أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا

             
58103 92655

العودة   {منتديات كل السلفيين} > منابر الأخوات - للنساء فقط > منبر الصوتيات والمرئيات والكتب و التفريغات - للنساء فقط

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 06-01-2012, 02:35 PM
أم زيد أم زيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 5,264
افتراضي [ تفريغ ] (الدرس السادس/1-2) شرح منظومة القواعد الفقهية/للسعدي - مشهور بن حسن

بسم الله الرحمن الرحيم

شـرح
«منظومة القواعد الفِقهيَّة»
-للإمام السَّعدي-
-رحمهُ الله-


[الـدَّرس السَّـادس]
(الجزء الأوَّل)

لفضيلة الشَّيخ
مشهور بن حسن آل سلمان
-حفظه الله-




14. وَضِـدُّهُ تَـزاحُـمُ الـمَــفَــاسِـــدِ ... يُـرْتَـكَـبُ الأَدْنَـى مِـنَ المَفَـاسِـدِ
15. قَــاعِـــدَةُ الشَّريعـــةِ التَّيسير ... فـِي كُـلِّ أَمْــرٍ نَـابَــهُ تَـعْـسِـيــرُ
16. وَلَـيْـسَ وَاجِــبٌ بِـلا اقْــتِــدَارِ ... وَلاَ مُـحَـــرَّمٌ مَــعَ اضْــطِـــرارِ



إن الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفسِنا ومِن سيئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يضللْ فلا هاديَ له. وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شَريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه.

