الفقهية إلا أن العلماء المختلفين يترحم بعضهم على بعض, فاختلاف أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان طريقه السعي لمعرفة الحق واجتهد المجتهد وأخطأ فإن هذا الخلاف لا يضر, ولا يستطيع المسلم أن يقضي على الخلاف أبدًا؛ لأنه سنة قديمة، سنها الله عز وجل كما قال سبحانه "وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ" ([1]).
وإذا اختلف العلماء الربانيون في قضية من القضايا المتعلقة بالمسائل الفقهية فلا يخرج خلافهم عن واحد من اثنين: إما للوصول إلى الحق، وإما لبيان أدلة المسألة, وعلى جميع الأحوال، فالغاية واحدة وهي معرفة الحكم الشرعي الذي أراده الشرع الحكيم.
ولشيخ الإسلام ابن تيمة رسالة في أسباب الخلاف بين العلماء اسمها "رفع الملام عن الأئمة الأعلام", وننصح بقراءتها، وهناك رسائل أخرى مفيدة في هذا الباب، منها : الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف للعلامة ولي الله الدهلوي ، وكتاب أسباب اختلاف الفقهاء للشيخ عبد الله بن عبد المحسن التركي، وكتاب أسباب اختلاف الفقهاء في الفروع الفقهية للشيخ حمد بن حمدي الصاعدي، وكتاب أسباب اختلاف الفقهاء للشيخ مصطفى الزلمي، وكلها كتب مفيدة.
وفق الله الجميع لطاعته، وألهمهم رشدهم.
_______
(1) هصر ظهره : أي خفضه وثناه .
(2) الفقار : المفصل .
([1]) سورة هود, الآية [119,118].
**
__________________
قال سفيان بن عيينة رحمه الله : ( من جهل قدر الرّجال فهو بنفسه أجهل ).


قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله- كما في «مجموع الفتاوى»:

«.من لم يقبل الحقَّ: ابتلاه الله بقَبول الباطل».

وهذا من الشواهد الشعرية التي إستشهد بها الشيخ عبد المحسن العباد في كتابه
رفقا أهل السنة ص (16)
كتبتُ وقد أيقنتُ يوم كتابتِي ... بأنَّ يدي تفنَى ويبقى كتابُها
فإن عملَت خيراً ستُجزى بمثله ... وإن عملت شرًّا عليَّ حسابُها
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 10-25-2017, 06:13 AM
ابوخزيمة الفضلي ابوخزيمة الفضلي غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: May 2012
المشاركات: 1,952
افتراضي

دورة في الفقه الإسلامي وأدلته
الحلقة (6)
بقلم الدكتور : صادق بن محمد البيضاني

آداب طالب العلم
هناك آداب ينبغي لطالب العلم أن يتأدب بها عند طلبه للعلم, نجملها في عدة آداب :
الأدب الأول : الإخلاص.
وهو أساس النجاح، لأن طلب العلم عبادة، والله عز وجل يقول عن العبادات "وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين", فلا يصلح أن يطلب الطالب العلم من أجل دنيا فانية, كأن يطلب العلم ليحصل على منصب أو جاه أو مال, لأن من كان كذلك فقد عرَّض نفسه للفتنة, والأصل أن من كانت بدايته سيئة فخاتمته سيئة, ولا نحكم على أحد بعينه، فالحكم لله الواحد القهار؛ ولذا قال بعض علماء الاسلام السابقين: " طلبت العلم من أجل الدنيا فأبى إلا أن يكون لله", إلا أن هذا من النادر الذي تغمده الله برحمة منه وفضل, والخاتمة الحسنة تكون من الله سبحانه وتعالى.
وقد قيل: " مَن تفقه تفسَّق", وإن كان بعض أهل العلم أنكر مثل ذلك, لكن وُجد من انتسب إلى الفقه ويقول ويفتى بما يوافق هواه ومذهبه، حتى لو أدى ذلك للكذب على رسول الله عليه الصلاة والسلام لعدم اخلاص بعضهم, ومن أمثلة ذلك في التاريخ أن هناك فقيهاً حنفياًعُرِضت عليه مسألة من المسائل كي يفتي فيها، فأفتى بنحو المذهب تعصبًا له، ثم وضع حديثًا مكذوبًا على رسول الله عليه الصلاة والسلام كي يقبل الناس منه, فقال، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام : "أبو حنيفة سراج أمتي، ويأتي في آخر الزمان رجل يقال له محمد بن أدريس هو أشر على أمتي من ابليس", هذا هو البلاء المبين.
وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين "مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ"([1]), وهو حديث متواتر باتفاق.
فالإخلاص لله : أساس نجاحك يا طالب العلم، وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم "إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ : رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ : قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ : كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ جَرِىءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِىَ فِى النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ : تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ : كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِىَ فِى النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ : مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلاَّ أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ : كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِىَ فِى النَّارِ"([2]), إذن النية الخالصة في هذه الأمور المذكورة في الحديث لم تكن لله، والله عز وجل يعلم ما في الأنفس "إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ"([3]).

الأدب الثاني : أن تعمل بكل ما تعلمت قدر استطاعتك.
ألم يمقت ربنا سبحانه وتعالى على بني إسرائيل، وقال في حقهم "أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ"([4]), فليس من العقل أن أقول قولًا وعملي يخالف ذلك!, وقد قال سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا([5]) عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ"([6]), وجاء في الصحيحين أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِى النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ([7]) بَطْنِهِ فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِالرَّحَى، فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ يَا فُلاَنُ مَا لَكَ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ : بَلَى قَدْ كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلاَ آتِيهِ وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ"([8]), هذه هي البلية وذاك هو البلاء :
يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُعَلِّمُ غَيْرَهُ هَلَّا لِنَفْسِك كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ
تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السِّقَامِ وَذِي الضَّنَى كَيْمَا يَصِحَّ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيمُ
ابْدَأْ بِنَفْسِك فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ
فَهُنَاكَ يُقْبَلُ مَا تَقُولُ وَيُقْتَدَى بِالْقَوْلِ مِنْك وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ عَارٌ عَلَيْك إذَا فَعَلْت عَظِيمُ
ذكر الخطيب البغدادي في كتابه "اقتضاء العلم العمل" -وهو كتاب عظيم- حادثة بإسناد حسن قال: "كان فتى يختلف إلى أم المؤمنين عائشة ، فيسألها وتحدثه، فجاءها ذات يوم يسألها فقالت : يا بني هل عملت بعد بما سمعت مني ؟ فقال : لا والله يا أمه، فقالت : يا بني فبما تستكثر من حجج الله علينا وعليك"([9]), انظروا إلى الصحابة وعملهم ونصحهم في تربية الجيل المسلم الذي يطلب العلم.

الأدب الثالث : كثرة الرحلة في طلب العلم.
لا تجلس في بيتك تسمع الأشرطة وعبر النت والقنوات، وتقرأ في الكتب دون أن تقعد عند الشيخ, اذهب وزاحم العلماء الأجلاء وخذ عنهم في مساجدهم وفي بيوتهم، حتى لو كنت في جامعة أو كنت دكتورًا، فإن عليك أن تأخذ عنهم؛ لأن تزكية العالم في العلوم والفتوى أعظم من شهادة الدكتوراه، ولا يعني هذا أن الطالب لا يطلب العلم ولا يسعى لطلب الدكتوراه، بل خذها بجدارة فهي من التزكية؛ ولكن لا تجعلها شهادةً أكبر من أخذك العلم عن العلماء والحصول على تزكياتهم بعد الأهلية، ولا تجعل العلم في الكراس، وإنما اجعله في الرأس يعني احفظه، فإن فؤادك وعاء العلم.
لقد كانت الرحلة إلى أهل العلم وأهل الحديث من أعظم مصادر التعليم, فهذا هشام بن عمار شيخ البخاري من أهل سوريا كان في دمشق، فجاء جماعة من المدينة من طلاب الإمام مالك إلى دمشق يحدثون ببعض أحاديث مالك، فرغب في طلب العلم والفقه والحديث من الإمام مالك فسافر المدينة مع طلاب مالك، وكان صبيًا صغيرًا لم يبلغ الحلم, قال : دخلت على مالك بن أنس [ وفي رواية أخرى : قصدت باب مالك، فهجمت عليه بلا إذن] فقلت له : حدثني، فقال : اقرأ، فقلت : لا بل حدثني، فقال اقرأ، فلما أكثرت عليه قال : حصلنا على الصبيان، يا غلام [ ينادي مالك غلامه الذي يخدمه ] احمله فحملني كما يحمل الصبي وأنا يومئذ غلام مدرك فضربني بدرة مثل درة المعلمين سبع عشرة درة فوقفت أبكي، فقال لي مالك بن أنس : ما يبكيك أوجعتك هذه؟ يعني الدرة، قلت : إن أبي باع منزله ووجه بي أتشرف بك وبالسماع منك فضربتني، وفي رواية : فقلت له، لقد ظلمتني ضربتني خمس عشرة درة بغير جرم لا أجعلك في حل، فقال مالك : فما كفارته؟ قلت : كفارته أن تحدثني بخمسة عشر حديثا، قال فحدثني بخمسة عشر حديثا، فقلت له : زد من الضرب وزد في الحديث، قال : فضحك مالك وقال : اذهب.
هؤلاء هم الرجال وإن صغر سنهم، وهذا هو العلم، وهذه هي الرحلة في طلبه.
والحاصل : أن هذا الأدب أدب لا بد منه لك يا طالب العلم.

الأدب الرابع : ينبغي للداعية وطالب العلم أن يعترف بقدر شيخه.
يقول النبي عليه الصلاة في الحديث الحسن لغيره : "لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا ، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا ، وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ"([10]).
للأسف أن بعض الطلاب لا يعرف قدر العلماء الذين لهم فضل عليه وعلى الأمة, وهذا يظهر جلياً عند الفتن، وذلك إذا غضب بعض الطلاب من عالم ما، انتهك عرضه بغير حق.
فالطالب الذي لا يعرف قدر العالم لا قيمة له, ولذا لما دخل الشافعي مصر؛ أتاه جلَّةُ أصحاب مالك, وأقبلوا عليه, فابتدأ الشافعي في مخالفة أصحاب مالك في بعض المسائل؛ فتنكروا له, فلم يجلس إليه أحد، فقال له بعض من قدم معه : لو قلت شيئاً يجتمع إليك به الناس، فقال إليك عني ([11]), ثم أنشد قائلاً :
أأنثرُ دراً بين سارحةِ البَهَمْ؟! وأنظمُ منثوراً لراعية الغنمْ ؟!
لَعمري لئن ضُيِّعْتُ في شرِّ بلدةٍ فَلَسْتُ مُضَيْعاً بينهم غررَ الكلَمْ
فإن فَرَّجَ اللهُ اللطيفُ بِلطفِهِ وصادفتُ أهلاً للعلوم وللحكمْ
بَثَثْتُ مُفيداً واستَفَدْتُ وِدَادَهُمْ وإلاّ فمخزونٌ لديَ ومكتتمْ
سأكتمُ عِلمي عن ذَوي الجَهْل طاقَتي ولا أنثرُ الدُّرَ النفيسَ على الغَنَمْ
وَمَنْ مَنَحَ الجهّالَ عِلْماً أضَاعَهُ وَمَنْ مَنَعَ المستوجِبين فقَدْ ظَلَمْ([12])
وهنا قصة حدثت لأحد علماء مصر وأهل مصر فيهم النباهة والذكاء, وقد كان ضريرًا يدرّس في إحدى الجامعات العصرية، فدخل خطأً إلى قاعة وليست الحصة حصته، فقال له بعض الطلاب: يا شيخ هذا الفصل ليس فصلك, فقال لهم : -وكان متوجعًا من بعض الطلاب الذين لا يعرفون آداب الطلب- معذرة معذرة, إن البقر تشابه علينا, ثم ذهب إلى فصله".
فالذي لا يعرف قدر العالم لا فرق بينه وبين البهيمة وإن كان ذا شخصية أو قيمة, فالعالم له قدره ومكانته؛ وإلا فمن لا يعرف مكانة العالم فهو شقي، عنده شيء من السفاهة, وقد كان الربيع المرادي اليماني رحمه الله ينشد شعر الشافعي:
إذَا غَلَبَ الشَّقَاءُ عَلَى سَفِيهٍ تَنطَّعَ فِي مُخَالَفَةِ الْفَقِيهِ([13])

