أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا

             
82854 84309

العودة   {منتديات كل السلفيين} > المنابر العامة > المنبر الإسلامي العام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 04-20-2022, 07:08 PM
أبو معاوية البيروتي أبو معاوية البيروتي غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: بلاد الشام
المشاركات: 7,435
افتراضي


💎💎

18 عاماً في صحبة الشيخ ابن باز رحمه الله

لقد أسرني - رحمه الله - بحسن حديثه، وما محضني من نصح بالاحتساب، وطلب الأجر من الله، موضحاً أن في المجلة وانتشارها نفعاً للإسلام والمسلمين، وقال لي: لا تيأس واصبر إن الله مع الصابرين، وسوف أبذل جهدي في تذليل كل ما يعترض المجلة وعملها، ولكن عليك أن تعرض عليّ كل ما تراه مناسباً، والله الله النصح والإخلاص، وصم أذنيك عن سماع الكلام، وأعمل فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
وقد بان لي ذلك أثراً ظاهراً، في كل أمر يعترضني، وفي الإيجابية المرضية، مما خفف عني ثقل العمل، وضعف الجهاز، ومعاناة المتابعة مع العلماء، وأساتذة الجامعات وغيرهم للكتابة في المجلة، لأن المجلة والعمل الإعلامي بعامة، كموقد النار، لابد من وضع الحطب، وإلا خمدت النار.
أخبرت معالي الرئيس العام لتعليم البنات بما قال لي سماحته، وأنني أخجل مستقبلا من تكراره عليه، لما ألبسني من ثوب فضفاض، من توجيهاته ودعواته الصادرة من قبل مؤمن بربه، صادق في توجهه، ونية حسنة، واعتذرت لمعاليه، وحصل مثل هذا عندما عرض عليّ النقل في أمكنة ثلاث مرات.
لكنه قرر الإلحاح على سماحته، والتذرع بالوظيفة القيادية، وأنه لابد من صاحبها ليقوم بالعمل، أو تفريغها لتشغل بمن يسد الفراغ، ويسيِّر العمل,.
وفي يوم السبت طلب معاليه موعداً للسلام على سماحته، فحدده سماحته بيوم الأربعاء بعد صلاة الظهر، لمغزى قصده - رحمه الله - لأن فطنته وذكاءه اللتين وهبهما الله له، جلتا له مغزى الزيارة، وما تهدف إليه.
جاء معاليه في الموعد المحدد، وبالحديث مع سماحته، كان جوابه الهادىء يتعلق بأهمية المجلة، وحاجة الرئاسة لعمل المذكور في مكتبي زيادة على عمل المجلة، مع ثناء أخبرني به معاليه، أعتز به، رفع الله منزلته عند ربه,, ولما استنفد سماحته ما في جعبة معاليه,, طلب الطيب، وأوعز بإحضار صورة قرار تثبيتي على وظيفة بمكتب سماحته، مع الترفيع لمرتبة أكبر من مرتبتي.
وكان هذا قد حيك أمره، خلال الايام، لما بين طلب الموعد وحلوله.
جاءت صورة القرار في ظرف مختوم، ووضعت في يد سماحته، فأعطاها لمعالي رئيس تعليم البنات قائلا له سوف نعطيكم الوظيفة,, وكان وقت الدوام قد أزف على الانتهاء.
لم يقرأها معاليه إلا في السيارة فوجد الأمر منتهيا، وندم على حديثه مع سماحته، خوفا من حسبانه سوء أدب معه، وهو والد للجميع، وتقديره ومكانته راسخة في القلوب: محبة واحتراماً، وأشهد الله أنني ما رأيته في يوم من الأيام متأففا من أحد، ولم تصدر منه كلمة نابية، وقصارى جهده إذا غضب على أحد، وهو لا يغضب ولكن هكذا نحسبه يقول: سبّح سبّح,, أي سبح الله واحمده وكبره, لكن غضبه يشتد لله وللغيرة لدين الله.
وأكون صادقا مع القارىء عندما أقول: إن معالي الرئيس العام لتعليم البنات، عندما هاتفني بعد خروجه من مجلس سماحته ليعتب عليّ لماذا لم أخبره أن الأمر قد انتهى,.
