قد يقولُ قائل: إن رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وآلِه وسلَّم- لما استقبَله أهلُ المدينةِ استقبلوهُ بنشيدِ (طلع البدرُ علينا)؟
والجوابُ عن هذا: أنَّ هذه القصَّةَ غيرُ صحيحةٍ؛ بل ضعَّفها -لإعضالِها- العراقيُّ -عليهِ رحمةُ اللهِ-.
وقد يقولُ آخرُ: لقد ثبتَ الحِداءُ؛ أنَّ بعضَ الصَّحابةِ كان يحدُو، والحِداءُ -هذا-: هو إنشادُ الشِّعرِ بألحانٍ على طريقةِ الأعراب.
فالجوابُ عن هؤلاء: أنَّ هذا الحداءَ كان لتنشيطِ سَيرِ الإبلِ، فأحدُهُم يَحدُو بهذِه الأبياتِ الشِّعريَّة -الملحَّنِ فيها-؛ لتنشيطِ الإبلِ والجِمال في سَيرِها.
فيا سُبحانَ الله! نشيدٌ يتَّخذُ للإبلِ والبَقرِ؛ ما دَخلُكُم فيه أنتُم -مَعشرَ البَشرِ!-!!
وقد يقولُ قائلٌ ثالثٌ: كان الصَّحابةُ -رضيَ اللهُ-تَعالى-عنهُم- يَرتَجِزون؛ فعن أنسٍ -رضيَ اللهُ عنهُ- قالَ: جَعل المُهاجِرون والأنصارُ يَحفرون الخندقَ، ويَنقُلون التُّرابَ وهُم يقولُون:
نحن الَّذينَ بايَعُوا محمَّدَا .. على الجِهادِ ما بَقينا أبدَا
يقولُ النبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وآلِه وسلَّم-وهُو يُجيبُهم-: «اللَّهمَّ! لا عيشَ إلا عيشُ الآخرةِ؛ فاغفِرْ للأنصارِ والمُهاجِرةِ» -متَّفقٌ عليه-.
وعن البراءِ -رضيَ اللهُ عنهُ- قال: «كان النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وآلِه وسلَّم- ينقلُ التُّرابَ يومَ الخَندقِ حتَّى اغبرَّ بطنُه، يقولُ:
واللهِ لولا اللهُ ما اهتدَينا .. ولا تَصدَّقْنا ولا صَلَّينا
فأنزِلنْ سَكينـةً علينــا .. وثبِّتِ الأقدامَ إنْ لاقَينا
إنَّ الأُلى قد بَغَوا عَلَينـا .. إذا أرادُوا فِتنـةً أبَينــا
يرفع صوتَه: أبَيْنا أبَيْنا» -متَّفقٌ عليه-.
فهذه الوقائعُ -وغيرُها- لا تَذكُر أنَّ الصَّحابةَ -رضيَ اللهُ-تَعالى-عنهُم- كانُوا يُنشِدون، ولا رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وآلِه وسلَّم- كان يُنشدُ النَّشيدَ المطرَّبَ فيهِ؛ إنَّما كانُوا يُشعِرون هذه الأشعارَ، فهذه عبارةٌ عن شِعرٍ -فقط-، ليستْ بأناشيدَ، ومَن قال: هي أناشيد؛ فلْيأتِنا بالدَّليلِ، نحنُ ما رأيناهُم إلا يرتجِزون، والرَّجز: هو بيتٌ شِعريٌّ ينتهي صَدرُه كعَجُزِه.
وعلى كلِّ حالٍ: فإنَّ العُلماءَ الَّذين أجازُوا هذا النَّوعَ مِن الحداءِ للمؤمِنين، أو هذا النَّوعَ مِن الرَّجزِ -الذي يُطرَّبُ فيه قليلًا-؛ قالوا: يجوزُ إذا كان على طريقةِ الأعرابِ -إذْ لا يُهيِّج-، لا على طريقةِ بني زمانِنا -إذْ يُشعِرون أشعارًا يُطرِّبون فيها، يُحرِّكون الكامِنَ مِن النُّفوسِ في البشرِ-؛ فهذا لم يُجيزوهُ -عليهِم رَحمةُ اللهِ-.
