أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا
115245 | 155746 |
#1
|
|||
|
|||
عبودية الدعاء
__
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه الأمين، وبعد.. ما أَقبحَ أَنْ تسمعَ من مسلمٍ حين تُذكرُه بعبادة الدعاء، وقد نزل به البلاءُ، وطال به العَناءُ، قائلا لك: لقد دعوتُ كثيرا... وكأنه يستكثرُ على ربه أن يسأَلَه، وأَن يقفَ ببابِه ويرجوَه مِرارا وتَكرارا، وهل هذا إلا فتح باب القنوط من رحمة أرحم الراحمين. ألا تعلمُ يا هذا أَنّ الدعاءَ صِلةٌ بين ربٍّ ومَربوب، وعبدٍ ومعبود، وليس هو رَغَباتٌ تحت الطلب، إنما هو مقامُ العبوديةِ الأكملُ، وشرفُها الأَتمُّ، بل هو رُوحها ولُبُّها، فالدعاءُ إقبالُ العبدِ بكُلِّيَتِه على سيدِه ومولاه؛ رغبةً ورهبةً، وإنابةً واستعانةً، ومحبةً وتعظيماً، وخُضوعاً وانكسارا بين يديه، وتذللا له، وإقرارا بالصَّمديةِ المُطلقةِ لخالِقه، ليُحققَ التسليمَ والخضوعَ والذلَّ الذي لا بدَّ له منه لسيدِّه ومولاه. أَما الاستجابةُ فمَبنيةٌ على الحكمةِ والعلم، وقائمةٌ على حُسنِ التدبير، ودِقةِ العنايةِ من الحكيم الخبير، الأَعلمِ بما هو الأَصلحُ للعبد الضعيفِ الصغير، الجاهلِ بنفسِه؛ فإن أحداً من الناس لو كان يُعطي أطفالَه كلَّ ما سألوه لوُصِفَ بانعدامِ الحكمةِ وسوءِ التدبير لهم. والله يقول: {وقَال رَبُّكُم ادْعُونِي أَسْتجِبْ لَكُمْ} فهذا أَمرٌ بعبادةٍ لها أَحكامُها وشروطُها، فكما قال الله تعالى: {وأَقِيمُوا الصَّلاةَ} والصلاةُ لها أحكامُها وشروطُها التي تحقق مقاصدَها؛ كذلك الدعاءُ. وما أقبحَ بالمسلم ألا يتعلمَ كيف يعبدُ ربَّـه بالدعاء، وهو أحوجُ ما يكون إلى ذلك. وإنَّ بين يَديِ الدعاءِ الشعورَ بالاحتياج إلى الله -عز وجل- ومِلءَ القلبِ بالافتقار إليه، وسَوْقَ النفسِ بِكُلِّيتِها لمَلِيكها وسيِّدِها طوعا أَو قهراً، وإِلا فمَنْ كان مُستَغِنٍ فليس بمحتاج، ومَن مِن الخلق يستغني بنفسه؟! فالمخلوق مفتقرٌ بذاتِه، وكل ذرة منه محتاجةٌ أبداً لخالقِها ومدبرِها المُسْتغني بنفسِه، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الفُقَرَاءُ إِلى الله واللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ}. فالشعور بالافتقارِ إلى الله وتحقيقُه في القلبِ هو تقدمةٌ للدعاء، وهو مبدأُه وباعثُه، وأولُه وآخرُه. وقد دعا موسى -عليه السلام- ربَّه وهو غريبٌ منقطعٌ فقال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٍ} وهذا من أبلغ السؤال؛ فمَعَ يَقينِه بأَنَّ اللهَ سَيَسُدُّ جوعتَه، ويدفعُ فاقتَه، فقد أظهر فَقرَه لمولاه وشدةَ حاجتِه لِما أَيْقَنَ أَنَّ اللهَ سَيَسُوقُه إِليه من الخيرِ ويُيَسِّرُه له. قال السعدي: وهذا سؤالٌ منه بحالِه، والسؤالُ بالحالِ أَبلغُ من السؤالِ بلسانِ المقالِ، فلم يَزلْ في هذه الحالةِ داعياً ربَّه متملقاً. وبابُ الافتقارِ إلى الله يغْفَلُ عنه أَغلبُ الناس، ولا يلتفتون إليه، ولا أعظمَ ولا أَيسرَ من الوصول لربِّ العالمين وفضلِه من هذا البابِ؛ فإنه من أوسعِ أبواب العبودية وأقربها، فَلِجْهُ يا عبدَ الله مُطأْطِأً رأسَ العبوديةِ، متصاغرا بين يدي مولاك، خافضا جوانِحَك، متذللا متخشعا، متجاوزاً كلَّ ما يحولُ بين قلبِك وربِّك. ولأَن عامةَ الخلق في نِعَمٍ وفيرةٍ، وآلاءٍ عظيمةٍ؛ ولإلف النِّعمةِ وتتابعها على العباد؛ فإنهم يغفُلون عن بابِ الفقر والحاجة لربِّ الأرباب، ومن ابْتُليَ بداءِ الاغتِناءٍ فقد أسرف وطغى، قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} لأنه قد جاوز حدَّه، وما عرف قدَرَه. والله يَحُثُّنا على دوامِ سؤالِه، وأن لا نغفُلَ عن دعائِه، رُغمَ تتابعِ نِعمِه علينا، يقولُ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: (يا عبادي كُلكُم ضالّ إلا من هديتُه، فاستَهْدوني أَهدِكُم، يا عبادي كلُّكُم جائعٌ إلا من أطعمتُه فاسْتَطعِمونى أُطعِمْكُم، يا عبادي كلّكُم عارٍ إلا من كَسَوتُه فاسْتَكْسُوني أكسُكُمْ يَا عِبَادِى إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِى أَغْفِرْ لَكُمْ). رواه مسلم. قال ابنُ رجب: فيه دليلٌ على أنَّ اللهَ يُحِبُّ أنْ يَسأَلَه العبادُ جميعَ مصالحِ دينِهم ودُنياهم، مِنَ الطَّعام والشرابِ والكِسوةِ وغير ذلك، كما يسألونه الهدايةَ والمغفرةَ. وفي الحديث –وفيه ضعف-: (ليَسْأَلْ أَحدُكم ربَّه حاجتَه كلَّها حتى يسألَه شِسعَ نَعلِه إذا انقطع) وكان بعضُ السَّلفُ يسألُ اللهَ في صلاتِه كلَّ حوائجِه حتّى ملحَ عجينِه وعلفَ شاتِه. وعن عائشةَ -رضي الله عنها- قالت: (سَلُوا اللهَ كلَّ شيءٍ، حتى الشِسْعَ؛ فإنّ اللهَ -عز وجل- إِن لم يُيَسِرْهُ لم يَتَيسر) وإسناده حسن. ولا سبيل إلى حصول أي مطلوب من عظيم النِّعمِ أو دقائقها إلا بالتطفل على موائدِ كَرمِ من له الأمرُ. قال تعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ}. وقال اللهُ تعالى مذكرا عبادَه بنعمِه المتوالية المترادِفة عليهم؛ حتى لا ينسَوْا فقرَهم وحاجتَهم لمولاهم، وأن تَتابُعَ النِّعَمِ عليهم وترادفَها لا يُغنيهم عن حاجَتِهم وافتقارِهم له دواما أبدا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}، وقال: {فَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}. والآيات في هذا المعنى كثيرة. قال شيخ الإسلام: فالربُّ –سبحانه- أَكرمُ ما تكون عليه أَحوجُ ما تكون إليه، وأفقرُ ما تكون إليه. يقول ابن القيم: أقبلتُ على الله -جل وعلا- من أبوابِ الخيراتِ والطاعاتِ كلِّها، فوجدتُ على الأبوابِ الزحامَ، فلم أَسلمْ من المزاحمةِ، فولجتُ بابَ الافتقار فوجدتُ قُربَ حصولِ المطلوبِ مع عدمِ حصولِ المزاحمةِ. وقد أَحسنَ ابنُ قدامةَ أَيما إحسانٍ لمّا لخص هذا المعنى حين قال في "وصيته المباركة": واعلم أن من هو في بحرٍ على لوحٍ ليس بِأَحْوجَ إِلى اللهِ وإِلى لُطفِه مِمن هو في بَـيتِـه بين أَهلِه ومالِه؛ فإذا حقَّقْتَ هذا فاعتمدْ على الله اعتمادَ الغريقِ الذي لا يعلمُ له سببَ نجاةٍ غيرَ الله. فالعبدُ يدعو تحقيقاً للعبوديةِ أَولاً وآخرا، وتحقيقاً للانكسار بين يدي المولى تبارك وتعالى، والذِّلة له، والخُضْعانِ لعظمتِه، والشعورِ بالقِلَّةِ والحاجة، والضعفِ والمَهانة، والصِغَرِ والعَيْلَةِ بين يَديِ الكبير المُتَعالِ، وبين ذلك رجاؤُه وطمعُه فيما عند الله من الفضل العظيم من خير الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَقَال رَبُّكُم ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الذينَ يَسْتَكْبِرونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلونَ جَهَنَّمَ دَاخِرينَ}، فالناكف عن الدعاء المعرضِ عن سؤال ربه إنما هو في الحقيقة مُستكبرٌ. وفي الحديث الصحيح: (الدعاء هو العبادة) رواه أبو داود والترمذي. قال المباركفوري: أي هو العبادةُ الحقيقيةُ التي تستأْهِلُ أَن تُسمى عبادةً؛ لدلالتِه على الإقبال على الله والإعراضِ عما سواه، بحيث لا يرجو ولا يخافُ إلا إياه. قال ابنُ القيم: وكان شيخُ الإسلام ابنُ تيميةَ يقول: مَن أراد السعادةَ الأبديةَ فَلْيَلزمْ عَتَبةَ العبودية. وعلى المسلم أَن يعلمَ أَنّ الدعاءَ من أَحبِّ الأعمالِ إلى الله؛ بل هو أكرمُها عليه –سبحانه- قال عليه الصلاة والسلام: (ليس شيءٌ أكرمُ على الله من الدعاءِ) رواه الترمذي وحسنه الألباني. قال المباركفوري: لأن فيه إِظهارَ الفقرِ والعجزِ والتذللِ والاعترافِ بقوةِ الله وقدرتِه. فأنت أَيها الداعي في مَكْرُمةٍ عظيمةٍ، وتَكرمةٍ شريفةٍ، ومنزلةٍ رفيعة، فاستزدْ ما شئت، ولا تضع حداً لطمعِك في رحمةِ أرحمِ الراحمين. وفي الدعاء تحقيقُ الإخلاص لله تعالى؛ لأنه لا ينفعُ دعاءٌ إلا به، قال سبحانه: {فادْعُوا اللهَ مُخْلِصينَ لَهُ الدِّينَ}. ولا بد أَنْ يَصدُقَ الداعي في دعاءِه؛ لأنه مُحتاج مضطرٌ، فيُمَرِنَّ قلبَه على إخلاص العبادةِ لله، فيتحصل له ذلك في سائر عباداتِه. وانظر إلى المشركين لما أَخلصوا الدعاءَ لربِّ الأرض والسماء، وصدقوا في توجههم لربِّهم لحظةَ الاضطرار، اللحظةَ التي تتزلزل لها القلوبُ، وترجفُ منها الأفئدةُ، فانظرْ كيف نفَعهم الإخلاصُ في تلك الساعة المريرة، وهم في لُجَّةِ البحرِ، وقد أُحيطَ بهم من كلِّ الجوانبِ، وحين تنقطعُ كلُّ حبائلِ الرجاءِ، وتنخلعُ القلوبُ، وتشخَصُ الأَبصارُ، وتَصْطكُّ الركبُ، وترتعدُ الفرائصُ، وتَضْطربُ الخصائلُ، حتى إذا خَرِقَ المرءُ وبِرقَ، ودَهِش وبُهت، وقَفَّ شعرُه، ولم يَقْوَ أن يقومَ به صلبُه، وأَيْقنَ أَنه قد ثُلَّ عرشُه، وفُتَّ في عَضُدِه، وقد تَضَعْضعَ ركنُه، فلا يملكُ إلا أَنْ يخنعَ ويخضعَ، ويسجدَ ويركع، مقراً بذُلِّه وصِغَرِه، ومَهانَتِه وضَعفِه، فأقرَّ عندها بأنّ له ربّاً خضعت لعظمتِه الرقابُ، وذلَّ لجبروتِه الإِنسُ والجانُّ، وسبَّح بمجدِه وكبريائه الرسلُ والأَملاك، سبحانه واحدا قاهرا معزا مذلا تعالى بعظمته وقهره هو الكبير المتعال، فيَذِلُّ ويخضعُ قانعاً صاغراً له، والذي كان يَجحدُه قبل سُويعاتٍ، وسبحان مُقلبِ القلوب.. قال عز وجل: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}، وبعد النجاةِ يأبى أكثرُهم إلا أَن يرجعَ ويدخلَ فيما وصف اللهُ كثيرا من البشر: {قُتِلَ الإِنْسانُ مَا أَكَفَرَهُ} ، {فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. وكرر الله –تعالى- هذا المعنى في القرآن لِعِظَم شأنِ هذه الحجةِ على كلِّ جاحدٍ معاند. والله يجيب المُضْطَرَّ إذا دعاه، ولو كان كافرا، {أَمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}. ومِن أفضل ما يُحقق الإخلاصَ للداعي أَنْ يكونَ دُعاءُه خُفيةً، قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}، وقال -عز وجل- مادحاً عبدَه زكريا عليه السلام حين دعاه: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا}. وفي إخفاء الدعاء من الشعور بلذةِ العبادة، وطعمِ المُناجاةِ ما لا يعرفُه إلا مَن وفقَّهُ اللهُ لفضلِه، وأَعانَه بكرمِه، وأَمَدَّهُ بلُطفِه. وفي الدعاء تحقيقُ عبادة التضرع، قال عز وجل: {ادْعُوا رَبَّكَم تَضَرُّعاً وخُفْيةً}. والتضرعُ هو الاستكانةُ والذِلَّةُ، قاله ابن كثير. وقال أبو هلال العسكري: الضارعُ: هو المنقادُ الذي لا إمتناعَ به. وفي الدعاء تحقيقُ عبادةِ الرغبةِ والرهبةِ، قال سبحانه في وصف أشرف عباده: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}. والرهبةُ: دوامُ الخوف من الله تعالى. والرغبةُ هي الحرص والطمع، والعبد بين طمعٍ في رحمة الله ووَجَلٍ من عذابه، فيَدومُ هذا الحال في قلبِه بمواصلةِ الدعاء. وقال –سبحانه- في وصفِ عبادِه المتقين في أشرفِ أعمالِهم: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} وقيامُ الليلِ شرفُ المؤمنِ، كما جاء في الحديث. وفي الدعاءُ تحقيقُ القربِ من الربِّ -تبارك وتعالى- قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}. وقال: {كَلَّا لَا تُطِعُهُ واسْجُدْ واقْتَرِبْ} قال عليه الصلاة والسلام: (أقربُ ما يكون العبدُ من ربِّه وهو ساجد، فأكثروا الدعاءَ) رواه مسلم. ففي ذلك تحقيقُ القربِ من اللهِ من جِهتين. وفي الدعاءِ آمانٌ من الطردِ عن بابِ الرحمان، قال تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}، وقال: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. فهذه منزلة الدّاعِينَ اللهَ تعالى، المُداومينَ على ذلك طَرفَيِ النهارِ وفي كلِّ الأوقات. وجاء في حديث فيه ضعف: (مَن فُتح له منكم بابُ الدعاءِ فُتحت له أَبواب الرحمةِ). رواه الترمذي وقال: لا نعرفُه إلا من حديثِ عبد الرحمن بن أَبي بكر القرشي ضعّفه بعضُ أَهل العلم من قِبل حفظِه. والدعاءُ آمانٌ من غَضبِ الله تعالى، قال عليه الصلاة والسلام: (من لم يَسألِ اللهَ يغضبْ عليه) رواه الترمذي وحسنه الألباني. قال الطيبي: إنَّ مَن لم يَسألِ اللهَ يُبْغضُه، والمبغوضُ مغضوبٌ عليه، والله يُحبُّ أَن يُسألَ. قال المباركفوري: لأنَّ تركَ السؤالِ تكبرٌ واستغناءٌ، وهذا لا يجوز للعبد. وفي الدعاءُ ثِقةٌ من العبد بربِّه بأَنَّه غَنيُّ كريمٌ قديرٌ لا يُعجزُه شيء، فيَعزِمُ المسألةَ، ويزيدُ من رجاءِه بربِّه، ورغبتِه فيما عندَه، قال عليه الصلاة والسلام: (لا يَقُلْ أحدُكم: اللهم اغفرْ لي إن شئتَ، ارحمني إن شئتَ، ارزقني إن شئتَ؛ وَلْيَعزِمْ مَسألتَه؛ إِنه يفعلُ ما يشاءُ، لا مُكرِهَ له) متفق عليه. وفي ذلك صَبْرٌ ومصابرةٌ على البلاء، وتسكينٌ للنفسِ عن التضجر والمَلالِ، وحبسِها عن التشّكي من سوء الحال؛ فإنَّ من أَجَلِّ آدابِ الدعاءِ أَلا يتعَجَّلَ الداعي الإجابةَ؛ فإن تأخيرَ الإجابةِ فيه مصلحةٌ للعبد؛ ليدومَ الرجاءُ في قلبِه، وتعظمَ رغبتُه؛ فيكونَ في عبادةٍ عظيمةٍ، ولتزدادَ في قلبِه الرغبةُ في فضلِ اللهِ وكرمِه مرةً بعد مرة، ويُكثِّرَ طمَعَه، ويواصلَ سؤالَه، فَيُعَظِّمَ حاجتَه أمامَ مولاه، ويجددَ في قلبِه الشعورَ بالافتقار إليه، وكم في ذلك من الأجورِ الكبيرة، والفضائلِ العظيمةِ، والارتقاءِ في منازلِ العبوديةِ الرفيعةِ. قال عليه الصلاة والسلام: ( يُستجاب لأحدكم ما لم يَعْجلْ؛ يقول: دعوتُ فلم يُستجبْ لي) متفق عليه. وفي الدعاء ثقةُ القلبِ بالربّ، وسَيْرٌ به إلى مرتبةِ الإحسان؛ أن تعبدَ اللهَ كأنك تراه؛ وذلك أَنَّ حضورَ القلبِ لا بدَّ منه في الدعاء، فادعُ الله كأنك تخاطبُ من تَراه أمامَك، مُستشعرا عظمةَ ربِّك، وجلالَه وإِكرامَه، قال عليه الصلاة والسلام: (ادعوا الله تعالى و أنتم مُوقنون بالإجابةِ، واعلموا أَنَّ اللهَ لا يستجيبُ دعاءً من قلبٍ غافلٍ لاهٍ) رواه الترمذي وحسنه الألباني. قال ابنُ رجب -رحمه الله-: ومن أعظمِ شرائطِه حضورُ القلبِ، ورجاءُ الإجابةِ من الله تعالى. (جامع العلوم والحكم). وقال النووي في الأذكار: اعلمْ أنَّ مقصودَ الدعاءِ هو حضورُ القلبِ، والدلائلُ عليه أكثرُ من أَن تُحصر، والعلمُ به أوضحُ من أن يُذكر. وفي الدعاء رِقةٌ تحصلُ في القلبِ تُذَلِّلُه