الأدب الخامس: كتابة العلم.
بمعنى : إذا وقفتم على فائدة فاكتبوها، لأن الكتابة قيده, وقد كان عبد الله بن عمرو يكتب عن النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأحاديث, وبوَّب الإمام البخاري بابًا قال فيه: باب كتابة العلم.
العلمُ صيدٌ والكتابةُ قَيْدُهُ قَيِّدْ صُيودَك بالحِبَالِ الواثِقَهْ
فمِنَ الحماقةِ أنْ تصيدَ غزالةً وتترُكها بين الخلائق طالقهْ

الأدب السادس: حفظ العلم.
عليكم يا معشر الطلاب بحفظ العلم، فإنه لا فتوى إلا بحفظ أدلتها من الكتاب والسنة.
وقد سمعت اليوم من العجائب : أن بعض مَنْ توظفه الدولة للإفتاء إذا سأله السائل قال له : انتظر، فيفتح الكمبيوتر ليفتي منه دون أن يفرق بين الحديث الصحيح من الضعيف ودون أن ينضبط بقواعد التشريع وأصوله، هذا الصنيع من بلايا عصر الذرة.
لا يا إخوان، هؤلاء ليسوا صالحين للفتيا، بل يجدر بهم أن يكونوا رعاة غنم، فإن علم الكتاب والسنة يحمله عدوله من حفظة الشريعة السمحة، لا أمثال هؤلاء الذين لا شأن لهم في العلم سوى طلب الدينار أو الدرهم إلا من رحم ربي، لكن لا مانع لو استخدم الكمبيوتر في البحث والمذاكرة، والمراجعة عند الحاجة التي لا بد منها، أما أن علمه وفتواه قائمة على البحث الكمبيوتر والنت وقت الطلب، ثم يفتي بما لا انضباط فيه، فهذه من الطوام.
لذلك كانوا قديماً يقولون: "خير الفقه ما حاضرك", بمعنى ما كان حاضراً في الذهن عند السؤال عنه، ونفعك في وقت الحاجة من حفظك، لا من كتابك وكمبيوترك, بحيث إذا سئلت تفتي بموجب ما حفظت, فإذا لم تحفظ لا تصلح أن تكون مفتيًا.
لَيْسَ بِعِلْمٍ مَا حَوَى القِمَطْرُ([14]) مَا العِلْمُ إِلاَّ ما حَوَاهُ الصَّدْرُ
وفق الله الجميع لطاعته، وألهمهم رشدهم.
_______
([1]) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة, واللفظ لمسلم.
([2]) أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة.
([3]) سورة آل عمران, الآية (5).
([4]) سورة البقرة, الآية (44).
([5])عظم ذنبًا.
([6]) سورة الصف, الآية [2 , 3].
([7]) أمعاء.
([8]) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أسامة بن زيد, واللفظ لمسلم.
([9]) الخطيب البغدادي, اقتضاء العلم العمل, تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني, مكتبة المعارف, الرياض, الطبعة الأولى, 1422هـ - 2002م, ص (60).
([10]) أخرجه أحمد في مسنده من حديث عبادة بن الصامت.
([11]) ينظر: ابن مفلح, الآداب الشرعية, حققه: شعيب الأرنؤوط – عمر القيّام, مؤسسة الرسالة, بيروت- لبنان, الطبعة الثالثة, 1419هـ- 1999م, (1/ 232).
([12]) ديوان الشافعي, اعتنى به عبد الرحمن المصطاوي, دار المعرفة, بيروت – لبنان, الطبعة الثالثة, 1426هـ, 2005م, ص (110).
([13]) المصدر السابق, ص (126), الماوردي, أدب الدنيا والدين, دار الكتب العلمية, بيروت- لبنان, الطبعة الأولى, 1407هـ, 1987 م, ص (28).
([14]) صندوق الكتب.
__________________
قال سفيان بن عيينة رحمه الله : ( من جهل قدر الرّجال فهو بنفسه أجهل ).


قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله- كما في «مجموع الفتاوى»:

«.من لم يقبل الحقَّ: ابتلاه الله بقَبول الباطل».

وهذا من الشواهد الشعرية التي إستشهد بها الشيخ عبد المحسن العباد في كتابه
رفقا أهل السنة ص (16)
كتبتُ وقد أيقنتُ يوم كتابتِي ... بأنَّ يدي تفنَى ويبقى كتابُها
فإن عملَت خيراً ستُجزى بمثله ... وإن عملت شرًّا عليَّ حسابُها
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 11-17-2017, 07:14 AM
ابوخزيمة الفضلي ابوخزيمة الفضلي غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: May 2012
المشاركات: 1,952
افتراضي مراتب الفقهاء

مراتب الفقهاء
( ضمن دورة الفقه الإسلامي وأدلته )
الحلقة (7)
بقلم الدكتور : صادق بن محمد البيضاني