فصاركته أن الأمر بالنسبة لي كان مفاجأة، حيث لم أعلم بذلك إلا منه، ثم لأن التبليغ لم يصلني إلا بعد ذلك، مع مطلع الأسبوع التالي في يوم السبت.
لقد كان أول درس استفدته عمليا من سماحته: الصبر والتحمل، وحسن التوكل على الله، ثم تلتها الدروس الخيرة التي غيرت كثيرا من طباعتي، فكنت مستمرا في عملي، مهتما بما يرضي الله، ثم بما يرضي سماحته، حريصا على الاهتمام بما أرى رغبته تميل اليه,, وإن كنت في الفينة بعد الفينة استفيد دروسا أخرى، علاوة على الناحية العلمية، آخذها من أعمال وأقوال سماحته، جرعات مثلما يصف الطبيب الدواء لمرضاه، حيث تأثرت بسماحته في أمور كثيرة، لأنه مدرسة تعلمت فيها أمورا عديدة: في معاملة الآخرين، وحب السعي في أمورهم، والتواضع معهم، والحرص على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تطبيقا وعملا مع بعد النظر في الأمور وغير هذا من أمور عديدة قل أن تؤخذ من إنسان مجتمعة في هذا الزمان، غير الشيخ عبدالعزيز بن باز المروف عنه تلك السجايا.
وقد سارت الأمور - بحمد الله - على ما يرتجى، وانتظم مسير المجلة، وتذللت الصعاب التي ذاب جليدها، بتصدي أبي عبدالله لها: لنظرته الشمولية في المعالجة، لأن كل أمر يحتكم أمامي، أجد الحل في عرضه عليه فيجيبني بكلمته المعتادة: الله يسهل الأمر، استعن بالله ولا تيأس، ويعلم الله انني لم أقل يوما من الأيام: أن فلانا طويل، أو فلانا قصير، لأن هذا من ابغض الأمور إليه، وهو من الدروس التي استفدتها منه - رحمه الله - فحرصت عليها ثباتا وتطبيقا.
لقد كتب إليه بعض الشباب - هداهم الله - يقول عني: ألم تجد يا سماحة الشيخ من يقوم بالمجلة إلا هذا الذي لم نر له انتاجا غير كتاب ابي الشمقمق - ونسي سامحه الله كل كتبي ومقالاتي وأحاديثي في الإذاعة - ولكن الشيخ مزق رسالته بيده داعيا له بالهداية,, وآخر جاء إليّ طالبا تقصير الثوب، ولما أخبرته أنه فوق الكعب قال: لابد أن يكون في نصف الساق، وغيرهم كثير ممن نحسن بهم الظن، وندعو لهم بالهداية والتوفيق.
طلبت من سماحته بعدما انتظمت المجلة في المسير، وتوافدت البحوث عليها من الكتاب، بأن نجعلها كل ثلاثة أشهر بدلا من الأربعة، فقال: لا هذا يكفي، ومع السنين كنت أعيد الاقتراح وكان جوابه الأول هو جوابه كل مرة.
وفي عام 1405ه كنت مع سماحته في السيارة لصلاة الظهر في الجامع الكبير بالرياض، جامع الإمام تركي بن عبدالله - رحمه الله - فتحدثت معه عن فكرة جمع فتاوى ومحاضرات سماحته، واستعدادي لتجيمع كلما يتيسر من انتاجه العلمي، فوجدت منه الاستبشار وانفتاح الصدر لهذا الموضوع، وأنه كان يفكر في هذا الأمر منذ كان في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، لعل الله ينفع به الإسلام والمسلمين في حياته وبعد مماته، وقد أورد الحديث الشريف، الذي جاء فيه: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له .