للخضوعِ للمَولى، وتدفعُ العبدَ لأحوجِ السؤال، فيرتقي في مراتبِ العبوديةِ، يقول الله –تعالى- واصفا عبادَه وهم في نعيمِ الجناتِ يتساؤلون عن أحوالِهم في الدنيا وما صاروا إليه من النعيم، وكيف أن دعاءَهم وإخباتَهم صار بهم إلى ما هم فيه: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}. والشفقةُ رِقَّـةٌ وضعفٌ في القلب. وفي الدعاء منعُ المرءِ نفسَه من أكلِ الحرامِ؛ لأَنه من موانعِ الإجابةِ؛ فإنْ عَلم ذلك وهو محتاجٌ إلى ربِّه، مُضطر لسؤالِه، ولا غنى له عن الوقوف ببابِه؛ تَجنَّب الحرامَ وحَرَصَ على الحلال، جاء في الحديث أَن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم: (ذكر الرجلَ يطيلُ السفرَ أَشعثَ أَغبرَ يَمُدّ يديه إلى السماءِ: يا ربِّ يا ربِّ، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغُذِيَ بالحرام فأنى يستجاب لذلك) رواه مسلم. وفي الدعاء مغفرةٌ للذنوب، وتطهيرٌ للقلوبِ، قال عليه الصلاة والسلام: (قال اللهُ: يا ابنَ آدمَ إِنك ما دَعوتَنِي ورَجَوْتَني غَفرتُ لك، على ما كان فيك، ولا أُبالي) رواه الترمذي وصححه الألباني. وهذا من أعظم فوائد الدعاءِ، فأَطِلْ الدعاءَ، وعَظِّمْ الرجاءَ ولا تستكثرْ مواصلةَ النداء. قال المباركفوري: قوله: ( إِنك ما دَعوتَني ورجوتني) (ما) مصدريةٌ ظرفيةٌ، أي ما دُمتَ تدعوني وترجوني، يعني في مدةِ دعائِك ورجائك. ( ولا أبالي ) أي: والحالُ أَني لا أتعظمُ مغفرتَك عليَّ وإِن كان ذنبا كبيرا أو كثيرا. قال الطيبي: في قوله (ولا أُبالي) معنى: {لا يُسأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ}. وفي الدعاء زيادةٌ في إقبال العبد على ربِّه في كلِّ أحوالِه؛ لأَنَّ من أسباب الإِجابة أنْ يذكرَ العبدُ ربَّه حالَ الرخاءِ والشدةِ، ولا يقتصرُ على حالِ الشدةِ فقط؛ فإن الله قد ذمَّ ذلك فقال: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ}، وقال عليه الصلاة والسلام: (تَعَرَّفْ على اللهِ في الرخاءِ يَعْرِفْكَ في الشدةِ). رواه أحمد وغيره. وفي الدعاء دفعُ المرءِ للحياءِ من الله –تعالى- وتَرْكِ المعاصي؛ لأَن اللهَ –عزَّ وجَلَّ- يستحيي أَنْ يردَّ الداعيَ خائباً، فإِنْ علم الداعي أَنَّ هذه معاملةُ اللهِ –تعالى- لعبدِه الداعي المنكسرِ بين يَديه استحيا من ربِّه -تبارك وتعالى- أَنْ يطرقَ بابَه وهو مُصِرٌّ على معصيتِه، قال عليه الصلاة والسلام: (إِنَّ ربَّكُم -تبارك وتعالى- حَيِيٌّ كريمٌ يَسْتَحْيي من عبدِه إِذا رفع يَديه إِليه أَن يردَّهما صفرا). رواه أبو داود والترمذي وحسنه. وفي الدعاء الإيمان بالقدرِ والتسليم للمقدور؛ لأَنَّ الدعاءَ من جملةِ الأَسبابِ التي قدَّرها الله تعالى، فيدعو العبدُ موقناً بأَنَّ دعاءَه سببٌ يجري على وَفقِ تقدير الله