بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة فضيلة الشَّيخ علي الحلبي -حفظه الله-
حول المظاهرات وما سمِّي بـ: (مسيرة الزحف المقدَّس)!
إن الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفسِنا ومِن سيئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يضللْ فلا هاديَ له.
وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شَريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه.
أمَّا بعد:
فإنَّ أصدقَ الحديثِ كلامُ الله، وخيرَ الهَدْي هديُ محمد -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدَثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
وبعدُ:
فهذا -أيُّها الإخوةُ المشاهِدون، وأيتُها الأخوات المُشاهِدات-؛ لقاؤُنا العلميُّ المتجدِّدُ -بتوفيق المولى-سُبحانه وتَعالى- في برنامجكم الأسبوعيِّ: «فتاوى الأثر»، أستقبلُ فيه اتصالاتِكم واستفساراتكم واستفتاءاتِكم، ونُجيب بحسب ما يعيننا اللهُ -تعالى- عليه، والأمرُ في ذلك كما قال عبدُ اللهِ بنُ مسعود -رضي اللهُ عنه-: «مَن علِم علمًا؛ فليحدِّثْ به، ومَن لم يعلَم؛ فليقلْ: اللهُ أعلم».
ولا بدَّ مِن كلمةٍ -قبل بداية هذا البرنامج واستقبال أسئلتِكم واستفساراتِكم واستفتاءاتِكم-..
أقول: لا بد من كلمةٍ متعلِّقةٍ بحدَثٍ يجري في بلادِنا الأردن -وهي جزءٌ من البلاد المبارَكة-بلاد الشَّام-، البلاد التي بارك اللهُ فيها؛ لأنَّها حول المسجدِ الأقصى، وفي إطارِه ومُحيطِه-ردَّه الله-تعالى-مِن اغتصاب المغتصِبين، وإخوانِ القردةِ والخنازير-.
ذلكم أنَّنا على موعد بعد غدٍ -فيما سمِعنا، وسمع غيرُنا، وامتلأ القولُ في السَّهل والجبل!- بمسيرة -أُطلق عليها عدةُ أسماءٍ- ضدَّ الفسادِ، وطمعًا في الإصلاح!!
وابتداءً -هنا- عندنا مُسلَّمتان، ونحن نتكلَّم بالمنطق العلمي، بمنطقِ الحُجَّة والدَّليل -بغض النَّظر عن خطأ أو صوابٍ قد يصدرُ منا أو يبدُر عنا-؛ فالعلمُ اجتهادٌ في أصلِه، ثم خطأٌ أو صواب في نتيجتِه، ثم أجرٌ أو أجران عند الله -تباركَ وتعالى-.
المُسلَّمةُ الأُولى: أنَّنا -مِن حيث الرأيُ الفقهيُّ- نميلُ إلى أن المظاهراتِ والمسيرات -بكافَّة أشكالِها- لا تجوز، وهذا هو رأيُ أئمَّة العِلم الكبار -في هذا الزَّمان-مُجتمعةً أقوالُهم-: الشَّيخ ابن باز، والشَّيخ الألباني، والشَّيخ ابن عثيمين، ومَن في إطارِهم من أهل السُّنَّة ودعاة منهج السَّلف.
وأصولُ الأمرِ بالمعروف والنَّهي عن المُنكر مُنضبطةٌ في الشَّريعة، لا نحتاجُ إلى أن نستوردَ مِن عقائدَ أخرى، أو مِن أفكارٍ أخرى أمرًا زائدًا على ما في دينِنا -سواءٌ سُمِّيت هذه المسيرات أو هذه المظاهرات: سِلميَّة، أو غير سِلميَّة-؛ بالتَّجربة قلَّ أن تَسلمَ مظاهرةٌ -حتى لو سُمِّيت سِلميَّة- من الأذى أو الإيذاء -فضلًا عما هو أكبرُ مِن ذلك-.
نعم؛ قد يُقال لي -وقد قيل-: نعم؛ تَسلَم بعضُ المظاهرات مِن ذلك.
فأقول: هذا نادر، والنَّادر لا حُكم له.
والحمدُ لله أنَّنا في هذا البلد المُبارَك -على كثرةِ ما جرى-خلال سَنةٍ ونصف أو زيادة-مِن مُظاهرات واعتصامات وكذا-؛ لا تزال الأمورُ -بشكلٍ عامٍّ- فيها انضباطٌ، وفيها حِفظ للأمنِ المُجتمعي، وفيها وعيٌ مِن جميع الأطراف؛ ولكنَّ الذي نخشاه أن تنفلتَ الأمورُ.