وقد دعا لي بدعوات حمدت الله عليها، وأرجو أن تكون مقبولة عند الله، وفي اليوم التالي قدمت لسماحته خطابا بهذا الخصوص، ضمنته فكرتي، وما أنوي عمله، والخطوات التي يجب أن نسير معها في تجميع مجهودات سماحته, فوافق على الفكرة، وأمر بالشروع في العمل، وزود الأقسام ذات العلاقة في الرئاسة، بتعميدات لكي يمدونني بما لديهم من انتاج سماحته: فتوى أو مقالة أو محاضرة، أو خطابا، وكان لدى أحدهم مجموعة تقترب من مجلد، تشمل موضوعات وفتاوى مختلفة، وفي المستودع رسائل قد طبعت لسماحته عديدة، وفي فترات متباعدة، منها ما كان في الجامعة الإسلامية، ومنها - وخاصة النصائح والفتاوى - ما كان في الخرج عندما كان قاضيا، ومنها ما كان في الرياض، عندما كان مدرسا في المعهد والكلية، ثم بعدما عاد لرئاسة إدارة البحوث العلمية والافتاء والدعوة والارشاد عام 1395ه, ومنها ما هو الأفراد.
فبدأت بالتجميع والتبويب، وكانت الصحف وتفريغ الأشرطة، من أشد الأمور لكثرتها، ولأنها تحتاج إلى مساند، يعين في تذليل صعابها,, وذهبت للخرج واتصلت بعدة أشخاص.
ولما بدأت المسيرة أدركت أن دائرة العمل تتسع يوما بعد يوم، وأن العمل يحتاج إلى جهد واطمئنان فعرضت على سماحته امورا عديدة، تعين على سلامة العمل منها:
- الرغبة في تخصيص وقت أعرض على سماحته فيه كل ما يقع تحت يدي لعدم رغبتي اثبات شيء في المجموع إلا بعد تمحيصه وتوثيقه من سماحته مرة أخرى، فوافق على هذه النقطة وقد خصص يوما في الأسبوع ثم زاده إلى يومين,, ومع ذلك نقتنص فرصا أخرى تخفف العمل بما يعرض فيها.
فكنت أعرض عليه ما يرى ترتيبه في المجموع، ويجري تعديلا كبيرا على الأصل، وخاصة في المحاضرات كما كان يتراجع عن بعض الفتاوى، ليلغي بعضها ويعدل كثيرا في البعض الآخر.
ولذا رأيت من الأمانة العلمية والحفظ لسماحته، تسجيل كل تعديل في المسودات، وتوثيقه، وتحديد تاريخ التعديل بوقت العرض, والإشارة في الهامش عند الطبع للأصل، لأن بعض ما جرى تعديله، يتباين مع أصل الشريط مثلا، لكي تعرف أن ما صدر في مجموع سماحته هو الأصل المعدل، وأن الشريط الذي قد يكون متداولا في حكم الملغي، بما جرى عليه من التعديل بأمر وتوجيه سماحة الشيخ، لأنه هو صاحب الحق في ذلك.
ولا تثريب في هذا، فإن علماء الإسلام، عرف عن بعضهم، الرأي الأول والرأي الثاني، والرأي الثاني هو الجديد، والأول هو القديم، ويعتبر ما دون لسماحته في المجموع هو الرأي الثاني المعتمد.
- كما أخبرت سماحته، أن بعض الجهات التي عرضت عليها تعميده بتزويدي بما لديهم من فتاوى وغيرها، تباطأت - ولم أسم له أحدا بعينه، خشية الإثم بكونها نميمة، ولكن كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما بال أقوام - ، فكان - رحمه الله - يؤكد هذا بين الفينة والفينة، وإذا كتب جديدا أو مرت به فتوى قديمة أمرني بأخذها من زيد أو عبيد، لأنه أبلغهم بذلك، ولحرصه واهتمامه ومتابعته، فإنني ألجأ عليه عندما يتعثر أمر أمامي، فكان هو الحريص والمتابع أكثر مني.
- وتشاورت مع سماحته في طريقة الترتيب، ومنهجية البحث، فكان يؤيد ويدعو ويحمس على العمل، ويأمرني أن أضع هذه الفتوى في مكان كذا، وبعضهن يؤكد أن تكون في أكثر من موضع لارتباطها بالحالين.
- وقد بعثني للمدينة المنورة بخطابين: أحدهما متكرر لحث مدرسي ومشايخ الجامعة بالكتابة في المجلة وفق القواعد المحددة لذلك، والثاني: لأحد المسؤولين لتزويدي بأعداد مجلة الجامعة، لما فيها من مقالات وفتاوى لسماحته، فصورت ذلك، من الجهات المعنية بالجامعة وعرضت على سماحته ضمن ما عرضت، وخرج في المجموع موثقا ومنسوبا إلى جهته,, أما الملفات الخاصة بسماحته في الجامعة، فأخبرت أنها ضمن محتويات مكتب البيت.