تعالى، فيرضى ويُسلمُ للمقدور ولا يتركُ الدعاءَ. وقد قال عليه الصلاة والسلام: (ولا يردُّ القدرَ إِلا الدعاءُ) رواه الترمذي وحسَّنَه. ومعنى (لا يرد القدرَ إلا الدعاءُ) مُشابهٌ لمعنى قولِه صلى الله عليه وسلم: (مَن سَرَّه أَنْ يُبْسطَ له رزقِه، أَو يُنْسأَ له في أَثَرِه فَلْيَصِلْ رَحِمَه)، قال الكشميري: إن تلك التغيرات في المراتبِ التحتانيةِ، وأما المرتبةُ الأخيرةُ، فهي كائنةٌ على ما كانت، وهذا الذي قاله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ} فالمَحوُ والإِثباتُ في المراتبِ التحتانيةِ. قال النووي في "الأذكار": قال الغزاليُّ: فإن قيل: فما فائدةُ الدعاءِ مع أَنّ القضاءَ لا مَردَّ له؟ فاعلمْ أَنَّ من جملةِ القضاءِ رَدَّ البلاءِ بالدعاء، فالدعاءُ سببٌ لردِّ البلاءِ ووجودِ الرحمةِ، كما أَنَّ التُّرسَ سببٌ لدفع السلاحِ، والماءَ سببٌ لخروج النباتِ من الأرض، فكما أن التُّرسَ يدفعُ السهمَ فيتدافعان، فكذلك الدعاءُ والبلاءُ، وليس من شرطِ الاعترافِ بالقضاءِ أَنْ لا يُحملَ السلاحُ، وقد قال الله تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُم وَأَسْلِحَتَهُمْ} فقدَّرَ اللهُ –تعالى- الأمرَ، وقدَّرَ سببَه. اهـ. وينبغي للداعي أن يلتزمَ آدابَ الدعاءِ ما أَمكنَه ذلك؛ لأن زيادةَ الاهتمامِ بالأمر تعظيمٌ لشأنِه، فيَعظُمَ قَدْرُ الداعي عندَ مولاه. فيدعو على طهارةٍ، مستقبلاً القبلةَ رافعاً يديه مُتحرياً أوقاتَ الإجابةِ، مُثنياً على ربِّه مُصلياً على نبِيِّه -صلى الله عليه وسلم- كما قال ابنُ مسعود -رضي الله عنه-: (إذا أراد أحدُكم أَن يسألَ فَليَبْدأْ بالمِدحةِ والثناءِ على الله بما هو أهلُه، ثم لْيُصَلِّ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -،ثم ليَسْألْ بعدُ؛ فإنه أَجدرُ أن ينجحَ). رواه عبدُ الرزاق في "المصنف" وحسنه الألباني. ولا يحتاجُ الداعي أَن يتكلفَ السجعَ في الدعاءِ؛ فإنه مذمومٌ، قال ابنُ عباس -رضي الله عنه-: (فانظر السجعَ من الدعاء فاجْتَنِبْهُ؛ فإني عهدتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابَه لا يفعلون إلا ذلك – أي لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب) رواه البخاري. ولا يلزم أَن يتكلفَ الدعاءَ بالفصحى، بل يدعو بما يُحسنه، وبما جرى على لسانِه حيث يجدُ قلبَه. ومن دعا بما ورد من أَدعيةِ الكتاب والسنة فهو أَكملُ، ففيهما الكثيرُ من الأدعية الجامعةِ. ولا يجوز للداعي أَنْ يَسألَ اللهَ ما لا يَليقُ به، وما لا يَصلحُ له؛ فإنه من السَّفَهِ وقِلّةِ الأَدبِ. وعلى الداعي أَنْ يعلمَ أَنَّ الإجابةَ في ثلاثِ خِصالٍ, ما لم يَدعُ بحرام، قال -صلى الله عليه وسلم-: (ما من مسلم دعا اللهَ -تبارك وتعالى- بدعوةٍ إلا استجابَ، ما