أما بعد:
هذا البيت الرابع عشر من المنظومة يقول فيه الناظم:
14. وَضِـدُّهُ تَـزاحُـمُ الـمَــفَــاسِـــدِ ... يُـرْتَـكَـبُ الأَدْنَـى مِـنَ المَفَـاسِـدِ
عبَّر الناظم بهذا البيتِ على قاعدةٍ هي عكس القاعدة السابقة، وهذه القاعدة تقول: (إذا تزاحمتِ المفاسد يُرتكبُ أدناها).
إذا تزاحمت المصالح يُرتكب أعلاها، وإذا تزاحمتِ المفاسد يُرتكبُ أدناها.
رجل دخل على صلاة الجماعة والإمام يُصلي، ولا يدري هل يُدرك قراءة الفاتحة في الصلاة السريَّة خلف الإمام أم لا، بماذا يبدأ؟ تزاحمت في حقِّه المصالح: يقرأ دعاء الاستفتاح أم فاتحة الكتاب؟ أيهما الأعلى؟ فاتحة الكتاب أم دعاء الاستفتاح؟ فاتحة الكتاب؛ لأنها رُكن، والاستفتاح سُنة، ولا سيما بعض الناس قد يبدأ بدعاء الاستفتاح الطويل، فيقرأ أطول دعاء من أدعية الاستفتاح، وإذا كان الإمام يتعجل فيركع ولم يقرأ الفاتحة أو لم يتمِّم الفاتحة، وهذا عكس القاعدة المعمول بها عند العلماء: إذا تزاحمت المصالح؛ فالعبدُ الموفَّق يرتكب أعلى المصالح.
تزاحم الفرض الواجب الكفائي مع الواجب العيني؛ قدَّمنا الواجب العيني.
تزاحم الفرض مع السنة؛ قدَّمنا السُّنة.
تزاحمت المصلحة العامة على المصلحة الخاصة؛ قدَّمنا المصلحة العامة.
تزاحمت المصلحة المتحقِّقة مع المصلحة المنتظَرة؛ قدَّمنا المصلحةَ المتحقِّقة.
بينما إذا تزاحمت المفاسد: فالواجب على العبدِ أن يقدِّر هذه [المفاسد] بالتقدير الشرعي لا بالأمر العُرفي ولا بالأمر الحِسي، ويجعل أدنى المفاسد هي التي تُرتكب.
فخذوا مثلاً من هدي النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-: أعرابي دخل المسجد، والأعرابي يبول في أي فضاء، ليس عندهم مراحيض، ولا يمنعه أن يبول في أي مكان، والأعرابي بال بعد الصلاة -كما صحَّ في الروايات-..
وهنالك لفتة بديعة للإمام ابن الملقِّن في «الإعلام بفوائد عمدة الأحكام» استفاد من حديث الأعرابي -وإن ذكرتُ الفائدة قبل سرده وهذا ليس من العلم، لكن أنا أسرد أذكر الفائدة بناء على قصة الأعرابي وبوله إن شاء الله هي معروفة عندكم-.
..استنبط من هذا أن الحاقن ليست دائمًا صلاتُه باطلة؛ لأن الظاهر في الأعرابي كان حاقنًا ولكن كان يفهم ويعي ما يقول، فلما بال بل تغوَّط بعد أداء الفريضة، كان عنده شيء من الاحتقان في البول، ولم يأمره النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- أن يعيد، أقره، وهذه لفتة عظيمة وجليلة ونادرا ما تجدها في كتاب -في الحقيقة-.
نعود للقصة -فهذه [الفائدة] ليست من صُلب القصة-:
فالأعرابي دخل في المسجد فنظر فذهب إلى ناحية من نواحي المسجد وبال وتغوط، رأوه الأصحاب، والأصحاب رضي الله تعالى عنهم يعظمون شعائر الله فذهبوا لينكروا عليه، فرآهم النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- فقال لهم النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-: «لا تزرموه» لا تقطعوا بوله «دعوه» اتركوه يبول في المكان الذي هو فيه، وبعد أن فرغ علمه النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- أن هذا لا يجوز، بأسلوب طيب لين، وأمر بذَنوب من ماء، بدلوٍ من ماء بحيث ينظَّف هذا المكان الذي تغوط فيه هذا الأعرابي، فلما رأى الأعرابيُّ نُفرةً وإنكارًا شديدًا من الصحابة عليه، ورأى لينًا ولُطفًا في التعليم من رسول الله -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- قال الأعرابي داعيًا قال: «اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا».
فالشاهد: أن الرفق واللين أمر حسن، لكن يا ترى: الصحابة رضي الله عنهم الذين أنكروا ما قدَّروا المفاسد، أن يُرتكب أدنى المفاسد، النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- أعطانا درسًا: إذا لا بد من ارتكاب المفاسد فنحن نرتكب أخفَّها.
طيب؛ لو عقدنا مقارنة أيهما الأخف: معاملة الصحابة أم ترك النَّبي ؟ ترك النَّبي له، تخيل لو أنه مشى في المسجد فكان قد نجس بقعة محصورة معلومة، لكنه لو أُنكر عليه وخرج أو مشى وهو يقضي حاجته فانتشار النجاسة فتكون في مادة أوسع، مع حال الرجل، مع أذى الرجل -الأذى النفسي والأذى المادي-، والنَّبي قال: «لا تزرموه بالبول» شيء قد غلبه، فلو قدرنا المفسدة فنجد أن النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- قدر أدنى المفاسد على التحقيق، الصحابة ما قام في بالهم إلا أن هذا بيت الله -عزَّ وجلَّ- وبيتُ الله لا يستحق فيه هذا، هذا أمر مفسدة، لكن هذا الأعرابي يُعلَّم، وفي حقِّه هذه المفسدة مغلوبة؛ لأنه أعرابي يفعل ما يخطر في بالِه، ولا يعرفُ هذه الحُرمة، فعلَّمه النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-، سدَّ هذه المفسدةَ بالتعليم؛ لأنه جاهل، علَّمه، وقدَّر النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- المفاسد، وجعل أدنى المفاسد هي التي تُرتكب.
الآن الأمر في تقرير المفاسد -كالمصالح-: ينبغي أن تكون بِحُكم الشرع.
لو أن رجلًا اضطرَّ أن يقعَ في مكروه أو في حرام، إيش يختار؟ في المكروه.
لو اضطر أن يأكل مالًا حرامًا لعينِه أو حرامًا لغيرِه، إيش يختار؟ لغيره.
لو خُير بين أن يأكلَ مالًا حرامًا أو مالا مشبوهًا، إيش يختار؟ يختار المال المشبوه.
طيب؛ نعقد بعض الأشياء..
كما ذكرنا أن المصالح درجات، المفاسد درجات، وذكرنا في حديث ابن مسعود -المتفق عليه-: سئل النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-: أي المفاسد أعظم؟ قال: «أن تشركَ بالله وقد خلقك» قيل: ثم أي؟ قال -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-: «أن تقتلَ ولدك مخافة أن يطعم معك» قيل: ثم أي؟ فقال -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-: «أن تُزانيَ حليلةَ جارك».
فالمفاسد درجات، والإنسان ينبغي إذا اضطر اضطرارًا، وإذا ألمَّت به الأمور وأن يقع في محذور؛ فينبغي أن يتعامل في الوقوع مع المحذور بعِلم وفِقه.
مثلًا: اضطر الإنسان يعلم إن صدقَ فلعله يُضرر غيرَه، وهذا قد يقع عند بعض الناس، إيش يعمل؟ يترك الصدق، كيف يترك الصدق؟ يُورِّي، تورية «إن في التَّوريَة لَمندوحةٌ عن الكذب» هذا قول عمر، وكان ابن سيرين يقول: «إن العربيَّة أوسع من أن يكذب فيها ظريف» اللي يفهم العربية ما يكذب، اللي يفهم العربية يُورِّي، والتَّوريَة تحتاج إلى فطنة، وتحتاج إلى ذكاء، وتحتاج إلى معرفة جيِّدة بالعربيَّة.
إيش حُكم التَّوريَة؟
خذوا هذا الضابط المهم -وهو من الضوابط المهمة التي تَلزم-:
متى كان البيانُ حرامًا؛ كانت التَّوريَة واجبةً، ومتى كان البيان واجبًا؛ كانت التَّوريَة حرامًا، ومتى كان البيانُ مسنونًا؛ كانت التَّوريَة مكروهةً، ومتى كان البيانُ مكروهًا؛ كانت التَّوريَة مسنونةً.
فحُكم التَّوريَة مع حُكم البيان حُكمان متعاكِسان.
يعني مثلًا: يجب عليك البيان أمام القاضي ليظهرَ المُحق من المُبطل، يحرُم عليك التَّوريَة، ويجب عليك البيان.
إن بيَّنتَ يُسفك دم إنسان، أو يؤخذ مالُه؛ فتجبُ عليكَ التَّوريَة.
فحُكم التَّوريَة مع حُكم البيان حُكمان متعاكِسان.
فالواجب على الإنسان إن اضطر لارتكاب المفاسد أن يرتكب أدنى هذه المفاسد.
طيب: هذا الأدنى كيف يُعرف؟ بالشرع.
امرأة مأسورة، أُسرت، واستطاعت أن تهرب، بقاؤها في الأسر مفسدة، وهربُها ورجوعها إلى ديار الإسلام دون مَحرم مفسدة، طيب إيش ترتكب هي؟ تهرب بدون محرم ولا تقول أنا ما يجوز لي أن أهرب إلا مع محرم؟ إيش تعمل؟ تهرب بدون محرم؟ ليش تهرب بدون محرم؟ لا بد أن تقع في مفسدة، مفسدة الأسر، وتترتب على مفسدة الأسر ما تعلمون، أو مفسدة الرجوع إلى ديار المسلمين بدون محرم.. ارجعي بدون محرم.
ولذا: المرأة -كما في «صحيح مسلم»- التي أسرت، ثم رأت النوق لما هربت حتى جاءت العضباء -ناقة النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-- فوجدتها ليِّنة، فركبت عليها، ونذرت: إن نجاها الله تعالى أن تذبحها، فلما وصلت المدينة أُخبر النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- بالخبر، فالنَّبي ما لامها أبدا كيف أنها رجعت بدون محرم، هذه تُحمد ولا تُلام، ولكنه علَّمها، ما أحسنت التصرف، فقال النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-: «بئس ما جزيتِها! أنجاها الله عليها وتنحرها؟! لا نذر فيما لا يملك ابنُ آدم» الناقة ليست لك ونذرتِ أن تذبحيها وهي ليست لك، والله -عزَّ وجلَّ- نجاك بسببها وكان جزاؤها أن تُنحر! فأخطأت مرَّتين، فعلَّمها -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-، النَّبي معلِّم مُربٍّ مُزكٍّ -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-.
طيب؛ لو قُلنا -مثلًا-لا نقول للارتكاب؛ نقول للتصور؛ حتى تصير عندنا ملَكة ونتصور أوسع-: لو قال لك قائل: أيهما أشد فسادًا في الشرع: نكاح المُحلِّل أم نكاح المُتعة؟ نكاح المحلِّل أشد. لماذا نكاح المُحلل أشد في شرع الله من نكاح المُتعة؟ [مداخلة] لأن المتعة كان حلالًا في يوم من الأيام؛ بينما نكاح المُحلِّل لم يكن حلالًا في يوم من الأيام، فنكاح المُتعة في الشَّرعِ أيسرُ من نكاح المُحلِّل، مع أنه حرام، ثبتت حُرمته في «صحيح البخاري»: «نهى النَّبي عن نكاح المتعة في خيبر».
ثم الحمد لله، ثم الحمد لله، ثم الحمد لله ملء السماوات والأرض وما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد: أن راوي تحريم نكاح المتعة علي بن أبي طالب، الصحابي اللي روى لنا حُرمة نكاح المتعة علي بن أبي طالب؛ فالحمد لله في «البخاري» وعلي رضي الله تعالى عنه.
طيب: لو سأل سائل: أيهما أيسر أن تأكل من الخنزير أم من الميتة للمضطر؟
الميتة، الخنزير محرَّم لذاتِه، والميتة محرَّمة لوصفِها، يجوز الاستفادة منها، الميتة يجوز أن تستفيد من عظمها، تستفيد من ناب الفيل الميت، يجوز أن تستفيد من الجلد بالدباغة، أما الخنزير إيش تستفيد منه؟ ما تستفيد منه شيئا؛ حرام لذاته.
طيب؛ أسألكم سؤالاً وأريد الجواب عليه في الدرس القادم، وفكِّروا فيه:
أيهما أيسر: أن تأكل الميتة؟ أم أن تعتدي على مالِ مسلمٍ محترمٍ فتسرق منه؟
ممكن أن آكل وأدفع الهلاك بالسرقة، نسرق من مال مسلم من المسلمين، وخلاص ادفع الهلاك، أو أني آكل ميتة.
تأملوا المسألة، لا نتعجل، وانظروا أيهما الأهون والأيسر في شرع الله تعالى، وارجعوا للمراجع؛ تجدوا الجواب إن شاء الله، لكن أريد منكم: العقل الباطل كما يقولون يشتغل.
طيب: رجل يعمل في مكان فيه محرَّمات أيهما الأحسن أن يترك العمل ولا يعمل؟ يختلف باختلاف حال الناس.
يعني مثلًا: رجل تقي، كبير السن، بعيد عن فتنة النساء، يعلم الله من قلبه إنه يعامل البنات كبناتِه، لا يغشهن، يذكرهن بالله، يخوِّفهن بالله، لا يتأثر، إذا وُجد هذا النَّوع من الناس؛ نقول له: اخرج اترك؟ إيش نقول له؟ ابق ولا اترك؟ متى رأيتَ ضعفًا اترك، {بل الإنسانُ على نفسِه بصيرة . ولو ألقَى مَعاذيرَه} متى رأيت من نفسك ضعفًا؛ اترك، أما إذا أنت تؤثر؛ علِّم ذكِّر بالله سبحانه وتعالى.