أما اختيار العنوان باسم: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، تأليف الفقير إلى عفو ربه الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، فمن سماحته أرادها أن تماثل عنوان مجموع ابن تيمية التي جمعها الشيخ ابن قاسم,,
وقد خرجت كلمة الشيخ في الأجزاء الأول، باجتهاد من المطابع والمصحح، ولكنه - رحمه الله - لم ير هذا، وحذفت كلمة الشيخ في الأجزاء التالية، وفي الطبعة الثانية,, تواضعا منه في عدم تسمية نفسه بالشيخ، مع أن هذه التسمية ثابتة في ألسنة الناس، واستحق المشيخة بجدارة: علما وفقها، ومكانة بين العلماء.
كما كان - رحمه الله - حريصا على خروج هذا المجموع للملأ بالاهتمام والمتابعة، ويسر كلما أخبرته باكتمال جزء من أجزائها، ويتابع مراحل الطبع سؤالا واستقصاء، وبعد صدور الجزء الأول في عام 1407ه طلبت منه زيادة الوقت للعرض على سماحته، فوافق، ولكن الأعمال الأخرى الكثيرة لدى سماحته تزاحم في ذلك، فإذا راجعته قال: الله المستعان، وحاجات المسلمين لا تنقضي، وكل يريد نصيبه.
ومن علمه وسعة اطلاعه، وقوة حافظته التي متعه الله بها حتى آخر لحظة من حياته، أوضح شاهدا واحدا على ذلك، فقد حرص على توثيق حديث شريف، مر بنا في إحدى الكلمات، وأمرني بتحقيقه وبيَّن لي الأبواب التي هي مظنة وجوده فيها في كتب الحديث المعتبرة، وبحثت وطال البحث ولم أستطع الاهتداء إليه، فاعترفت أمام سماحته بالعجز، وقال لي، ونحن في مكتبة بيته بالرياض: بعض المحدثين - رحمهم الله -، يضعون حديثا في غير مظنته: أحضر كتاب الإيمان للشيخ محمد بن عبدالوهاب وترحم عليه وعلى علماء الحديث، فأحضرته وقال: افتح صفحة كذا، وعينها بالرقم، ففتحتها، وقال: اقرأ سطر 12 فقرأت فيه، وإذا بي أقع على الحديث بعينه قال: انظر الهامش ماذا قال فيه؟ فوجدته يحيل إلى النسائي، وحدد الموضع فإذا هو كما قال: في غير مظنته، وفي غير الأبواب التي من المتوقع أن يكون فيها.
فأحضرنا النسائي ووجدنا الحديث فيه، فتم تخريجه, ثم قال - رحمه الله - كتاب الإيمان هذا قرأته آخر مرة منذ أربعين عاماً، عندما كنت قاضيا في الخرج,, وهذا يدل على قوة حافظته وذكائه، وتمكنه في العلم، - رحمه الله - وجمعنا به في مستقر رحمته,, وحدد اسم الشخص الذي قرأ عليه صالح بن حسين .
وفي السنوات الأخيرة، بعدما تكاثرت مشاغل سماحته، كان يأمرنا بتخريج الأحاديث، وعرض ذلك عليه قبل الإثبات، فكنا نجد اختلافا في اللفظ أو زيادة، فيحدد ما يريد إثباته في المجموع باعتباره لفظ مسلم مثلا أو البخاري أو أحمد أو غيرهم ويسنده لمن هو لفظه,, ولا يضجر عندما نراجعه في لفظ حديث أو رده، أو فتوى لها مماثل، وعن أيهما نضع,, بل نجد منه سعة الصدر، والتفهم والبيان الشافي,, وما أذكر في مدة عملي معه، أنني سمعت منه كلمة تأنيب أو قسوة، بل يعلم ويوجه بأدب وتواضع مع الشرح والتوضيح، فهو مع طلبة العلم يقنع بالدليل والشرح، ومع العامة بالفتوى القاطعة،.....