لفقهاء الاسلام عدة مراتب، تسمى طبقات الفقهاء، وقد حصرها بعض العلماء في أربعة مراتب, ومنهم من قال : خمس, ومنهم من قال : سبع, ومنهم من قال : عشر, والذي يظهر أن هذه المراتب ترجع في الأصل إلى خمسة مراتب :
المرتبة الأولى، الفقيه المجتهد المطلق: وهو العالم المتبحر في علوم الشريعة، والذي لا يتقيد بمذهب معين، وإنما يتقيد بما ترجح لديه من الحكم على ضوء الكتاب والسنة, فإذا عرضت عليه مسألة، وخصوصًاً إذا كانت من العوارض التي لا نص فيها، فإنه يجتهد ويحكم بما يراه راجحاً, ويعتبر هذا الفقيه المطلق في مقام من ترجع إليه الأمة في النوازل والملمات، فهو إمام عصره أو من أئمة العصر، لكونه إماماً في الفقه الإسلامي وأصوله وقواعده، وملماً في العلوم الأخرى كالتفسير والحديث وعلومه واللغة العربية وعلومها، وعموم العلوم الشرعية الأخرى؛ ومن كان قاصرًا في العلوم الشرعية لا يمكن أن يكون فقيهًا مطلقًا, ومن أمثال هذه المرتبة : شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله, فإنه وإن كان في بداية أمره قد تمذهب بالمذهب الحنبلي لكنه رحمه الله لم يأخذ بما قاله فقهاء الحنابلة في جميع المسائل، بل خالف في كثير منها وعمل بما ترجح لديه من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم, وأيضاً تلميذه ابن القيم، وكذلك شيخ الاسلام محمد بن إسماعيل الأمير الكحلاني الصنعاني، وشيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني الخولاني، وأيضًا في عصرنا الحديث سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز وسماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين وكذلك الشيخ المحدث محمد ناصر الدين الألباني رحم الله الجميع، فهؤلاء وأمثالهم من أرباب المرتبة الأولى، وحق للواحد منهم أن يقال عنه فقيه مطلق, ويقابل الفقيه المطلق : الفقيه المقيد، وسيأتي بيانه بإذن الله قريباً.
المرتبة الثانية، الفقيه المستقل: وهو الذي جعل له قواعد خاصة به في زمن من الأزمنة، فكثر أتباعه، وصار فقهه ومسائله مدونة حتى نسبت المسائل إليه، وصارت مذهباً اشتهر بها, ومن أمثلة هذه المرتبة : الأئمة الأربعة كالإمام محمد بن إدريس الشافعي, والإمام مالك, والإمام أبي حنيفة, والإمام أحمد بن حنبل, وكذلك داود بن علي الظاهري، فقيل في مذهب الشافعي المذهب الشافعي, وفي مذهب أبي حنيفة المذهب الحنفي، وهكذا بقية المذاهب, وإن كانوا قبل نسبة المذهب لهم من أرباب المرتبة الأولى.
المرتبة الثالثة، الفقيه المقيد : وهو ذلك المتعلم الذي لا يفتي إلا بموجب المذهب، ولا يملك أن يرجح شيئًا؛ لأنه قد قيَّد نفسه بمذهب من مذاهب الإسلام كالمذهب الشافعي أو الحنفي أو الحنبلي أو المالكي, فينظر في المسائل الفقهية التي على المذهب ويفتي فيها بموجب ما في المذهب من الأصول والفروع, كالشيرازي وأبي نصر المروزي ومحمد بن خزيمة في المذهب الشافعي, وأيضًا كالسرخسي والطحاوي من الأحناف, وكأبي زيد القيرواني من المالكية, وكأبي يعلى القاضي في المذهب الحنبلي, وأصحاب هذه المرتبة من الأئمة أجلاء إلا أن التقيد بالمذهب معارض للدين ومعارض لأئمة المذاهب أجمعين، ويلزم كل عالم أن يفتي بما أمره الله ورسوله فلا مذهبية في الاسلام.
قال ابن تيمية : " ولِهذا قال غير واحد من الأئمة : "كل أحد من الناس يؤخذ من قوله، ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وهؤلاء الأئمة الأربعة رضي الله عنهم قد نَهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولونه وذلك هو الواجب عليهم.
فقال أبو حنيفة : "هذا رأيي وهذا أحسن ما رأيت، فمن جاء برأي خير منه قبلناه".
ولهذا لما اجتمع أفضل أصحابه : أبو يوسف بمالك فسأله عن مسألة الصاع وصدقة الخضروات ومسألة الأجناس؟ فأخبره مالك بِما تدل عليه السنة في ذلك فقال : "رجعت إلى قولك يا أبا عبدالله ولو رأى صاحبِى ما رأيت لرجع إلى قولك كما رجعت".
ومالك كان يقول : "إنما أنا بشر أصيب وأخطىء، فاعرضوا قولِي على الكتاب والسنة أو كلاماً هذا معناه".
والشافعي كان يقول : "إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط وإذا رأيت الحجة موضوعةً على الطريق فهي قولِي"،انتهى كلامه رحمه الله(1).
المرتبة الرابعة، المفتي: وهو الذي ينصبه ولي الأمر للفتوى، وقد يكون من قبل بعض أهل العلم في بلدة ما, والفتيا منصب عالي من مناصب الشريعة الإسلامية، ويعتبر المفتي من مراجع الدولة الإسلامية؛ لأنه يُنصب للفتي باعتبار أنه أهل لذلك, والمفتي لا يكون مطلقًا ولا مقيدًا ولا مستقلًا, وإنما يفتي على حسب الواقعة النازلة على ضوء الكتاب والسنة؛ لكنه قد يكون متاثرًا بالمذهب أو ببعض أقوال الفقيه المطلق, وأحيانًا يجتهد في المسألة إذا عرضت عليه ثم يخرج بالحكم الشرعي, وله ما ليس لغيره من حيث أنه يأني بالإفتاء حسب ما عرض عليه, وقد يكون له أعوان, يرجع إليهم ويباحث معهم بعض المسائل, وربما يكلف بعض طلاب العلم في بعض المسائل، وربما احتاج إلى طبيب شرعي أو بشري من أجل أن يسأله في بعض القضايا والأدوية العارضة من أجل أن يصدر فتواه بموجب ما يتبين له من ظاهر المسألة، ومما يُعاب اليوم على بعض ولاة الأمر أن ينصب مفتياً مقيداً بمذهب الدولة كالمذهب الحنفي مثلاً، وهذا تقييدٌ ما أنزل الله به من سلطان، فالفتيا حكم شرعي تخضع للكتاب والسنة ليس غير.
المرتبة الخامسة، مرتبة الفقيه : وهو كل عالم اهتم بدراسة الفقه ومسائله، وأفتى بها، سواء كان مفتياً كما في الطبقة الرابعة أو كان مطلقاً أو كان مقيداً أو مستقلاً، فهذه المرتبة تشمل كل المراتب الأربعة المتقدمة، وقد لا تشملها، وذلك إذا كان مجرد فقيه، مهتماً بدراسة الفقه ومسائله ويفتى بها.
ولهذه المراتب الخمس أهمية عظمى في حياة المسلمين، وأقلها أن يفرق المسلم بين أصحاب هذه المراتب.
ثم إن مرجع أصحاب هذه المراتب : هو الفقيه المطلق، فالمفتي يرجع له عند العوارض والشدائد إن وجد وعجز عن الافتاء, والمستقل في أصل أمره وبداية حاله أنه فقيه مطلق كما تقدم، لكنه تحول إلى فقيه مستقل بسبب أنه قد قعَّد قواعد خاصة، ووجد له أتباع أرشدوا الناس وطالبوا الناس بالاكتفاء بها وعدم النظر والاجتهاد في غيرها، والعمل بفروع ومسائل المذهب، وهذا وإن كان معيبًا إلا إنه قد وجد, فإن بعض الفقهاء ربما يطالب الأمة بالالتزام بمذهب الفقيه المستقل الفلاني باعتبار أنه يجوز التقليد، وهذا من الخطأ كما تقدم, وإنما لا بأس بالتقليد في بداية طلب العلم إلى أن يعلم طالب العلم الراجح والمرجوح ويعلم الأحكام على ضوء الكتاب والسنة, وحينها يجب عليه أن ينبذ التقليد، فالتقليد لا يأتي بخير, إلا أن يكون تقليدًا محمودًا كأن تقلد العالم في مسألة ورد فيها دليل، فيكون التقليد من باب أخذ القدوة وإلا فهو في الأصل اتباع لأدلة الكتاب والسنة لا لقول فلان من الناس طالما وفي المسألة دليل قام عليه الشرع الحكيم، وفق الله الجميع لطاعته، وألهمهم رشدهم.
_____
(1) انظر فتاوى ابن تيمية (20/210).
__________________
قال سفيان بن عيينة رحمه الله : ( من جهل قدر الرّجال فهو بنفسه أجهل ).


قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله- كما في «مجموع الفتاوى»:

«.من لم يقبل الحقَّ: ابتلاه الله بقَبول الباطل».

وهذا من الشواهد الشعرية التي إستشهد بها الشيخ عبد المحسن العباد في كتابه
رفقا أهل السنة ص (16)
كتبتُ وقد أيقنتُ يوم كتابتِي ... بأنَّ يدي تفنَى ويبقى كتابُها
فإن عملَت خيراً ستُجزى بمثله ... وإن عملت شرًّا عليَّ حسابُها
رد مع اقتباس
  #8  
قديم 01-19-2018, 04:14 PM
ابوخزيمة الفضلي ابوخزيمة الفضلي غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: May 2012
المشاركات: 1,952
افتراضي

خصائص الفقه الإسلامي
(ضمن دورة الفقه الإسلامي وأدلته)
الحلقة (8)
بقلم الدكتور : صادق بن محمد البيضاني

للفقه الإسلامي خصائص تميزه عن القوانين الوضعية والأحكام العرفية ونحوها مما يتصادم مع الدين الاسلامي المطهر.
والمقصود بالخصيصة : كل شرف رفيع انفرد به الشئ عن غيره عند المقارنة.
فالفقه الإسلامي ليس كالقانون الوضعي أو الأحكام العرفية أو التجريبية أو الانظمة الادارية في القطاعات الحكومية والخاصة, وإنما هو شرعٌ مطهرٌ جاءنا من رب البرية على لسان محمد خير البشرية عليه أزكى الصلاة والتسليم.
ويمكننا في هذا اللقاء أن نذكر أهم تلكم المميزات " الخصائص" في التالي :
الميزة الأولى : أن الفقه الإسلامي خاضع للوحي الالهي.
ولذا فإننا نأخذ هذه الأحكام الوارده في الفقه الإسلامي من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم, وإذا كان الحكم من الكتاب والسنة، فاعلم أنه لا نقص فيه، بل فيه الكمال كله, ومن هنا قال الله عز وجل: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا"([1]), أما القانون البشري فلا يتميز بشيء لأن هناك قوانين لدى أنظمة أخرى مخالفة له في إطار الحكم نفسه، ولكونه من فعل البشر، ففيه الخطأ والنقص, بدليل أن المادة تصدر ثم تعدل عدة مرات على فترات متفاوتة، فيتميز الفقه الإسلامي بأنه شريعة ربانية ثابتة لا تقبل التغيير لأن مصدره الوحي " الكتاب والسنة".
الميزة الثانية : أن الفقه الإسلامي يشمل جميع ما تحتاجه البشرية في شؤون حياتها الدينية والدنيوية، فهو يشمل ما يلي :
أولاً الأحوال الشخصية : التي تتعلق بالفرد والأسرة والمجتمع، وإيجاد الحلول الإيجابية عند ظهور المشاكل والاختلافات الأسرية والاجتماعية والفردية الشخصية.
ثانياً الأحوال المدنية : وتتعلق بمعاملات الأفراد والمجتمع.
ثالثاً القضايا الدستورية : وهي كل ما يتعلق بالدولة وبالحاكم والمحكوم "الراعي والرعية".
رابعاً الأحكام الدولية : وهي كل ما يتعلق بالدولة الإسلامية مع الدول الأخرى غير الإسلامية، وكيفية بناء علاقات شرعية متينة مع تلكم الدول تصب في مصلحة الاسلام ودولته وعموم المسلمين.
الميزة الثالثة : أن الفقه الاسلام يعالج القضايا الأخلاقية والاقتصادية والمعاملات العامة وفقاً لما يحبه الله ورسوله.
وما من شيء إلا وله أصل في الفقه الإسلامي، إما بدليل منصوص عليه أو بدليل مجمل؛ ولذا قال الله عز وجل: "مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ"([2]).
ومن شموليته أنه بسط للأمة جميع الأحكام حتى ما لا يخطر ببال الخلق؛ فهذا أبوالدرداء رضى الله عنه يقول: "لَقَدْ تَرَكَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا فِي السَّمَاءِ طَيْرٌ يَطِيرُ بِجَنَاحِهِ إِلا ذَكَّرَنَا مِنْهُ عِلْمًا"([3]), وفي صحيح مسلم عن سلمان قال: "قِيلَ لَهُ قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ -صلى الله عليه وسلم- كُلَّ شَىْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ([4]). قَالَ فَقَالَ أَجَلْ..."([5]), تأكيدًا لشموليته.
فالإسلام صالح لكل زمان ومكان، فهو الذي كان في العصر النبوي، وهو الدين نفسه إلى قيام الساعة، كما قال الله سبحانه وتعالى: "وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ"([6]), وقال سبحانه: "إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ"([7]).