لم يكن فيها إثمٌ أو قطيعةُ رَحِمٍ، إِلا أعطاه الله بها إِحدى خصالٍ ثلاث: إِما أَنْ يُعجّلَ له دعوتَه، وإما أن يَدّخِرَ له في الآخرة، وإما أن يدفعَ عنه من الشّرِّ مثلَها، قالوا: يا رسولَ اللهِ إذا نُكْثِرُ! قال: الله أَكثرُ). رواه أبو يعلى. وهو صحيح. ومعنى الله أكثر: أي أكثرُ إجابةً وأكثرُ خيرا منك أيها العبدُ. قاله ابنُ بازٍ رحمه الله. وانظر إلى فقهِ الصحابة عندما علموا معنى الإجابةِ حيث قالوا: إذا نُكْثِرُ. فلن تذهبَ دعوةٌ دعوتَها بإخلاصٍ سُدىً. وعلى الداعي أن يعلمَ أنه في شأنٍ عظيم من تحقيقٍ للعبوديةِ والخضوع والانكسار بين يدي مولاهُ -تبارك وتعالى- فهو في عبادة جليلة، فلَيَستكثِرْ منها ما استطاع، وليستَعِنْ بالله ولا يَعجَزْ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (أَعجزُ الناسِ من عَجَزَ عن الدعاءِ) [السلسلة الصحيحة]. وليتوكلْ على ربِّه لأَنْ يوفقَّهُ لحُسنِ العبوديةِ؛ فإِنَّه أَعظمُ التوكلِ، قال ابنُ القيم: (فأَعظَمُ التوكلِ عليه التوكلُ في الهدايةِ وتجريدِ التوحيد). وليَخُصَّ شيئاً من وقتِه للدعاءِ ليكونَ له وِردٌ دائمٌ يعتادُه؛ ليألَفَ هذه العبادةَ العظيمةَ ويعتادَها قلبُه؛ فإن سَوْقَ القلبِ إلى مقامِ العبوديةِ يحتاجُ مداومةَ ومواصلةَ العملِ بالعمل، قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ}، قال ابن كثير: عن ابن عباس قال: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} يعني: في الدعاء. وقال زيد بن أسلم والضحاك: {فَإِذَا فَرَغْتَ} أي: من الجهاد {فَانْصَبْ} أي: في العبادة. وقال السِّعدي: إذا تَفرَّغتَ من أَشغالِك، ولم يَبْقَ في قلبِك ما يَعوقُه، فاجتهدْ في العبادةِ والدعاء. وليكُنْ مرادَه في طلبِ حوائجِه الدنيويةِ أن يُقدّرَ اللهُ له الخيرَ حيث كان، وأن يَهَبَهُ اللهُ الأصلحَ له؛ سواءٌ أَكان الخيرُ في قضاءِ حوائجِه أو في حبْسِها وادخارِها له. هذا وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله
__________________
. (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَخُونُوا۟ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوۤا۟ أَمَـٰنَـٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ) |
#2
|
|||
|
|||
عن عائشةَ، رضي الله عنها، قالت: قال النبي، صلى الله عيه وسلم:
إذا تمنَّى أحدُكُم فَلْيَستكْثِرْ؛ فإنَّما يسألُ ربَّهُ، عزَّ وجلَّ. [السلسلة الصحيحة]
__________________
. (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَخُونُوا۟ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوۤا۟ أَمَـٰنَـٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ) |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|