أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا
51034 | 62592 |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
|||
|
|||
🎯 تقييد الفهم والضبط لكلام شيخ الإسلام ابن تيمية أنَّ: (جهاد الدَّفع لا يشترط له شرط
🎯 تقييد الفهم والضبط لكلام شيخ الإسلام ابن تيمية أنَّ: (جهاد الدَّفع لا يشترط له شرط).
▪️الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين وبعد: فما يزال كثير مِن أهل الأهواء يزين ما يأتي به مِن البدع والمحدثات بأقوال لأهل العلم الموثوق بهم لأجل تسويغ أهوائهم على عامة الناس! ومن ذلك استشهاد أهل الأهواء بكلام شيخ الإسلام: «وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين فواجب إجماعا فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان وقد نص على ذلك العلماء أصحابنا وغيرهم». [«الفتاوى الكبرى» (4/608)]. فيما يزينوا للمخدوع بهم أنَّ جهاد الدَّفع لا يشترط له شرط مطلقّا(!) فلا يُشترط له قدرة! ولا يشترط له نظر في الموازنة في مصالح الدفع من مفاسده!! بل يشترك فيه على أي وجه كان ولو أفضى ذلك إلى استباحة بيضة المسلمين!! أو الإلقاء بهم في متاهات! -الله أعلم كيف يكون المخرج منها-، ولهذا أحببت أن أوضح في هذا المبحث المختصر حقيقة مراد شيخ الإسلام من المقالة السابق فأقول وبالله التوفيق: ♦️ إن المتتبع لكلام شيخ الإسلام -رحمه الله- يرى أنه إنما أراد بالنفي نفي (الاشتراط المطلق) لا (مطلق الاشتراط) وفرق بين الاشتراط المطلق، ومطلق الاشتراط ؛كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: «وأما اللفظ المطلق والمقيد فمثال (تحرير رقبة)، (ولم تجدوا ماءً)، وذلك أن المعنى قد يدخل في (مطلق اللفظ) ولا يدخل في (اللفظ المطلق) أي يدخل في اللفظ لا بشرط الإطلاق، ولا يدخل في اللفظ بشرط الإطلاق». [«مجموع الفتاوى» (2/164)]. ▪️وقال ابن القيم -رحمه الله-: «الأمر المطلق ومطلق الأمر: الأمر المطلق، والجرح المطلق، والعلم المطلق، والترتيب المطلق، والبيع المطلق، والماء المطلق، غير مطلق الأمر والجرح والعلم إلى آخرها والفرق بينهما من وجوه …. الثاني: أن الأمر المطلق فرد من أفراد مطلق الأمر ولا ينعكس. الثالث: أن نفي مطلق الأمر يستلزم نفي الأمر المطلق دون العكس. الرابع: أن ثبوت مطلق الأمر لا يستلزم ثبوت الأمر المطلق دون العكس. الخامس: أن الأمر المطلق نوع لمطلق الأمر ومطلق الأمر جنس للأمر المطلق. السادس: أن الأمر المطلق مقيد بالإطلاق لفظا مجرد عن التقييد معنى ومطلق الأمر مجرد عن التقييد لفظا مستعمل في المقيد وغيره معنى. السابع: أن الأمر المطلق لا يصلح للمقيد ومطلق الأمر يصلح للمطلق والمقيد. الثامن: أن الأمر المطلق هو المقيد بقيد الإطلاق فهو متضمن للإطلاق والتقييد ومطلق الأمر غير مقيد وإن كان بعض أفراده مقيدًا». [«بدائع الفوائد» (4/821) مختصرا]. 🔹ومن خلال العرض السابق لقول شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم يتضح لنا أن هنالك فرقًا واسعًا، وبونًا شاسعًا بين اللفظ المطلق ومطلق اللفظ، وتبعًا لذلك فأن هناك فرق -ولا ريب- بين الاشتراط المطلق ومطلق الاشتراط. ⭕ والسؤال الذي يطرح نفسه ولا بد من الإجابة عليه هو: ما هو الاشتراط المنفي في قول شيخ الإسلام ابن تيميه -رحمه الله-: «لا يشترط له شرط» أهو الاشتراط المطلق أم مطلق الاشتراط؟ 👈🏼 وللإجابة على هذا السؤال فلا بد لنا من: 1- جمع أقواله في هذه المسألة المعينة من مضاها، وتتبعها في مصادرها. 2- تهذيب العبارات وفق متجانساتها، فيحمل مطلق كلامه على مقيده، وعامه على خاصة، ومجمله على مفصله، ومبهمه على مفسره. 3- استقراء الأصول الجامعة لأقواله واطلاقاته. 