الميزة الرابعة : أن الله بنى على أحكام الفقه الإسلامي المثوبة, بمعنى لو أن شخصًا عمل واجبًا استحق الثواب، وإن لم يأت بالواجب استحق العقاب، وإن أتى بمحرم استحق العقاب، وإن ترك المحرم استحق الثواب, وإن أتي بالمندوب " المستحب – السنة " استحق الثواب, فعندما يعطي الإسلام العبد المؤمن الثواب لمن عمل، لا شك أنه سيهتم بالعمل الصالح وسيهتم بتطبيق أحكام الفقه وفق الكتاب والسنة, بخلاف الأحكام الوضعية فإنها لا يترتب عليها شيء من الثواب, وإنما من عمل بها سلم من المخالفة, فمثلًا لو وضع المستشار القانوني " المخلوق الضعيف" في السلطة التشريعية في دولة ديمقراطية ما : مادة قانونية معينة فإنه يجعل عقاباً لمن خالفها، فإن نفذها الشخص سلم من العقاب ولا ثواب على عملها بخلاف شريعة الاسلام كما تقدم, لأن الإسلام جاء ليقول للبشرية جميعًا وخاصة المسلمين منهم : "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا"([8]).
الميزة الخامسة: أن الفقه الإسلامي محفوظ بحفظ الله.
فقد حفظه الله بنصوص ربانية في كتابه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، ولذا لا يتبدل ولا يتغير، بل يبقى الحكم الذي كان صالحًا في عصر رسول الله صالحًا في عصرنا الحاضر, وقد يقول قائل: إن بعض المسائل تكون عارضة لا دليل عليها في الكتاب والسنة فنقول: نعم؛ لكنها ترجع إلى أصل من مجمل الأدلة الشرعية ( راجع الحلقة رقم "3" من هذه الدراسة).
وقد يقول آخر: إن المجتهد قد يخالف نصًا شرعيُا فنقول: نعم, إذا اقتضت المصلحة؛ فالإسلام بُني على المصالح ودرء المفاسد، وقد قلنا سابقاً : إن الشريعة الإسلامية بكل أحكامها وأوامرها ونواهيها جاءت لتحقيق المصالح للعباد وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، ولو كان في هذه الشريعة شيء خلاف المصلحة، لم يصح وصفها بأنها شريعة سمحة مطهرة، ولكن هذا الذي قد يخالف النص لا يكون إلا عالماً ربانياً مجتهداً كبير القدر، فإن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما فتح جنده - في عهده - بلاد فارس أرسى لهم مبدأ الرواتب ومنعهم من أخذ الغنيمة التي ورد فيها النص " للراجل سهم واحد وللراكب ثلاثة أسهم" باعتبارهم موظفين في الدولة الاسلامية، فوافقه الصحابة فكان إجماعاً نظراً للمصلحة الشرعية، وأمثلة أخرى كثيرة يطول بسطها.
وفق الله الجميع لطاعته، وألهمهم رشدهم.
_____
([1]) سورة المائدة, الآية (3).
([2]) سورة الأنعام, الآية (38).
([3]) أخرجه أبو يعلى في مسنده من حديث عويمر بن مالك.
([4]) التخلي والقعود للحاجة والتنظف منها.
([5]) أخرجه مسلم في صحيحه من حديث سلمان الفارسي.
([6]) سورة آل عمران, الآية (85).
([7]) سورة آل عمران, الآية (19).
([8]) سورة فصلت, الآية (46).
__________________
قال سفيان بن عيينة رحمه الله : ( من جهل قدر الرّجال فهو بنفسه أجهل ).


قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله- كما في «مجموع الفتاوى»:

«.من لم يقبل الحقَّ: ابتلاه الله بقَبول الباطل».

وهذا من الشواهد الشعرية التي إستشهد بها الشيخ عبد المحسن العباد في كتابه
رفقا أهل السنة ص (16)
كتبتُ وقد أيقنتُ يوم كتابتِي ... بأنَّ يدي تفنَى ويبقى كتابُها
فإن عملَت خيراً ستُجزى بمثله ... وإن عملت شرًّا عليَّ حسابُها
رد مع اقتباس
  #9  
قديم 01-20-2018, 03:05 AM
ابوخزيمة الفضلي ابوخزيمة الفضلي غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: May 2012
المشاركات: 1,952
افتراضي

تمهيد قبل الشروع في أحكام الفقه
(ضمن دورة الفقه الإسلامي وأدلته)
الحلقة (9)
بقلم الدكتور : صادق بن محمد البيضاني

نزل الوحي بشرائعه كلها على النبي عليه الصلاة والسلام، فنقلها الصحابة عنه، وهم طبقات من حيث العلم والفهم والادراك والحفظ والاهتمام والمجالسة، فليس الصحابة كلهم على وتيرة واحدة - علماء ومحدثون وفقهاء -، لكنهم من حيث النقل لمن بعدهم مرجعٌ في الفقه وأدلته، كل فرد ينقل لغيره ما علم من الأدلة والمسائل، ولو مسألة واحدة بدليلها، ونحن اليوم نتلقى الفقه الاسلامي بأدلته بالرواية منذ العهد النبوي حتى وصل إلينا محفوظاً من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وانتشر في كتب الفقه التي تسابق العلماء لجمعه ما بين مبسوط ومختصر.
ومن خلال هذا الدرس سنبدأ بالتعريفات الأولية التي يأتي بعدها الشروع المباشر في أحكام الفقه الاسلامي بأدلته.
ولذا ينبغي أن تكون القلوب والأذهان والحواس صافيه واعية لهذه الاصطلاحات والأحكام، فإن الشخص من خلال هذه اللقاءات يستطيع أن يستفيد أحكامًاً كثيرة في الفقه الإسلامي, سواء أكان الشخص من المتعلمين طلاب العلم أو كان من عامة الناس، وذلك لأننا بمشيئة الله سنستخدم العبارات السهلة الذليلة التي يمكن للذهن أن يتقبلها وأن يعيها بسهولة ويسر, والعلم كما يقال ما كان في القلب محفوظًا لا في الديوان مكتوبًا، " وما لا يدرك كله، لا يترك جله".