18 عاماً في صحبة الشيخ ابن باز 1
محمد بن سعد الشويعر

ما أقسى فراق من ألفته القلوب، وما أصعب الكلمات التي تعبر عن ذلك الألم، لأن اللسان يتعثر والقلم يتلكأ ويعجز عن تصوير الفجيعة,, ولكن العزاء يتم بالامتثال لأمر الله، والتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وما فعله صحابته الكرام، بعد مصابهم بوفاته صلى الله عليه وسلم.
والمصيبة بفراق الشيخ عبد العزيز بن باز، ألمها على المحيطين به, والسابرين أغوار نفسه، والعارفين بطباعه أشد وقعاً وأكثر ألماً، ولا نقول الا ما يرضي الرب: إنا لله وإنا اليه راجعون .
وخدمة العلماء والقرب من مجالسهم فيها خير كثير، لأنهم كحامل المسك، اما ان يحذيك وإما ان تجد منه ريحاً طيباً والشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - عرفته عندما كنت طالباً بذكره الحسن وتواضعه الجم وبنصائحه القيمة في كل مناسبة بل في كل مسجد يصلى فيه, وكنت أحرص على حضور احاديثه وتوجيهاته لأنها صادرة من القلب وتدخل في اعماق القلب.
ثم لما تعينت في مدارس البنات جاءتني مهمة في المدينة المنورة، وزرته في الجامعة الاسلامية للسلام عليه فزودني بنصائحه، وارشاداته، وحث على اداء الأمانة في تعليم المرأة، والمحافظة على سترها ومحافظتها على أمر الله.
ثم لما انتقل الى الرياض في عام 1395ه كنت اسعى جاهدا للاستفادة من دروسه ومحاضراته، والاستئناس بما فيها من توجيهات مخلصة نابعة من اخلاص وبصدق,, فتتعارف بكلماته الأرواح وتتمازج الخواطر.
وفي زيارتي له في بيته عام 1398ه ادركت انه على اطلاع بما اكتبه بدليل انه أخذني لغرفة جانبية وحاورني فيما كتبت عن الدعوة الى دين الله، مع الأمم الاخرى في الخارج والموضوع بعنوان: حتى لا ننسى ماذا يراد بنا؟, المنشور في مجلة الدعوة,, فعرض علي سماحته العمل في الدعوة بإحدى الدول الافريقية,, وقد كنت محباً لذلك الا ان ظروفي لا تسمح لي بالبعد عن والدي,, فآثرت الاعتذار لذلك.
ولم يخطر ببالي في يوم من الأيام، أنني سأكون معه تلميذاً انهل من علمه، ومصاحباً لمدة 18 عاماً أتأدب على يديه، واستفيد من كريم سجاياه,, لكنها ارادة الله ولكل شيء سبب.
كانت البداية في شهر رجب عام 1402ه وكنت في مهمة تفقدية تتعلق بعملي: في الليث وخليص والكامل وعندما عدت في عطلة الاسبوع الى مكة لأنها نقطة الارتكاز في العمل اتصلت بوالدي رحمه الله مهاتفاً كالعادة للاطمئنان والسلام فقال لي: ان سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز اتصل ثلاث مرات يسأل عنك ويلح في الطلب.
فيممت مطار جدة قاصداً الرياض وفي الطريق كانت ضربات القلب تتزايد، وهواجس النفس تختلج: ماذا يا ترى يريد مني الشيخ,, ولأي سبب كان هذا التكرار والالحاح؟ ثم بدأت استعرض مجريات ايامي وأتحسس سطور كلماتي التي نشرت خلال الفترة الماضية محتسباً الخطأ, وراجياً الا تكون زلتي توجب العتب لأن الخطأ من سمات البشر,, ولكن تأنيب العلماء اشد وقعا من الحسام المهند.
وما أقسى الانتظار، وما أشد ألم تلك الساعات المتثاقلة بين نبأ طلبه - رحمه الله - لي وبين مثولي بين يديه يعبر عن وقعها جفاف الحلق، وكثرة تناول الماء، وعدم الشهية للأكل.