4- إنزال تفريعاته على أصولها المناسبة لها، والناشئة عنها. فنخرج عقب ذلك بمعرفتنا لحقيقة اختيار شيخ الإسلام في هذه المسألة. ◼️فنقول بعد ما سبق: أن المراد بقول شيخ الإسلام: «وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين فواجب إجماعا فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان وقد نص على ذلك العلماء أصحابنا وغيرهم». الفتاوى الكبرى (4/608). هو نفي الاشتراط المطلق لمطلق الاشتراط، والأدلة على هذا كثيرة جدًّا من نفس كلام شيخ الإسلام وصنيعه، ومن ذلك: 1- إن شيخ الإسلام الذي أوجب جهاد الدفع وقال فيه: «لا يشترط له شرط» هو نفسه الذي وضح أن ما أوجبه الله ورسوله مشروط بالقدرة على القيام به، كما قال -رحمه الله-: «فمن استقرأ ماجاء به الكتاب والسنة تبين له أن التكليف مشروط بالقدرة على العلم والعمل فمن كان عاجزا عن أحدهما سقط عنه ما يعجزه ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها». مجموع الفتاوى (21/634). وهو القائل: «إن ما أوجبه الله من طاعته وتقواه مشروط بالقدرة كما قال تعإلى {فاتقوا الله ما استطعتم}، وكما قال النبى صلى الله عليه وسلم (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما أستطعتم) ». مجموع الفتاوى (31/92). وهو القائل: «وهذا يطابق الأصل الذي عليه السلف والجمهور أن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، فالوجوب مشروط بالقدرة والعقوبة لا تكون إلا على ترك مأمور أو فعل محظور بعد قيام الحجة». مجموع الفتاوى (19/227). ▪️فكيف يصح بعد هذه النقولات القول بأن شيخ الإسلام ابن تيميه لا يشترط لجهاد الدفع شرط القدرة والإمكان وهو نفسه القائل: «أنَّ الأمر بقتال الطائفة الباغية مشروط بالقدرة والإمكان، أذ ليس قتالهم بأولى من قتال المشركين والكفار، ومعلوم أن ذلك مشروط بالقدرة والإمكان، فقد تكون المصلحة المشروعة أحيانًا هي التآلف بالمال والمسالمة والمعاهدة كما فعله النبي غير مرة، والإمام إذا اعتقد وجود القدرة ولم تكن حاصلة كان الترك في نفس الأمر أصلح». مجموع الفتاوى (4/442). 2- إن شيخ الإسلام الذي أوجب جهاد الدفع وقال فيه: «لا يشترط له شرط» هو نفسه الذي نصَّ على واجب آخر وهو (دفع أعظم المفسدتين بالتزام أدناهما)، وبيّن أنَّ هذا الواجب هو من أصول الإسلام التي ينبغي مراعاتها حيث قال رحمه الله: «أن الواجب تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناهما هو المشروع». مجموع الفتاوى (28/284). وهو القائل: «كانت مفسدة ترك قتالهم أعظم على الدِّين من مفسدة قتالهم على هذا الوجه كان الواجب أيضًا قتالهم؛ دفعًا لأعظم المفسدتينن بالتزام أدناهما، فإن هذا من أصول الإسلام التي ينبغي مراعاتها». مجموع الفتاوى (28/506) وهو القائل: «ولهذا جاءت الشريعة عند تعارض المصالح والمفاسد بتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وباحتمال أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما، فمتى لم يندفع الفساد الكبير …. إلا بما ذكر من احتمال المفسدة القليلة كان ذلك هو الواجب شرعًا». مجموع الفتاوى (31/92). ▪️فكيف يصح بعد هذه النقولات عنه -رحمه الله- أن ينسب إليه أنه لا يرى اعتبار النظر في المصالح والمفاسد في جهاد الدفع!! وهو يجعل هذا النظر مِن أصول الإسلام، لا بل قد مدح -رحمه الله- من لم يقاتل التتار لما نظروا في مفاسد صورة معينة من القتال كانت قد وقعت مع التتار بقوله: «ولهذا كان أهل المعرفة بالدين والمكاشفة لم يقاتلوا [التتار الذين قدموا لغزو دمشق] في تلك المرة (لعدم القتال الشرعي) الذي أمر الله به ورسوله، ولما يحصل في ذلك من الشر والفساد وانتفاء النصرة المطلوبة من القتال، فلا يكون فيه ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة لمن عرف هذا وهذا». الرد على البكري (2/733). 3- إن شيخ الإسلام الذي أوجب جهاد الدفع وقال فيه: «لا يشترط له شرط» هو نفسه الذي بين أن الفعل إذا رجحت مفاسده على مصالحه حكم بحرمة فعله حيث قال -رحمه الله-: «وينبغى أن يعلم أن الأعمال الصالحة أمر الله بها أمر إيجاب أو استحباب، والأعمال الفاسدة نهى الله عنها والعمل اذا اشتمل على مصلحة ومفسدة فإن الشارع حكيم؛ فإن غلبت مصلحة على مفسدته شرعه، وإن غلبت مفسدته على مصلحته لم يشرعه؛ بل نهى عنه». مجموع الفتاوى (11/623). وهو القائل: «ليس كل سبب نال به الإنسان حاجته يكون مشروعًا، بل ولا مباحًا، وإنما يكون مشروعًا إذا غلبت مصلحته على مفسدته، أما إذا غلبت مفسدته فإنه لا يكون مشروعًا بل محظورًا، وإن حصل به بعض الفائدة». مجموع الفتاوى (27/177). وهو القائل: «القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت: فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت والمصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد فإن الأمر والنهى وإن كان متضمنًا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأمورًا به، بل يكون محرمًا إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته». مجموع الفتاوى (28/129). وهو القائل: «والفعل إذا اشتمل كثيرًا على ذلك وكانت الطباع تقتضيه ولم يكن فيه مصلحة راجحة حرمه الشارع قطعًا، فكيف إذا اشتمل على ذلك غالبًا، وهذا أصل مستمر في أصول الشريعة كما قد بسطناه في قاعدة سد الذرائع وغيرها، وبيّنا أن كل فعل أفضى إلى المحرم كثيرًا كان سببًا للشر والفساد، فإذا لم يكن فيه مصلحة راجحة شرعية وكانت مفسدته راجحة نهي عنه؛ بل كل سبب يفضي إلى الفساد نهي عنه إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة». مجموع الفتاوى (32/228) وهو القائل: «وإذا قال القائل: إنَّ عليًّا والحسين إنما تركا القتال في آخر الأمر للعجز؛ لأنه لم يكن لهما أنصار فكان في المقاتلة قتل النفوس بلا حصول المصلحة المطلوبة. قيل له: وهذا بعينه هو الحكمة التي راعاها الشارع صلى الله عليه وسلم في النهي عن الخروج على الأمراء، وندب إلى ترك القتال في الفتنة وإن كان الفاعلون لذلك يرون أن مقصودهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالذين خرجوا بالحرة وبدير الجماجم على يزيد والحجاج وغيرهما، لكن إذا لم يزل المنكر إلا بما هو أنكر منه صار إزالته على هذا الوجه منكرًا، وإذا لم يحصل المعروف إلا بمنكر مفسدته أعظم من مصلحة ذلك المعروف كان تحصيل ذلك المعروف على هذا الوجه منكرا». منهاج السنة النبوية (4/536). ◼️فكيف يصح بعد هذا أن يقال أنَّ شيخ الإسلام - رحمه الله- يرى وجوب قتال الدفع مطلقًا من غير إشتراط شرط وإن أفضى هذا القتال إلى مفاسد أعظم من مفاسد وجود العدو المحتل، لا بل قد صرح -رحمه الله- بأن قعود النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن القتال في مكة -وهم كانوا تحت سطوة المشركين- إنما هو لعلة أن قتالهم فيها مفاسده أرجح من مصالحه، حيث قال - رحمه الله-: «ومن رأى أن هذا القتال مفسدته أكثر من مصلحته علم أنه قتال فتنة (فلا تجب طاعة الإمام فيه) إذ طاعته إنما تجب في ما لم يعلم المأمور أنه معصية بالنص، فمن علم أن هذا هو قتال الفتنة الذي تركه خير من فعله لم يجب عليه أن يعدل عن نص معين خاص إلى نص عام مطلق في طاعة أولى الأمر ولا سيما وقد أمر الله تعإلى عند التنازع بالرد إلى الله والرسول ويشهد لذلك أن الرسول أخبر بظلم الأمراء بعده وبغيهم ونهى عن قتالهم لأن ذلك غير مقدور إذ مفسدته أعظم من مصلحته كما نهى المسلمون في أول الإسلام عن القتال كما ذكره بقوله تعإلى: {أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ }. وكما كان النبي وأصحابه مأمورين بالصبر على أذى المشركين والمنافقين والعفو والصفح عنهم حتى يأتي الله بأمره». مجموع الفتاوى (4/442-443). 4- إن شيخ الإسلام الذي أوجب جهاد الدفع وقال فيه: «لا يشترط له شرط» هو نفسه الذي بين أن الجهاد إنما يجب في مرحلة التمكين لا في مرحلة الاستضعاف، حتى وإن كان المسلمون تحت سطوة المشركين، واستدل -رحمه الله- بحال النبي صلى الله عليه وسلم في مكة فقال -رحمه الله-: «وقال عطاء الخرساني (كان الرجل يقول ارعني سمعك ويلوي بذلك لسانه ويطعن في الدين) وذكر بعض أهل التفسير (أن هذه اللفظة كانت سبًّا قبيحًا بلغة اليهود) فهؤلاء قد سبوه بهذا الكلام ولووا ألسنتهم به، واستهزءوا به وطعنوا في الدين ومع ذلك فلم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم. قلنا عن ذلك أجوبة: إحداها: أن ذلك كان في حال ضعف الإسلام في الحال التي أخبر الله رسوله والمؤمنين إنهم يسمعون من الذين أوتوا الكتاب والمشركين أذى كثيرًا، وأمرهم بالصبر والتقوى، ثم أن ذلك نسخ عند القوة بالأمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، والصاغر لا يفعل شيئًا من الأذى في الوجه ومن فعله فليس بصاغر، ثم إن من الناس من يسمي ذلك نسخًا لتغير الحكم ،ومنهم من لا يسميه نسخًا؛ لأن الله –تعإلى- أمرهم بالعفو والصفح إلى أن يأتي الله بأم،ره وقد أتى الله بأمره من عز الإسلام وإظهاره والأمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وهذا مثل قوله –تعإلى-: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد جعل الله لهن سبيلا)، فبعض الناس يسمي ذلك نسخًا، وبعضهم لا يسميه نسخًا، والخلاف لفظي، ومن الناس من يقول الأمر بالصفح باق عند الحاجة إليه بضعف المسلم عن القتال بأن يكون في وقت أو مكان لا يتمكن منه، وذلك لا يكون منسوخًا، إذ المنسوخ ما ارتفع في جميع الأزمنة المستقبلة، وبالجملة فلا خلاف أن النبي كان مفروضًا عليه لما قوي أن يترك ما كان يعامل به أهل الكتاب والمشركين ومظهري النفاق من العفو والصفح إلى قتالهم وإقامة الحدود عليهم سمي نسخًا أو لم يسم». الصارم المسلول (2/443-444). وقال -رحمه الله-: «إن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان بمكة مستضعفًا هو وأصحابه عاجزين عن الجهاد أمرهم الله بكف أيديهم والصبر على أذى المشركين، فلما هاجروا إلى المدينة وصار له دار عز ومنعة أمرهم بالجهاد وبالكف عمن سالمهم وكف يده عنهم؛ لأنه لو أمرهم إذ ذاك بإقامة الحدود على كل كافر ومنافق لنفر عن الإسلام أكثر العرب إذ رأوا أن بعض مَن دخل فيه يُقتل، وفي مثل هذه الحال نزل قوله تعإلى: {ولا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً}. وهذه السورة نزلت بالمدينة بعد الخندق فأمره الله في تلك الحال أن يترك أذى الكافرين والمنافقين له، فلا يكافئهم عليه لما يتولد في مكافأتهم من الفتنة، ولم يزل الأمر كذلك حتى فتحت مكة ودخلت العرب في دين الله قاطبة ثم أخذ النبي في غزو الروم وأنزل الله -تبارك وتعإلى- سورة براءة، وكمل شرائع الدين من الجهاد والحج والأمر بالمعروف فكان كمال الدين حين نزل قوله –تعإلى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}. قبل الوفاة بأقل من ثلاثة أشهر، ولما أنزل براءة أمره بنبذ العهود التي كانت للمشركين، وقال فيها صلى الله عليه وسلم: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}. وهذه الآية ناسخة لقوله –تعإلى-: {وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ}. وذلك أنه لم يبق حينئذ للمنافق من يعينه لو أقيم عليه الحد ولم يبق حول المدينة من الكفار من يتحدث بأن محمد صلى الله عليه وسلم يَقتل أصحابه، فأمره الله بجهادهم والإغلاظ عليهم، وقد ذكر أهل العلم أن آية الأحزاب منسوخة بهذه الآية ونحوها، وقال في الأحزاب: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قليلا.مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا}. الآية. فعلم إنهم كانوا يفعلون أشياء إذ ذاك إن لم ينتهوا عنها قتلوا عليها في المستقبل لما أعز الله دينه ونصر رسوله. فحيث ما كان للمنافق ظهور يخاف من إقامة الحد عليه فتنة أكبر من بقائه عملنا بآية الأحزاب... ♦️كما أنه حيث عجزنا عن جهاد الكفار عملنا بآية الكف عنهم والصفح، وحيث ما حصل القوة والعز خوطبنا بقوله: {جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ}». الصارم المسلول (3/681-683). وقال -رحمه الله-: «فلما أتى الله بأمره الذي وعده من ظهور الدين وعز المؤمنين أمر رسوله بالبراءة إلى المعاهدين وبقتال المشركين كافة، وبقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فكان ذلك عاقبة الصبر والتقوى الذين أمر الله بهما في أول الأمر، وكان إذ ذاك لا يؤخذ من أحد من اليهود الذين بالمدينة ولا غيرهم جزية، وصارت تلك الآيات في حق كل مؤمن مستضعف لا يمكنه نصر الله ورسوله بيده ولا بلسانه فينتصر بما يقدر عليه من القلب ونحوه، وصارت آية الصغار على المعاهدين في حق كل مؤمن قوي يقدر على نصر الله ورسوله بيده أو لسانه وبهذه الآية ونحوها كان المسلمون يعملون في آخر عمر رسول الله وعلى عهده خلفائه الراشدين، وكذلك هو إلى قيام الساعة لا تزال طائفة من هذه الأمة قائمين على الحق ينصرون الله ورسوله النصر التام. فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين. وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين وبأية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون». الصارم