ومهما حاولَ مُنظِّمو هذه المسيرات أن يَضبِطوا؛ قد يضبطون مائةً.. مائتين.. ألفًا.. ألفَين..؛ لكنْ لن يستطيعوا أن يَضبطوا كلَّ أحد؛ لأنَّ كلَّ إنسان يأتي ومعهُ خَلفيَّةٌ ذِهنيَّةٌ فِكريَّة معيَّنة، إن خيرًا فخَير، وإن شرًّا فشَر!!
المُسَلَّمة الثَّانية: أنَّنا ضد الفساد، ومع الإصلاح.
وعندما نتكلَّم عن الفساد لا نتكلَّم -أوَّل ما نتكلَّم- عن الفساد السِّياسيِّ، أو الفساد الاقتصادي -وهما أكثرُ شيءٍ يتكلَّم عنه دُعاةُ المسيرات والمظاهرات!-؛ ولكنَّنا -نحن- عندما نتكلَّم؛ فإنَّنا نتكلَّم -أوَّل ما نتكلَّم- عن الفساد الاعتقاديِّ، والفساد الأخلاقيِّ، والفساد السُّلوكيِّ، الذي منهُ ينتجُ -كثمرةٍ ونتيجة- الفسادُ السِّياسي، والفساد الاقتصادي أو المالي، فلا نُريد أن نَقلبَ الصورةَ، وأن نعكس القضيَّة؛ إنَّما نبتدئُ بما هو أهمُّ.
عندما جاء النَّبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- إلى أهل قُريش مِن أكابرِهم -وهم مَن هم في ذلك الزَّمن في مكَّة-، قالوا له: إن أردتَ مُلكًا ملَّكناك، وإن أردتَ مالًا أعطيناك!
ليس هذا هو الحلَّ!
ليس الحلُّ -فقط-بالنِّسبةِ لنا -نحن المسلمين-وإن جاز التَّعبير أضعها بين قوسين: (الإسلاميِّين!)-..
مع أن مصطلح (الإسلاميِّين!) أنا لا أحبُّه كثيرًا -معذرةً!-؛ لأن فيه تفريقًا بين أصنافِ أهلِ الإسلام؛ فصار المسلمُ شيئًا، والإسلاميُّ كأنَّه شيءٌ آخر!!
لكن: هذا شيءٌ درَج، ويُقصد به الدُّعاة، وإن قُصد به فئةٌ خاصَّة -اليوم- مِن الدُّعاة!
ونحن لسنا مع هذا التَّقسيم -ابتداءً-.
فالذين يُريدون الإصلاحَ عليهم أن يقتدوا بسيِّد المُصلِحين -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-، وسيِّد المُجاهِدين -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-، وسيِّد الآمِرين بالمعروف والنَّاهين عن المُنكر -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- بماذا بدأ، وكيف بدأ.
بدأ بالعقيدةِ، وبإصلاحِ الأخلاق، وبإصلاحِ السُّلوك، وبإصلاحِ العبادة والصِّلة مع الله -عزَّ وجلَّ-.
أمَّا السياسة والاقتصاد؛ نعم أمران مهمِّان؛ لكنَّهما ليسا في الأهميَّة بالدَّرجة الأولى.
نحنُ -أكرِّر بوضوح- نحن ضدَّ الفساد من أيةِ جهةٍ صدرَ هذا الفساد، ومن أي إنسانٍ ظهر هذا الفسادُ، ونربأُ بكلِّ ذي مسؤوليَّة أن يتستَّر أو أن يُغطِّي على أهل الفساد.
ولا صلاحَ للمجتمعِ والفردِ وللدَّولة لمَن هو في موقعِ المسؤوليَّة إلا بأنْ يُخلِّصَ المجتمعَ من الفاسِدين، ومِن المفسِدين، الذين هم في المجتمع بِذرةُ شرٍّ، كلما استمرَّ وجودُها؛ كلَّما كبرَ أثرُها، وعظُمت سيئاتُها ومساوئُها.
فيجبُ إيقافُ هؤلاء -مهما كانوا، وأينما كانوا- عند حدِّهم؛ لكن: كيف؟! هنا السؤال المهمُّ، وهنا المعضِلة!
أنا أقول:
الجميع -الآن- يعترفُ أنَّه هنالك فسادًا، وأنَّ هذا الفسادَ في مستويات شتَّى مُتعدِّدة، وأنَّه مضى عليه -وللأسفِ- عشراتُ السِّنين..؛ فأنا أقول -أخاطبُ أصحابَ القلوب الحيَّة، والضَّمائر النقيَّة-:
هل فسادٌ مضى عليه سنون وسنون يُمكن أن ينتهيَ ببضعة شهور؟!!
لماذا لا يكونُ هنالك تعاوُن إيجابيٌّ يشعر المجتمعُ فيه بالرَّاحةِ والاطمئنان، بالأمنِ والإيمان والأَمان، بالحُبور والسُّرور.. أنَّ هنالك تعاملًا إيجابيًّا بين المواطِن والمسؤول لإيقاف هذا الفاسد، وقَصْرِ شرِّه، وإنهاءِ فتنتِه -بدلًا مِن أن نخرجَ من فتنةٍ فرديَّة لنوقعَ المجتمع لفتنةٍ جماعيَّة!-.
هذه أمور لا أظنُّ أحدًا -لا أقول مِن أهل الإسلام؛ بل مِن بني الإنسان- سَويًّا في فِكرِه، سَويًّا في تصوُّرِه، سَويًّا في إراداتِه يُنكرُها، أو يَرفضُها، أو لا يَقبلُها!
هذا مما يجبُ أن تأتلفَ عليه القلوب والنُّفوس والعقولُ والضمائر؛ لننطلقَ بصوتٍ واحد ضمنَ الهُدوءِ والطمأنينة والوعي والمسؤوليَّة والنَّظر في مآلاتِ الأشياء بكلمةٍ تُوقِفُ هذا الفاسدَ، أو ذلك المُفسدَ عند حدِّه.
والوجهُ الآخر لِمضادَّة الفساد: هو الدَّعوةُ إلى الإصلاح.
أيضًا؛ الدعوةُ إلى الإصلاح لها ضوابطُها.
هنالك أمورٌ يَعرفُ الجميعُ أن مجال إصلاحِها موجود؛ لكنْ: لهذا الإصلاح مراحل.
وأنا -الحقيقة- لا أريدُ أن أدخل في التَّفاصيل -سواء فيما يتعلَّق بموضوع الانتخابات والأصوات-من جهةٍ-، أو في الحكومة البرلمانية، أو التَّعديلات الدُّستوريَّة-.. أنا أقول: هذا -كلُّه- ليس قرآنًا كريمًا، وليس «صحيحَ البُخاري»!
الدُّستور وغيرُ الدُّستور قابلٌ للأخذ والعطاء، ونحن نقولُها -ها هنا-مدويةً-:
يجبُ أن تكون أحكامُ الدِّين والدُّنيا والدَّساتير -كلِّها- في العالَم -أجمع-رضيَ من رضي، وأبَى من أبى- مُنبثقةً عن الإسلام، راضيةً بالإسلام، راجعةً إلى الإسلام.. واللهِ؛ سيكون فيها السعادة، وسيكون فيها الغَناء والهَناء، وسيكونُ فيها دفعُ البلاء واللَّأواء، سيكونُ فيها راحةُ الفردِ والمجتمع وطمأنينةُ الحاكِم والمحكوم.
أمَّا أن نعيش بنظرةٍ سَوداويَّة، وحالةٍ فوضويَّة، لا نعرفُ مستقبَلَنا، ولا نضمنُ أو نضبطُ مستقبل أُسَرِنا وأبنائِنا؛ بحجَّة: دفع الفساد، أو مضادَّة الفساد، أو المطالبة في الإفساد..! -وبخاصَّة إذا تولَّى هذا الأمرَ بعضُ النَّاس -معذرةً!- الذين لا يخلو قولُهم مِن حماقة! -نسأل الله العافية-؛ فلا نراهم يَقبَلون القولَ والقول الآخر، وهم في الوقت الذي يُنادون فيه بالدِّيمقراطيَّة!!
لا الإسلام قَبِلوا -أن يقبَلوا حُكمَ المجتهد وقولَه-، ولا الدِّيمقراطيَّة قَبِلوا -أن يَقبَلوا الرَّأي والرَّأي الآخر-!!
ماذا تريدون؟!!
لا تُريدون الإسلام، وأنتم تُظهرونه؟!
ولا تَقبَلون الدِّيمقراطيَّة، وأنتم تتغنَّون بها؟!
إذن: ما الحل؟!
وأين المصير؟!
وأين المسير؟!!
إلى متى.. وإلى أين؟!
أن أتَّهمك، وأن أطعنَ فيه؛ هذا مِن أسهل شيء!