وقد حسم هذا الضجر، وقع كلماته الأبوية الحانية في ظهر الجمعة حيث طلبني للمكتبة، وأمر بوصد الباب فكان من حسن أدبه ودماثة خلقه:أن بدأ الحديث بالسؤال عن صحة الوالدين والاولاد، بعد السؤال عما عندي منهم ثم عرج مثنياً وداعياً لي، على ما اكتبه بالتوفيق والاعانة ومشجعاً بالاستمرار,, وسألني عن منطقة الكامل وأهلها لأنها آخر ما زرت قبل مثولي بين يديه,, وتحدث عنها وعن خليص حديث الخبير الفاهم وسأل عن قضاة كل منهما وعن رجالات من أهلها سؤال العارف الخبير.
ثم قال: الموضوع الذي دعوتك اليه، هو خير ان شاء الله، فقد بحثنا في جلسة هيئة كبار العلماء الماضية موضوع مجلة البحوث الاسلامية واهميتها، وقدمت اسماء عديدة لرئاسة تحريرها منهم فلان وفلان، وعد لي أربعة، ولكن اتفق رأي المجلس عليك انت، وقد فوضوني تكليمك في الأمر واخذ موافقتك فما رأيك؟!.
قلت: انني اعتز بهذه التزكية من كبار علمائنا، ويرفع من قدري ان اكون بقرب سماحتكم,, ولكن ان رأى سماحتكم الآذن لي بإكمال مهمتي بقية الاسبوع القادم او ترون قطعها,, وخلال المدة أدرس الموضوع وأعطيكم رأيي لان الأمر مفاجىء لي,, فقال: لا بأس اكمل عملك ثم أعطنا رأيك.
ودّعته للسفر وفي خلال الاسبوع فكرت في الأمر ودرست موضوع المجلة ثم استخرت الله تعالى فوجدت صدري منشرحاً فجئت لسماحته برسالة من صفحتين ابديت رأيي المتضمن في اهم نقاطه: ان المجلة لا تستأثر بكل وقتي، لأنها فصلية، ومحكمة فهي لا تأخذ من الوقت اكثر من سدسه، والباقي فراغ عندي لا بد ان يستثمر ولذا اقترح ان اعمل معكم بالفترة المسائية واعدكم باذن الله ان تنتظم المجلة، وسلمت الرسالة امين عام هيئة كبار العلماء وخرجت عائداً لمكتبي,, ولم استقر به دقائق حتى هاتفني الأمين بقوله: سماحة الشيخ يطلبك,, فلما حضرت اليه قال: بارك الله فيك، نوافق على ما قلت، ما عدا وقت العمل، فلا بد من التفرغ عندنا وأريدك عندي في مكتبي زيادة على المجلة فشكرته ودعوت له وقلت له: عندي وجهة نظر اخرى، قال: ما هي؟ قلت: سأحررها لسماحتكم الليلة وفي الصباح ان شاء الله اودعها لدى فضيلة الامين,, وقد كان وهي تتضمن مطالب ادارية ومالية وتنظيمية تحتاجها المجلة ضماناً لسير العمل ولم أنس مطلباً شخصياً بتحسين الوضع الوظيفي.
ذهبت لعملي وما إن استقر بي المكان، حتى تحرك جرس الهاتف، واذا بصوت الأمين يخبرني بأنه عرض الرسالة الثانية على سماحة الشيخ وهو يطلبك الآن,, فأجبت الدعوة وحضرت لمجلس سماحته وطلب الاختصار معي، فأخبرني بأنه موافق على ما ذكرت وسوف يعمل جهده في تحقيق كل ما ذكرت ان شاء الله فقلت لسماحته: بقي لي مطلب واحد, قال: ما هو؟ قلت: سأحضره صباح غدٍ فرد علي غفر الله له: بقوله: اللهم أهده.
في الصباح الباكر جئت بالرسالة الثالثة - وقصدي من ذلك الرد على الأقاويل - وسلمتها للأمين العام كالسابقتين ثم ذهبت لعملي، فبادر بقراءتها على سماحته، وطلب منه حضوري ايضاً,, كانت هذه الرسالة تتضمن اقتراحاً بأن يكون عملي عن طريق الندب لمدة عام، لا النقل، على ان يصرف مرتبي من عملي السابق حتى لا أثقل عليهم، بحسب ما يمليه الاتفاق، بين الجهتين، هذا من جانب، ومن جانب آخر وهو المهم كما ذكرت في الرسالة: أن اكون تحت التجربة فان اطمأن الطرفان لبعضهما تم التواصل والاستمرار وأمكن التأصيل والا فكل يذهب الى سبيله، ودار الافتاء تبحث عن بديل وانا اعود الى عملي,, وفترة الاختبار السنوية كفيلة بابانة الحقيقة والقدرة.