المسلول (2/412-414). ▪️فكيف يصح بعد هذه النقولات الواضحات الصريحات عن شيخ الإسلام أن يقال بأن شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله - يرى وجوب قتال الدفع على المسلمين حتى ولو كانوا عاجزين مستضعفين وهو -رحمه الله- لم يوجب الجهاد على العاجزين المستضعفين من أهل اليمن والحجاز كما قال -رحمه الله-: «أن سكان اليمن في هذا الوقت ضعاف عاجزون عن الجهاد أو مضيعون له، وهم مطيعون لمن ملك هذه البلاد حتى ذكروا أنهم أرسلوا بالسمع والطاعة لهؤلاء[التتار]، وملك المشركين لما جاء إلى حلب جرى بها من القتل ما جرى، وأما سكان الحجاز فأكثرهم أو كثير منهم خارجون عن الشريعة وفيهم من البدع والضلال والفجور مالا يعلمه إلا الله، وأهل الإيمان والدين فيهم مستضعفون عاجزون وإنما تكون القوة والعزة في هذا الوقت لغير أهل الإسلام بهذه البلاد». مجموع الفتاوى (28/533). 5- إن شيخ الإسلام الذي أوجب جهاد الدفع وقال فيه: «لا يشترط له شرط» هو نفسه الذي أوجب الهجرة من أرض احتلها الكفار على من عجز عن إقامة دينه فيها إلى أرض يمكنه فيها إقامة دينه، ولم يوجب على هؤلاء الأعيان الجهاد لعجزهم؛ فقال - رحمه الله -: «وبقيت بقايا الروافض والمنافقين في جبل لبنان وغيره وربما غلبهم النصارى عليه حتى يصير هؤلاء الرافضة والمنافقون فلاحين للنصارى، وصار جبل لبنان ونحوه دولة بين النصارى والروافض ليس فيه من الفضيلة شيء ولا يشرع بل ولا يجوز المقام بين نصارى أو روافض، يمنعون المسلم عن إظهار دينه، ولكن صار طوائف ممن يؤثر التخلي عن الناس زهدًا ونسكًا يحسب أن أفضل هذا الجبل ونحوه لما فيه فيقصدونه لأجل ذلك غلطًا منهم وخطأ، فإن سكنى الجبال والغيران والبوادي ليس مشروعًا للمسلمين إلا عند الفتنة في الأمصار التى تحوج الرجل إلى ترك دينه من فعل الواجبات وترك المحرمات؛ (فيهاجر المسلم حينئذ من أرض يعجز عن إقامة دينه إلى أرض يمكنه فيها إقامة دينه فإن المهاجر من هجر ما نهى الله عنه)». مجموع الفتاوى (27/55). ▪️فكيف يقال بعد هذا أن شيخ الإسلام ابن تيمية لا يرى إذا نزل الكفار بلادًا للمسلمين أن لا خيار لأهلها غير القتال وهو نفسه -رحمه الله- أوجب على أهل ماردين -من كان عاجزًا منهم عن إقامة دينه- أن يهاجر إلى بلاد أخرى بعد أن احتلها النصارى ولم يوجب على أهلها الجهاد فقال -رحمه الله-: «دماء المسلمين وأموالهم محرمة حيث كانوا في ماردين أو غيرها وإعانة الخارجين عن شريعة دين الإسلام محرمة سواء كانوا أهل ماردين أو غيرهم، والمقيم بها إن كان عاجزًا عن إقامة دينه وجبت الهجرة عليه وإلا استحبت ولم تجب ومساعدتهم لعدو المسلمين بالأنفس والأموال محرمة عليهم ويجب عليهم الامتناع من ذلك بأي طريق أمكنهم من تغيب أو تعريض أو مصانعة، فإذا لم يمكن إلا بالهجرة تعينت، ولا يحل سبهم عمومًا ورميهم بالنفاق، بل السّب والرمى بالنفاق يقع على الصفات المذكور في الكتاب والسنة». مجموع الفتاوى (28/240). 6- إن شيخ الإسلام الذي أوجب جهاد الدفع وقال فيه: «لا يشترط له شرط» هو نفسه الذي يرى أنه إذا كانت مصلحة المسلمين متحصلة بالتألف بالمال والمسالمة والمعاهدة كما فعله النبي غير مرة، فأنه يصار إليها ولا يصار إلى القتال، كما قال -رحمه الله-: «أن الأمر بقتال الطائفة الباغية مشروط بالقدرة والإمكان، أن ليس قتالهم بأولى من قتال المشركين والكفار، ومعلوم أن ذلك مشروط بالقدرة والإمكان، فقد تكون المصلحة المشروعة أحيانًا هي التآلف بالمال والمسالمة والمعاهدة كما فعله النبي غير مرة». مجموع الفتاوى (4/442). بل إن الموادعة والمسالمة مع الكافر المحتل لبعض بلاد المسلمين أقرها شيخ الإسلام ابن تيمية نفسه حيث قال عن سكان بلاد الشام التي كان هو ساكنا فيها: «وكان عدوهم [من التتار] في أول الأمر راضيًا منهم بالموادعة والمسالمة شارعًا في الدخول في الإسلام، وكان مبتدئًا في الإيمان والأمان وكانوا هم قد أعرضوا عن كثير من أحكام الإيمان». مجموع الفتاوى (28/432). لا بل أنه هو نفسه -رحمه الله- مَن سعى في دفع كيد التتار عن بلاد المسلمين في دمشق بلسانه فقال الذهبي كما نقله عنه ابن عبد الهادي -رحمهما الله-: «وأما شجاعته