أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا

             
69704 89571

العودة   {منتديات كل السلفيين} > منابر الأخوات - للنساء فقط > منبر اللغة والأدب و الشعر - للنساء فقط

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #21  
قديم 05-14-2012, 11:24 PM
أم عبدالله نجلاء الصالح أم عبدالله نجلاء الصالح غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: عمّـــان الأردن
المشاركات: 2,647
افتراضي شرح منظومة أصول الفقه لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله تعالى ـ.

شرح منظومة أصول الفقه

تتمـــــّـــــــة.

12 ـ
ومعْ تساوِي ضَرَرٍ ومَنْفَعَهْ *** يكونُ ممنوعاً لدَرْءِ المفْسَدَهْ.

يعني: إذا اجتمع في الشيء الضرر والنفع، فهو من جانب النفع مشروع، ومن جانب الضرر ممنوع.
فإن ترجّح أحدهما فالحكم له، وعلى هذا يكون ما غلب نفعه مباحاً، وما غلب ضرره ممنوعاً، لكن إذا تساوت المنفعة والضرر، فهل نتوقف أو نمنع أو نبيح؟.

الجواب: نقول: النفع محتمل، والضرر محتمل، إذاً لنسلك سبيل السلامة، وسبيل السلامة أن نمنع هذا وهذا.

فإذا جاء شخص وقال: إن هذا الدواء أو هذا الطعام يتساوى فيه المنفعة والمضرة.
قلنا: هذا ممنوع لدرء المفسدة، لأن درء المفسدة أولى من جلب المنفعة، وفي هذا يقول العلماء، عن هذه القاعدة: درء المفاسد أولى من جلب المصالح، وذلك لأن المفسدة المساوية للمصلحة، والمضرة المساوية للمنفعة، قد تغلب وتزيد على المصلحة في المستقبل، لأن خبثها قد يؤثر على القلب وعلى العمل فيحصل بذلك الشر، وهذا القيد الذي ذكرناه وهو التساوي قيد لا بد منه.

فالأحوال ثلاث: ترجح المنفعة فيؤخذ بها، وترجح المفسدة فتمنع، وتساويهما فتمنع درأ للمفسدة.
والدليل على هذه المسألة قوله - تعالى - : {{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}} [البقرة: 219] . إثم واحد،
ومنافع كثيرة، لكن الإثم وصف بأنه كبير، والمنافع وصفت بأنها كثيرة، لأن المنافع على صيغة منتهى الجموع، لكن الضرر أكبر من النفع، والمعنى يدل عليه، وهو أن ما كان مشتملاً على مضرة ولا يمكن اجتنابه إلا باجتناب ما فيه من المنفعة فإنه يجب اجتنابه، يعني إذا كان لا يمكن ترك الضار إلا بترك النافع فالأجدر والأولى اجتنابه، وقد أشارت النصوص إلى هذا، وذلك فيمن قتل صيداً فوقع في ماء فإنه يتركه لأنه لا يدري آلماء قتله أم السهم.
أما إذا كان الشيء فيه منفعة أكبر من المضرة فإنه مباح.

مثال ذلك: لو وصف للإنسان دواء هو سم، لكن فيه منفعة إذا تناول الشيء اليسير منه بقدر معلوم، فهو مباح، مثل ما قال الفقهاء في السَّقمُونْيا.
والسَّقمُونْيا فيها نوع من السم، تقتل جراثيم معيّنة، وتوصف لمرض معيّن، لكنها لا تضر الضرر الذي يساوي المنفعة، بل ضررها قليل بالنسبة للمنفعة، فنقول: إنها جائزة.

كذلك أيضاً في المعاني لو كان الإنسان إذا تكلم بكلمة انتفع بها أناس وتضرر بها أناس دونهم، فالحكم للأكثر، فإن تضرّر بها أكثر الناس منعناه، وإن تساوى الأمران سلكنا باب السلامة وهو المنع.
قوله: (يكون ممنوعاً لدرء المفسدة) : اللام للتعليل، أي: لأجل درء المفسدة الحاصلة بالمضرة.


يُتبع - إن شاء الله -تعالى -.
__________________
يقول الله - تعالى - : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون} [سورة الأعراف :96].

قال العلامة السعدي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية الكريمة : [... {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا} بقلوبهم إيمانًاً صادقاً صدقته الأعمال، واستعملوا تقوى الله - تعالى - ظاهرًا وباطنًا بترك جميع ما حرَّم الله؛ لفتح عليهم بركات من السماء والارض، فأرسل السماء عليهم مدرارا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم في أخصب عيشٍ وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كدٍّ ولا نصب ... ] اهـ.
رد مع اقتباس
  #22  
قديم 05-14-2012, 11:42 PM
أم عبدالله نجلاء الصالح أم عبدالله نجلاء الصالح غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: عمّـــان الأردن
المشاركات: 2,647
افتراضي شرح منظومة أصول الفقه لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله تعالى ـ.

شرح منظومة أصول الفقه

تتمـــــّـــــــة.

13 ـ وكلُّ ما كَلَّفَهُ قد يُسِّرَا *** من أَصْلِهِ وعند عارضٍ طَرَا.

قوله: (كل ما كلفه) : ضمير الفاعل يعود على الشرع، أي كل شيء كلف الشرع به العباد من هذا الدين فإنه ميسّر، ودليل هذه القاعدة قوله تبارك وتعالى: {{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}} [الحج: 78] وحين ذكر أحكام الصيام مع مشقته.
قال: {{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}} [البقرة: 185].
وهذه الإرادة: هي الإرادة الشرعية، يعني : أن الله تعالى شرع الدين تيسيراً عليكم.
وقال الله - تبارك وتعالى - : {{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ}} [المائدة: 6] وقال النبي - صلّى الله عليه وسلّم - : «إن الدين يسر، ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه» [(42)]. وكان - صلّى الله عليه وسلّم - يبعث البعوث ويقول : «يسّروا ولا تعسّروا، وبشّروا ولا تُنَفِّروا»[(43)].
ويقول - صلّى الله عليه وسلّم - : «فإنما بعثتم ميسّرين ولم تبعثوا معسّرين» [(44)].
كل هذا يدل على أن الدين يسر. فكل شيء كلّف الله به العباد فإنه ميسّر من أصله.ومن الأمثلة على ذلك:

المثال الأول: الصلوات الخمس التي هي أمّ العبادات العملية، فالصلوات الخمس يسيرة:
لو أنك ضممت بعضها إلى بعض لاستغرقت منك خمساً وسبعين دقيقة، لكل صلاة عشر دقائق، ولكل وضوء خمس دقائق. فهي يسيرة بالنسبة لليوم الكامل، وميسّرة من جهة أخرى، أنها وزّعت على أربع وعشرين ساعة، وأن أكثرها في الوقت الذي يكون فيه الناس مستيقظين.
المثال الثاني: الحق الواجب في الزكاة واحد في الأربعين في عروض التجارة، وفي الذهب والفضة، وهو سهل ليس فيه صعوبة أبداً. ومع ذلك ففيها تسهيلات أخرى: فليس كل الأموال تجب فيها الزكاة، فالمال الذي يحتاجه الإنسان لنفسه ما عدا الذهب والفضة ليس فيه زكاة. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة» [(45)].
المثال الثالث: الصوم يسير في الحقيقة، فهو شهر واحد من اثني عشر شهراً؛ فأحد عشر جزءاً من اثني عشر جزءاً يكون فيها الإنسان طليقاً يأكل ويشرب ويتمتع بالنساء كما شاء، ومع ذلك هذا الواحد من الاثني عشر نصفه إفطار وذلك في الليل، فهو إذاً ميسّر، والحمد لله.
المثال الرابع: الحج وقد نص فيه بالذات على الاستطاعة. قال تعالى: {{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}} [آل عمران: 97] لأن المشقة في الحج متوقعة في الوصول إلى مكة، وفي أداء المناسك، فكل ما شرعه الله فهو ميسّر من أصله.
قوله: (وعند عارض طرا) : حتى الذي ميسّر من أصله، إذا طرأ عارض يكون هناك تيسير آخر. ولنضرب لذلك أمثلة:
الأول في الطهارة: يجب على الإنسان أن يتطهر بالماء سواء كان عن حدثٍ أصغر أم عن حدثٍ أكبر، فإن كان مريضاً ويخشى على نفسه، فإنه يتيمّم، ودليل ذلك آية الطهارة في سورة المائدة: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ *}} [المائدة: 6] .

فأوجب الله الطهارة بالماء، فإذا كان الإنسان مريضاً، وخاف على نفسه من زيادة المرض أو تأخر البرء وكان يتضرر بالماء فإنه يتيمّم.
وفي الحديث الصحيح: «أن عمرو بن العاص -رضي الله عنه - بعثه النبي - صلّى الله عليه وسلّم - في سرية فأجنب وكانت الليلة باردة، فتيمّم وصلّى بأصحابه، فقال له النبي - صلّى الله عليه وسلّم - : «أصلّيت بأصحابك وأنت جنب؟!» قال: يا رسول الله، ذكرت قول الله - تعالى - : {{وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}} [النساء: 29] . فضحك النبي - صلّى الله عليه وسلّم - تقريراً لفعله» [(46)].
المثال الثاني في الصلاة: يجب على الإنسان أن يصلّي الفريضة قائماً، فإن لم يستطع فقد قال النبي - صلّى الله عليه - وسلّم لعمران بن الحصين رضي الله عنهما: «صلّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع، فعلى جنب» [(47)].
المثال الثالث في الزكاة: إذا كانت أموال الإنسان ليست بيده، فلا يجب عليه أن يستقرض ليزكّي، بل تبقى الزكاة في ذمته حتى يحصل على الأموال، فإذا كان للإنسان ديون في ذمم الناس الموسرين قلنا: عليك الزكاة، لكن لا نلزمك أن تخرجها وأنت لم تقبضها، لك أن تؤخر الإخراج إلى القبض، وإذا كان عنده غنمٌ وضلّت، فلا زكاة فيها، لكن إن عادت إليه ففيها زكاةٌ فوراً عند بعض العلماء، أو يبتدئ حولاً جديداً عند علماء آخرين.
المثال الرابع في الصوم: يجب على الإنسان أن يصوم رمضان فإن كان مريضاً فله أن يؤخر الصوم حتى يبرأ، وكذلك إذا كان مسافراً، لأن المسافر يشق عليه الصوم في الغالب، دليل ذلك قوله تعالى: {{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}} [البقرة: 185] .
فيسّر الله على المريض والمسافر، إذا أتى عليهما رمضان، أن يؤخّرا الصوم حتى ينتهي عذرهما، وهذا لا شك أنه تيسير.
وثمة تيسير آخر: إذا كان لا يستطيع أن يصوم لمرض لا يرجى زواله أو لكبر، فإنه يطعم عن كل يوم مسكيناً، هذا التيسير الذي تكرر مرتين في الصوم منشؤه أن الدين يسر من أصله، أو عند العارض الطارئ.
المثال الخامس في الحج: يجب على الإنسان أن يؤدي الحج بنفسه إذا كان مستطيعاً، فإن لم يستطع، وكان عنده مال يمكنه أن ينيب به من يحج عنه، وكان لا يرجى زوال علّته، فإنه يقيم من يحج عنه، ويجزئه عن فريضة الإسلام. فقد جاءت امرأة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم تسأله تقول: إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: «نعم، حجّي عنه» [(48)] هذا أيضاً تيسير.
المثال السادس في النفقات: قال تعالى: {{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ}} [الطلاق: 7] .
وعلى هذا فكل ما في الشرع فإنه ميسّر من أصله، أو عندما يطرأ العارض المقتضي للتيسير.