قلتَ: خائن!
أقول: أنتَ خائنٌ أكبر!
قلتَ: مجرم!
أقول: أنتَ سيِّد المجرِمين، ومِن أكابر مُجرميها!
قلتَ: أنتَ أفتَيتَ بكذا وكذا بالباطل!
أقول: بل أنتَ أفتيتَ كذا وكذا بالباطل!
أين قولُ الله: {قُلْ هاتُوا بُرهانَكُم إِنْ كُنتُم صادِقينَ}؟
أين قولُ مَن قال مِن أهل العلم:
والدَّعاوى ما لَم تُقيموا عليها ... بيِّناتٍ أصحابُها أدعياءُ
وبين هذا وذاك قولُ النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-:
«البيِّنةُ على المدَّعِي واليمينُ على مَن أنكر».
يأتي بعضُ النَّاس ليردَّ -كما توهَّم!- على كلامٍ قلتُه -لا يخرجُ عن الإطارِ الذي ذكرتُه في الدَّقائق القليلة الماضية-؛ فإذا به يقول: فلان -ويقصدني- أفتى بقتلِ (س) -من النَّاس-، أو (ص) -من الناس-!!
والله؛ إنَّ هذا الزَّعم -كما يقال- مما تضحكُ منهُ الثَّكالى!!
نعم؛ مما تضحكُ منهُ الثَّكالى!!
أيُّها الإخوة والأخوات:
منهجُنا معروف وواضح ومعلَن، ليس عندنا أسرار، وليس عندنا دسائس، وليس عندنا أمور تحت الطَّاولة، وأمور فوق الطاولة..، ما هنا؛ هنا -دون مثنويَّة، ومِن غير تردُّد-.
نحن لا نُجيزُ قتل الكفَّار المستأمَنين في بلاد المسلمين؛ فكيف نُجيزُ المسلمين في بلاد المسلمين؟!!
للأسف!
هذه بدهيَّة، هذه قضيَّة ينبغي أن تكونَ مُتصوَّرةً في الأذهان أَبيَنَ تصوُّر وأوضحَه.
لكن: عندما يفقد الإنسانُ مُقوِّمات البحث العِلمي؛ فإنَّه يخبط خبط عشواء، لا يستطيع أن يُدافع عن نفسِه، أو عن فكرتِه إلا بالطعن واللَّعن والسَّب والشَّتم والاتِّهام!
الرسول -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- يقول:«مَن قال في مؤمنٍ ما ليس فيه؛ أسكنهُ اللهُ ردغةَ الخَبال حتى يخرجَ مِمَّا قال»، وردغةُ الخَبال -كما في حديثٍ آخر-: «عُصارة أهل النار».
فتاوى القتل ليست مِنا، وليست عنَّا، وليستْ طريقتَنا.
مَن مارسَ القتلَ في الشَّوارع وفي الطُّرقات لا أنتظرُ فتوى فلان أو عِلان أو زيد أو عمرو -فضلًا عن أن يُفترَى عليه بنقيضِ قولِه-..!
على أنَّني أقول -بالنِّسبة إلى هذه الجزئيَّة-:
هذا أمرٌ مضى عليه أربعُ سنوات، وكذَّبناه -منذُ لحظتِه الأُولى-، وكتبنا في الإنترنت، وكتبنا في بعضِ الصُّحف، وحتَّى بعض القنوات الفضائيَّة -الشَّهيرة- عقدتْ معنا لقاءً في ذلك..؛ لكن: هؤلاء -للِأسف!-أو بعضهم- كالتَّاجر المفلِس يبحثُ في الدَّفاتر القديمة -وللأسف الشديد!-..
أيضًا؛ قضيَّة أخرى:
يقول: هذا ضدَّ الإصلاح، وهذا ضد المصلِحين!!
إمَّا أوافقك في كلِّ ما تقول، وإمَّا أن أكون ضدك؟!
إما أن أكون معك نسخة طبق الأصل، أو أكون خائنًا، أو عميلًا، أو مِن جماعة السَّلاطين -كما يقال-؟!
لم أسعَ يومًا -والحمدُ لله- إلى نيابة، ولا إلى وزارة، ولا إلى وظيفة..
هذا الكلامُ يُقال لمن يَفعل ما يفعل -اليوم- طمعًا في مستقبل له وزارة وله نيابة، وله حكومة.. -ولو على ما أنتم ترَون وتخشون ونخشى ويخشى كلُّ ذي نظرٍ مما هو واقع ما له من دافع-؛ إلا أن يتغمدنا الله برحمته.