فالإنسان الذي يعمل في مكان فيه حُرمة من أكثر من وجه هو الذي يُقدِّر، وما ينبغي للمسلم أن يرى الحرامَ ويبلِّد على الحرام، ينبغي أن تكونَ عنده فطنة، ويُحسن كيف يغيِّر.
بعض الناس عنده قاعدة صحيحة وهي فرع من فروع بل هي قاعدة كثيرة لكن العلماء يذكرون لها تعلُّقًا بالقاعدة المبحوثة التي نتكلم فيها، وهي قاعدة: (إذا تزاحمت المفاسد وارتُكب أدناها)، العلماء أيضا من فروع هذه القاعدة يقولون: (درء المفاسد مقدَّم على جلبِ المصالح).
الآية: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} أنت إن سببت آلهة المشركين الباطلة؛ فالمشركون يسبُّون الله -عزَّ وجلَّ- عدوانًا وظلما؛ فيحرمُ عليك أن تسبَّ آلهتَهم حتى لا يسبَّ الله جل في علاه.
فدرء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح.
فالشرعُ منعَ من التجارات بالمحرَّمات وإن ترتب على هذه التجارات بعض المكاسب، فدرء المفاسد أولى من جلب المصالح.
يَحرُم شرعًا أن أبنيَ في بيتي وأن أفتح نافذة في هذا البناء يكشف عورات جيراني، هذا حرام شرعًا.
وحرام علي أن أبني بناءً يحجب الهواء عن جيراني.
هنالك نظرية كبيرة عند العلماء -وهي من أجود النظريات- تسمى: (نظرية التعسُّف في استعمال الحق).
لا يجوز أن تتعسف في استعمال حقك: تبني مصنعًا تخرج منه مواد عديمة مؤذية أو روائح كريهة في الأحياء السكنية؛ فهذا كله مع أنها تجلب مصالح إلا أن درء مفاسدها مقدَّمة على جلب المصالح.
طيب؛ لو اختلطت أخت بمجموعة من النساء الأجنبيَّات، ولم تستطع أن تحدِّد أختك في نساء محصورات؛ فالشرعُ يمنع الرجلَ أن يتزوجَ من جميع هذه النساء المحصورات، ويُحرِّم عليه الخلوةَ بهن، ويُحرِّم عليه أن يكونَ مَحرمًا في سفرهن.
يعني أضرب لك مثلًا: أنت تيقَّنتَ أنك رضعت من امرأة، ولكن الأخبار تضاربت، لكن أنت متيقِّن: يا رضعتَ من فلانة يا مِن أختها، ومستحيل أنك رضعت من امرأتين، رضعتَ من امرأة واحدة: يا من فلانة ويا من فلانة.. إيش تعمل؟ تَحرم عليك بنات فلانة وبنات فلانة.
انتشار امرأة بين مجموعة نساء محرَّمات عليك محصورات.
بس لو واحد قال لك -مثلا- أنت رضعت من امرأة في الأردن غير محصورة، أو في عمَّان، وكم عدد نساء عمَّان، كل نساء عمَّان حلال لك، حتى تتعيَّن، أو إن لم تتعيَّن بالذات؛ تُصبح الحُرمة في شيء محصور، فمتى حُصرت المحرَّمات؛ فحينئذٍ سدًّا للذريعة نقول: درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح.
طيب؛ الأَمة يجوز للرجل أن يتزوج أمةَ غيره؟ أمتك تمتع بها، الأمة التي عندك أنت تتمتع بها بالتسرِّي، وليس بالعقد، ليش بالتسرِّي؟ قالوا: سُمي التسرِّي لسببَين: الأول: لأنه يُفعل في السِّر دون علم الزوجة، والثاني: لأنه يُدخل السرور على النفس.
ترى مش عصرنا عصر تبرج وعصر نساء وإلى آخره، واللهِ لا الكفار ولا المسلمين في هذا الزمان يتمتعون بالنساء كما كان يتمتع بالنساء السابقون من المسلمين، الشَّرع ينظِّم الأمور.
فكان الرجل إذا عنده أمة له يتسرَّى بها، لكن غالبًا من الذي يشتري الأمة؟ الزوجة، لذا: الأمَة كلما كانت بشعةً كانت أثمن، كلما كانت الأمة أبشع؛ كان سعرُها في سوق النخاسة أكثر!
وألف بعضُهم؛ بل أنا ظفرتُ الآن برسالتَين: «هداية المريد في تقليب العبيد» يذكر فيها كيف تقوَّم وكيف تُفحص الأمة، وكيف تُثمَّن..
ما أريد هذا.. أريد شيئا معينًا من هذا المثال: رجل فقير، ليس عنده أمة حتى يتمتع بها، الأمة لغيره، فواحد عرض عليك أمتَه أن تتزوجها، طيب: إيش يترتب على أن تتزوج أمةَ غيرك؟
خذوا مني هذه القاعدة -ولعله يغفل عنها بعض الناس-: (الأولاد في النسبَ لأعلى الأبوَين) الأم قرشية وهو قرشي؛ الأولاد في النسب لأعلى الأبوين، (والأولاد في الحُريَّة والرِّق يُنسبون للأم لا للأب، وفيما عدا ذلك: يُنسبون للأب).
يعني: رجل تزوج أمة غيره: أولاده عبيد لغيرِه، لكن أسماؤهم يُنسبون له.
لذا: كان ابن عباس يقول: لئن أستمني أحبُّ إليَّ من أن أنكح أمةَ غيري. ليش؟ لأنه يجعل ولدَه، أو يجعل بضعًا منه رقيقًا لغيره، يجعله عبدًا.
والشرع منعَ نكاح الإماء إلا في حقِّ من لم يجد طَولًا من الحرائر.
يعني: إنسان وقع الآن بين أمرين: إما والعياذ بالله يفعل الفاحشة وإما أن يتزوج أمة غيره، فإن خشي العنتَ فله أن يتزوج أمة غيره، أما إذا عنده زوجة يحرُم عليه، إذا عنده طَول مال؛ يَحرُم عليه أن يتزوجَ أمة الغير.
فدرء المفاسد تزوج أمةَ غيرك -مع ترتُّب المفسدة من رِق أولادِك منها-؛ مقدَّم على الزِّنا، فدرء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح.
من الأشياء التي ينبغي أن تُذكر وهي مهمة جدا لما نذكُر قاعدة: (إذا تزاحمت المفاسد قُدِّم أدناها).
هذا يجعلنا نذكر أصلًا مهمًّا وهذا الأصلُ يخفف من اندفاع وحماس بعض الشديدي العبادة، الإنسان إذا كان شديد العبادة لا يحسن تقدير الأشياء، فالعبادة تحتاج لعلم، ولما عبد الله بن عمرو بن العاص أراد أن يصوم الدهر؛ فالنَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- قال له: يوم ويوم، «خير الصيام صيام داود»، حتى لما كبر عبد الله بن عمرو بن العاص كان يقول -كما في «البخاري»-: «ليتني قبِلت رخصة رسول الله» -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-، حتى قال الذهبي في «سير أعلام النبلاء»: «فصام الدهرَ فساء مزاجُه».
والنَّبي عليه السلام لما قال في «البخاري»: «خير الصيام صيام داود، كان يصوم يومًا ويفطر يومًا» قال على إثر الحديث: «وكان لا يفرُّ إذا لاقى»، يعني نخلي الجانب الثاني للونٍ آخر من ألوان العبادة «لا يفر إذا لاقى».
من وضع عباداتِه في باب واحد ولم ينوِّع العبادات؛ تثقل عليه سائر الطاعات.
وهذا سِر قول النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-: «خير الصيام صوم داود، كان يصوم يومًا ويفطر يومًا» ثم قال مباشرة بعدها: «وكان لا يَفرُّ إذا لاقى»، لعله لو صام الدهر كلَّه ما يستطيع الجهاد، كل الطاقة المخزونة التي عنده وضعها في شيء واحد.
هذه لفتة مهمة من النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-.
طيب؛ ما الذي ألجأنا لهذا؟ الذي ألجأنا لهذا: أن المنهيات التي توجد في واقع حياة الناس ينبغي أن يتعامَل معها بفِقه، ولذا الفقهاء يذكرون من ضمن قواعدهم الفرعيَّة لقاعدة (درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح)، ولقاعدة (إذا تزاحمت المفاسد ارتُكب أدناها) يذكرون قاعدةً مهمة جدا، وعليها نقولات، عليها آثار من النقل، عليها الأدلة، يقولون: (المنهي عنه شرعًا لا يُعاملُ معاملةَ المعدومِ حِسًّا).
يعني: الشيء الذي الشَّرع نهى عنه لا تعاملهُ معاملة اللي مش موجود، ينبغي أن تعامله معاملة الموجود لا المعدوم.
يعني: إيش حُكم قراءة القرآن في المآتم؟ بدعة -بكسر الباء لا بضمِّها-، حُكم قراءة القرآن في المآتم بدعة.
طيب: رجل سُنِّي دخل على مأتم يقرؤون القرآن، هل له أن يلغو وأن لا يستمع لقراءة القرآن؟ له ذلك؟ لا، ما يجوز له ذلك، إذا قُرئ القرآن يستمع وينصت، ولو كانت أصل القراءة بدعة؛ لأن المنهي عنه شرعًا لا يُعاملُ معاملةَ [المعدومِ حِسًّا].
رجل يصلي صلاة أنت لا تراها مشروعة، فليس لك أن تشوِّش عليه.
رجل شيعي يُصلي في الحرم، لكَ أن تمر بين يديه؟ ليس لكَ ذلك؛ لأن المنهي عنه شرعًا لا يُعاملُ معاملةَ المعدومِ حِسًّا.
إيش الأدلة على هذا؟ من يأتيني بدليل نقلي على أن المنهي عنه شرعًا لا يُعاملُ معاملةَ المعدومِ حِسًّا؟
نأتي بالسنة الآن، إيش في السُّنة..؟ [مداخلة]
النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- يقول: «إذا تأمر عليكم عبد حبشي رأسُه كالزبيبة فعليكم بالسمع والطاعة» والنَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- يقول: «الأئمة من قريش» لو كان الملك أو الأمير ليس من قريش نطيعه ولا ما نطيعه؟
يجب في حق الأمير أن يكون من الأحرار، ولا يجوز شرعًا أن يكون الملِك أو الأمير أو خليفة المسلمين من العبيد.
طيب؛ عبد تغلَّب وأخذ المُلك، رجل غير قرشي تغلَّب وأخذ المُلك، نطيعه أو لا نطيعه؟ إيش يقول النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-؟ «إذا تأمر عليكم عبد حبشي رأسُه كالزبيبة» فبعض أهل العلم اشترط في الخليفة أن يكون ذا منظر مقبول، ما يكون رجلًا يُنفِّر، هذا يمثِّل دولة الإسلام.
.. من باب التأكيد على الطاعة ذكر أسبابًا: ذكر أنه «عبد» وهذا يُنافي الحريَّة، وذكر «حبشي» وهذا ينافي القُرشيَّة، وذكر «رأسه كالزبيبة» وهذا يُنافي حسن المظهر، فمع وجود المخالفات الثلاثة يقول النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-: « فعليكم بالسمع والطاعة» فلم يجعل النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- المنهي عنه شرعًا كالمعدومِ حِسًّا.
الرجل الذي يجتهد ويتزوج دون إذن وليِّ أمر البنت، ودخل بها، ماذا لها؟ نقول هذا زاني وليست لها مهر؟ نقول: هذه زانية وليس لها مهر؟ لا؛ لها مهر، مع أنه تزوج زواجًا فيه مخالفة.
رجل وقع في مخالفة بتأويل، لا نجعله كالمعدوم حِسًّا، ما يجوز لواحد يرى واحدًا يأكل لحم جزور ولحم الإبل، ويصلي وما يتوضأ، يقول: هذا فاجر، هذا فاسق، هذا تارك الصلاة..؛ ما يجوز لك هذا، فله أن يباحثَه في المسألة وهكذا.
فإذن: متى تزاحمت المفاسد ارتكبنا أدناها.
طيب؛ نأخذ بعض التطبيقات العصرية: عندنا تأمين السيارات، صاحب التأمين عمل حادثًا، وقع في محذور، التأمين محذور، التأمين غَرر وقمار، وجاء فاستفتى، قال: يا شيخ أن دفعت تأمينًا، وعملتُ حادثًا، يستفيد من التأمين ولا ما يستفيد من التأمين؟ يعامَل معاملة المعدوم حسًّا ولا الموجود حسًّا؟ يعامل معاملة الموجود حسًّا، ولا يعامل معاملة المعدوم حسًّا.
حتى في هذا الباب يتسع..
رجل يعمل بكسب وتعب، ويأخذ راتبا بتعب، لكن في عمله حُرمة، فأهداك هدية، تأخذ الهدية ولا لا تأخذها؟ تأخذها والإثم عليه، ما لم تعلم أنها ليست له، أنها لغيره، أنا أعلم أن هذه الهدية سرقها من غيره يعني ليست له، فهذه لا يجوز لي أن آخذها؛ لأنها ليست ماله، لكن لو تعب فعمل حرامًا فأهداك؛ تأخذها ولا لا تأخذها؟ طيب؛ ليش تأخذها؟ المنهي عنه شرعًا لا يُعاملُ معاملةَ المعدومِ حِسًّا.
واحد يعمل في البنك، عنده سيارة، أنت في البرد رايح على المسجد، وقَّف لك: اركب معنا نروح على المسجد، تركب معه ولا ما تركب؟ ليش؟ لأنَّ المنهي عنه شرعًا لا يُعاملُ معاملةَ المعدومِ حِسًّا.
فيه عشرات الأمثلة اليومية التي يمكن أن تذكر بهذا الصدد.
... طيب؛ نأتي للبيت الخامس عشر.
البيت الخامس عشر يقول فيه الناظم:

15. قَــاعِـــدَةُ الشَّريعـــةِ التَّيسير ... فـِي كُـلِّ أَمْــرٍ نَـابَــهُ تَـعْـسِـيــرُ

هذه قاعدة كلية من القواعد الخمس التي ذكرناها أجمع العلماء عليها، والتي تدخل في أبواب كثيرة وكثيرة جدا، وهذه القاعدة تقول: (المشقَّةُ تجلب التَّيسير).
هذه قاعدة مهمة وهي قاعدة كُلية دلَّت عليها كثير من الآيات والأحاديث؛ منها قول الله -عزَّ وجلَّ-: {يريد الله بكم اليُسر ولا يريدُ بكم العُسر}، ومنها قول الله -عزَّ وجلَّ-: {وما جعلَ عليكم في الدِّين من حرج}، ومنها قول الله -عزَّ وجلَّ-: {ما يُريدُ اللهُ ليجعلَ عليكم مِن حرج}، ومنها في «الصحيحين» من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «ما خُير رسول الله -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- بين أمرَين إلا اختار أيسرَهما»، شعار المسلم التَّيسير في كل شيء.
رجل جاء ضيفًا عند آخر: إيش أبا فلان تشرب؟ الميسور، أيسر شيء.
إذا خُيرت بين شيئين، في أي موطن، في أي مكان، إن أردت الاتساء والاقتداء بالنَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-؛ ينبغي أن يكون خيارك أيسر الشيئين.
والله بعض الناس نكِدين!
أخرج أبو يعلى في جزء المفاريد -في غالب الظن- بإسناد حسن: أن ضيوفًا جاؤوا لسلمان الفارسي وكان في دمشق، والشوام بيحبوا الزعتر من زمان، وكان سلمان زاهدًا فقدم لهم خبزًا، فلما رأوا الخُبز قالوا: نريد زعترًا! خبز بس ليس من إكرام الضيف، نريد زعترًا، فأخذ سلمان إناء في بيته، وذهب إلى السوق فرهنَه واشترى زعترًا، وقدمه لأضيافه.
المنهي عنه شرعًا لا يُعاملُ معاملةَ المعدومِ حِسًّا.
قال سلمان بعدها -وقوله في البخاري، والقصة عند أبي يعلى- قال بعدها: «نُهينا عن التكلف».
لكن: إكرام الضيف من شرعنا، فرهن إناءه واشترى الزعتر، وأتى لهم بالزعتر.
هؤلاء ما اختاروا الأيسر!
ففي شرعنا وعلامة المسلم أن يكونَ سهلًا، المؤمن هيِّن ليِّن في كل شيء، أن يختار الأيسر، يحب اليُسر، يكره العُسر.
والعجب بعض الناس لا يتأدب مع الله: (ربِّ يسر ولا تعسِّر)، واللهِ ليس هذا أدبًا مع الله، الله لا يُعسر، إذا أنتَ الله علَّمك -يا مسلم- أن لا تُعسِّر، فتأدب مع ربِّك، لما تقول: (ولا تعسِّر) يعني تذكرُ ربَّك جل وعلا بدعاء ما ينبغي أن تفعله أنت! ما ينبغي أن تقول: (ربِّ يسر ولا تعسِّر)، ما ينبغي أن تنسب أي شيء فيه شر لله جل في علاه.
والأسوأ من هذا الدعاء المشهور على الألسنة، وللأسف بعض الخطباء يقولوه، يقولون: (اللهم لا نسألك رد القضاء، ونسألك اللطف فيه)، هذا دعاء أعوج، ولا يكون إلا من صاحب ذوق أعوج؛ بل صاحب عقل أعوج.
النَّبي في «صحيح مسلم» يقول: «اللهم إني أعوذُ بك من درَك الشقاء، وجهد البلاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء».. أعوذ بك من سوء القضاء..؛ إني لا أسألك رد القضاء! أعوذ بك من سوء القضاء..
«اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وبارك لي فيما أعطيتَ، وقِني شرَّ ما قضيتَ».
أنت تتعوذ بالله من سوء القضاء.. «وقِني شرَّ ما قضيت».
صح عن عمر عند الإسماعيلي في «المستخرج» بإسناد جوَّده ابن كثير في «مسند الفاروق»: كان عمر يدعو فيقول: «اللهم إن كنتَ قد كتبتني عندكَ شقيًّا؛ فامحُ ذلك، واكتبني عندكَ سعيدًا» إيش رايكم في (اللهم لا نسألك رد القضاء، ونسألك اللطف فيه)؟ يخالف قول الله: {يمحُ اللهُ ما يشاءُ ويُثبت وعنده أمُّ الكتاب}، فالله يمحو.
اللهم إن كنتَ قد كتبتنا عندك فقراء؛ فامح ذلك واجعلنا أغنياء.
اللهم إن كنتَ قد كتبتنا جهلاء؛ فامح ذلك واجعلنا من العلماء.
اللهم إن كنتَ قد كتبتنا أشقياء؛ فامحُ ذلك واجعلنا من السعداء.
هذا دعاء المؤمن، هذا حسن ظن العبد بربه سبحانه وتعالى، ما تقول: (ما تعسر يا الله)، الله ميسر الأمور، وترك لك دعاء بأن تتعوذ من شر القضاء.
طيب: القاعدة (المشقة تجلب التَّيسير)؛ هل في الشَّرعِ مشقة؟
المشقة تجلب التَّيسير في العبادات؛ إذن: فيه في الشَّرعِ مشقة، صحيح؟
طيب، نتدرج مسألة مسألة.
المشقة تجلب التَّيسير، نتكلم في غير [...]، يعني في غير الذي قد أدخل الشَّرع عليه التَّيسير؛ هل في الأصل فيه مشقة في العبادات؟ العبادات أصلها فيه مشقة ولا ما فيها مشقة؟ فيها مشقة باعتبارَين لا غير:
الاعتبار الأول: بالنظر إلى المُداومة في العمل.
يعني: الصلاة دقائق معدودات، لكن دوام دوام دوام على العمل، كل يوم خمس مرات، فمع المداومة النفس تستشعر المشقة.
والنَّوع الثاني -الذي يدخل على النفس من مشقة في غير ما يُستدعى من التَّيسير-: الإلزام.
فالنفسُ إن أُلزِمت استَثقلت، النفس إن ألزِمت بشيءٍ استثقَلتْه.
ففي الشَّرعِ مشقة باعتبارَين لا ثالث لهما.
الاعتبار الأول: أن الشَّرع يطلب منك الدوام على العمل.
والأمر الثاني: أن الشَّرع يُلزِمك، ولا يُخيِّرك، فالنفس إذا أُلزمت تستَثقل.
بهذين الاعتبارين -في غير مناط الرُّخص، في غير موضع الرُّخص- يوجد مشقة في التكاليف؛ وإلا النفس المطمئنَّة التي تحب الله، وتحب رسوله -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-، وتبتعد عن المعاصي، وتأخذ نصيبها مما أباح الله لها؛ فإنها تهنأ وتمرأ بدِين الله، وترى سعادتَها في دُنياها قبل أُخراها في دِين الله.
ولذا: الله يقول في سورة النحل: {وقيل للذين اتَّقوا ماذا أنزلَ ربُّكم قالوا خيرًا} التقي يقول: خيرًا، والمسلم يقول: حقًّا. المسلم؛ ماذا أنزل ربك؟ يقول: حق، بس هو لا يرتع فيه، ولا يعرف بركات هذا الخير الذي أنزل الله، فلو كان مؤمنًا ما قال حقًّا؛ لقال: خيرًا.
وفرق كبير بين درجة الحق ودرجة الخير، درجة الخير أنت تعايش الشرع، أن تعيش مع الشرع، وترى أن الشَّرع قد هذَّبك، والأشياء التي مُنعتَ منها هي بمثابة ضوابط لمصالح معتبرة، بالموازين الشرعية المعتبرة.
طيب؛ إيش يريد الشَّرع من المسلم في العبادات، أو من الطاعات؟ الشَّرع يريد من العبد في الطاعات أن يخرج من داء هواه ويستسلم لأمر مولاه وأن يَثبت على العبادة ولا يتركها.
ولذلك قالت عائشة في «صحيح مسلم» عن رسول الله -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- قالت: «كانت عملُه دِيمة» كان النَّبي إذا عمل عملًا أثبتَه، وكان هذا نهج الصالحين.
فكان الإنسان إذا بدأ بعبادة -من صلاة، أو قيام، أو صدقة، أو صوم- لا ينقطع عن هذه العبادة، تبقى معه فتصبح جزءًا منه، ثم بعد حين يُدخِل عبادة أخرى على نفسه، فتبقى معه، ثم بعد حين يُدخل عبادة ثالثة، يوغِل برِفق، يكون زاهدًا في فقه، وفقيهًا في زُهد، يوغِل في الطريق إلى الله في الطريق إلى اليوم الآخر يوغِل برِفق، لا ينقطع، ولا يحمِّل نفسَه ما لا تحتمل.
ولذا: النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- علَّمنا: «أحب الأعمال إلى الله أدومُها وإن قل».
تتصدق بخمسة قروش كل أسبوع خير من أن تتصدق بخمسمئة دينار مرة في [...]، تذوق لذة العبادة بس مرة، لكن تذوقها كل مرة خير وبركة.
أحب الأعمال أدومُها وإن قل.
ولذا: قرأت في تراجم كثير من أهل العلم على اختلاف تنوعاته، على اختلاف فنونهم من محدِّثين وفقهاء، أنه كان يقال لبعضهم: إن مت غدا؟ فلا يستطيع أن يسجد لله سجدة، لأن [كل] وقته أصبح في عبادة، وأصبح في عبادته على الدوام، فهدي النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- كان عمله ديمة.
تريد أن تصوم الخميس افحص استطاعتك، تثبت صُم، ما تثبت درِّب نفسك حتى تثبت، افعل الفعل وافحص مقدرتك، واثبت على العمل، ولم يُعرف عن صحابي قط أنه فعل فعلاً من خير ثم تحوَّل عنه.
ولذا أسند اللالكائي عن عمر بن عبد العزيز قال: كان السلفُ يكرهون التلوُّن والتحوُّل.
ما تتحوَّل، حضرتَ درسًا تثبت عليه، لستَ أهلا للحضور ما تحضر.
أنت أيها الأستاذ عندك مقدرة تكمل على التدريس درِّس، ما تقدر؛ ما تدرِّس، ما تشغل الناس.
وهذه آفة أهل الخير في هذا الزمن: أن أعمالهم ليست دِيمة.
يعني: يجي كما يقولون تهب ريح الجنة فيشم ريحها من بعيد، فيحضر مرة ثم يترك! لا ليس هذا من عمل السلف.
من يحفظ أن صحابيًّا فعل شيئا ثم تركه؟ من؟ [ابن عمر] إيش كان يعمل؟ كان يقوم الليل، شو قال النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- لابن عمر؟ قيام ليل، شو يعني قيام ليل؟ يعني أمر مندوب، لا سُنة راتبة ولا واجب، النَّبي يقول أمام الناس وعبد الله بن عمر صحابي صغير، فتى صغير، تخيل النَّبي سيد الأمة يتكلم عن ولد صغير عن عبد الله بن عمر فتى يافع صغير، يقول: «نعم الفتى عبد الله بن عمر؛ إلا أنه كان يقوم الليل فتركه» إيش يدل هذا الحديث؟ أن من بدأ بفعل ثم تركه؛ مذموم.
أي العبادات يجب على المسلم إن بدأ بها أن يثبت عليها حتى الدِّين، حتى الممات؟
ثلاث عبادات: القرآن، والعلم، والجهاد.
الأدلة: حديث ابن عمر في «مسلم»: «من تعلَّم الرمي ثم تركه فليس منا» يعني اللي يتعلم شيئًا من الجهاد؛ يجب عليه حتى يثبت ليوم الدين.
حديث أبي هريرة عند ابن حبان: «عرضت علي أعمال أمتي فوجدت أسوأها: رجل أوتي القرآن ثم لم يقُم به؛ فنسيه».
حافظ القرآن حتى يثبت عنده؛ ينبغي أن يقوم به، حتى يتداعى هو وزوجه في القيام لا حرج.
(ضحك الله لرجل أخذ ماء فرماها في وجه زوجته حتى تقوم الليل)، والعكس، حتى يبقى فيه نوع من التواصي بالقرآن وحفظ القرآن وتلاوة القرآن في قيام الليل.
تخيل لو أنك تقوم الليل ساعة وساعتين وما عندك قرآن إيش تقرأ؟ كيف ترى نفسك تناجي ربك ساعة وساعتين؟
بعض الناس يعيش ويموت وما وقف أمام الله ساعة، بعض الناس يعيش ويموت ولم يدخل جنة الدنيا، ما عرف جنة الدنيا أبدا، عاش ومات ولم يعرف من هذه الدنيا إلا أسوأ ما فيها! ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الشاهد: أن الشَّرع لما قدَّر، الله الذي خلق هو الذي شرع {ألا له الخلقُ والأمرُ}.. لما قدَّر الشارع الحكيم أن نفوسَ الناس قد تترك بعض العبادات لمشقة زائدة عن المشقة المعتادة -البندان اللذين ذكرناهما: الإلزام والتكرار-، فقد تطرأ مشقة زائدة عن المشقة المعتادة، ولحِرص الشَّرع على ثبات العبدِ على العبادة، وألا ينقطعَ عنها؛ أدخلَ التَّيسير لرفع المشقة من أجل تحصيل بركة الثبات على العمل.
ليش نحن نجمع بين الصلاتين في جماعة؟ حتى لا يترك الجماعة، تأتي مشقة، الإمام الفطِن الموفَّق ينظر، يجد بعض الناس الطيِّبين من كبار السن الحريصين على الجماعة، إن لم أجمع بين الصلاتين لا يستطيعون صلاة العشاء؛ نقول له: اجمع! ليش يجمع؟ من أجل أن لا ينقطع صلاة الجماعة.
دخلتْ مشقة بسبب برد شديد، بسبب وحل، بسبب مطر، بسبب برَد، بسبب ثلج، دخلتْ مشقة قد تمنعه من العود، فيجمع، ليش الجمع؟ من أجل الدوام على الجماعة.
ولذا: من بديع تقريرات ابن القيم في «بدائع الفوائد» -وأرجو أن تنتبهوا-، قال: (حكم أداء الصلاة في وقتها الوجوب، وحرَص الشَّرع على الجماعة، فلما طرأ عُذر يمنع بعضَ الناس من حضور صلاة الجماعة في المسجد؛ فأذِن الشَّرع أن تقدَّم الصلاةُ إلى وقت الصلاة التي قبلها، فدلَّ هذا على أن أداء الصلاة في جماعة في نظر الشَّرع مقدَّم على أدائها في الوقت، وكان حكمها أدائها في الوقت الوجوب، فلم تبقَ حكم صلاة الجماعة إلا الوجوب) الكلام واضح [مداخلة]...
فأقول: أن المقصد من إدخال الشَّرع التَّيسير على المشقات: الثبات على العمل.
يعني: مسافر إن طَلَب منه الشَّرع أن يؤدي كل صلاة في وقتها يفوت مقصد السفر، فقال له الشرع: اجمع. وقد يضيق به الوقت فلا يستطيع الوضوء لكل الصلاة، بل قد يضيق به الوقت ويزدحم فأذِن له الشَّرع بالقصر، وجعل القصرَ عزيمة.
فكل التَّيسيرات الواردة في الشرع؛ إنما جاءت من أجلِ أن يثبتَ المكلَّف على العبادة، وحتى لا ينقطعَ عنها.
طبعًا: ليست التَّيسيرات محصورة في العبادات وإن كانت العبادات هي الغالبة في هذا الموضوع.
في المعاملات: يعني أذِن لي الشَّرع أن أوكَّل غيري، قد يزدحم الوقت [...] ما أريد، فيأذن الشَّرع بالتوكيل، ليش التوكيل؟ حتى ما يفوِّت عليّ المصلحة، فالإذن مباح في التوكيل، في البيع، في الإجارة، حتى في الزواج.
فكل هذه الأمور لو أنَّ الشَّرع حصَر أن هذه الأمور لا تُشرع إلا أن يفعلها الإنسان بنفسه، لكان في ذلك مشقة، ولتعطلت في حق بعض الناس بعضُ هذه المصالح، فأدخل الشَّرع التَّيسير في هذا الباب.
طيب؛ أسباب التَّخفيف، لو أردنا أن نحصر أسباب التَّخفيف التي تُثمر عن الرُّخص، ويظهر [في] هذه الثمرة التَّيسير، فأسباب التَّخفيف سبعة، وأنواع التَّخفيف سبعة.
أما أسباب التَّخفيف:
فالسَّبب الأول: السفر؛ فالسفر للقصر، والجمع، والمسح على الخفين ثلاثة أيام بلياليها.
و[من] أسباب التَّخفيف: المرض؛ فالمرض لمَن لا يفيق من المرضى يجمع -تقديمًا وتأخيرًا-، وبالمرض يتيمَّم، وبالمرض يقعد إن كان لا يستطيع القيام في الصلاة.
والسَّبب الثالث: الإكراه؛ مَن أُكره على شيء -حتى لو كان هذا الشيءُ كفرًا-؛ فلا يُؤاخَذ، من نطق بالكُفر كُرهًا، فالله يقول في «النحل»: {ولكنْ من شرحَ بالكُفر صدرًا}، والإمام الشوكاني له كلمة في تفسير هذه الآية بديعة، أنصحكم أن ترجعوا إليها في (ج4/ص577) من كتابه «السيل الجرار»..[نقاش جانبي]..
السَّبب الرابع: النِّسيان، من نسي الصلاة لا يُؤاخذ، من نسيَ وهو في الصلاة فتكلم يكمل صلاته ويسجد للسهو.
السَّبب الخامس من أسباب التَّخفيف: الجهل؛ الرجل الذي قد أساء صلاتَه، فصلى صلاة دون طمأنينة، فقال له النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-: «ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ» فرجع فصلى، فقال له النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-: «ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ»، فقال: والله يا رسول الله إني لا أعلم غيرَها، غير اللي صليتُ ما أعرف، فأمر النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- وبيَّن له الطمأنينة في أفعاله، ولم يأمره -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- أن يعيد الصلوات الماضيات، ما كان مؤاخذًا فيما كان فيه جاهلًا.
والسَّبب السادس: العُسر.
بقي سببان أخيران من أسباب التَّخفيف؛ فالسَّبب السادس قلنا: العُسر.
فمثلًا: دم العرق الذي يبقى في عروق الذبيحة بعد أن تُذكَّى معفوّ عنه، يعسُر، أمر عسر جدًّا.
بول الذكَر يُنضح ولا يُغسل؛ لأن عادة العرب الأولاد يصطحبون آباءهم بخلاف البنات، والعجيب -اليوم- الطب في التحليلات المخبرية أثبت أن بول الأنثى غير بول الذكر، والناس تقول الذكر كالأنثى، إذا بول الذكر غير عن بول الأنثى، فكيف أصل الأنثى أصل الذكر، الله يقول: {وليس الذكرُ كالأنثى} -ولعلنا تكلمنا في هذه المسألة-.
فمتى غُسل أصبح هنالك عسر فالشرعُ رتَّب على هذا العُسر تيسيرًا.
والسَّبب السابع الأخير من أسباب التَّخفيف: النقص؛ فلم يوجبِ الشَّرع على من كان ناقصًا في حريَّته جمعةً ولا جماعة ولا جهادًا -كالعبد-، والمرأة لقوَّتها في بدنِها ضعف وخور ما أوجب عليها الشَّرع الجهادَ، وأسقط عنها الجمعة والجماعة لحاجاتها لوقتها لإدارة بيتها وما شابه.
فالنقص من أسباب التَّخفيف.
إيش جهاد المرأة؟ الحج؛ فجهاد النساء الحج، لأن بُنية المرأة ليست كبُنية الرجل.
هذه أسباب التَّخفيف السبعة.
أما أنواع التَّخفيف؛ فهي سبعة أيضا:
فالنَّوع الأول من أنواع التَّخفيف: الإسقاط؛ فأسقط الشَّرع الحج على غير المستطيع، وأسقط الجهاد عن المرأة والصبي، وأسقط الجماعة بالأعذار.
فأنواع التَّخفيف: الأمر الأول: الإسقاط.
الأمر الثاني: التنقيص؛ فالشرعُ أوجب القصرَ، وهو تنقيص عدد الركعات، والأمَة عدتُها حيضتان، وإقامة الحدِّ عليها كنصفِ إقامة الحد على الحُرة.
والنَّوع الثالث من أنواع التَّخفيف: الإبدال؛ فإذا الإنسان ما استطاع استخدام الماء فأبدلهُ بالتيمُّم، وإذا ما استطاع القيام أبدلهُ بالقعود، وإذا ما استطاع الصيام أبدلهُ بالكفَّارة بالإطعام.
فمن أنواع التَّخفيف: النَّوع الثالث: الإبدال.
النَّوع الرابع من أنواع التَّخفيف: التقديم؛ مثل: جمع تقديم في المطر، مثل تقديم الكفَّارة على الحِنث، ورد في ذلك حديثان وكلاهما في «صحيح مسلم»، في بعض الأحاديث: «فلْيأتِ التي حلف، ثم لْيكفِّر عن يمينه» وفي حديث آخر في «مسلم»: «فليكفِّر عن يمينه، ثم يأت التي حنث».
إذا أردت أن تحنث في يمينك يُشرع لك أن تقدِّم الكفارة قبل الحنث، لكن إذا حنثتَ وجبت عليك الكفارة، لكن لو قدَّمت الكفارة؛ فلا حرج عليك.
النَّوع الخامس من أنواع التَّخفيف: التأخير؛ مثل تأخير رمضان للمريض والمسافر، وكذلك يُلحق بهما ما ورد في قول الله -عزَّ وجلَّ-: {وعلى الذين يُطيقونه فِدية} هذا ليس تأخيرًا؛ وإنما هذا إبدال.
النَّوع السادس: التغيير؛ تغيير صفة العبادة، وأكثر ما يظهر هذا في صلاة الخوف، في تغيير صلاة الخوف، هيئة الصلاة تختلف، وورد في السُّنة ثمان صفات لصلاة الخوف، وجُلها فيها تغيير الصلاة عن الصفة المعهودة.
والنَّوع السابع من أنواع التَّخفيف: الترخيص؛ فرخَّص الشَّرع في استعمال الحجر في الاستجمار بدلاً من الماء، ورخَّص الشَّرع عندما يغصُّ الرجل بلُقمة أن يستخدم الخمرَ في تسليكها إن غلب على ظنه الهلاك.
فالنَّوع السابع هو الترخيص.
هذه أنواع وهذه أسباب التَّخفيف بإيجاز شديد، وهمُّنا أن نرسم الكليَّات، وأن لا نخوض في التفصيل في أحكام الأمثلة، همُّنا أن نفهم موضوع المشقة بكُليَّاته -إن شاء الله تعالى-.
نكتفي بهذا البيت الخامس عشر.....