يُتبع - إن شاء الله -تعالى -.
_______

ـ[42] أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب الدين يسر (39)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
ـ[43] رواه البخاري في كتاب العلم، باب ما كان النبي - صلّى الله عليه وسلّم - يتخوّلهم بالموعظة... (69)، ومسلم في كتاب الجهاد والسير، باب الأمر بالتيسير وترك التنفير (1734/8)، من حديث أنس - رضي الله عنه -. إلا أن الجملة الثانية عنده بلفظ: «وسكّنوا ولا تنفّروا».
ـ[44] أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب صب الماء على البول في المسجد (217)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه -، وفيه قصة الأعرابي الذي بال في المسجد.
ـ[45] أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب ليس على المسلم في عبده صدقة (1365)، ومسلم في كتاب الزكاة، باب لا زكاة على المسلم في عبده وفرسه (982/8)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
ـ[46] سبق تخريجه ص56.
ـ[47] أخرجه البخاري في كتاب تقصير الصلاة، باب إذا لم يطق قاعداً صلّى على جنب (1066)، من حديث عمران بن الحصين - رضي الله عنهما -.
ـ[48] أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب وجوب الحج وفضله (1442)، ومسلم في كتاب الحج، باب الحج عن العاجز لزمانة وهرم... (1334/407)، من حديث عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -.


يُتبع - إن شاء الله -تعالى -.
__________________
يقول الله - تعالى - : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون} [سورة الأعراف :96].

قال العلامة السعدي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية الكريمة : [... {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا} بقلوبهم إيمانًاً صادقاً صدقته الأعمال، واستعملوا تقوى الله - تعالى - ظاهرًا وباطنًا بترك جميع ما حرَّم الله؛ لفتح عليهم بركات من السماء والارض، فأرسل السماء عليهم مدرارا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم في أخصب عيشٍ وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كدٍّ ولا نصب ... ] اهـ.
رد مع اقتباس
  #23  
قديم 05-15-2012, 12:44 AM
أم عبدالله نجلاء الصالح أم عبدالله نجلاء الصالح غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: عمّـــان الأردن
المشاركات: 2,647
افتراضي شرح منظومة أصول الفقه لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله تعالى ـ.

شرح منظومة أصول الفقه

تتمـــــّـــــــة.

14 ـ
فاجلبْ لتيسيرٍ بكلِّ ذي شَطَطْ *** فليس في الدينِ الحنيفِ من شَطَطْ

وهذه القاعدة فرع من فروع القاعدة السابقة.
يعني: إذا وجد الشطط وهو المشقة فإنك تأتي بالتيسير.
قوله: (اجلب لتيسيرٍ) : يعني: اطلب تيسيراً لكل ذي شطط أي: لكل ما هو متعب. كلما وجدت تعباً في عبادة فَيَسِّر وهذه مأخوذة من الآيات التي ذكرناها في أول القاعدة {{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}} [البقرة: 185] {{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}} [الحج: 78] {{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ}} [المائدة: 6] .

ولهذا قال بعض العلماء معبّراً عن هذه القاعدة: المشقة تجلب التيسير. وقال بعضهم: كلما ضاق الأمر اتسع.
لكن العبارة التي ذكرنا في النظم والتي بعدها أحسن من الأخيرة، لأنك إذا قلت: كلما ضاق الأمر اتسع، كان بين العبارتين تضاد، لكن إذا قلت: المشقة تجلب التيسير، صار الكلام سلساً، ولا تناقض فيه، لا ظاهراً ولا خفياً.
قوله: (فليس في الدين الحنيف من شطط) : «من» حرف جر زائد و«شطط» اسم «ليس»، فليس في الدين الحنيف؛ ـ وهو دين النبي صلّى الله عليه وسلّم ـ، والحنيف يعني: الكامل المستقيم الذي ليس فيه اعوجاج، ليس فيه من شطط، أي تعب على النفس، بل كله ميسّر، أما الشرائع السابقة ففيها أمور شاقة.
قال - تعالى - في وصف النبي - صلّى الله عليه وسلّم - : {{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}} [الأعراف: 157] .
وكل إنسان يعرف هذه القاعدة، وأنها هي روح الإسلام.

ومما ينبني على هذه القاعدة من الفروع: إذا اختلف مفتيان على قولين، هل يأخذ بأيسرهما قولاً أو بأشدهما، أو يخيّر؟
يعني إذا استفتى الإنسان عالمين، كلاهما أهل للفتوى، واختلفا، فإن تساويا عنده في العلم والدين فللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه يأخذ بالأشد، لأنه أحوط وأبرأ للذمة.
والقول الثاني: أنه يأخذ بالأيسر، لأنه أقرب إلى مقاصد الشريعة، ولأن الأصل براءة الذمة فلا نلزم عباد الله إلا بما نتيقن أن الله ألزمهم به.
والقول الثالث: أنه يخيّر، لتعارض العلّتين.

والأقرب عندي أنه يأخذ بالأيسر، لأنه أقرب إلى روح الشريعة، اللهم إلا أن لا تطمئن النفس إليه فحينئذ يأخذ بالأشد الذي تطمئن نفسه إليه، ولهذا قال النبي - صلّى الله عليه وسلّم - : «البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما تردد في الصدر» [(49)].
وكذلك لو تعارضت النصوص عندك على وجهين: أحدهما أشد والثاني أخف، فخذ بالأخف، لأن الأصل براءة الذمة، واليسر هو روح الدين الإسلامي.

_________

ـ[49] رواه الإمام أحمد (4/228)، والبخاري في «التاريخ الكبير» (1/144)، والدارمي (3533)، وأبو يعلى (1586 ـ 1587)، وغيرهم من حديث وابصة بن معبد - رضي الله عنه -.
__________________
يقول الله - تعالى - : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون} [سورة الأعراف :96].

قال العلامة السعدي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية الكريمة : [... {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا} بقلوبهم إيمانًاً صادقاً صدقته الأعمال، واستعملوا تقوى الله - تعالى - ظاهرًا وباطنًا بترك جميع ما حرَّم الله؛ لفتح عليهم بركات من السماء والارض، فأرسل السماء عليهم مدرارا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم في أخصب عيشٍ وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كدٍّ ولا نصب ... ] اهـ.
رد مع اقتباس
  #24  
قديم 05-15-2012, 08:35 PM
أم عبدالله نجلاء الصالح أم عبدالله نجلاء الصالح غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: عمّـــان الأردن
المشاركات: 2,647
افتراضي شرح منظومة أصول الفقه لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله تعالى ـ.

شرح منظومة أصول الفقه

تتمـــــّـــــــة.

ثم قال في سياق هذه القاعدة العظيمة أن الدين مبني على التيسير والسهولة:

15 ـ وما استطعت افعلْ من المأمورِ *** واجْتَنِبِ الكلَّ مِنَ المحظورِ.

قوله: (ما) : اسم موصول مفعول مقدم لقوله: (افعل) يعني: وافعل ما استطعت من المأمور. وإنما قلنا بهذا الإعراب لأن (ما) لو جعلت شرطية لوجب قرن الفعل (افعل) بالفاء.

فالمأمور يفعل منه الإنسان ما استطاع، لقول الله - تعالى - : {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] .
وقال - تعالى - : {{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ *أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ *}{وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}} [المؤمنون: 60 ـ 62] .

ولقول النبي - صلّى الله عليه وسلّم : «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» [(50)]. فدل ذلك على أن المأمورات يجب فعل ما استطاع الإنسان منها.
أما المحظور فإننا نجتنبه كله بدون شرط ولا قيد، لأن الاجتناب ليس فيه مشقة، إنما هو ترك شيء، فإذا ترك الإنسان الشيء فلا ضرر عليه، يؤخذ هذا من قول الله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *}} [المائدة: 90] الأمر بالاجتناب هنا أمر باجتناب أي جزء من أجزاء الخمر قلّ أو كَثُرَ. ولقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «وما نهيتكم عنه فاجتنبوه» [(51)]. فيترك كله وهذا دليل من الأثر.

أما الدليل من النظر: فلأن المأمور به فعل وإيجاد، والفعل والإيجاد قد لا يتسنى للإنسان أن يقوم به، لأن فيه كلفةً وعناء، فلهذا نقول له: افعل ما استطعت. وأما المحظور فهو ترك، والترك سهل، فإذا فعل منه شيئاً فقد أتى بالمفسدة المترتبة على فعل هذا المحظور، لكن ليس المفسدة كلها بل بجزءٍ منها، لأن المحظور كله مفسدة، فإذا فعلت شيئاً منه فقد حصلت لك مفسدة بقدر ما فعلت من المحظور.

فالامتثال بالنسبة للمحظور لا يتم إلا باجتناب جميع المحظور، والامتثال بالنسبة للمأمور يحصل بفعل ما يستطيع منه، فالمأمور كله مصلحة، فإن تمكنت من الإتيان به تمت المصلحة، وإن أتيت ببعضه حصل من المصلحة بقدر ما فعلت.

فإذا قلت لك مثلاً: لا تأكل هذا القرص من الخبز. فإذا أكلت كل القرص فأنت واقع في النهي، وقد حصلت لك جميع المفسدة المترتبة على هذا المحظور. وإن أكلت بعضه فقد وقعت في النهي كذلك، وحصل لك من المفسدة بقدر ما أكلت.

والمفسدة محظورة قلّت أم كَثُرت.