وأنا على مثلِ اليقين: أن شعبَنا ومُواطنينا وإخوانَنا وأهلَنا وأبناءَنا على وعيٍ كاملٍ؛ أن يكونوا -أوَّل ما يكونون- حُماةً لأنفسِهم؛ أن يُحكِّموا العقلَ، أن يكون التَّأنِّي رائدَهم، وأن يكونَ التمهُّل في الأمور قائدَهم، وأن يَعلموا أن الفوضى إذا حصلتْ؛ فإن نتيجتَها خطيرة ووبيئة وقاتلة، ومَن رأى العبرةَ بأخيه؛ فلْعتبر.
انظروا هنا وهناك وهنالك -ممن هم حولنا، وممن هم قريبون منَّا- ماذا يُعانون من الفوضى، وماذا يُعانون من اللامسؤوليَّة إذا انفلتَ عِقدُ الفتنة، وانفرط سِلكُه وِنظامُه.
فالعميلُ والخائنُ هو الذي يخونُ وطنَه، يخونُ دينَه، الذي يقدِّم مصلحةَ الحزبِ والشَّخصيَّة والأنا على مصلحة المجتمع والأمَّة.
وأنا أعتقدُ أنَّه لا يوجد تناقضٌ -البتةَ- بين أن نقرَّ هذا الأصلَ -مِن جهة-، وأن نطالبَ بالإصلاح ضمن القنوات الشَّرعيَّة -من جهةٍ أخرى-، وأن نكونَ ضدَّ الفساد -مِن جهةٍ ثالثة-؛ لكنْ: بعضُ الناس يتصوَّرون أنه لا طريق إلا هذا الطريق، ولا سبيل إلا هذا السَّبيل!
يا أخي؛ فلْتقل ما تريد أن تقول، ولْتفعل ما تريد أن تفعل؛ لكنْ -وأنت تقول: (أنا إسلامي)!، أو تقولها-أكثرَ وأكثر-: (أنا ديمقراطي)!-؛ لماذا لا تَقبل القولَ الآخر والكلام فيه -بهدوءٍ وإنصافٍ ورَويَّة-، ليس فيه طعن، وليس فيه تجريح، ليس فيه تخوين..
لماذا: إمَّا أن تكونَ معي، أو أن تكونَ ضدِّي؟! أم أنَّكم نسيتُم هذه سياسة مَن؟
ما بالُنا نستعمل سياسة عدوِّ الأمس بأحوال اليوم -وللأسف الشَّديد-؟!
وآخر ماذا يقول؟
يقول: (هذه فتاوى مُسَيَّسة)!
وهذه عبارة -في الحقيقة- لا يُراد من ورائها إلا الطعن!
أي فتاوى مُسَيَّسة..؟! وهذا منهجُنا الذي أنتَ تعرفُه، وأنتَ تعرفه.. وأنتَ تعرفه منذ أن فتَحْنا أعينَنا على العلم والدعوة..
هل تغيَّر منهجُنا؟.
هل تغيرت طريقتُنا؟
نحن نُفرِّق بين أن نُسَيِّس الدِّين، وبين أن نفصلَ الدِّينَ عن السياسة.
فصلُ الدِّين عن السِّياسة لا يجوز -بأيِّ حالٍ من الأحوال-.
أمَّا تَسيِيسُ الدِّين؛ فهذه أخطرُ وأشدُّ وأنكى!
لأنَّها قد تَخرج من أناسٍ لا يريدون خيرًا للمجتمع، ولا للوطن، ولا للأمَّة، ولا دين الأمَّة!!
لذلك: نحن عندما نتكلَّم في الدِّين بالحجَّة -فيما نعتقد-.. أن نكون أخطأ أم أصبنا-أكرِّر هذه الجزئيَّة- أن نكون أخطأ أم أصبنا؛ هذه مسألةٌ أخرى، وقضيَّة أخرى؛ كما قال الإمامُ مالك: «ما مِنَّا إلا رادٌّ ومردودٌ عليه؛ إلا النَّبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام-»..؛ لكن:
رُدَّ علي بأدب.. رُدَّ عليه برِفق.. ردَّ عليه برحمة..
لماذا ترد عليَّ بالعُنف والتخوين؟!!
لماذا تردُّ عليَّ بالعبارات الصَّلِفة التي أستطيع أن أَقلِبَها عليكَ بأشدَّ!
فإذا كان لكَ قلم؛ فعندنا أقلام!