انتهى (الجزء الأول) ويتبع (الجزء الثاني).

تفريغ : أم زيد

من هنـا تجميع روابط الدروس المفرَّغة
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 06-02-2012, 08:05 PM
أم زيد أم زيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 5,264
افتراضي الدرس السادس/الجزء الثاني

[الـدَّرس السَّـادس]

(الجزء الثَّاني)


14. وَضِـدُّهُ تَـزاحُـمُ الـمَــفَــاسِـــدِ ... يُـرْتَـكَـبُ الأَدْنَـى مِـنَ المَفَـاسِـدِ

15. قَــاعِـــدَةُ الشَّريعـــةِ التَّيسير ... فـِي كُـلِّ أَمْــرٍ نَـابَــهُ تَـعْـسِـيــرُ

16. وَلَـيْـسَ وَاجِــبٌ بِـلا اقْــتِــدَارِ ... وَلاَ مُـحَـــرَّمٌ مَــعَ اضْــطِـــرارِ


إن الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفسِنا ومِن سيئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يضللْ فلا هاديَ له. وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شَريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه.
أما بعد:
يقول الناظم:
16. وَلَـيْـسَ وَاجِــبٌ بِـلا اقْــتِــدَارِ ... وَلاَ مُـحَـــرَّمٌ مَــعَ اضْــطِـــرارِ
هذا البيت حوى قاعدتَين مهمَّتَين كُليَّتَين:
القاعدة الأولى: أن الوجوبَ يتعلقُ بالاستطاعة، فلا وُجوبَ مع العجز، وهذا من محاسن دينِنا، فالشرعُ لا يوجِبُ على العبدِ شيئًا لا يقدرُ عليه، الشرعُ لا يكلِّفُ العبدَ فوق طاقتِه.
والقاعدة الثانية: لا مُحرَّم مع الضرورة، وهي قاعدةٌ فقهيَّة يُعبَّر عنها بـ(الضرورات تُبيح المحظورات).
ولكلٍّ من هاتين القاعدتين اللتَين عبَّر عنهما الناظم بهذا البيت -البيت السادس عشر- أدلةٌ وتطبيقات كثيرة، وتفريعات عديدة، وهمُّنا الإجمال، مع شيءٍ من الإحاطة، فلا نشرحُ شرحًا طويلًا مُملًّا، ولا قصيرًا مُخِلًّا -إن شاء الله-.
أما القاعدةُ الأولى: الوجوبُ يتعلَّق بالاستطاعة، ولا وجوبَ مع العجز؛ فالأدلة كثيرة؛ منها: قول الله -عزَّ وجلَّ-: {لا يُكلِّفُ اللهُ نفسًا إلا وُسعَها}، ومنها قول الله -عزَّ وجلَّ-: {لا يُكلِّفُ الله نفسًا إلا ما آتاها}، ومنها قول الله -عزَّ وجلَّ-: {فاتَّقوا اللهَ ما استطعتُم}.
ومنها ما ثبت في «صحيح البخاري» أن النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- قال لعمران بن حُصين -وكان به النَّاسور-وهو أشد من الباسور-، قال له: «صلِّ قائمًا، فإن لم تستطِع؛ فصلِّ جالسًا، فإن لم تستطعْ؛ فصلِّ على جنب»؛ فالذي لا يستطيع القيام يصلي جالسًا، والذي لا يستطيع الجلوس يصلي على جنب، فقوله: «فإن لم تستطعْ» فيه إشارة إلى أن الوجوب مع عدم الاستطاعة؛ ساقط.
والأصرح من هذا الحديث: قوله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «إذا أمرتُكم بأمرٍ؛ فاتوا منه ما استطعتُم، وإذ نَهَيتُكم عن شيءٍ؛ فاجتنِبوه»، ولم يقلْ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنِبوا منه ما استطعتم، ولم يقل: إذا أمرتُكم بأمرٍ فافعلوه؛ وإنما قال: «إذا أمرتُكم بأمرٍ؛ فاتوا منه ما استطعتُم».
الله يعلم أننا نحب الجهاد في سبيل الله، ولا نستطيع أن نجاهدَ؛ فلا إثم علينا.
والنبي رَفع عنا الإثمَ بقوله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «مَن مات ولم يَغزُ ولم يُحدِّث نفسَه بالغزو؛ مات على شُعبة من شُعب النفاق».
فلو حدَّثت نفسك -وعلِم الله صدق نيَّتك- أنه لو قام الجهاد بشروطه الشرعية الثلاث تجاهد في سبيل الله؛ فأنت رُفع عنك النفاق.
والشروط الثلاثة للجهاد:
الشرطُ الأول: إعدادُ العدة {وأعدُّوا لهم ما استطعتُم من قوَّة}.
والشرط الثاني: الرايةُ المسلِمة، لا يجوزُ القتالُ تحت راياتٍ ليست شرعية، يقول النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «مَن قاتَل تحت رايةٍ عُمِّيَّة» راية في عماء، لا تعرف أصحابَها هل هم على هُدى أم لا «مَن قاتَل تحت رايةٍ عُمِّيَّة، فمات؛ فميتتُه جاهليَّة» ابق في بيتك لا تخرج للجهاد إذا كانت الرايةُ عُمِّية.
والشرط الثالث: ما ثبت في «الصحيحين»: من حديث أبي هريرة: قال النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «الإمامُ جُنَّة يُقاتَل من ورائه» لا بد من إذن الإمام، ما فيه إذن الإمام؛ فجهادُ الطلب متعطِّل، «يُقاتَل من ورائه»، الجهاد يحتاج إلى إعداد وتنسيق، وتنسيق في الطُّرقات، وأمن في طريق الذَّاهب للجهاد، مش هيزعة الجهاد؛ امش امش جاهِد!
في أزمة العراق اتصلت بي أخت، تسمع كلام المحمِّسين، تقول: أنا أرضع، أريد أترك ولدي، ولا أستأذن لا أبي ولا زوجي، والمشايخ يقولون لنا حرام حتى على المرأة!؟
هذا كلام مُراهَق، هذا كلام ما فيه فهم، ولا فيه علم، ولا عليه نور؛ إيش حرام تجلس.. الخبَّاز حرام يخبز، تتعطل الدُّنيا!
فالجهاد له أحكام..
أنت تطلق الكلام على العوام هكذا! كثير من الناس يُطلقون واجبات على الناس ومن أين دليلك على الوجوب؟ ما يعرف! بل كثير من الخَلق يطلقون واجبات على الناس هي فوق استطاعتهم!
واحد مات في هنغاريا كافر أنا مسؤول عنه؟! هل أنا يجب علي أن أتعلم اللغة الهنغارية ويجب علي أن أزور هنغاريا؟!... أنت تحسبني كل كافر في الأرض إذا ما بلغتُه الدعوة يجب علي أن أتعلَّم جميع اللغات، ويجب علي أن أزور كل البلاد!!؟ الله يقول: {فاتَّقوا الله ما استطعتُم}، الله يقول: { لا يُكلِّفُ الله نفسًا إلا وُسعَها}، {لا يُكلِّفُ الله نفسًا إلا ما آتاها}، «إذا أمرتُكم بأمرٍ؛ فاتوا منه ما استطعتُم»
طيب؛ «إذ نَهَيتُكم عن شيءٍ» إيش؟ فاجتنِبوا منه ما استطعتم؟
النهي فعل إيجاب ولا فعل عدم؟ النهي فعل عدم، هل العدم يحتاج لإرادة؟
المنهي الأصل فيه معدوم، الكذب معدوم، الزنا معدوم، السرقة معدوم.. صحيح؟ يعني لا يحتاج لإرادة، لا يحتاج لقُدرة، إيش الذي يحتاج لقدرة؟ أن ينتقل العمل من العدم إلى الإيجاد.
طيب؛ لو سألك سائل فقال: هل النهي يقتضي التكرار؟ إذا أمرك اللهُ بأمر يجب عليك أن تكرره؟ ولا أنا عملت مرة؛ خلاص؟ إذا فيه قرينة بالتكرار؛ كرَّرنا.
الله أمر بالصلاة، وعلَّقها بأوقات خمس، فبِتكرُّر الأوقات تتكرر الصلاة.
الله أمر بالصوم وعلَّقه برؤية هلال رمضان، كلما رأينا هلال رمضان؛ إيش عملنا؟ كرَّرنا.
الله أمرنا بالزكاة بشرطَين: النِّصاب، وحوَلان الحَول، ولم يجعل النِّصابَ واجبًا، يعني لو أنا كنت عندي أموال يأتي عليّ النصاب وزيادة، ولكن الأموال أنفقها، ما بلغت عندي النصاب، يجب علي الزكاة؟ ما تجب علي الزكاة.
طيب؛ الحج، إيش سبب الحج؟ وجود الكعبة المشرفة، هل وجود الكعبة يتكرر؟ فكم مرة يجب الحج في العمر؟ ليش؟ لأنه ما يتكرر السبب، حتى لما تُهدم الكعبة يجب الحج، ويجب الطواف حولها، لَمَّا يهدم ذو السُّويقتَين الكعبةَ، وينقض أحجارها حجرًا حجرًا، من يُدرك ذاك الزمان يقول لنا: إيش نعمل؟ نقول له: طف حول الكعبة بالتَّقدير، هنالك قواعد تقديريَّة عند العلماء ويأتينا التنويه والتنبيه على بعضها.
فالشرعُ ما أمر المكلَّفين إلا على وفق استطاعتهم.
طيب؛ النهي يقتضي التكرار؟ يعني: لو واحد ما زنى مرَّة، وما كذب مرة، وما سرق مرة، يقول: أنا استجبت؛ المرة الأولى ما كذبت، الثانية يجوز لي أن أكذب، المرة الأولى ما زينت، المرة الثانية يجوز لي أن أزني.. هذا الفهم صحيح؟ غير صحيح، فالأمر لا يقتضي التكرار إلا بِقرينة، والنهي يقتضي التكرار، ليش النهي يقتضي التكرار؟ لأن النهي عدمٌ، والأصل في النهي أن يبقى عدمًا، فمتى حوَّلت العدم إلى حضور؛ خالفتَ.
ولذا: النهي، إن نهى الشرعُ عن شيء ما قال نبينا -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: وإذا نهيتُكم عن شيء فاجتنِبوا منه ما استطعتم؛ وإنما قال: «فاجتنِبوه» وهذا الاجتناب يجب أن يبقى على الدوام، وهو يقتضي التكرار.
طيب؛ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: هل هو مناط بالمقدرة ولا بغير المقدرة؟ بالمقدرة «من رأى منكم مُنكرًا؛ فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع؛ فبِلسانه، فإن لم يستطع بقلبِه» إيش قلبه؟ يعني: تَقلِبه؟ ولا «فبقلبِك» فبِجنانك؟ قطعًا؛ بقلبك يعني بجنانك.