لكن المأمور تفعل منه ما تستطيع؛ فإذا قلتُ: كُلْ هذا القرص فإذا أكلتَه كلَّه حصلت لك المصلحة كلها، وإن أكلتَ بعضه، حصل لك مصلحة بقدر ما أكلت. والمصلحة مطلوبة قلّت أم كَثُرت.

فإذا قال قائل : ألا ينتقض علينا ذلك بما لو اضطر إلى أكل الميتة فأكل ؟.
فالجواب: أنه لا يرِدُ علينا، لأنه إذا اضطر إلى أكل الميتة انقلب التحريم إلى تحليل، وصارت حلالاً فلا يضر. قال الله تعالى: {{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}} [الأنعام: 119] .
يعني: فإنه ليس فيه تحريم، وعلى هذا فلا يكون ما يفعل من المحرم عند الضرورة حراماً، بل هو حلال مباح.

________

ـ[50] هو قطعة من حديث رواه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة، باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - (6858)، ومسلم في كتاب الحــج، باب فرض الحـج مرة في العمر
(1337/412)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
ـ[51] هو قطعة من الحديث السابق.


يُتبع - إن شاء الله تعالى-.
__________________
يقول الله - تعالى - : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون} [سورة الأعراف :96].

قال العلامة السعدي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية الكريمة : [... {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا} بقلوبهم إيمانًاً صادقاً صدقته الأعمال، واستعملوا تقوى الله - تعالى - ظاهرًا وباطنًا بترك جميع ما حرَّم الله؛ لفتح عليهم بركات من السماء والارض، فأرسل السماء عليهم مدرارا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم في أخصب عيشٍ وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كدٍّ ولا نصب ... ] اهـ.
رد مع اقتباس
  #25  
قديم 05-16-2012, 02:57 AM
أم عبدالله نجلاء الصالح أم عبدالله نجلاء الصالح غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: عمّـــان الأردن
المشاركات: 2,647
افتراضي شرح منظومة أصول الفقه لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله تعالى ـ.

شرح منظومة أصول الفقه

تتمـــــّـــــــة.

16 ـ والشرعُ لا يلزمُ قبلَ العلمِ *** دليلُهُ فعلُ المُسِي فافْتِهِم.

هذه أيضاً قاعدة مهمة جداً وهي: هل تلزم الشرائع قبل العلم؟.

الجواب:
في هذا خلاف بين العلماء؛ فمنهم من قال: تلزم في الأصول، ولا تلزم في الفروع. ومنهم من قال: بل تلزم في الجميع، ومنهم من قال: لا تلزم في الجميع.

والصحيح: أن الشرائع لا تلزم قبل العلم. وأن الإنسان قبل العلم غير مكلّف بها، وقد دل على هذا أدلة عامة وخاصة:

أما الأدلة العامة فمثل قوله تعالى: {{رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}} [النساء: 165] ففي هذه الآية دليل على أنه لو عدم الرسل لكان للناس على الله حجة؛ حيث يقولون: يا ربنا إننا لم نعلم، لم ترسل إلينا رسلاً. وهذا هو الدليل الأول.
الدليل الثاني: قوله - تعالى - : {{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ *}} [القصص: 59] .
الدليل الثالث: قوله - تعالى - : {{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ *}} [هود: 117] .
الدليل الرابع: قوله - تعالى - : {{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}} [الإسراء: 15] .
الدليل الخامس: قوله - تعالى - : {{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ}} [التوبة: 115] أي: ما كان الله ليحكم بضلالهم فيؤاخذهم عليه حتى يبيّن لهم ما يتقون. والآيات في هذا كثيرة.

أما الأدلة الخاصة: فقد استدل الناظم بفعل المسيء في صلاته.
وقد اشتهر عند العلماء ـ رحمهم الله ـ أن هذا الرجل وصف بأنه مسيء في صلاته مع أنه لم يتعمد، ولم يقصد، فيقال: لا يلزم من الإساءة الإثم، أي قد يكون الفعل سيئاً غير صالح لكن لا يأثم به صاحبه لوجود مانع، ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر» فالخطأ هنا إساءة، لكن لما كان صادراً عن اجتهاد لم يؤاخذ به مع أنه خطأ، فيجوز أن نقول: هذا الرجل مسيء في صلاته؛ لأنه لم يأت بها على الوجه المشروع، وإن كان لا إثم عليه. وذلك فيما رواه الشيخان [(52)] عن أبي هريرة - رضي الله عنه - : أن رجلاً دخل المسجد، والنبي - صلّى الله عليه وسلّم - جالس في أصحابه فصلّى صلاة لا يطمئن فيها، ثم جاء فسلم على النبي - صلّى الله عليه وسلّم - فرد عليه السلام، وقال له: «ارجع فصلّ، فإنك لم تصلّ»، فرجع الرجل فصلى كما صلى أولاً.

أي: صلاة لا يطمئن فيها، ثم جاء فسلم على النبي - صلّى الله عليه وسلّم - فقال: «ارجع فصلّ فإنك لم تصلّ»، فرجع الرجل وصلّى كصلاته الأولى، فعل ذلك ثلاث مرات، ثم قال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلّمني. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر، ثم اقرأ ما تيسّر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تطمئن قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها».
ولم يأمره النبي - صلّى الله عليه وسلّم - بقضاء ما سبق من الصلاة لأنه كان جاهلاً بأن الطمأنينة ركن من أركان الصلاة. فقد أقسم أنه لا يحسن غير هذا، وإنما أمره أن يعيد الصلاة الحاضرة لأن وقتها باق، فهو مطالب بها.
دليل ثان: أرسل النبي - صلّى الله عليه وسلّم - عمار بن ياسر وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - في حاجة فأجنب عمار وليس عنده ماء، فتمرّغ في الصعيد كما تتمرغ الدابة يعني: تقلّب فيه، ثم صلّى فجاء إلى النبي - صلّى الله عليه وسلّم - فأخبره فقال له: «إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا»، وضرب بيده الأرض ثم مسح بهما وجهه وظاهر كفيه [(53)]، ولم يأمره النبي بالإعادة مع أنه تيمّم تيممّاً غير مجزئ، لكن لجهله عذره النبي - صلّى الله عليه وسلم -.
دليل ثالث: جاءت امرأة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: يا رسول الله، إني استحاض حيضة شديدة تمنعني الصلاة والصيام، وكانت لا تصلّي وهي مستحاضة، فبيّن لها النبي - صلّى الله عليه وسلّم - أن الواجب عليها أن تجلس أيام عادتها فقط، ثم تصلّي [(54)]، ولم يأمرها بقضاء الصلاة لأنها كانت جاهلة.

وبناء على هذه القاعدة نقول: إن من ترك واجباً دون أن يطرأ على قلبه وجوبه، وليس عنده من يسأله فلا قضاء عليه بلا إشكال، ويكثر هذا في النساء؛ يبلغن في زمن مبكر، ثم يتركن الصيام ظناً منهن أن الصوم لا يجب إلا بعد تمام خمس عشرة سنة، فهل نطبق هذا على القاعدة؟.

الجواب: نعم، نطبقه على القاعدة، ونقول: ما دامت هذه المرأة لم يطرأ على بالها أن الصوم واجب، وهي في محل بعيد عن العلماء، كالنساء اللاتي في البوادي، فإننا لا نأمرها بقضاء الصوم، لأنها معذورة، والشرع لا يلزم قبل العلم.

ولهذا قال العلماء- رحمهم الله - : لو أن إنساناً أسلم في ناحية بعيدة عن بلاد الإسلام، وترك شيئاً من الواجبات، أو أتى شيئاً من المحرمات، أو أنكر شيئاً من المعلوم بالضرورة من الدين، فإنه لا يؤاخذ بذلك لأنه معذور.

________

ـ[52] هو عند البخاري في كتاب الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلاة كلها... (724)، ومسلم في كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة... (397/45).
ـ[53] أخرجه البخاري في كتاب التيمّم، باب المتيمّم هل ينفخ فيهما (331)، ومسلم في كتاب الحيض، باب التيمّم (368/112 ـ 113)، من حديث عبد الرحمن بن أبزى - رضي الله عنه- بنحوه.
ـ[54] أقرب ما وجدت للفظ الحديث ما رواه أبو داود في كتاب الطهارة، باب من قال: إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة (287)، والترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في المستحاضة أنها تجمع بين الصلاتين بغسل واحد (128)، من حديث حمنة بنت جحش -رضي الله عنها -، وهو حديث حسن صحيح.
ومعناه عند البخاري في كتاب الوضوء، باب غسل الدم (226)، ومسلم في كتاب الحيض، باب المستحاضة وغسلها وصلاتها (333/62)، من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: «جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلّى الله عليه وسلّم - ...» فذكرت نحوه.
__________________
يقول الله - تعالى - : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون} [سورة الأعراف :96].

قال العلامة السعدي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية الكريمة : [... {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا} بقلوبهم إيمانًاً صادقاً صدقته الأعمال، واستعملوا تقوى الله - تعالى - ظاهرًا وباطنًا بترك جميع ما حرَّم الله؛ لفتح عليهم بركات من السماء والارض، فأرسل السماء عليهم مدرارا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم في أخصب عيشٍ وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كدٍّ ولا نصب ... ] اهـ.
رد مع اقتباس
  #26  
قديم 05-16-2012, 03:02 AM
أم عبدالله نجلاء الصالح أم عبدالله نجلاء الصالح غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: عمّـــان الأردن
المشاركات: 2,647
افتراضي شرح منظومة أصول الفقه لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله تعالى ـ.

شرح منظومة أصول الفقه

تتمـــــّـــــــة.


ثم استدرك الناظم في هذه المسألة فقال:

17 ـ لكنْ إذا فَرَّطَ في التعلُّمِ *** فذا مَحَلُّ نظرٍ فلْتَعْلَمِ.

إذا فرط الجاهل في التعلُّم بأن أمكنه أن يتعلم شرائع الإسلام ولكنه تهاون وفرط، فهنا قد لا نعذره بجهله، لأنه أمكنه أن يرفع هذا الجهل بالتعلُّم، ولم يفعل، فهذا محل نظر.

وإذا قلنا: إنه محل نظر، صار معناه: أننا لا نعطي قاعدة عامة، بل نطبق الحكم في كل قضية بعينها بما يتناسب مع الحال الواقعة.
فإذا جاءنا شخص عرفنا أنه مفرط في التعلُّم، لكن بناءً على أن المعروف عندهم وفي بلدهم أن هذا الشيء مباح، أو أن هذا الشيء ليس بواجب، فهذا لا نلزمه بقضاء ما ترك، لأنه لم يطرأ على باله إطلاقاً أن هذا واجب.