فيها تضرب الأمثال وببعضها يتشبه أكابر الأبطال فلقد أقامه الله في نوبة غازان والتقى أعباء الأمر بنفسه وقام وقعد وطلع وخرج واجتمع بالملك مرتين وبقطلوشاه وببولاي وكان قبجق يتعجب من إقدامه وجرأته على المغول وله حدة قوية تعتريه في البحث حتى كأنه ليث حرب». العقود الدرية (134). وقال أبو حفص البزار: «ولما ظهر السلطان غازان على دمشق المحروسة جاءه ملك الكرج وبذل له أموالًا كثيرة جزيلة على أن يمكنه من الفتك بالمسلمين من أهل دمشق ووصل الخبر إلى الشيخ فقام من فوره وشجع المسلمين ورغبهم في الشهادة ووعدهم على قيامهم بالنصر والظفر والأمن وزوال الخوف فانتدب منهم رجال من وجوههم وكبرائهم وذوي الأحلام منهم، فخرجوا معه إلى حضرة السلطان غازان فلما رآهم السلطان قال من هؤلاء. فقيل هم رؤساء دمشق. فأذن لهم فحضروا بين يديه فتقدم الشيخ -رضي الله عنه- أولًا، فلما أن رآه أوقع الله له في قلبه هيبة عظيمة حتى أدناه وأجلسه وأخذ الشيخ في الكلام معه أولًا في عكس رأيه عن تسليط المخذول ملك الكرج على المسلمين وضمن له أموالًا أاخبره بحرمه دماء المسلمين، وذكره ووعظه فأجابه إلى ذلك طائعًا. وحقنت بسببه (دماء المسلمين وحميت ذراريهم وصين حريمهم). وحدثني مَن أثق به عن الشيخ وجيه الدين ابن المنجا -قدس الله روحه- قال كنت حاضرًا مع الشيخ حينئذ فجعل يعني الشيخ يحدث السلطان بقول الله ورسوله في العدل وغيره ويرفع صوته على السلطان في أثناء حديثه حتى جثا على ركبتيه، وجعل يقرب منه في أثناء حديثه حتى لقد قرب أن تلاصق ركبته ركبة السلطان، والسلطان مع ذلك مقبل عليه بكليته، مصغ لما يقول، شاخص إليه لا يعرض عنه، وأن السلطان من شدة ما أوقع الله ما في قلبه من المحبة والهيبة سأل من يخصه من أهل حضرته من هذا الشيخ، وقال ما معناه: إني لم أر مثله ولا أثبت قلبًا منه، ولا أوقع من حديثه في قلبي ولا رأيتني أعظم انقيادًا مني لأحد منه. فأخبر بحاله وما هو عليه من العلم والعمل فقال الشيخ للترجمان قل لغازان: أنت تزعم أنك مسلم ومعك قاضي وإمام وشيخ ومؤذنون على ما بلغنا فغزوتنا وأبوك وجدك كانا كافرين، وما عملا الذي عملت عاهدًا فوفيا وأنت عاهدت فغدرت! وقلت فما وفيت وجرت وسأله إن أحببت أن أعمر لك بلد آبائك حران وتنتقل إليه ويكون برسمك. فقال: لا والله لا أرغب عن مهاجر إبراهيم صلى الله عليه وسلم، استبدل به غيره، فخرج من بين يديه مكرمًا معززًا قد صنع له الله بما طوى عليه نيته الصالحة من بذله نفسه في طلب (حقن دماء المسلمين)، فبلغه ما أراده، وكان ذلك أيضًا سببا لتخليص غالب أسارى المسلمين من أيديهم وردهم على أهلهم وحفظ حريمهم وهذا من أعظم الشجاعة والثبات وقوة الجأش». الأعلام العلية (69-72). ▪️فهل يصح القول بعد هذا أن الكفار إذا غزوا بلادًا للمسلمين فأنَّ شيخ الإسلام لا يرى أن يندفعوا إلا بالسيف، وهو نفسه -رحمه الله- الذي قال: «فإن من الناس من يقول آيات المجادلة والمحاجة للكفار منسوخات بآية السيف لاعتقاده أن الأمر بالقتال المشروع ينافي المجادلة المشروعة وهذا غلط، فإن النسخ إنما يكون إذا كان الحكم الناسخ مناقضًا للحكم المنسوخ كمناقضة الأمر باستقبال المسجد الحرام في الصلاة للأمر باستقبال بيت المقدس بالشام ومناقضة الأمر بصيام رمضان للمقيم للتخيير بين الصيام وبين إطعام كل يوم مسكينًا، ومناقضة نهيه عن تعدي الحدود التي فرضها للورثة للأمر بالوصية للوالدين والأقربين ومناقضة قوله لهم كفوا أيديكم عن القتال لقوله قاتلوهم كما قال تعإلى: {ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلاً}، فأمره لهم بالقتال ناسخ لأمره لهم بكف أيديهم عنهم فأما قوله تعإلى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين}، وقوله: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أُنزل علينا وأُنزل عليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}. فهذا لا يناقضه الأمر بجهاد من أمر بجهاده منهم ولكن الأمر بالقتال يناقض النهي عنه والاقتصار على المجادلة، فأما مع إمكان الجمع بين الجدال المأمور به والقتال المأمور به فلا منافاة بينهما، وإذا لم يتنافيا بل أمكن الجمع لم يجز الحكم بالنسخ، ومعلوم أن كلا منهما ينفع حيث لا ينفع الآخر وأن استعمالهما جميعًا أبلغ في إظهار الهدى ودين الحق». الجواب الصحيح (1/218-219). 