طيب؛ لما تبدأ تنهى عن المنكر أو تأمر بالمعروف من أين ينبغي يبدأ أول خطواته؟ من أين ينبغي أن يبدأ الإنكار؟ القلب، الذي يُنكر بيده قبل قلبه منافق؟ صحيح؟ وبعد القلب تُنكر بإيش؟ بالتعليم، باللسان، وبعد اللسان: باليد.
طيب؛ ليش النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- قال: «من رأى منكم مُنكرًا؛ فليغيِّره بيده»؟ يعني كان المُنكِر والمُنكَر عليه يعلمون هذا، النية حاصلة وصادقة، النبي يتكلم عن درجات القوَّة، ولا يتكلَّم عن آليَّةِ التَّغيير، آليةُ التَّغيير تبدأ بالقلب ثم اللسان ثم اليد، أما درجات القوَّة: تبدأ الأقوى فالأضعف، الأقوى: اليد، وبعد اليد: باللسان، وبعد اللسان: بالقلب.
المنكر على درجات، وليست كلُّ درجات المنكر واجبة:
- فإن غلب على ظنِّك إن أنكرتَ زال المُنكر، أو زال بعضُه؛ فالإنكار واجب.
- إن أنكرتَ فزال المنكرُ وحلَّ منكرٌ بقدره؛ فهذا موضع نظر، بعضُهم جوَّز وبعضهم منع.
- فإن أنكرتَ فترتَّب على إنكارِك المنكرَ منكرٌ أكبر منه؛ فإنكار المنكر في هذه الصورة؛ حرام.
هذا بناء على أي قاعدة؟ إذا ازدحمت المصالح؛ ارتَكبنا أعلاها، وإذا ازدحمت المفاسد؛ اجتنبنا أدناها.
يقول الإمام ابن القيم في كتابه «إعلام الموقِّعين»: كنت أسير أنا وشيخي أبي العباس -من أبو العباس؟ ابن تيمية-، فكان يرى التتار يشربون الخمر، قال: فتفلَّتُ وأردتُ أن أذهب وأن أُنكر عليهم.. العصر عصر عافية، والأرض أرض فيه خير كثير، والناس يشربون الخمر على قارعة الطريق، شيء غير طبيعي، فكنت أرى التتار يشربون الخمر، وأمر عليهم أنا وشيخي أبي العباس ابن تيمية، فكنتُ أتفلت لأنكر عليهم شرب الخمر، قال: فكان شيخي يأخذ بيدي ويمشي سريعًا ويقول لي: اتركهم، فإن الذي هم فيه أحب إلى الله من صَحَيانهم!
هؤلاء إن صحوا قتَّلوا المسلمين، فليبقوا مخمورين! التَّتري إن صحا من الخمر حمل السيف وبدأ يقطع رقاب المسلمين، يهجم على العُزَّل والضعاف من الناس، اتركهم، الذي هم فيه -الذي هو الخمر- أحب إلى الله من صَحَيانهم.
فهذا المثل يفيدنا في ثلاث قواعد مضت؛ أن المنكر إن ترتَّب عليه منكر أكبر منه؛ يكون إنكاره إيش؟
واحد شاب متحمس اليوم راح على خَمَّارة وحرق الخمارة، إيش يترتب على حرق الخمارة؟ كل الخمارات في التأمين، ما بيصدق صاحب الخمارة.. يفرح، يجدد كل المحل بِدِيكوره وكل شيء، صحيح؟ وأضر بنفسه، صحيح؟ بل ربما بعض الناس يفعل فعلًا قبيحًا فيضرر كل المسلمين، فيُضرَّر أهل التقوى، وليست الفتن ببعيدة عنا -التي حصلت في حماة، والتي حصلت في الجزائر، والتي حصلت هنا وهناك-.
فهذا كله أمور حرام شرعًا، يترتب على إنكار المنكر منكر أكبر منه؛ فإنكاره حرام هذه قواعد أهل العلم، وإنكار المنكر منوط بالاستطاعة، إذا ما استطعت إنكار المنكر باليد فباللسان، إذا ما استطعتَ باللسان تُنكره بقلبك، تقول في نفسك: اللهم إن هذا منكر ولا أرتضيه ولا أحبه! وخلاص رفع عنك الإثم -إذا كنت لا تستطيع حتى أن تبين-.
يقول الإمام أبو العباس القرطبي -شيخ القرطبي المفسِّر- في شرحه «المُفهِم على صحيح مسلم»، يقول: في ذاك العصر لما النبي قال: «فلينكره بيده» قال: هذا في الوُلاة وأعوانهم، «فإن لم يستطع؛ فبِلسانه» قال: هذا في العلماء وأعوانهم، العلماء والخطباء والوعَّاظ والدعاة، ثم قال: «فإن لم يستطع فبِقلبه» قال: هذا للعوام، عوام المسلمين ما عندهم علم.
فالدرجة الأولى: للوُلاة وأعوان الولاة، من أعوان الوُلاة؟ القُضاة والمحتسِبون، كان فيه نظام اسمُه نظام (الاحتساب) وألَّف فيه العلماء كتبًا [...] على الخبَّازين فيه مُحتسِبون، وعلى السمَّاكين فيه مُحتسِبون، وعلى أصحاب الذين يبيعون الحلويات فيه مُحتسِبون، وهذه الكتب تفصِّل كيف عمل المحتسب وكيف يقع الغش في كل مهنة من هذه المهن قديمًا.
فكان المجتمع يجتمع في دين مع مصالح الدنيا، والناس كلهم يعملون ويخافون الله[...] فكان الخير في كل مكان، خير الأرض وخير السماء، كان مجتمِعًا بين الناس.
طيب؛ هذه القاعدة الأولى، التي أرادها الناظمُ بقوله:
16. وَلَـيْـسَ وَاجِــبٌ بِـلا اقْــتِــدَارِ
نأتي للقاعدة الثانية -وهي في تتمة البيت-، قال:
... وَلاَ مُـحَـــرَّمٌ مَــعَ اضْــطِـــرارِ
إذا اضطُررتَ لشيء؛ فهذا ليس بحرام.
ومن بديع ما قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري شرح صحيح البخاري» (1/338) يقول: (ما أُبيحَ للضرورة لا يُسمَّى وقتَ التناوُل محرَّمًا).
يعني: إنسان غص بلُقمة، ولم يجد سائلًا يُسلِّك فيه اللقمة لا ماء ولا عصيرًا إلا خمرًا، وإن لم يسلِّك اللقمة يموت، فعند شُربه للخمر لا يكونُ شُربه للخمر محرَّمًا.
إنسان كاد أن يهلك، فلم يجد إلا ميتةً، فأكل من الميتة، فأكلُ الميتة عند تناوُل الميتة في وقت الضرورة؛ فلا يُسمى تناوُلُه محرَّمًا.
يقول الله -عزَّ وجلَّ-: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}؛ {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ}: لا يريد هذا، {وَلَا عَادٍ} لا يتعدَّى مقدار الأكل، قال الله -عزَّ وجلَّ-: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}، وختم الآية بقوله سبحانه: {إنَّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ} ليش؟ لأن المضطر لا يعرف المقدار الذي يدفعُ الضرورةَ، فقد يتعدَّى، هو لا يريد التعدِّي، لكن هو أيضا ما يستطيع أن يتناول المقدار الذي يستطيع أن يصل إلى الطعام الحلال، فقد يزيد، فإن زاد في مثل هذا الأمر وهو لا يبغي، وهو مضطرٌّ، ولا يتقصَّد، ولكنه وقعت الزيادة؛ فناسب أن تُختم الآية بقوله: {إنَّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ} فهذا أمر معفوٌّ عنه مغفور في حقه.
جماهير العلماء قالوا: الأكل يكون بمقدار كسر سَوْرة الجوع، الجائع لما يجوع لما يأكل قليلا سَوْرة الجوع تنكسر، جماهير أهل العلم فسَّروا {وَلَا عَادٍ}؛ يعني: يأكل بالمقدار، قالوا: يكسر سَوْرة الجوع، سَوَران الجوع حدته يكسره ويقف، ليس له أن يأكل حتى يشبع.
أبو حنيفة قال: لا، يأكل ما يسد الرمق.
يعني: لو كسر حدَّة الجوع وأكل شيئًا زائدًا حتى يغلب على ظنه أنه يصل، والذي أخذه ينجِّيه بسبب تقدير المسافة -أو ما شابه-؛ فحينئذٍ: لا حرج عليه.
وأنا الذي أراه -والله أعلم- صوابًا -وهذا تفصيل إمام الحرمين- التفصيل: المكان الذي ستصل إليه قريب وإلا بعيد؟ يحتاج يسقط سَورة الجوع؟ وإلا يحتاج أنه يأخذ شيئًا زائدًا عن سَورة الجوع؟ على حسب الحال الذي هو فيه، وهذا يدخل تحت عموم قول الله: {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} فالغير باغ ولا عاد يختلف باختلاف الأماكن، وباختلاف الأشخاص، والقُرب والبُعد عن وجود الطعام، أو عن وجود مخايل وجود الطعام، الإرهاصات التي تجعلني أرجِّح أني أجد طعاما، فهذه المسافات تختلف.
مما ينبغي أن يُعرف أن في الشرع: ضروريات وحاجيَّات وتحسينيَّات، وينبغي أن نفرِّق بينها؛ لأن الناس يخلطون [...].
يترتب على عدم الضرورة هلاك، وفاة، أو انعدام عضو، هذه ضرورة.
ويجوز لك أن تهجم على الحرام بسبب هذه الضرورة من غير عدوان ولا بأس، ... والله يعلم أنك إيش؟ واحد يأكل فيتمثل أنه قد غص حتى يَشرب الخمر! هذا باغٍ! والعادي أنه شرب ونزلت اللقمة وبقي يشرب، أصبح إيش هذا الآن؟ أصبح عاد، المطلوب أن تشرب غير باغٍ ولا عاد.
الضرورة إن تعطلت ماذا يترتب عليها؟ هلاك.
والحاجية إن تعطلت إيش يترتب عليها؟ ضرر، حرج، شِدة.
يعني اليوم: نمط حياة الناس أصبحت السيارات من الحاجِيات ولا من الضروريات؟ من الحاجيات، مش من الضرورة، غلط تقول من الضرورة، يترتب على عدم الضرورة وفاة أو هلاك، لو ما عندك سيارة لا تهلك ولا تموت، لكن يترتب على عدم وجود السيارة إيش اليوم؟ يترتَّب حرج.
ولذا: العلماء يقولون في قواعدهم: (الحاجيات تَلحق بالضروريات)، فكما يُقال: (الضروريات تُبيح المحظورات)؛ يقال: الحاجيَّات تُبيح المحظورات بِمقدار الضَّرر.