أما إذا كان في مكان يمكن أن يتعلّم، وربما يكون في مكان قد شاع عند الناس أنه واجب، ولكنه تهاون، وقال كما يقول العامة: لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم، فإننا نلزمه بقضاء ما ترك، لأن العذر هنا في حقه قد تضاءل. وهذا الذي قلناه في هذا النظم هو ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله في الاختيارات في أول كتاب الصلاة وهو قول وجيه[(55)].

مثال ذلك: رجل احتلم وله ثلاث عشرة سنة، ولكنه لا يصلّي ولا يصوم بناءً على ظنه أنه لا يبلغ إلا إذا تم له خمس عشرة سنة، فهل نلزمه بقضاء الصوم والصلاة أو لا؟.

الجواب: ينبني على ما سبق، إذا كان جاهلاً جهلاً مطبقاً لا يدري عن شيء، فإننا لا نأمره بقضاء ما فاته، وأما إذا كان مفرطاً فإن هذا محل نظر.

ـ لو أن هذا الرجل الذي بلغ ثلاث عشرة سنة ولم يكن يغتسل من الجنابة، ويصلّي بلا اغتسال، فهل نلزمه بإعادة الصلاة؟؟

الجواب على القاعدة: نقول: ما دام هذا الرجل جاهلاً جهلاً مطبقاً، ولم يخطر بباله أن هذا واجب، فإننا لا نأمره بقضاء الصلاة، لأن بعض الناس عنده جهل عظيم: يظن أن حصول الجنابة بالإنزال، كخروج البول، لا يوجب غسلاً.

ـ لو أن رجلاً جامع امرأته في نهار رمضان وهو صائم ظناً منه أن الجماع المحرّم ما كان فيه إنزال، ولكنه لم ينزل، فهل نلزمه بالكفارة أو نقول بفساد صومه؟.

الجواب: لا، ليس عليه شيء لأنه جاهل.
على هذا نأخذ هذه القاعدة على أنها أصل من أصول الدين، وقد ذكرنا أدلة كثيرة عليها.

وهنا مسألة: لو كان الجهل في أمر يكون ردة وكفراً مع العلم، مثل أن يكون عاميٌّ قد عاش بين قوم يَدْعُون الأموات، ولم يبّين له أحد أن هذا من الشرك، ولكنه يدين بالإسلام ويقول إنه مسلم، فهل يعذر بدعائه غير الله؟.

الجواب: نعم، يعذر، لأن هذا الرجل قد عاش على هذه الحال، ولم يبين له أحد أن هذا شرك، وهو يعتقد أن هذا من الوسائل وليس من المقاصد.
يعني: يعتقد أن هذا الميت وسيلة له إلى الله عزّ وجل، يقربه إليه فنقول: هذا لا يكفر، لأنه منتسب إلى الإسلام، إلا إذا دعيَ إلى الدين الحق فاحتج بأن هناك علماء أعلم بهذا ولم يقولوا بهذا الأمر؛ فإن هذا قد قامت عليه الحجة، وهو مثل الذين قالوا: {{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ}} [الزخرف: 22] فهؤلاء لم يعذروا، فالواجب أن يبحث.

أما إذا كان لا ينتسب إلى الإسلام ولم يعرف عن الإسلام شيئاً مثل من يكونون في غابات أفريقيا، أو في مجاهل آسيا، أو ما أشبه ذلك.

فإننا نقول: إن أمره إلى الله، لا نحكم له بإسلام ولا بكفر، لكننا لا نلحقه بالمسلمين، بالتغسيل والتكفين والصلاة عليه ودفنه مع المسلمين، لأنه لم يكن معتنقاً للإسلام، ولا منتسباً إليه، فنعطيه أحكام الكفار الذين عاش فيهم في الدنيا، أما في الآخرة فأمره إلى الله.

وهذا هو القول الراجح، أن أصحاب الفترة، ومن لم تبلغهم الدعوة نقول فيهم: الله أعلم. فيفرَّق بين شخص يدين بالإسلام ويقول إنه مسلم، وبين شخص عاش في أمة كافرة ولا يعرف عن الإسلام شيئاً.
مسألة: أصحاب الفترة ومن لم تبلغهم الدعوة هل نقول فيهم الله أعلم بما يصنعون لو عمّروا، أو أعلم بما يصنعون لو كلّفوا يوم القيامة؟.

الجواب: الثاني هو المراد، لأن الصحيح أن أهل الفترة ومن مات من أطفال المشركين يكون أمرهم في الآخرة إلى الله، يكلفهم الله تعالى بما شاء من التكليف، فإن أطاعوا فهم من أهل الجنة، وإلا فهم من أهل النار. وقد ورد في هذا أحاديث ذكرها ابن القيم - رحمه الله - في كتابه «طريق الهجرتين» [(56)].فإن قال قائل: هذا منقوض بكون التكليف منقطعاً بالموت وأن الدار الآخرة ليس فيها تكليف؟.

فالجواب: أن نقول: من قال: إن الآخرة ليس فيها تكليف؟! أليس الله - تعالى- قد قال: {{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ *}} [القلم: 42] فهنا كلّفوا بالسجود، ولكنهم لم يستطيعوا {{وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ}} [القلم: 43] .

وذهب بعض أهل العلم إلى عدم العذر بالجهل في باب أصول الدين، وقال: إن المشرك لا يعذر بجهله، ولو كان منتسباً إلى الإسلام، ولو أخذنا بهذا القول لكان كثير من المسلمين اليوم كفاراً، لكن من كان قد علم، أو قد بلغه أن هذا العمل كفر ولكنه أصر وقال: {{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ}} [الزخرف: 22] فهذا لا شك في كفره. ولا يمكن أن نقول إنه ليس بكافر.

وقوله: (فلتعلم) : هل المعنى فلتعلم أن هذا محل نظر أو المعنى فلتعلم ما يجب حتى تصل إلى العلم؟
يحتمل معنيين، والثاني هو الأهم أي: ما دام أن هذا الشيء محل نظر، فحقق المسألة حتى تصل فيها إلى العلم ويتبين لك الأمر.

____________

ـ[55] الاختيارات الفقهية ـ البعلي ـ (ص49)، ط: دار العاصمة.
ـ[56] انظر (ص587 ـ 595)، ط: دار ابن القيم.
__________________
يقول الله - تعالى - : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون} [سورة الأعراف :96].

قال العلامة السعدي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية الكريمة : [... {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا} بقلوبهم إيمانًاً صادقاً صدقته الأعمال، واستعملوا تقوى الله - تعالى - ظاهرًا وباطنًا بترك جميع ما حرَّم الله؛ لفتح عليهم بركات من السماء والارض، فأرسل السماء عليهم مدرارا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم في أخصب عيشٍ وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كدٍّ ولا نصب ... ] اهـ.
رد مع اقتباس
  #27  
قديم 05-16-2012, 03:36 AM
أم عبدالله نجلاء الصالح أم عبدالله نجلاء الصالح غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: عمّـــان الأردن
المشاركات: 2,647
افتراضي شرح منظومة أصول الفقه لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله تعالى ـ.

شرح منظومة أصول الفقه

تتمـــــّـــــــة.


18 ـ
وكلُّ ممنوعٍ فللضرورةِ *** يباحُ والمكروهُ عند الحاجةِ

قوله: (كل ممنوع) : مبتدأ وجملة (يباح) خبر المبتدأ، وللضرورة متعلق بـ (يباح) .
فإن قال قائل: لماذا جاءت الفاء مقترنة بالخبر (فللضرورة يباح) ؟.

قلنا: لأن المبتدأ لما أشبه الشرط في العموم حسن أن ترتبط بخبره الفاء، ونظير هذا قولهم في المثال المعروف: الذي يأتيني فله درهم. (الذي) مبتدأ وجملة (فله درهم) خبر المبتدأ، وحسن أن يرتبط (الخبر بالفاء)، لأن المبتدأ وهو (الذي) اسم موصول يشبه الشرط في العموم.

وهذه القاعدة من القواعد الفقهية الأصولية التي دلّ عليها الشرع، كل شيء ممنوع فإنه يحلّ للضرورة، دليل هذا قول الله تبارك وتعالى في سورة المائدة: {{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ أَلْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ}}.

أي: في مجاعة {{غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}} [المائدة: 3] وقال في آية أخرى: {{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}} [البقرة: 173] وقال - تعالى - في آية عامة أعم مما ذكرنا: {{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}} [الأنعام: 119] .

فالممنوع يباح للضرورة، ولكن بشرطين:

الشرط الأول:
أن نضطر إلى هذا المحرّم بعينه؛ بمعنى: أن لا نجد شيئاً يدفع الضرورة إلا هذا الشيء المحرّم، فإن وجد سواه فإنه لا يحل، ولو اندفعت الضرورة به.

الشرط الثاني: أن تندفع الضرورة به، فإن لم تندفع الضرورة به فإنه يبقى على التحريم، وإن شككنا هل تندفع أو لا، فإنه يبقى أيضاً على التحريم، وذلك لأن ارتكاب المحظور مفسدة متيقنة، واندفاع الضرورة به مشكوك فيه، ولا ينتهك المحرم المتيقن لأمر مشكوك فيه.
ومن ثم يختلف الحكم في رجل جائع لم يجد إلا ميتة، فهنا نقول: كُلْ من الميتة. فإذا قال: هذا انتهاك للمحرّم، قلنا: حلّ لك للضرورة، لأنه ليس عندك ما تأكله سوى هذا، ولأنك إذا أكلت اندفعت الضرورة به.
ورجل قيل له: إن تناول الخمر يَشفيك من المرض، فهنا نقول: لا يحلّ لك أن تتناول الخمر ولو قيل لك: إنه يشفيك من المرض، لماذا؟.

أولاً: لأنه لا يتيقن الشفاء به فإنه ربما يشربه ولا يبرأ من المرض، فإننا نرى كثيراً من المرضى يتناولون أدوية نافعة، ثم لا ينتفعون بها.
ثانياً: أن المريض قد يبرأ بدون علاج، بتوكله على الله، ودعائه ربَّه، ودعاء الناس له، وما أشبه ذلك. هذا من حيث التعليل.
أما من حيث الدليل فقد جاء في الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم»[(57)] فهذا الحكم معقول العلّة، لأن الله سبحانه لم يحرمه علينا إلا لأنه ضار بنا، فكيف يكون المحرّم شفاءً ودواءً؟!
ولهذا يحرم التداوي بالمحرّم، كما نص عليه أهل العلم، ولا يقال: هذا ضرورة؛ كما يظنه بعض العامة.