حضرت لمجلس سماحته ومقره ذلك الوقت، بأول شارع البديعة، جوار مسجد العبيكان وكان الحديث في المختصر، فقال سماحته رحمه الله: نوافق على ما قلت وهو مناسب ان شاء الله فهل ما زلت متردداً؟ قلت: لا فقد خجلت من سماحتكم بعدما تحملتموني في الايام الثلاثة فقابلتم ترددي برحابة الصدر وحسن الخلق جزاكم الله خيراً, فقال: على بركة الله، وأمر بإعداد ما يلزم بهذا,, ثم قال: لا تذهب الا والرسالة معك لأننا سنسافر بعد ايام قليلة للطائف ان شاء الله,, وستكون معنا ولا بد ان ينتهي الأمر.
وبالفعل تم انجاز الخطاب لمعالي الرئيس العام لتعليم البنات ولما دخلت عليه متأبطاً رسالة سماحته اذا به يخبرني بأن سماحة والد الجميع - رحمه الله - قد هاتفه متعجلاً الأمر، ولا بد ان تأخذ الجواب اليه بعد صلاة الظهر مباشرة، وكان قد رتب كل شيء قبل وصولي استجابة لمطلب سماحته فسلمت الرسالة لمدير شؤون الموظفين.
أمور كثيرة مرت متسارعة وبدون تردد، وما كان لها أن تتم لولا عاملين مهمين: الأول: وقبل كل شيء التوفيق من الله سبحانه وتسهيل الأمور, الثاني: اهتمام سماحته - غفر الله له - شخصياً وحرصه ومتابعته فلا الاجتهاد من الانسان بالذي يجعل الأمور تسير وفق هواه, ولا شفاعة الشافعين بالتي تحرف مسار أمور لم يقدرها الله,, ولكنه العون من الله كما قال الشاعر:
إذا لم يكن عون من الله للفتى
فأول ما يجني عليه اجتهاده
لقد كنا في ايام الدراسة نتحاور فيما بيننا ونتساءل مع مدرسينا: هل الانسان مسير او مخير؟ وكان الجواب الشافي الذي ترتاح اليه القلوب, ما يقوله مدرسونا في علم التوحيد: بأن الانسان مسير ومخير في آن واحد وان عون الله وتوفيقه هو العامل المهم في الأمر، ولذا يجب ان يسأل العبد ربه الخير والهداية، ويستعيذه من الشر وسوء العاقبة، وهذا ما تمثل أمامي في هذه المسيرة العملية وبداية المشوار مع الرجل الفاضل في علمه وخلقه وفي تواضعه وحسن ادبه، وفي منهجه التربوي والتعليمي الفذ، وفي اسلوبه الرفيع في الدعوة الى الله والتعليم بشرع الله، ذلك الهاجس المكين عنده طوال حياته لحرصه واهتمامه بترسم خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل امر صغر او كبر حيث لم اره حاد عن ذلك طوال مرافقتي لسماحته رحمه الله او تراخى لأي سبب من الأسباب التي تعرض.
سلمت رسالة الموافقة من رئيس مدارس البنات لسماحته,, فوجدت منه خلال سنة التجربة، خير مشجع على العمل وخير موجه لمصلحة المجلة، وما يرفع من مستواها، مع النصح وحسن التوجيه وتذليل الصعاب، ولأنني لم اظفر بشيء مما كنت ارنو اليه، فخفت من خيبة الأمل وفي هذه الاثناء تعين لمدارس البنات رئيس جديد، فسألني عن امكانية عودتي لعملي,, مع استعداده لتأمين ما يريحني,, فوافقت بحثاً عن مصلحة عاجلة ولكن ألماً حز في نفسي، عندما هممت بمفارقة الشيخ الذي ارتاحت نفسي للعمل معه وأمدني بتوجيهات وأدعية هي عندي اغلى من نفائس الدنيا.