7- إن شيخ الإسلام الذي أوجب جهاد الدفع وقال فيه: «لا يشترط له شرط» هو نفسه الذي سعى في جمع الجيوش واستنفار السلاطين وإعداد العدة، والمرابطة في الثغور، وتحضيض الناس، وإصدار الفتاوى العلمية المنضبطة في هذه المسألة، وقبل أن يمكن من ذلك ما كان -رحمه الله- يوجب القتال، كما قال الحافظ ابن كثير: «وجلس الشيخ تقي الدين ابن تيمية في ثاني صفر [سنة سبعمائة] بمجلسه في الجامع وحرض الناس على القتال وساق لهم الآيات والأحاديث الواردة في ذلك، ونهى عن الإسراع في الفرار ورغب في إنفاق الأموال في الذب عن المسلمين وبلادهم وأموالهم ،وأن ما ينفق في أجرة الهرب إذا انفق في سبيل الله كان خيراً وأوجب جهاد التتر حتمًا في هذه الكرة وتابع المجالس في ذلك ……… واستهل جمادي الأولى والناس على خطة صعبة من الخوف وتأخر السلطان واقترب العدو، وخرج الشيخ تقي الدين ابن يتيمة -رحمه الله تعإلى- في مستهل هذا الشهر وكان يوم السبت إلى نائب الشام في المرج، فثبتهم وقوى جأشهم، وطيب قلوبهم، ووعدهم النصر والظفر على الأعداء، وتلا قوله تعإلى: {ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور}. وبات عند العسكر ليلة الأحد ثم عاد إلى دمشق وقد سأله النائب والأمراء أن يركب على البريد إلى مصر يستحث السلطان على المجيء، فساق وراء السلطان وكان السلطان قد وصل إلى الساحل فلم يدركه إلا وقد دخل القاهرة ، وتفارط الحال ولكنه استحثهم على تجهيز العساكر إلى الشام إن كان لهم به حاجة، وقال لهم فيما قال: إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطانًا يحوطه ويحميه ويستغله في زمن الأمن. ولم يزل بهم حتى جردت العساكر إلى الشام ثم قال لهم: لو قدر أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه واستنصركم أهله وجب عليكم النصر فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه وهم رعايتكم وأنتم مسؤولون عنهم. وقوى جأشهم وضمن لهم النصر هذه الكرة. فخرجوا إلى الشام فلما تواصلت العساكر إلى الشام فرح الناس فرحًا شديدًا بعد أن كانوا قد يئسوا من أنفسهم وأهليهم وأموالهم …… ورجع الشيخ تقي الدين بن تيمية من الديار المصرية في السابع والعشرين من جمادي الأولى على البريد وأقام بقلعة مصر ثمانية أيام يحثهم على الجهاد والخروج إلى العدو وقد اجتمع بالسلطان والوزير وأعيان الدولة فأجابوه إلى الخروج». البداية والنهاية (14/14-16)-مختصرًا-. وكما سيأتيك مزيد بيان من التفصيل في الفصل التالي إن شاء الله تعإلى. ▪️فكيف يصح بعد هذا أن يقال أن شيخ الإسلام يوجب جهاد الدفع على كل أحد قبل النظر في استحصال واستكمال مقومات هذا الحكم. 8- إن شيخ الإسلام الذي أوجب جهاد الدفع وقال فيه: «لا يشترط له شرط» هو نفسه الذي قال في الجهاد أن الحكم فيه يختلف باختلاف القدرة عليه، ووضح أن الأحكام فيه تختلف باختلاف الأحوال من القدرة والعجز والعلم وعدمه كما تختلف باختلاف الغنى والفقر والصحة والمرض، حيث قال - رحمه الله -: «بل صار رسولًا له أعيان وأنصار ينفذون أمره ويجاهدون من خالفه وهو ما دام في الأرض من يؤمن بالله ورسوله ويجاهد في سبيله له أعوان وأنصار ينفذون أمره، ويجاهدون من خالفه، فلم يستفد بالأعوان ما يحتاج أن يضمه إلى الرسالة مثل كونه إمامًا أو حاكمًا، أو ولي أمر، إذ كان هذا كله داخلًا في رسالته ولكن بالأعوان حصل له كمال قدره أوجبت عليه من الأمر والجهاد ما لم يكن واجبًا بدون القدرة والأحكام تختلف باختلاف حال القدرة والعجز والعلم وعدمه ، كما تختلف باختلاف الغنى والفقر والصحة والمرض والمؤمن مطيع لله في ذلك كله وهو مطيع لرسول الله في ذلك كله ومحمد رسول الله فيما أمر به ونهى عنه مطيع لله في ذلك كله». منهاج السنة النبوية(1/86). وهو نفسه -رحمه الله- قد ترجم ذلك فعله، فلما رأى أن المسلمين لم يأخذوا بشروط الجهاد والنصر المعتبرين لم يوجب على الأُمة الجهاد، ولما تغير الحال أوجب عليهم ذلك كما سيأتيك بيانه في الفصل التالي، فكيف يصح أن يقال أن شيخ الإسلام يوجب جهاد الدفع مطلقًا من غير نظر في اختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة. 9- إن شيخ الإسلام الذي أوجب جهاد الدفع وقال فيه: «لا يشترط له شرط». هو نفسه الذي وضح أن الحكم الذي يصدره العالم يكون تارة على جهة الإبداء والتأصيل، وتارة على جهة الإنشاء والفتوى، فما كان على جهة الإبداء والتأصيل لا يمكن الفتوى بمقتضاه إلا بعد النظر بما يقترن معه من ظروف، وفي هذا يقول شيخ الإسلام: «الحكم نوعان: إنشاء وإبداء. أ- فالإنشاء: كالحكم فيمن نزلوا على حكمه، وكالحكم في الفرائض، وفى لفظ الحرام وفى موجبات العقود ونحو ذلك فهذا مثل الفتيا سواء. ب- والثاني الإبداء، وهو الحكم بموجب البينة والإقرار والدعوى مع كذبهما في الباطن، وهذا الذي دل عليه حديث أم سلمة». المسودة (504). وكلام شيخ الإسلام السابق إنما هو خارج على جهة الإبداء والتأصيل لا على جهة الإنشاء والفتوى، ولهذا تباينت مواقف شيخ الإسلام من غزو التتار لدمشق مع أنه هو نفسه القائل في جهاد الدفع أنه «لا يشترط له شرط»، مما يدلك على أن قوله هذا إنما هو خارج على جهة التأصيل لا على جهة الفتوى، وشيخ الإسلام لما أن أفتى بوجوب الجهاد كان هو أول العاملين به -رحمه الله -، كما سيأتيك بيانه. ولو كان قوله -رحمه الله- خارجًا على جهة الفتوى ما صحت الفتوى به إلا بعد النظر في ظروف الفتوى وما يقترن بها كما قال ابن القيم -رحمه الله-: «من أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل! وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل، وهذا المفتي الجاهل؛ أضر ما على أديان الناس وأبدانهم والله المستعان». إعلام الموقعين (3/79)، وصدق والله رحمه الله. 10- وأخيرًا فإن القارئ لكلام شيخ الإسلام بتمامه -والذي يبتره أهل البدع من أوله وأخره مكتفين منه بهذا القدر- ليخرج بقناعة تامة بأن شيخ الإسلام إنما أراد بقوله: «لا يشترط له شرط» هو نفي الاشتراط المطلق لا مطلق الاشتراط، ذلك أن شيخ الإسلام -رحمه الله- ذكر هذا الكلام في معرض رده على القاضي الذي اشترط وجود الزاد والراحلة في الجهاد الواجب ووضح شيخ الإسلام أن هذا لا يجب في جهاد الدفع وإليك تمام كلام شيخ الإسلام -رحمه الله-: «قال القاضي إذا تعين فرض الجهاد على أهل بلد وكان على مسافة يقصر فيها الصلاة فمن شرط وجوبه الزاد والراحلة كالحج وما قاله القاضي من القياس على الحج لم ينقل عن أحمد وهو ضعيف فإن وجوب الجهاد قد يكون لدفع ضرر العدو فيكون أوجب من الهجرة ثم الهجرة لا تعتبر فيها الراحلة فبعض الجهاد أولى وثبت في الصحيح من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (على المرء المسلم السمع والطاعة في عسره ويسره ومنشط ومكره وأثره عليه)، فأوجب الطاعة التي عمادها الاستنفار في العسر واليسر، وهنا نص في وجوبه مع الإعسار بخلاف الحج، هذا كله في قتال الطلب، وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين فواجب إجماعًا، فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشترط له شرط، بل يدفع بحسب الإمكا،ن وقد نص على ذلك العلماء أصحابنا وغيرهم، فيجب التفريق بين دفع الصائل الظالم الكافر وبين طلبه في بلاده، والجهاد منه ما هو باليد ومنه ما هو بالقلب والدعوة والحجة واللسان والرأي والتدبير والصناعة فيجب بغاية ما يمكنه». الفتاوى الكبرى (4/608). هذا هو كلام شيخ الإسلام بتمامه، وهو واضح في الرد على من اشترط الزاد والراحلة في القيام بالجهاد الواجب، فهل يفهم من قوله -رحمه الله-: «والجهاد منه ما هو باليد ومنه ما هو بالقلب والدعوة والحجة واللسان والرأي والتدبير والصناعة فيجب بغاية ما يمكنه»، عقب قوله -رحمه الله-: «فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان» أن جهاد الدفع لا يكون إلا باليد، اللهم لا إلا عند أهل الجهل أو أصحاب المقاصد السيئة. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى اله وصحبه وسلم. 2011م منقوووول
__________________
«لا يزال أهل الغرب ظاهرين..»: «في الحديث بشارة عظيمة لمن كان في الشام من أنصار السنة المتمسكين بها،والذابين عنها،والصابرين في سبيل الدعوة إليها». «السلسلة الصحيحة» (965) |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|