لو قال قائل: إنسان غَصَّ، وليس عنده إلا كوب خمر، فهل يجوز أن يشرب هذا الكوب لدفع الغصة؟
الجواب: يجوز، لأن الشرطين وجدا فيه.
فهو قد اضطر إلى هذا بعينه، ونتيقن زوال الضرورة به. فنقول: اشرب الخمر، ولكن إذا زالت الغصة فكفَّ عن الشراب.
لو قال قائل: رجل وجد لحماً مذبوحاً حلالاً ولحماً لحيوان ميت، فهل له أكل الميت لكونه مضطراً لذلك؟
الجواب: ليس له ذلك، لأن الضرورة تندفع بغيره، فلا يحلّ، لعدم تحقق الشرط الأول.
ولو قال: أنا عطشان وليس عندي إلا كوب الخمر. فهل يشرب؟
الجواب: لا، كما قال العلماء، لأنه لا تندفع به الضرورة، بل لا يزيده إلا عطشاً، فإذاً لا فائدة من انتهاك المحرّم، لأنه لا تندفع به الضرورة، فلم يتحقق الشرط الثاني.
ولو قال قائل: لو اضطر المريض إلى شرب الدم للتداوي به فهل يجوز له ذلك؟
الجواب: لا يجوز له ذلك، لانتفاء الشرطين.

مسألة: هل يدخل تحت قاعدة الضرورات تبيح المحظورات، مسألة فك السحر بالسحر إذا قام المصاب بقراءة القرآن كثيراً، بل وبجميع أنواع العلاج دون فائدة؟.

نقول: يدخل تحت هذه القاعدة على المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله كما صرّحوا به [(58)].

قالوا: يجوز حلّ السحر بالسحر ضرورة، ولكن هذا القول ينشأ عنه مفسدة، وهي كثرة تعلّم السحر من أجل حلّ السحر، لأن حلّ السحر قد يكون بعوض كبير جداً، فيصبح الناس يتعلمون السحر ليفكوا السحر بالقيمة الكبيرة، فلهذا يمنع منه، ثم إننا نقول: إن حلّ السحر بالسحر قد يحصل وقد لا يحصل، ثم إنه لا يتعيّن حلّ السحر بالسحر، فقد يُحَلُّ السحر بالقرآن والأدوية المباحة وما أشبه ذلك فليس هناك ضرورة، لكننا نحكي كلام الفقهاء رحمهم الله وإن كنا لا نراه.

قوله: (والمكروه عند الحاجة) : المكروه تبيحه الحاجة، لأن درجة المكروه دون درجة المحرّم، المحرّم منهي عنه على سبيل الإلزام بالترك، ويستحق فاعله العقوبة، والمكروه منهي عنه على سبيل الأولوية، ولا يستحق فاعله العقوبة، ولهذا يباح عند الحاجة.

والفرق بين الحاجة والضرورة كالفرق بين الضروريات والكماليات، أي: أن الحاجة أدنى من الضرورة، بمعنى: أن الإنسان يكون محتاجاً للشيء، لكن لو فقده لم يتضرر.
مثاله: إنسان محتاج إلى ثوبين لدفع البرد، لكنه لو اقتصر على ثوب واحد لم يتضرر. فالثوب الثاني مع البرد يكون محتاجاً إليه، لكن لو فرضنا أنه لولا الثوب الثاني لهلك لكان هذا ضرورة.

مسألة: هل نحتاج إلى الشرطين المذكورين في المحرّم لأجل استباحة المكروه أو نقول: ما دام المكروه على الأولوية فلا حاجة إليهما، لأن الإنسان يجوز أن يتناوله ولو بلا حاجة؟.

الجواب: الثاني، لكن إذا احتاج إليه ارتفعت الكراهة إطلاقاً وصار يتناول هذا الشيء على وجه المباح.

إذًا المكروه يباح للحاجة. ومن أمثلة ذلك:

ـ الالتفات في الصلاة مكروه، لكن لو احتاج إليه أبيح، كما لو كان حوله صبي، فالتفت خوفاً على الصبي من أن يقع في حفرة، أو أن يتناول حارّاً أو ما أشبه ذلك، فهنا الالتفات جائز، مع أن الأصل كراهة الالتفات في الصلاة، لكن عند الحاجة لا بأس به.

ومن الحاجة ما رخص فيه الرسول - صلّى الله عليه وسلّم - للمُصلّي إذا أصابه البصاق أن يتفل عن يساره [(59)] وفي هذه الحال يلتفت.
ـ الحركة اليسيرة في الصلاة لغير مصلحتها تباح إذا احتاج إليها، كحمل النبي - صلّى الله عليه وسلّم - أمامة بنت زينب رضي الله عنهما في الصلاة ووضعها عند السجود [(60)].

ـ ومنها: لو كان في صلاة نفل ونودي، وشك مَنِ المنادي ـ أبوه أو أمه أو أجنبي؟ والتفت ليتيقن، لأنه إذا كان المنادي أباه أو أمه وهو في نفل وجبت عليه الإجابة ما لم يعلم رضى أبيه وأمه بعدم الإجابة، فهو التفت لينظر من الذي ناداه، إن كان أمه أو أباه أجاب، وإن كان أجنبياً لم يجبه.

ـ وإذا سمع صارخاً يصرخ صراخاً مزعجاً، فالتفت ليستبرئ الخبر، هل هذا ضرورة أو حاجة؟
الجواب: الواقع أنه ينظر للحال، إذا كان الصراخ شديداً فظاهر الحال أنه ضرورة، وإذا كان دون ذلك فهو حاجة.

ـ أكل البصل لمن يحضر المسجد ذكر العلماء أنه مكروه، لكن لو احتاج إليه وأكل، فيجوز أكله ويكون مباحاً، على أن بعض أهل العلم يقول: إنه لا كراهة في أكل البصل، لأن الصحابة رضي الله عنهم لما فتحوا خيبر وصاروا يأكلونها، نهاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يأكلوها مع حضور الجماعة، فقالوا: إنها حرّمت. قال: «إنه ليس لي تحريم ما أحل الله»[(61)]، لكن إذا أخذنا بالقول بالكراهة فإنه عند الحاجة تزول الكراهة.

ـ في باب المياه ذكروا أن ما اسْتُعْمِلَ في طهارة مستحبة فإنه يكره استعماله في الطهارة، لكن عند الحاجة كما لو كان الماء فيه شيء من البعد، وليس عنده إلا هذا الماء المستعمل في طهارة مستحبة، فإنه يكون مباحاً للحاجة.

ـ قالوا: أيضاً في الضَبَّة من الفضة إذا ضُبِّب بها الإناء لانكساره فإنه يكره للشارب منه أن يباشر الضَبَّة من الفضة، فإذا احتاج إلى ذلك، فلا كراهة، كأن يكون الإناء متثلماً من كل جانب إلا من هذه الناحية، فهذه حاجة، لك أن تشرب ولا تُعَدُّ فاعلاً للمكروه، على أن القول بالكراهة في مباشرة الضَبَّة فيه نظر.

_____________

ـ[57] الحديث بهذا اللفظ موقوف على ابن مسعود -رضي الله عنه - أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (1797)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (23492)، والطبراني في «الكبير» (9/345 رقم 9714)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/108)، وابن عبد البر في «التمهيد» (24/200) وغيرهم. وإسناده صحيح.
وذكره البخاري تعليقاً بصيغة الجزم في كتاب الأشربة، باب شرب الحلوى والعسل (10/78 «فتح الباري»).
وصحّحه الحافظ ابن حجر في «الفتح» على شرط الشيخين.
ولهذا الموقوف أصل مرفوع من حديث أم سلمة - رضي الله عنها - . ولفظه: «إن الله لم يجعل شفاءكم في حرام»، وفيه قصة.
أخرجه أحمد في الأشربة (159)، وأبو يعلى في «مسنده» (12/402 رقم 6966)، وابن حبان في «صحيحه» (4/233 رقم 1391) وغيرهم.
وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (5/86) وقال: «رجال أبي يعلى رجال الصحيح خلا حسان بن مخارق وقد وثقه ابن حبان».
وله شاهد آخر أخرجه الدولابي في «الكنى» (2/38) عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - مرفوعاً.
وثالث من حديث طارق بن سويد - رضي الله عنه -.
أخرجه مسلم في كتاب الأشربة، باب تحريم التداوي بالخمر (1984/12)، وأحمد (4/317)، وغيرهما.
ـ[58] الإنصاف ـ للمرداوي ـ (27/192)، ط: هجر.
ـ[59] أخرجه البخاري في كتاب أبواب المساجد، باب حك المخاط بالحصى من المسجد (400)، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن البصاق في المسجد في الصلاة وغيرها
(548/52)، من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري - رضي الله عنهما - نحوه.
ـ[60] أخرجه البخاري في كتاب سترة المصلّي، باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة (494)، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز حمل الصبيان في الصلاة (543/41).
ـ[61] أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب نهي من أكل ثوماً أو بصلاً أو كراثاً أو نحوها... (565/76)، من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - . إلا أنه قال: بي، بدل: لي.
__________________
يقول الله - تعالى - : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون} [سورة الأعراف :96].

قال العلامة السعدي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية الكريمة : [... {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا} بقلوبهم إيمانًاً صادقاً صدقته الأعمال، واستعملوا تقوى الله - تعالى - ظاهرًا وباطنًا بترك جميع ما حرَّم الله؛ لفتح عليهم بركات من السماء والارض، فأرسل السماء عليهم مدرارا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم في أخصب عيشٍ وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كدٍّ ولا نصب ... ] اهـ.
رد مع اقتباس
  #28  
قديم 05-16-2012, 03:42 AM
أم عبدالله نجلاء الصالح أم عبدالله نجلاء الصالح غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: عمّـــان الأردن
المشاركات: 2,647
افتراضي

شرح منظومة أصول الفقه لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله تعالى ـ.
شرح منظومة أصول الفقه

تتمـــــّـــــــة.

19 ـ
لكنَّ ما حُرِّمَ للذريعةِ *** يجوزُ للحاجةِ كالعَرِيَّةِ

هذا مستثنى من قوله: (وكل ممنوع فللضرورة يباح) لأن ظاهره أنه لا يباح المحرّم إلا عند الضرورة، فاستثنى من ذلك ما كان محرّماً للذريعة، فإن حكمه كالمكروه، يجوز عند الحاجة.