ويكيفكُم روايةُ السَّائبِ بن يزيدٍ، قال: بينا نحن مع عبدِ الرَّحمن بنِ عوفٍ -رضيَ اللهُ عنهُ- في طريقِ الحجِّ-ونحنُ نؤمُّ مكَّة-أي: نقصدُ مكَّة-، اجتنبَ عبدُ الرَّحمن بنُ عوفٍ -رضيَ اللهُ عنهُ- الطَّريقَ، ثم قال لرباحِ بن المُغترِف: غنِّنا -يا أبا حسَّان-! وكان يحسنُ النَّصْبَ، قال البيهقيُّ: «والنَّصبُ: ضربٌ مِن أغاني العربِ، وهو يُشبهُ الحِداء» -كما سبقَ أن فسَّرنا-.
قال: «فبينا رباحٌ يُغنِّيهم، أدركهُم عمرُ بن الخطَّاب -رضيَ اللهُ عنهُ-في خلافتِه-، سمع عمرُ بنُ الخطَّاب هذا الرَّجلَ يُنشدُ هذه الأناشيد، فقال: ما هذا؟ قال عبدُ الرَّحمن: يا أميرَ المؤمنين! ما بأسٌ بهذا، نلهو ونُقصِر، فقال عُمر: فإن كنتَ آخذًا؛ فعليكَ بشِعر ضِرار بن الخطاب» أخرجه البيهقي.
فهذا يفسِّر لنا أنَّ مَن أجاز من العلماء بعضَ التَّطريبِ -في الكلامِ وفي الشِّعر-؛ إنَّما أجازهُ على طريقةِ الأعرابِ الخَشِنة التي لا تدعو النُّفوسَ إلى التَّكسُّر والتَّغنُّج.
وإلى هذا الحُكمِ -الذي ذكرتُه لكُم- ذهب ابنُ عبد البرِّ، وابنُ الجَوزي، وابنُ القَيِّم، والشَّاطبيُّ، وابنُ رجبٍ، وابنُ الحاجِّ، وغيرُهم مِن العلماء، قالوا: (هذه الأناشيدُ -التي عرفناها في أيَّامِنا- مِن تَكسُّر في اللِّسان، وتميُّعٍ في الكَلام -ولو كانت كلامًا صائبًا حَسَنًا-؛ فإنَّها لم تكن معروفةً عند القومِ الأوَّلين).
هذا ما أذكرُه في قضيَّة هذا الرَّد.
وقد يقول قائلٌ: إنَّ اللهَ -تبَارك وتَعالى- لمَّا نهَى عن كلِّ أنواعِ الغناء في قولِه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَّشْتَرِي لَـهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ}؛ قالوا:لهوُ الحديثِ الذي منعه اللهُ -تَعالى- إنَّما هو الذي يُضلُّ النَّاسَ عن سبيلِ الله؛ فهذا الممنوع -بنصِّ الآية-.
الجواب عن هؤلاء: ما مِن نشيدٍ إلا وهو يُلهي النَّاسَ عن ذِكر الله، كما رأيتُم في كلمةِ الشَّافعي -عليهِ رحمةُ اللهِ- في أصحابِ التَّغبير كيف جعلهم يَصدُّون عن سبيلِ الله، أو يصدُّون عن القُرآنِ الكريم بالتَّغبير.
والحقيقةُ: أنَّ من جرَّب هذا؛ فقد أيقنَ أنَّه صحيح.
كم عرفتُ من الشَّباب مَن يحفظَ هذه الأناشيدَ، يحفظُها عن ظهرِ قلبٍ، يُنشدُها في مناسباتٍ شتَّى، فلقد رأيتُه -وربِّ الكعبةِ- يقومُ وهو يُنشدُ، يجلسُ وهو يُنشدُ، يتَّكئُ وهو يُنشدُ، في كلِّ حركاتِه وسَكَناتِه وهو يُنشدُ، وما يلتفتُ إلى القرآنِ الكريمِ إلا قليلًا!!