ولكن القنوط استحوذ على هواجسي، فاتفقت مع معاليه على صيغة مناسبة للاعتذار، وان تكون المبادرة بعدم تمديد الاعارة مني، فكتبت رسالة مطولة لسماحة الشيخ عبد العزيز تتضمن الاعتذار وإبانة السبب وان المصلحة تقتضي عودتي لعملي والبحث عن بديل لعل الله ان يجعل فيه خيراً، يرتفع به مستوى المجلة لعله ممن لديه حماسة وشجاعة تجعلانه يحقق ما لم يتم في فترة التجربة، حيث لم يصدر خلالها سوى عدد واحد وهو السادس ولم تحقق الرسائل التي وجهت لكثير من العلماء والكتاب بالمساهمة في المجلة نتيجة مرضية، وكل ما تحقق هو موافقة وزير الاعلام على رئيس التحرير وموافقة المقام السامي على رفع مكافأة الكتاب وجعلها ثلاث فئات وموافقة الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله على دراسة ما اقدمه له من شعارات للغلاف الخارجي للمجلة ليكون ثابتاً وان تكون بحجم متوسط وبدون الوان او زخارف وان تكون الأعداد برقم تسلسلي منتظم وتحديد البنط الذي تطبع به المجلة,, وتعليمات الكتاب بقواعد النشر.
قبل انتهاء عام الاعارة بأسبوع كان خطاب الاعتذار جاهزاً فجئت لشيخي ابراهيم الحصين رحمه الله به وطلبت منه ان يقرأه على سماحته وبعد اطلاعه عليه وادراكه لمضمونه، اعاده الي قائلاً: خذ رسالتك ولن اقرأها على سماحته فانه الذي جاء بك ولا اتدخل في الامر وهذا شيء بينك وبينه فاقرأه انت وخاطبه بما تريد.
ثم ذهبت الى الزميل عبد الله الخريف - رحمه الله - وهو ممن يعرض على سماحته فلما فهم محتوى رسالتي اعادها الي بنفس مقالة الشيخ ابراهيم الحصين - رحمهما الله - ثم ذهبت الى زميل ثالث وكان الرد كسابقيه فلم يسعني الا التشجع وترك الخجل جانباً لان حسن خلقه فرض علي احترامه وترك مراجعته في أي امر، فسلمت عليه بعد عودته من صلاة الظهر اول ما دخل المكتب وطلبت منه خمس دقائق في المختصر لموضوع خاص فانقاد معي - رحمه الله - بيسر وسهولة قائلاً: ابشر,, لما جبله الله عليه من دماثة خلق ورفعة في الادب ولقدوته برسول الله صلى الله عليه وسلم في الانقياد مع من يطلبه لحاجة عليه الصلاة والسلام.
وفي المختصر قال: هات ما عندك؟ قلت: رسالة سوف اقرؤها، وارجو موافقتك على ما فيها, قال: استعن بالله فقرأتها وهو يتملى بل لم يقاطعني فيها حتى انتهيت، وهذا من حسن سمته، وما يتحلى به من أدب جم، الا انه كان يضرب بيده على فخذه، وعرفت فيما بعد السر من الزملاء في العمل ان هذه طريقته اذا اهتم بأمر,.
فلما انتهيت قال: لا تريدنا؟ قلت: بلى والله اريدكم ولكني بلغني من القيل والقال ما اقلق راحتي وكدر خاطري فآثرت العودة لعملي, فقال: أوتهتم بذلك؟ قلت: كيف لا والشاعر يقول: ان البعوضة أدمت مقلة الأسد ولتأثري من ذلك آثرت اخلاء المكان لغيري, فقال رحمه الله: إذاً خل رسالتك في جيبك واستمر في عملك وصم اذنيك وصفوة الخلق لم يسلم فكيف لا نتأسى به,, واصبر وما صبرك الا بالله,, وما يحسك خبرني به,, ثم نهض.

د. محمد الشويعر

https://www.al-jazirah.com/1999/19990604/ar1.htm
__________________
.

((تابعوا فوائد متجددة على قناة التليغرام)) :

https://telegram.me/Kunnash
.
رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:58 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.