مثاله: العَرِيَّة وهي: عبارة عن بيع الرطب على رؤوس النخل بالتمر، وأصل بيع الرطب بالتمر حرام، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن بيع التمر بالرطب فقال: «أينقص إذا جف؟» قالوا: نعم، فنهى عن ذلك [(62)].

ووجهه: أن بيع التمر بالتمر لا بد فيه من التساوي. ومعلوم أن الرطب مع التمر لا يتساويان، فإذا كان هذا الفلاح عنده الرطب على رؤوس النخل، وجاء شخص فقير ليس عنده دراهم يشتري بها رطباً يتفكه به مع الناس، لكن عنده تمر من العام الماضي؛ فلا حرج أن يشتري الرطب بالتمر للحاجة لأنه ليس عنده دراهم، ولو باع التمر أولاً ثم اشترى به رطباً ففيه تعب عليه، وربما ينقص ثمن التمر، فيجوز له أن يشتري الرطب بالتمر للحاجة بشروط:

1 ـ أن لا يتجاوز خمسة أوسق.
2 ـ وأن لا يدع الرطب حتى يتمر.
3 ـ وأن يكون الرطب مخروصاً بما يؤول إليه تمراً، مثل أن يقال: هذا الرطب إذا صار تمراً صار مماثلاً للتمر الذي بذله المشتري.
4 ـ وأن لا يجد ما يشتري به سوى هذا التمر.
5 ـ وأن يكون الرطب على رؤوس النخل، لئلا يفوته التفكه شيئاً فشيئاً.

فإذا قال قائل: ألا يمكن أن يبيع التمر ويشتري الرطب؟ كما أرشد النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى ذلك فيما إذا كان عند الإنسان تمر رديء، وأراد تمراً جيداً أنه لا يبيع التمر الرديء بتمر جيد أقل منه، بل أمر أن يباع الرديء بالدراهم، ثم يشتري بالدراهم تمراً جيداً [(63)]، فلماذا نقول بالعَرِيَّة، ولا نقول: بع التمر ثم اشتر بالدراهم رطباً؟
فالجواب على هذا: أولاً: أن السنّة فرقت بينهما، وكل شيء فرق الشرع فيه فإن الحكمة بما جاء به الشرع، لأننا نعلم أن الشرع لا يفرق بين متماثلين، ولا يجمع بين مفترقين، وما فرق الشرع بينهما وظننا أنهما متماثلان، فإن الخطأ في فهمنا، فيكفي أن نقول: جاء الشرع بحلّ هذا ومنع هذا، لكن مع ذلك يمكن أن نجيب عقلاً عن هذا، فيقال: إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يبيعون التمر الرديء بالتمر الجيد مع التفاضل، وهذا ربا صريح لا يحلّ.

أما في مسألة العَرِيَّة فيجب أن يخرص الرطب بحيث يساوي التمر لو أتمر، بمعنى: أننا نخرص الرطب بحيث يكون هذا الرطب إذا يبس وصار تمراً على مقدار التمر الذي اشترى الرطب به.
ثانياً: أن نقول: إن ربا الفضل إنما حُرّم لكونه ذريعة إلى ربا النسيئة، وذلك لأن ربا الفضل لا يمكن أن يقع بين متماثلين جنساً ووصفاً، بل لا بد أن يكون هناك فرق بينهما في الوصف من أجل زيادة الفضل، وتتشوف النفوس إلى زيادة الدَّين إذا تأجل، وتقول النفس: إذا كانت الزيادة تجوز لطيب الصفة، والنقص يجوز لرداءة الصفة، فلتجز الزيادة لزيادة المدة بتأخير الوفاء، فترتقي النفس من هذا إلى هذا، والنفس طماعة لا سيّما في البيع والشراء، ولا سيّما مع قلة الورع كما في الأزمنة المتأخرة، لذلك سُدَّ الباب، وقيل: لا يجوز ربا الفضل، ولو مع التقابض في المجلس.
والذي يمكن أن يقع في العرية هو ربا الفضل، وتحريم ربا الفضل علمنا من التقرير الذي ذكرناه أنه إنما حرّم لئلا يكون ذريعة إلى ربا النسيئة، والذي حرّم لكونه ذريعة فإنه يباح عند الحاجة.

فإن قال قائل: الفقير الذي لا دراهم عنده ما ضرورته إلى أن يشتري الرطب بالتمر؟.

الجواب: ليس هناك ضرورة، لأنه يمكن أن يعيش على التمر، لكن هناك حاجة، يريد أن يتفكه كما يتفكه الناس، فلهذا رخِّص له في العرية.

ـ مثال آخر: النظر إلى وجه المرأة الأجنبية حرام، لأنه وسيلة إلى الفاحشة، ولهذا جاز للحاجة، فالخاطب يجوز أن يرى وجه مخطوبته، والشاهد إذا أراد أن يعرف عين المرأة المشهود عليها، يجوز أن يرى وجهها ليشهد على المرأةِ بعينها، لأن التحريم هنا تحريم وسيلة، وما كان تحريمه تحريم وسيلة فإنه يجوز عند الحاجة.

ـ مثال آخر: الحرير على الرجال حرام، لأنه وسيلة إلى أن يتخلق الرجل بأخلاق النساء من الليونة والرقة، والتشبه بالنساء حرام، فلما كان تحريمه تحريم وسيلة جاز عند الحاجة، فإذا كان الإنسان فيه حِكَّة يجوز أن يلبس الحرير من أجل أن تبرد الحِكَّة، لأن تحريمه تحريم وسائل.

مسألة: ذكرنا أن المحرم إذا كان سداً للذريعة يجوز عند الحاجة، فهل من تطبيقات هذه القاعدة الصلاة في مسجد فيه قبر لإدراك الجماعة، حيث لم يجد إلا هذا المسجد في طريقه؟.

الجواب: المسجد المبني على قبر لا تصح الصلاة فيه، ولا حاجة إلى الصلاة في هذا المسجد في الواقع، إذ إن الإنسان يمكن أن يصلّي في أي مكان من الأرض، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «جعلت لي الأرض مسجداً»[(64)].

__________

ـ[62] أخرجه أبو داود في كتاب البيوع، باب في التمر بالتمر (3359)، والترمذي في كتاب البيوع، باب ما جاء في النهي عن المحاقلة والمزابنة (1225)، والنسائي في كتاب البيوع، باب اشتراء التمر بالرطب (2214)، وأحمد (1/175 ـ 179)، من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -.
والحديث صحّحه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم.
ـ[63] أخرجه البخاري في كتاب الوكالة، باب إذا باع الوكيل شيئاً فاسداً فبيعه مردود (2188)، ومسلم في كتاب المساقاة، باب بيع الطعام مثلاً بمثل (1594/96)، من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.
ـ[64] أخرجه البخاري في كتاب التيمّم (328)، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة (521/3)، من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنهما -.
__________________
يقول الله - تعالى - : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون} [سورة الأعراف :96].

قال العلامة السعدي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية الكريمة : [... {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا} بقلوبهم إيمانًاً صادقاً صدقته الأعمال، واستعملوا تقوى الله - تعالى - ظاهرًا وباطنًا بترك جميع ما حرَّم الله؛ لفتح عليهم بركات من السماء والارض، فأرسل السماء عليهم مدرارا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم في أخصب عيشٍ وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كدٍّ ولا نصب ... ] اهـ.
رد مع اقتباس
  #29  
قديم 05-19-2012, 06:11 PM
أم عبدالله نجلاء الصالح أم عبدالله نجلاء الصالح غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: عمّـــان الأردن
المشاركات: 2,647
افتراضي شرح منظومة أصول الفقه لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله تعالى ـ.

شرح منظومة أصول الفقه

تتمـــــّـــــــة.


20 ـ
وما نُهِيْ عنهُ من التَّعَبُّدِ *** أو غيرِهِ أَفْسِدْهُ لا تردّدِ.

قوله: (ما نهي عنه من التعبد) : (ما) اسم موصول ويحتمل أن تكون شرطية، فإن كانت اسماً موصولاً فلا إشكال في قوله: (أفسده) لأن الاسم الموصول لا يجب أن يقترن خبره بالفاء، وإن كانت شرطية فإنه يشكل، لأن جواب الشرط إذا كان فعل أمر وجب أن يقترن بالفاء، ولكن قد تحذف الفاء في جواب الشرط لضرورة الشعر ومنه قول الشاعر:

من يفعل الحسناتِ اللّهَ يشكرها [(65)].أصله: فالله يشكرها لكن حذفت الفاء للضرورة.

والحريري - رحمه الله - جعل الشعر صلفاً فقال:

وجائزٌ في صنعةِ الشعرِ الصَّلفْ *** أن يصرف الشاعر ما لا ينصرف [(66)]
(من التعبد) : (من) بيانية، أي: من العبادات، أي: مما يتعبد به.
قوله: (أو غيره) : أو غير ما يتعبد به كالأنكحة والأوقاف والمعاملات، البيع، والشراء، والإجارة، والرهن.
قوله: (أفسده لا تردد) : أي احكم بفساده (لا تردد) صيغة نهي أي: لا تتردد في ذلك.

ومعنى هذه القاعدة: أن ما ينهى عنه من العبادة إذا فعله الإنسان وقع فاسداً، وكذلك ما نهي عنه من غير العبادة إذا وقع على الوجه الذي نهي عنه فإنه يقع فاسداً، وهذا معنى قولهم: النهي يقتضي الفساد.

ودليلها في غير العبادة قول النبي - صلّى الله عليه وسلّم - : «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط» [(67)].
والشرط هنا يشمل الوصف في العقد ويشمل العقد نفسه، لأن حقيقة العقد أنه شرط، فكل من المتعاقدين قد اشترط على نفسه أن يلتزم للآخر بمقتضى العقد، و«كتاب الله» المراد به حكمه.

ـ فلو باع الإنسان الذي تلزمه الجمعة بيعاً بعد نداء الجمعة الثاني، وقع هذا البيع فاسداً لأنه بيع منهي عنه.
ـ ولو باع بيضاً لمن يلعب به القمار كان البيع فاسداً، وذلك لأنه بيع منهي عنه، لقوله – تعالى -: {{وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}} [المائدة: 2] .
ـ ولو اشترى الإنسان على شراء أخيه، فإن الشراء يكون فاسداً، لأن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - قال: «لا يبع بعضكم على بيع بعض» [(68)].