فهذه الأناشيدُ مَثَلُها كمَثَلِ الخمر؛ ولذلك عُدَّ الغناءُ كالخَمر؛ لأنَّها تجعل صاحبَها يطلبُها بكثرةٍ.
قال ابن تيميَّة -عليهِ رحمةُ اللهِ-: «ولهذا: تجدُ مَن أكثرَ مِن سَماعِ القصائدِ -لطلبِ صَلاحِ قلبِه-؛ تنقصُ رغبتُه في سماعِ القُرآن؛ حتى رُبَّما كرهَهُ!».
ومَن يُنكر هذا؟ مَن يُنكر أنَّ أصحابَ الأناشيدِ لا يَهتمُّون ولا يَكترِثون بالقُرآنِ الكريمِ كثيرًا؟!
وهذه هي الحكمةُ التي مِن أجلِها منعَ الشَّارعُ الحكيمُ هذه الأناشيدَ وقطعَ دابرَها.
ولهذا: ذُكر لبعضِ العُلماء أصحابُ القصائدِ؛ فقال: (هؤلاء الفرَّارونَ مِن اللهِ -عزَّ وجلَّ-).
وحقيقةً: إنهم يفرُّون مِن الله -عزَّ وجلَّ-!
وأكثر مِن ذلك: فقد ورد عن عبدِ الله بن عمرو -رضيَ اللهُ عنهُما-: أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وآلِه وسلَّم- قال: «إنَّ مِن أشراطِ السَّاعة: أن تُرفَعَ الأشرارُ، وأنْ تُوضَع الأخيارُ، وأن يُفتحَ القولُ، وأن يُخزَن العَمل».
هذه شُرورٌ تظهرُ قبل قِيام السَّاعة: الأشرارُ مَرفوعُون، والأخيارُ مَوضوعون -أي: أنَّهم ذوُو قِيمةٍ هابطةٍ عند القومِ-.
وقال: «وأن يُفتحَ القولُ، وأن يُخزنَ العَمل»: النَّاس يتكلَّمون أكثرَ مما يعملون.
«وأن يُقرأ في النَّاس بالمَثناة»، قالوا: وما المَثْناة؟ قال: «كتبٌ غيرُ كُتُبِ الله» -رواه الحاكمُ والطَّبرانيُّ-وهو صحيح-.
هذه مِن أشراطِ السَّاعة.
والشَّاهد في هذا الحديث: أنَّه سيُقرأ بالمَثناةِ في القَوم، سأل الصَّحابةُ: ما معنى المَثناة؟ فقال: «كتبٌ غير كتبِ الله»؛ أي: سيقرأُ الناسُ كُتبًا هي غيرُ كتب الله -عزَّ وجلَّ-، ويحفلون بها، ويَفرحون بها.
وما هذه الكُتب؟
قال الجوهريُّ -عليهِ رحمةُ اللهِ-: «المَثناةُ: الغِناء».
ولقد صدق -عليهِ رحمةُ اللهِ-؛ لقد أصبح لأربابِ الغِناءِ -اليومَ- كُتبٌ -بَلهَ وأساتذةٌ ومدارِس!-، لهم شهاداتٌ، ولهم دِراساتٌ، كلُّ ذلك لا يعدُو على أن يكونَ للغِناء المَقِيت، وهذا هو صِدقُ نُبوَّة النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وآلِه وسلَّم-.
بل بلغ تعلُّق أصحابِها بها: أنهم -وهُم في مَناسِك الحجِّ-حيثُ لا يجوزُ أن نَذكُرَ فيها إلا الله-كما قال-تَعالَى-: {فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}- لا يستطيعُ أصحابُ الأناشيدِ أن يَستغنُوا عن أناشيدِهم -في ذلك الحين-!!
ولهذا: قال ابنُ القيِّم -عليهِ رحمةُ اللهِ- رآهُم يَفعلون ذلك بِمِنًى! سبحان الله! بمنًى!!