كتاب الطهارة
عادة الفقهاء إذا ابتدأوا في تصنيف الفقه ابتدأوا بكتاب الطهارة.

تعريف الكتاب : في اللغة بمعنى الضم والجمع, ومنه الكتيبة؛ لأنها تجمع أشخاصًا من الجنود وتضمهم.
وفي اصطلاح الفقهاء : ما اشتمل على بعض الأبواب والفصول الفقهية، كباب المياه وفصل الماء الطاهر والماء النجس.
تعريف الطهارة : في لغة العرب بمعنى النظافة, ومنه قوله تعالى: "وثيابك فطهر"([1]) بمعنى: نظف ثيابك ليذهب النجس عنها، فإذا فعلت ذلك ولم يبق النجس فقد طهرت.
وفي الاصطلاح الشرعي: الطهارة رفع الحدث أو ما في معناه وزوال الخبث.
فأما ارتفاع الحدث : فكالبول والغائط, فهذا الحدث يرتفع بالوضوء إذا أراد الرجل أن يصلي.
ولا شك أن من لوازم رفع الخبث بعد البول والغائط غسل المحل من موضع البول والغائط، وهو ما يسمى بالاستنجاء أو ما يقوم مقامه من الاستجمار " استعمال الأحجار أو ما يقوم مقامها كالمناديل الورقية".
والحدث حدثان:
الأول حدث أكبر : وهو الذي لا يزال إلا بالاغتسال, كالاغتسال من الحيض والنفاس والجنابة.
الثاني حدث أصغر : وهو ما يوجب الوضوء كالوضوء من البول أو الغائط للدخول في صحة العبادة.
تنبيه : هناك من الناس من يُقال له " محدث تطهر", كالرجل إذا عرف بسلس البول وكلما توضا نزل منه قطرات بول, ولم يجد علاجًا لهذا السلس، فإنه يصلي حتى وإن نزلت قطرات بعد الوضوء لكونه في مقام من ارتفع حدثه ولا عذر له لترك الصلاة, لقوله تعالى : "فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ"([2]).
وكذلك لو أن الرجل أراد أن يصلي وهناك نجاسة وتعذر إزالتها لمانع طبي مثلًا أو لعدم وجود الماء الكافي أو ما يزيلها فإنه يصلي لأن حكمه حكم الطاهر.
وكذلك المرأة المستحاضة التي ينزل منها الدم ولا ينقطع فإنها تتوضأ لكل صلاة إذا جاء وقتها وتصلي، وتأخذ حكم الطهارة الشرعية كما سيأتي كل ذلك مفصلاً في موضعه بإذن الله.
زوال الخبث : الخبث بمعنى النجس, وإزالته طهارته.
ويزال من ثلاثة أشياء، لتحصل الطهارة :
الأول : المكان, وفيه حديث أبي هريرة وغيره " قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ([3]) فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعُوهُ وَهَرِيقُوا([4]) عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا([5]) مِنْ مَاءٍ أَوْ ذَنُوبًا([6]) مِنْ مَاءٍ فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ "([7]).
الثاني : البدن, لأدلة منها : حديث علي بن أبي طالب قال: "كُنْتُ رَجُلاً مَذَّاءً([8]) وَكُنْتُ أَسْتَحْيِى أَنْ أَسْأَلَ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- لِمَكَانِ ابْنَتِهِ، فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأُ"([9]).
الثالث : الثوب, لقوله تعالى : "وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ"([10]).
وفق الله الجميع لطاعته، وألهمهم رشدهم.
____
([1]) سورة المدثر, الآية (4).
([2]) سورة التغابن, الآية (16).
([3]) بألسنتهم، وفي صحيح مسلم، قالوا له: "مه مه"، أو أرادوا أن يتناولوه بأيديهم.
([4]) صبوا.
([5]) هو الدلو التي ملئت ماءً أو كان فيه ماء قلّ أو كثر.
([6]) الدلو أو الدلو العظيمة، وقيل لا تسمى كذلك إلا إذا كان فيها ماء أو كانت مَلأى ماء،ِ أو فيها ماء قريب من المِلء.
([7]) أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة.
[8] مذاء : بمعنى كثير المذي، وخروجه من مخرج البول، ويخرج من مخرج البول ثلاثة أشياء غير البول، وهي الأول : المني، وهو الماء الغليظ الأبيض الدافق الذي يخرج عند اشتداد الشهوة من جماع أو احتلام أو عادة سرية، والعادة محرمة، وهو يوجب الغسل، وأما الثاني فهو المذي: وهو ماء رقيق لزج يخرج عند الشهوة الصغرى كأن يفكر الشخص في الجماع، وهذا يجب فيه غسل الذكر كله والمكان الذي وقع فيه من بدن أو ثوب، ويلزم الوضوء منه، وأما الثالث فالودي وهو : ماء أبيض خاثر يخرج بعد البول غالباً، وربما خرج قبله، ويكثر عند متعاطي القات، ولا علاقة له بالشهوة، ولا يلزم منه إلا ما يلزم من البول.
([9]) أخرجه مسلم في صحيحه من حديث علي بن أبي طالب
([10]) سورة المدثر, الآية (4).
__________________
قال سفيان بن عيينة رحمه الله : ( من جهل قدر الرّجال فهو بنفسه أجهل ).


قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله- كما في «مجموع الفتاوى»:

«.من لم يقبل الحقَّ: ابتلاه الله بقَبول الباطل».