وينبني على فساد البيع أنه يجب على المشتري أن يرد السلعة إلى البائع، ويجب على البائع أن يرد الثمن إلى المشتري إن كان قد قبضه، ودليل ذلك: أن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - أُتِيَ إليه بتمر جيد، فسأل عنه فقالوا: كنا نأخذ الصاع من هذا بالصاعين، يعني: من التمر الرديء، والصاعين بالثلاثة، فقال - صلّى الله عليه وسلّم - : «ردوه» فأمر برده [(69)].
وهذا نتيجة القول بالبطلان، لأننا لو قلنا : يبطل، وبقيت السلعة في يد المشتري، والثمن في يد البائع لم يكن لقولنا : إنه باطل معنى ولا ثمرة، بل لا بد من إعادته، ولو فرض أنه تعذّرت الإعادة لطول المدة وتصرف كل منهما في ما آل إليه.
فحينئذ قد يقال : إنه يعفى عنه أو يقال: إنه بالنسبة للمشتري يرد مثله للبائع، والبائع يرد القيمة للمشتري، وهي القيمة التي وقع العقد عليها فيما سبق.

ـ ومن ذلك : لو أعتق الراهن العبد الذي رهنه، فالصحيح أنه لا يصح عتقه بناءً على القاعدة، وإن كان بعض العلماء قال: يصح وتؤخذ قيمته رهناً مكانه.
ـ لو باع الراهنُ رهنَه لم يصح لأنه منهي عن بيعه، لما فيه من إسقاط حق المرتهن.
ـ لو أوصى لوارث، لم تصح الوصية، لأن النهي عاد إلى نفس الوصية، لكن إذا كان النهي عن الشيء لحق المخلوق فأسقطه صحت، ولهذا جاء الحديث: «لا وصية لوارث إلا أن يشاء الورثة» [(70)].
كما لو باع الرهنَ ووافق المرتهن على البيع، فإن البيع يصح على القول الراجح الذي هو جواز تصرف الفضولي.
ـ لو باع الإنسان شيئاً مجهولاً لم يصح البيع، لأنه منهيٌ عنه بذاته.
ففي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - : «نهى عن بيع الغرر» [(71)] والمجهول غرر.
ـ وفي النكاح، لو تزوج الإنسان بعقد شِغَار كان العقد فاسداً، لأن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - نهى عن الشغار [(72)].
ونكاح الشغار أن يزوج الإنسان مُوْلِيَتَهُ، على أن يزوجه الآخر مُوْلِيَتَهُ، بدون مهر، أو بمهر ينقص عن مهر مثلها عادة.
أما لو زوّج أحدهما الآخر بمهر، ورضيت كل من المرأتين، وكان كل من الرجلين كفئاً للمرأة، فهذا ليس بشغار، إلا على رأي بعض أهل العلم.
ـ ولو تزوج في العدة لم يصح، لقوله – تعالى - : {{وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ}} [البقرة: 235] والأمثلة على هذا كثيرة.

ودليل فساد ما نهي عنه من العبادة قوله - صلّى الله عليه وسلّم - : «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» [(73)] أي مردود.

وأما الدليل العقلي على فساد ما نهي عنه: أن ما نهى الشارع عنه إنما قصد من العبد أن يتجنّبه ولا يفعله، فإذا صححناه فهذا إقرار له، والإقرار على الحرام حرام، بل ويكون مضاداً لله - عزّ وجل - ولرسوله - صلّى الله عليه وسلّم - لأن ما نهي عنه شرعاً فالمطلوب عدمه، فإذا قدر أن صححناه فهذا يعني إثباتَه، وإثباتُه مضادة لله ورسوله.

ودليل عقلي آخر: أنه لما نهى الشارع عنه علمنا أنه لا يرضاه، وما لا يرضاه فليس مقبولاً عنده، قال الله تعالى: {{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}} [الزمر: 7] .

ـ مثاله في الصلاة، قول النبي - صلّى الله عليه وسلّم - : «لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس» [(74)].
فلو أن إنساناً صلّى نفلاً مطلقاً في هذا الوقت فإن صلاته تكون باطلة غير مقبولة، لأنها منهي عنها.
ـ وثبت عن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - أنه نهى عن صوم يومي العيدين [(75)]، فلو صام إنسان يوم عيد الفطر، أو يوم عيد الأضحى، فصومه باطل، لأنه فعل عبادة منهيّاً عنها.
وكذلك لو صامت المرأة وهي حائض فصومها باطل.
ـ وقال النبي - صلّى الله عليه وسلّم - للمسيء في صلاته: «ارجع فصلّ فإنك لم تصل» [(76)].
ـ وقال للذي صلّى خلف الصف منفرداً: «أعد صلاتك» [(77)].أمره بإعادة الصلاة لأنه وقف في مكان منهي عن الوقوف فيه.
فصار عندنا دليل من النقل والعقل على فساد ما نهي عنه.

مسألة : لو صلّى في مكان مغصوب فهل تنطبق عليه هذه القاعدة؟
الجواب: لا تنطبق عليه القاعدة، لأن المكان المغصوب لم يُنْهَ عن الصلاة فيه بعينها، إذ لم يأت في الشرع: لا تصلّوا في المكان المغصوب، لكن نهينا عن الغصب، فليس النهي عائداً إلى الصلاة بعينها.
وكذلك لو توضأ بماء مغصوب صح وضوؤه على القول الراجح، لأننا لم نُنْه عن الوضوء بالماء المغصوب، وإنما نهينا عن غصب الماء.
فالقول الراجح في الصلاة في المكان المغصوب أو الوضوء بالمغصوب أو لباس الثوب المغصوب في الصلاة أن العبادة صحيحة.

مسألة: لو وجد إنسان ماءً مغصوباً فهل يتيمّم أو يتوضأ منه؟
الجواب: يتيمّم ولا يتوضأ به. وأما قوله: {{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً}} [المائدة: 6] . فهذا الماء ليس ملكاً له، فهو كالمعدوم.


____________

ـ[65] من شواهد ابن هشام في أوضح المسالك (ص190)، باب: جوازم المضارع، ط: المكتبة العصرية. وينسب هذا الشاهد لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت وقيل: إنه لكعب بن مالك.
ـ[66] ملحة الإعراب ـ باب ما لا ينصرف ـ (ص46)، ط: دار الصميعي.
ـ[67] هو قطعة من حديث أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب الشراء والبيع مع النساء (2047)، ومسلم في كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق (1504/6 ـ 8)، من حديث عائشة - رضي الله عنها -.
ـ[68] أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب النهي للبائع أن لا يحفل الإبل والبقر والغنم... (2043)، ومسلم في كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه... (1515/11)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
ـ[69] سبق تخريجه ص82.
ـ[70] هو قطعة من حديث أخرجه أبو داود في كتاب البيوع، باب في تضمين العارية (3565)، والترمذي في كتاب الوصايا، باب ما جاء لا وصية لوارث (2120)، وابن ماجه في كتاب الوصايا، باب لا وصية لوارث (2713)، وأحمد (5/267)، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.
وقد صحّحه الترمذي بقوله: «حديث حسن صحيح».
ـ[71] أخرجه مسلم في كتاب البيوع، باب بطلان بيع الحصاة والبيع الذي فيه غرر (1513/4).
ومعناه عند البخاري في كتاب البيوع، باب بيع الغرر وحبل الحبلة (2036)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
ـ[72] أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب الشغار (4822)، ومسلم في كتاب النكاح، باب تحريم نكاح الشغار وبطلانه (1415/57)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
ـ[73] سبق تخريجه ص37.
ـ[74] أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب لا يتحرى الصلاة قبل غروب الشمس (561)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها (827/288)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
ـ[75] أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب صوم يوم الفطر (1889)، ومسلم في كتاب الصيام، باب النهي عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى (1137/138)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ـ[76] سبق تخريجه ص71.
ـ[77] أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الرجل يصلّي وحده خلف الصف (682)، والترمذي في الصلاة، باب ما جاء في الصلاة خلف الصف وحده (230 ـ 231)، وابن ماجه في كتاب الإقامة، باب صلاة الرجل خلف الصف وحده (1004)، وأحمد (4/228)، من طرق عن وابصة بن معبد رضي الله عنه.
قال الترمذي: «حديث وابصة حديث حسن». كما حسّنه البغوي في «شرح السنّة» (3/379).
وصحّحه ابن حبان، وذكر الحافظ في «الفتح» (2/268) تصحيحه عن أحمد وابن خزيمة وغيرهما.
__________________
يقول الله - تعالى - : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون} [سورة الأعراف :96].

قال العلامة السعدي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية الكريمة : [... {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا} بقلوبهم إيمانًاً صادقاً صدقته الأعمال، واستعملوا تقوى الله - تعالى - ظاهرًا وباطنًا بترك جميع ما حرَّم الله؛ لفتح عليهم بركات من السماء والارض، فأرسل السماء عليهم مدرارا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم في أخصب عيشٍ وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كدٍّ ولا نصب ... ] اهـ.
رد مع اقتباس
  #30  
قديم 05-19-2012, 09:11 PM
أم عبدالله نجلاء الصالح أم عبدالله نجلاء الصالح غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: عمّـــان الأردن
المشاركات: 2,647
افتراضي شرح منظومة أصول الفقه لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله تعالى ـ.

شرح منظومة أصول الفقه

تتمـــــّـــــــة.

21 ـ
فكلُّ نهيٍ عادَ للــذواتِ *** أو للشروط مُفْسِداً سَيَاتي
22 ـ وإِنْ يَعُدْ لخارجٍ كالعِمَّهْ *** فلن يَضير فافْهمَنَّ العِلَّهْ.

قوله: (فكل) الفاء: للتفريع، إشارة إلى أن هذا البيت مفرع على ما قبله.
(كل) مبتدأ (سياتي) خبرها (مفسداً) حال من فاعل يأتي، والسين للتحقيق.
قوله: (وإن يَعُدْ) : الضمير يعود على النهي لأنه قال: (فكل نهي عاد للذوات).
(وإن يعد) يعني: النهي إلى أمر خارج عن ذات العبادة وشرطها (كالعمة) أي: كالعمامة المحرّمة.
قوله: (فلن يضير) : أي يضر؛ أي: فلن يمنع من الصحة.
(فافهمن العِلَّة) والعلّة: أنه خارج عن ذات العبادة وشرطها، لأن العمامة ليست شرطاً في الصلاة، إذ تصح الصلاة بدون عمامة، والنهي عن لبس العمامة المحرّمة ليس نهياً عن ذات الصلاة في العمامة، فصار هذا غير موجب لفساد الصلاة.

فهذان البيتان كالتفصيل للإجمال السابق في البيت الذي قبله.