وأخرجهم مِن مسجدِ الخِيف، وجدهم يُنشِدون ويُطرِّبون بألحانِهم، ثمَّ قال: «ووجدناهُم بالمسجدِ الحرام كذلك» قال: «فاستعنتُ عليهم بِحزبِ الله حتَّى فرَّقنا شملَهم»!
نعم؛ هذا هو حالُ الإنسانِ الذي لم يقنعْ بالقُرآنِ الكريم، وما رضيَ إلا أن يُدنِّس لسانَه بالنَّشيدِ اللَّئيم.
وقد ذكرتُ لكم قاعدةً قُرآنيَّةً سُنِّيَّة عَلِمنا -مِن خلالِها- التَّنافُرَ الموجودَ بين القُرآنِ الكريم والغِناء، وأن أحدَهما إذا حلَّ بِلسان المرءِ؛ فرَّ الثَّاني، وأن أحدَهما إذا حلَّ بقَلبِ المرءِ؛ فرَّ الثاني.
وأزيدُكم بيانًا على هذا: ما رواهُ أبو حُسين الدرَّاج(*)...
قال: «فبتُّ تلك الليلةَ في مسجدٍ، ثم قلتُ: أنا جئتُ إلى هذه البلدةِ، فأقلُّ ما أفعلَه أن أزُورَه»، قال: «فبحثتُ عنه حتَّى وجدتُه في مسجدِه، وهو قاعدٌ في المحرابِ بين يديهِ رجلٌ بينَ يديهِ مُصحفٌ، وهو يقرأُ»، قال: «فدنوتُ، فسلَّمتُ؛ فردَّ السَّلام، وقال: مِن أين؟ قلتُ: مِن بغداد، قصدتُ زيارة الشَّيخ» أي: قصدتُ أن أزورَكَ، «فقال: تُحسِن أن تقولَ شيئًا؟» يعني: هل تُحسنُ شيئًا مِن الشِّعر؟ قال: «فقلتُ: نعم، وقلتُ:رأيتُك تَبنِي دائمًا في قَطيعَتِي .. ولَو كنتَ ذا حَزمٍ لهدَّمتَ ما تَبني».
ذكَّره بشِعرٍ مِن الزُّهديَّات؛ «فأطبقَ المصحفَ، ولم يزلْ يبكي حتَّى ابتلَّتْ لِحيتُه وثوبُه حتى رحمتُه! قال لي: يا بُنيَّ! لم تلومُ أهلَ الرَّيِّ إذا قالوا لك: يوسفُ بن الحُسين زنديق؟ هم وصفوني بالزَّندقة، لاحظ: مِن وقت الصَّلاة وهو ذا يقرأ عليَّ القُرآن، لم تقطُرْ عليَّ قطرةٌ، وقد قامت عليَّ القيامةُ مِن هذا البيت الشِّعري»!
يَذكر هذا ابنُ الجوزي -عليهِ رحمةُ اللهِ- في «تَلبيسِ إبليس».
وهكذا يُلبِّس إبليس على ذَوي الأناشيدِ.
لاحظُوا -يا مَن أنتم عاكِفون على هذه الأناشيد!- لاحظوا كيف تخشعُ قلوبُكم إذا سمِعتُموها؛ بل كيف تدمع أعينُكم لأوَّل وهلةٍ لأوَّل ما تَسمعون هذه الأناشِيدَ، وترتعدُ فَرائصُكم، وتقشعِرُّ جُلودُكم؛ فهلَّا كان هذا لقُرآن ربِّكم؟!
يتبع إن شاء الله
______________
(*) هنا انقطاع في الشَّريط! والقصَّة ذكرَها ابنُ الجَوزي -عليهِ رحمةُ اللهِ- في «تلبيسِ إبليس»، ومنه أكمل الجزء المفقود -هنا-: «عن أبي الحسين الدَّراج قال : قصدتُ يوسفَ بنَ الحسين الرَّازي مِن بغداد، فلما دخلتُ الرَّيَّ سألتُ عن منزِله، وكل مَن أسأله عنه يقول: إيش تفعل بذلك الزِّنديق؟! فضيَّقوا صدري حتى عزمتُ على الانصِراف. فبتُّ تلك اللَّيلة في مسجد...».