وهذا من الشواهد الشعرية التي إستشهد بها الشيخ عبد المحسن العباد في كتابه
رفقا أهل السنة ص (16)
كتبتُ وقد أيقنتُ يوم كتابتِي ... بأنَّ يدي تفنَى ويبقى كتابُها
فإن عملَت خيراً ستُجزى بمثله ... وإن عملت شرًّا عليَّ حسابُها
رد مع اقتباس
  #10  
قديم 01-20-2018, 09:21 PM
ابوخزيمة الفضلي ابوخزيمة الفضلي غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: May 2012
المشاركات: 1,952
افتراضي تقسيم الطهارة إلى معنوية وحسية

التمهيد الثاني لكتاب الطهارة
(ضمن دورة الفقه الإسلامي وأدلته)
الحلقة (10)
بقلم الدكتور : صادق بن محمد البيضاني

تقسيم الطهارة إلى معنوية وحسية
تنقسم الطهارة من حيث الأصل والفرع إلى : طهارة أصلية وطهارة فرعية.
أولاً الطهارة الأصلية : وهي الطهارة المعنوية، ويُقصد بها طهارة القلب والعمل من الشرك والكبائر وصغائر الذنوب والمحقرات، وهذه الطهارة هي المقصودة من قول الله عز وجل: "يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ"([1]), أي خالي من الشرك وأدران المعصية.
ولا يمكن للإنسان أن يكون مسلمًا حتى يتطهر بهذه الطهارة وإلا فهو نجس, ولذا قال الله عز وجل: "إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ"([2]), لأنهم لم يتطهروا بترك الوثنية والأصنام والشرك عامة, وقد يكون المرء مسلمًا لكنه متشبثٌ بنجاسة معنوية، كأن يكون ممن يأتي بالكبائر أو يصر على الصغائر ومحقرات الذنوب.
ثانياً الطهارة الفرعية المسماة بالطهارة الحسية : وهي المقصودة إذا أطلقت في الفقه الإسلامي, وهي حكماً توجب الغسل أو الوضوء، وأما حداً فهي : ما كانت لرفع خبث أو ازالة حدث, كما تقدم في الحلقة السابقة، وهي المقصودة بهذا الكتاب.
أسباب تقديم الفقهاء لكتاب الطهارة على باقي الكتب كالصلاة والصوم وغيرهما عند تأليفهم أو تدريسهم للفقه
تعود أسباب هذا التقديم إلى التالي :
السبب الأول : أن الطهارة هي الأصل في الإسلام، ولذلك لا يكون الرجل مسلمًا حتى يتطهر بالطهارة المعنوية من الشرك والوثنية، وتكون بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله مع العمل بما تضمنته هذه الشهادة من الأحكام.
السبب الثاني : أن الطهارة هي الشرط الأساسي لصحة الصلاة بعد الشهادتين؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ"([3]), وعليه إذا بدأ الشخص مثلًا بدراسة أحكام الصلاة فلن يستطيع أن يصلي حتى يعرف أحكام الطهارة، وبذا يظهر أهمية تقديمها.
السبب الثالث : أن هذه سنة قديمة اعتادها الفقهاء إذا ألفوا في الفقه الإسلامي أن يبدأوا بكتاب الطهارة, وإذا فتشت في كتب الفقه والفروع فلن تجد الفقهاء يبدؤون بكتاب الصلاة إلا ما ندر، وإلا فالأصل أنهم سيبدأون بما بدأ الله به، فالله بدأ بالطهارة من الشرك والوثنية؛ يعني بالتوحيد، وهذه هي دعوة الرسل لطهارة القلوب من الوثنية والشرك والذنوب بجميع أنواعها، ومن هنا صارت الطهارة الحسية فرعًاً عن الطهارة المعنوية الأصلية.
السبب الرابع : الإشارة إلى أنه ينبغي لطلاب العلم وأيضًا لغيرهم إذا أقبلوا إلى طلب العلم والفقه في الدين فإنه يلزمهم الاخلاص المتضمن تطهير القلوب من درن المعصية، فإن القلب إذا تطهر منها أفلح في الدنيا والآخرة.
أهمية الطهارة
للطهارة أهمية عظمى في الإسلام، تتلخص في التالي :
الأهمية الأولى : أن الطهارة هي الأصل في الدين، فلا دين إلا بطهارة, ولذلك بدأت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بطهارة الناس من الوثنية والشرك, فصارت هذه الأهمية عظيمة بالنسبة للمسلمين في الفقه الإسلامي.
الأهمية الثانية : أن الطهارة تدعو المسلم إلى الصفاء والنقاء, بالتطهر من جميع الذنوب كالغيبة والنميمة والكذب والظلم ونحوها من الأمور المعنوية, وفي هذا الباب يقول النبي عليه الصلاة والسلام للصحابة كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة: "أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ([4]) شَىْءٌ", قَالُوا: لاَ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَىْءٌ, قَالَ: "فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا"([5]), كما دعانا الدين إلى التطهر من الأدناس الحسية، قال تعالى : "وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ"([6]).
الأهمية الثالثة : أن الدين الإسلامي يجعل من المسلم قدوة حسنة ومثالًا يحتذى به, وهناك قصة عجيبة حدثني بها أحد أصدقائي قديما وهو الأخ الشاعر" محمد بن عبد الله بن عبد الحق المطري" حيث قال : هناك رجل أجنبي نصراني عنده مغسلة ثياب في بريطانيا، يقول هذا الأجنبي : أنا أتعجب عندما تأتيني ثياب داخلية من المسلمين لا يكون فيها قذر كالثياب الداخلية من غير المسلمين, فقال له أحد المسلمين: لأن الدين يأمرنا بالنظافة في كل شيء، بحيث يلزم المسلم أن يكون على نظافة وطهارة في جميع أحواله ليكون قدوة لغيره, فقال الأجنبي: أهكذا الإسلام يعلمكم؟! فقال المسلم : نعم, فأسلم الأجنبي.
وفق الله الجميع لطاعته، وألهمهم رشدهم.
__________________
قال سفيان بن عيينة رحمه الله : ( من جهل قدر الرّجال فهو بنفسه أجهل ).


قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله- كما في «مجموع الفتاوى»:

«.من لم يقبل الحقَّ: ابتلاه الله بقَبول الباطل».

وهذا من الشواهد الشعرية التي إستشهد بها الشيخ عبد المحسن العباد في كتابه
رفقا أهل السنة ص (16)
كتبتُ وقد أيقنتُ يوم كتابتِي ... بأنَّ يدي تفنَى ويبقى كتابُها
فإن عملَت خيراً ستُجزى بمثله ... وإن عملت شرًّا عليَّ حسابُها
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:16 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.