والمعنى: أن النهي إما أن يعود إلى ذات الشيء، أو إلى شرطه، أو إلى أمر خارج. والذي يقتضي الفساد هو ما عاد النهي فيه لذات المنهي عنه أو إلى شرطه.

1 ـ مثال العائد إلى ذات المنهي عنه في العبادة:
نهي المرأة عن الصوم في الحيض، والنهي عن صوم يومي العيدين.

مسألة: ما حكم رفع البصر إلى السماء أثناء الصلاة؟
الجواب: قال بعض العلماء: إن الإنسان إذا رفع بصره إلى السماء بطلت صلاته، لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم نهى عنه، واشتد قوله في ذلك حتى توعد من رفع بصره إلى السماء أن لا يرجع إليه بصره [(78)] وإلى هذا ذهبت الظاهرية [(79)].

لكن الجمهور يقولون: إن هذا لا يزال مستقبلاً القبلة ولو رفع بصره، فإذا كان كذلك صحت صلاته.
ولا شك أن هذا التعليل في النفس منه شيء، والقول بالبطلان قول قوي [(80)].

ويقال: من قال لكم: إن العلّة في النهي عن رفع البصر إلى السماء هو عدم استقبال القبلة بوجهه ؟! قد تكون العلّة سوء الأدب مع الله، وأن الإنسان ينبغي له إذا وقف بين يدي الله أن يكون خاضعاً.
مثال العائد إلى ذات المنهي عنه في المعاملات: البيع بعد نداء الجمعة الثاني، ممن تلزمه الجمعة، فهذا النهي عائد إلى ذات البيع، وإن كانت العلة فيه هي خوف التوصل بذلك إلى ترك ما يجب من حضور الجمعة.
كل هذا عاد فيه النهي إلى ذات الشيء، فلا يصح، للدليل والتعليل السابق في شرح البيت الذي قبله.

2 ـ قوله: (أو للشروط) : إذا عاد النهي للشرط فإن المشروط لا يصح، لأنه إذا عاد للشرط فسد الشرط، وإذا فسد الشرط فسد المشروط، فلا تصح العبادة.
فمثلاً: إذا قال الشرع: لا تتوضأ بهذا الماء فتوضأ به، لم يصح الوضوء، ولا تصح الصلاة المبنية على هذا الوضوء، لأن النهي عاد إلى شرطها، ومن ذلك النهي عن الصلاة في الحمام. والصلاة في المقبرة [(81)]، فإذا صلى فيهما فإن صلاته لا تصح، لأن البقعة بقعة منهي عن الصلاة فيها.
ومَثَّل العلماء للنهي العائد إلى شرط العبادة برجل صلّى في ثوب محرّم عليه، مثل: أن يصلّي في ثوب حرير مع تحريمه، فإن صلاته لا تصح، وعلّلوا ذلك بأن ستر العورة شرط في صحة الصلاة، ويشترط لذلك الشرط أن يكون مباحاً، فإن كان محرّماً، فإن الصلاة لا تصح، لأن النهي يعود إلى شرط العبادة.
مثال ما عاد النهي إلى الشرط في المعاملات النهي عن بيع الحمل في البطن [(82)] ونهي النبي صلّى الله عليه وسلّم عن بيع الغرر
[(83)]، فإن النهي عن بيع الغرر عائد إلى شرط البيع، وهو العلم، إذ إن من شرط البيع أن يكون الثمن معلوماً، وأن يكون المبيع معلوماً، لأن جهالتهما أي: جهالة المبيع أو جهالة الثمن تؤدي إلى النزاع، ثم العداوة والبغضاء، والدين الإسلامي لا يريد من أهله إلا أن يكونوا أحبة متعارفين متوافقين، وكل شيء يهدم هذا الأصل الأصيل في الدين الإسلامي، فإنه يكون منهياً عنه.

3 ـ أما إذا عاد النهي إلى أمر خارج عن ذات العبادة وشرطها فإنه يصح، ومثَّلوا لذلك في العبادات بلبس الإنسان عمامة محرّمة في الصلاة، كعمامة الحرير للرجل مثلاً؛ فصلاته صحيحة، لأن ستر الرأس ليس بشرط لصحة الصلاة، فكان النهي هنا عائداً إلى أمر خارج، ليس إلى ذات العبادة ولا إلى شرطها.
وكذلك لو صلّى وفي يده خاتم من ذهب وهو رجل، فإن صلاته صحيحة قولاً واحداً.
وإن كان قد لبس هذا المحرّم، لأن هذا عائد إلى أمر خارج العبادة، لأن لبس الخاتم ليس شرطاً لصحة الصلاة.
ومثل ذلك: لو لبس قلادة من ذهب، فإن صلاته تصح لأن لبس القلادة ليس شرطاً لصحة الصلاة، فلم يكن النهي عائداً لذات الصلاة ولا لشرطها.

ومما نهي عنه، وهو لا يعود إلى ذات الشيء ولا إلى شرطه، في المعاملات:

تلقي الجَلَب، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تلقوا الجلب» [(84)] والجلب: هم الذين يأتون بالسلع إلى البلاد، وليسوا من أهل البلاد ليبيعوها وينصرفوا، فقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن تلقيهم، لأن في تلقيهم ضررين:
الضرر الأول: أنهم ربما يشترون من الجلب بِرُخْصٍ فيقع الغبن.
والضرر الثاني: أنهم يحرمون أهل البلد مما يحصل من وراء المعاملة مع هؤلاء الجلب.
فهذا النهي لا يفسد البيع، يعني: لو أن رجلاً تلقى الجلب، واشترى منهم، فإن البيع يقع صحيحاً مع تحريم التلقي، وذلك لأن النهي لا يعود إلى نفس البيع ولا إلى شرطه. ودليل صحته قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار» [(85)] يعني: إذا أتى البائع السوق ورأى أنه مغبون فله الخيار.
ومن ذلك، أي: مما لا يعود النهي فيه إلى شرط الشيء ولا إلى ذاته: تصرية اللبن في ضرع بهيمة الأنعام، أي: جمع اللبن في ضرع البهيمة، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عنه [(86)] لما في ذلك من التدليس على المشتري، وللمشتري الخيار إذا ظهر له ذلك.

مسألة: إذا استأجر محلاً لحلق شعر الرأس فحلق فيه اللحى، فإن عقده صحيح، لأن عقده على فعل مباح، لكن فعل فيه محرماً.
وأما الذي استأجر المحل ليحلق اللحى، فعقده باطل. قال تعالى: {{وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}} [المائدة: 2] .

ـ من سافر للتجارة فوجد في البلد بغايا فزنى بهن، فيجوز أن يقصر الصلاة. ولو سافر لأجل البغاء، فلا يجوز له القصر لأن السفر محرّم والمحرّم لا تستباح به الرخصة، هذه قاعدة المذهب [(87)].

والراجح جواز القصر، لأن الجهة إذا انفكت فلكل شيء حكمه، وهذه الجهة منفكة، وهو اختيار شيخ الإسلام [(88)]، وهو مذهب الحنفية [(89)].
ـ الحج بالمال المغصوب صحيح لكنه محرّم.
إذاً فالقاعدة: أن النهي إذا ما عاد إلى أمر خارج فإنه لا يضر، وذلك لانفكاك الجهة، فجهة هذا غير جهة هذا، ولهذا قال الناظم: (فلن يضير فافهمن العلة).
ومعنى انفكاك الجهة: هو أن يكون تحريم الشيء لأجل شيء آخر، مثل: ما إذا توضأ إنسان بماء مغصوب، فعلى الراجح يكون التحريم ليس للوضوء، بل لإتلاف هذا المغصوب على صاحبه، سواء بوضوء أو إراقة أو شرب أو غيره.
بخلاف إذا قيل لك: لا تتوضأ بهذا الماء المغصوب، فإن الوضوء لا يصح، لأن النهي هنا عاد إلى ذات العبادة ـ نفس الفعل ـ.

_________

ـ[78] أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة (428/117)، من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه.
وأصله عند البخاري في كتاب الأذان، باب رفع البصر إلى السماء في الصلاة (717)، من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - نحوه. إلا أنه قال: «.. لينتهين عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم».
ـ[79] انظر: المحلى ـ لابن حزم ـ (4/13)، ط: دار إحياء التراث.
ـ[80] انظر كلام المؤلف رحمه الله في: الشرح الممتع (3/227).
ـ[81] أخرجه أحمد (3/83)، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب في المواضع التي لا تجوز فيها الصلاة (492)، والترمذي في كتاب أبواب الصلاة، باب ما جاء أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام (317)، وابن ماجه في كتاب المساجد والجماعات، باب المواضع التي تكره فيها الصلاة (745)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - : «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام». وقد صحّحه الحاكم ووافقه الذهبي، وابن خزيمة وابن حبان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في «اقتضاء الصراط المستقيم» (2/189): «أسانيده جيدة، ومن تكلم فيه فما استوفى طرقه».
ـ[82] هو قطعة من حديث النهي عن بيع الغرر. انظر: ص71.
ـ[83] سبق تخريجه ص87.
ـ[84] أخرجه مسلم في كتاب البيوع، باب تحريم تلقِّي الجلب (1519/17)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وأصل الحديث متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما لكنه بلفظ: «لا تلقوا الركبان، ولا يبع حاضر لباد».
ـ[85] هو تتمة الحديث السابق.
ـ[86] أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب النهي للبائع أن لا يحفل الإبل والبقر والغنم (2041)، ومسلم في كتاب البيوع، باب حكم بيع المصراة (1524/23)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من اشترى شاة مصراة فلينقلب بها، فليحلبها، فإن رضي حلابها أمسكها، وإلا ردّها ومعها صاع من تمر». واللفظ لمسلم.
ـ[87] الإنصاف (5/33)، ط: هجر.
ـ[88] مجموع الفتاوى (24/109).
ـ[89] انظر: تحفة الفقهاء ـ علاء الدين السمرقندي ـ (1/149)، ط: دار الباز.
__________________
يقول الله - تعالى - : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون} [سورة الأعراف :96].

قال العلامة السعدي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية الكريمة : [... {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا} بقلوبهم إيمانًاً صادقاً صدقته الأعمال، واستعملوا تقوى الله - تعالى - ظاهرًا وباطنًا بترك جميع ما حرَّم الله؛ لفتح عليهم بركات من السماء والارض، فأرسل السماء عليهم مدرارا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم في أخصب عيشٍ وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كدٍّ ولا نصب ... ] اهـ.
رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:38 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.