وإذا كان لكَ لسان؛ فعندنا ألسِنة!
لكن هذا ليس هو الخُلُقَ المحمَّديَّ، وليس هو الأدبَ النَّبويَّ -الذي تعلَّمناه، وتربَّينا عليه، ونحرصُ عليه-وإن كان ذلك-كلُّه-في نقصٍ-نسأل الله أن يسترَ فيه علينا وعليكم وعلى جميع المسلمين والمسلمات-.
يقولون: (فتاوى مُسَيَّسة)!!
لا تحاكِمونا على المواقف؛ حاكِمونا على المبادئ.
هذه مبادئُنا منذ أن فتحنا أعينَنا على العلم، لَم تَمرَّ قضيَّةٌ كبرى مِن قضايا الأمة؛ إلا ولنا فيها قولٌ كما كان مشايخُنا؛ وبخاصَّة: الشَّيخ الألباني-رحمه الله- الذي جلسَ في هذا البلد، ودُفن في ثرى هذا البلد..
جلس أكثر مِن عشرين سَنَة، وقد فتح الله -تعالى-على يديه- قلوبَ العباد وعموم البلاد -مِن بركة هذا البلد، ومِن توفيق الله له في هذا البلد-، وانتشر علمُه، وانطلقَ نجمُه في هذا البلد، وانتشرت مؤلفاتُه في هذا البلد..، ومع ذلك؛ لم يسكت!
ونحن لن نسكت..!
لكنَّنا: لا نستعمل لغةَ التَّهديد، ولا نستعمل لغةَ الوعيد، ولا نستعملُ لغةَ التَّخوين!
نحن نستعمل لغةَ العِلم؛ نقول: (اتَّقوا الله)!
ألا يعجبكم أن نقول: (اتَّقوا الله)؟!
لماذا تَضيقون صدرًا بقولِنا لكم: (اتَّقوا الله) وقد قالها الله -تَعالى- للمؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ}، وقد قالها الله -تَعالى- لنبيِّه الأمين: {يَا أَيُّهَا النَّبيُّ اتَّقِ الله}، أم أنَّكم فوق هذا الأمر الإلهي؟!
أم أنَّ الحزبيَّة طغت وطفت حتى تجاوزتْ شريعةَ الإسلام ودين الإسلام وآدابَ الإسلام وأخلاقَ الإسلام؟!!
ليس هذا هو ما يريدُه الله مِنا!
يريدُ الله مِنَّا ما أمرَنا به: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ}.
لا يريدُ اللهُ -تباركَ وتَعالى- منَّا أن نتفرَّق شذَر ومذرَ في بلد -أقول- له خصوصية متميِّزة -ومتميِّزة جدًّا-أنتَ تُدركها-يا أخي المسلم!-، وأنتِ تدركينها-يا أختي المسلمة!-..
أنا أخاطب العقولَ -لا أريد أن أخاطبَ العواطف-كما يفعل غيري!-..
أُخاطب الضَّمائر -لا أريد أخاطبَ الحماساتِ-..
أريد أن أنظر المآلات -قبل أن أنظر إلى أوائل الخطوات-!
نعم؛ فالفقيهُ هو الذي ينظر إلى مآلات الأمور، ولا ينظرُ إلى مبادئها ومفاتيحها وأوَّلياتها وأولوياتها.
إن النَّاظرين إلى أوَّليات الأمور -دون إدراكِ عواقبِها وعقباتها ومآلاتِها ونتائجِها وثمراتِها-؛ هؤلاء ليسوا مِن الفقه في شيء!
ولئن كانت المطالبةُ بنقضِ الفساد مُؤدِّيةً إلى إفسادٍ أكبر؛ كانت هذه مُطالبةً محرَّمة بإجماع الأمة.
لماذا لا تقرؤون ولا تتفقَّهون بما قرَّره الإمام عزُّ الدِّين ابن عبد السَّلام -الذي كثيرًا ما تتغنَّون ونتغنَّى بسيرتِه وبمواقفه البطوليَّة الشُّجاعة-؟!!
لماذا لا تنظرون إلى تأصيلاتِه في هذا الباب في كتابه: «قواعد الأحكام في مصالح الأنام»؟
أقام كتابَه -كلَّه-على مصالح الأنام..تفريغ: أم زيد
من هنـا اللقاء مسجًّلًا
(*) كانت الكلمة في افتتاحيَّة برنامج (فتاوى الأثر) -على قناة الأثر-، اللقاء التاسع عشر.