يعني: ما من رجل اليوم يشتري سيارة إلا وعليه تأمين، ممكن واحد يشتري سيارة ما يؤمن؟ التأمين ممنوع، طيب؛ إيش الآن حُكم شراء السيارة؟ لو سألك سائل: إيش حُكم شراء السيارة؟ حلال ولا حرام؟ حلال. ليش حلال؟ لأن الحاجيَّات تُنزَّل منزلة الضروريات، فكما أن الضروريَّات تُبيح المحظورات؛ فإن الحاجيات تبيح المحظورات.
طيب؛ نجيب شيئًا آخر: السكن، من الحاجيات أم من الضروريات؟ من الحاجيات. هل يجوز أخذ قرض ربوي للسكن؟ تقول: الحاجيات تنزَّل منزلة الضروريات، والضروريات تُبيح المحظورات؟ قلنا: نعم نحن نقولها؛ لكن نقول: القاعدة التي بعدها: أن الضرورة تقدَّر بقدرها.
هل يلزم للإنسان حتى يدفعَ حاجة ستر العورة والإيواء في بيت؛ هل يلزم ذلك أن يكون مالكًا للبيت؟ مُمكن تُستر العورة ويَسكن الإنسان بالإيجار؟ فالضرورة تقدَّر بقدرها، أجِّر، لا يلزمك أن تسكن البيت، ولذا: الذي يُفتي بجواز أخذ القرض الربوي من أجل بناء البيت وأعمَلَ قاعدة: (الحاجيات تُنزَّل منزلة الضروريات)، ونحن نوافق على أن السكن حاجة، وأن الحاجة تُنزَّل منزلة الضرورة؛ لكن توسَّع، كان باغيًا، وبغى هذا الأمرَ أصالةً واعتدى.
لذا الناظم في البيت الذي بعده قال:
17. وَكُـلُّ مَحْـظُــورٍ مَـعَ الضَّــرُورَهْ ... بِقَــدْرِ مَــا تَحْتَــاجُــهُ الضَّــرُورَهْ
إيش يعني: (بِقَــدْرِ مَــا تَحْتَــاجُــهُ الضَّــرُورَهْ)؟ يعني: امرأة احتاجت أن تتطبَّب، وإيلامها في أسفل قدمها، المرأة لما تتطبَّب تحتاج أن تذهب إلى أين؟ تذهب إلى من؟ طبيبة مسلمة، إن لم تجد الطبيبة المسلمة ذهبت إلى الطبيبة الكتابية، إن لم تجد الطبيبة الكِتابية تذهب للطبيب المسلم، إن لم تجد الطبيب المسلم تذهب للطبيب الكتابي.
كم من امرأة تذهب للطبيب الكتابي النصراني أو الكافر لأول مرة، تجاوزت ثلاث مراحل، والرجل يجد في نفسه، إخواننا الأطباء الثقات أصحاب الديانة الملتحِين يسألون يقولون: يا شيخ نحن نفحص البنات نجد في أنفسنا، الله يؤاخذنا؟ الطبيب آلة وليس برجل؟! الطبيب يجد في نفسه كما يجد الرجال، الطبيب واحد من الناس، فواجب عليه أحكام، والواجب على من تذهب إليه أحكام من النساء أحكام، فيَحرُم على الطبيب إلا الضرورة، والمرأة كذلك يحرُم عليها طبيب إلا الضرورة.
طيب؛ أسفل قدمها يؤلمها، لماذا يرى غير أسفل القدم؟
طيب؛ المرأة التي تحتاج لتشخيص، فحص داخلي يسمونه اليوم في الطب، ليش ما تكون عنده ممرضة، الممرضة تعمل الفحص الداخلي، ويدربها إيش تريد، فيَحرم على الرجل أن ينظر، والضرورة تقدَّر بقدرها، ويمكن غيرُه يسد مسدَّه فيها.
امرأة ذهبت عند كبير من الطبيبات ما استفادت ما بقي إلا الطبيب.
فإذا الضرورة تُدفع بالنظر للمرأة يُدرب امرأة مثلا؛ فهذا واجب، والضرورات فقط تقدَّر بقدرها، هذه تأتينا في المرة القادمة، نفصل فيها ونذكر الحالات.
لكن: الذي أريد أن أقرِّره الآن: أن الشرعَ من حيث الأهمية جعل هنالك:
الضرورات، وجعل هنالك رقم2 إيش؟ الحاجيات، وجعل رقم3 إيش؟ التحسينيات.
شو التحسينيات؟ يعني: إدخال السرور، التنعُّم في الدنيا.
طيب؛ هل إدخال السرور على النفس والتنعُّم في الدنيا واتخاذ المَصيَف والمَشتى واتخاذ العمارة والقصر، هذا ممنوع في الشرع ولا مذموم؟ ليس ممنوعًا في الشرع، «إن الله يحب أن يرى أثرَ نعمتِه على عبده»، وسليمان عليه السلام كان متنعِّمًا.
لكن: أن تجعل هذه الأشياء هي التي تشغل قلبك، وهي التي تملأ وقتك، وتصرفك عن العبادة وعن الخير؛ فهذا المذموم.
هذه الأشياء من مظنة أن تصرف الإنسان عن الخير.
لذا: أتعبَ العلماءَ مسألة: أيهما أفضل الغني الشاكر أم الفقير الصابر؟ من أحسن؟ إيش رايكم؟
طيب؛ أنا أذكر لكم شيئًا: صاحب المال، رجل عنده أموال كثيرة، هل تجب عليه الزكاة أم لا تجب؟
طيب؛ الفقير هل يجب عليه أن يأخذ؟ طيب؛ من أحسن الفقير ولا الغني؟
الفقير مش واجب عليه يأخذ.. خذ يا حبيبنا، أرجوك، هذه زكاة المال.. يأثم؟
طيب؛ الغني الذي لم يدفع؟ يأثم.
في الحديث الصحيح: أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمئة سَنة، خمسمئة سَنة حساب على الأموال.
فبعض العلماء قال: لهذين السببين -وغيرهما- أن الفقير أفضل، الفقير الصابر خير من الغني، لكن النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- إيش قال؟ قال: «نِعم المال الصالح للرجل الصالح».
والفصلُ في المسألة يختلف باختلاف حال الناس، والعبرةُ في الحالتين: أن يكون الإنسان رجَّاعًا إلى الله، فلما ذكر الله في «سورة ص» قصة أيوب -وهو رمز للفقير الصابر المُبتلَى-، ولما ذكر قصة سليمان -وهو رمز لمن آتاه الله المالَ والمُلك والسلطان-؛ فقال الله عن كل واحد منهما: {نِعمَ العبدُ إنَّه أوَّاب}، فالعبرة أن تكونَ أوَّابًا لله.
اللهم إن كان صلاحُنا في الغنى؛ فأغنِنا، وإن كان صلاحُنا في الفقر؛ فأفقِرنا.
إيش رايكم بالدعاء؟ ما تخافون الفقر؛ الله يعطي المالَ لمن يُحب ولمن لا يحب.
والكفار مِن بغيِهم لَما يدخلون النار يلتفت بعضُهم إلى بعض ويقولون: {ما لنا لا نرى رجالًا كُنا نعدُّهم من الأشرار} وين الفقراء المسلمين؟ يظنون -مساكين- أن موازين الآخرة موازين الدنيا! {ولِئن رُجِعتُ إلى ربِّي إنَّ لي عندهُ لَلحُسنى} هكذا الكافر يقول، ما دام أن الله أعطاني هذه الأموال، وأعطاني في هذه الدنيا، معناها إذا رجعت عند الله في الآخرة فلي عنده كما أعطاني في الدنيا!!
والنبي كسر هذا الأمرَ، النبي قال: «لو كانت الدنيا عند الله تُعادل جناحَ بعوضة؛ ما سقى منها كافرًا شربة ماء».
الدنيا هيَّنة، ومِن هوان الدنيا على الله يقول الله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ . وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ . وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ}؛ لولا أن المسلمين يصبحون كافرين؛ لجعلت الكفار في الدنيا لبيوتهم سقفا من فضة، ومعارج من فضة، وأبوابا من فضة، لكن الله -عزَّ وجلَّ- جبر كسر قلوب المؤمنين، الناس حينئذ قد يميلون للكفار، يصبح الناس كلهم كفار، {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}.. {وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} ختم الآيات.
فالدنيا الله يعطيها للكفَّار، فوجود مال عندك، وجود أولاد عندك، وجود جاه عندك، وجود [سلطان] عندك؛ لا يدل على أنك مرضي عند الله!
قد يكون فقير مدفوع بالأبواب، أشعث أغبر لا يلتفت إليه أحد يملأ مثل الدنيا من هذا الإنسان اللي ما شاء الله..!
فالتحسينيَّات شرعُنا جاءنا به، ومن ذم غيرَه بسبب التَّحسينيَّات المأذون بها في الشرع باعثُه في الذم: الحسد لك.
يعني يقول فلان: الشيخ الفلاني [...]! ليش؟ والله ساكن في قصر! طيب إيش مشكلة؟ هذا شيء حلال، أنس بن مالك كان عنده قصر.. إنسان يركب سيارة مثلا نوعها فاخر، إيش المشكلة؟
لكن إذا طغى هذا على الدِّين، واحتل هذا محل القلب، وبدأ الإنسان يضيِّع هذا المذموم!
أما السعادة فكما قال -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: السعادة في أربعة: المركب الهنيء، والبيت الفسيح، الزوجة الصالحة، والجار الصالح، هذه السعادة في الشرع.
والشقاوة في أربعة عكس الأمور الأربعة.
والله امتنَّ على قريش بقوله سبحانه: {رحلةَ الشِّتاءِ والصَّيفِ} قال الإمام القرطبي في «تفسيره»: «وفي هذه الآية دلالة على جواز أن يتخذ الرجل مَصيفًا ومشتى» يكون له قصر في مصيف وقصر آخر في مشتى؛ «لأن الله لا يمتن على أحد إلا بحلال، الله ما يمتن على قريش بشيء حرام، قال لهم رحلة شتاء، ورحلة صيف، لو كان عندك تصيِّف فيه، وآخر تشتِّي فيه؛ إيش مشكلة؟!...
فهنالك ضروريات وحاجيات وتحسينيات.
فالذي يُبيح المحرَّمات: الضروريات والحاجيات.
فلان أخذ قرضا من بنك؟ ليش؟ يغير أثاث بيته، [...] هذا حرام! في أي باب هذا؟ هذا في باب التحسينيات.
فالحرام يُهجم عليه بالضرورةِ والحاجةِ، وهذا الهجوم ليس على الإطلاق، حتى أكل الميتة.
يعني مثلا: ما وجدنا إلا مقدار من الميتة مقدار واحد، واثنان مضطران، واحد يأكل حتى يسد مقدار ...، لا يجوز للآخر أن يعتدي عليه، حتى في أكل الميتة؛ لأن الله يقول: {غير باغٍ ولا عادٍ}، إذا ما فيه غير مقدار واحد وهم اثنان؛ فيَحرُم على الآخر الذي لم يَسبق للميتة أن يعتدي على من يأكل الميتة.
فيه ضوابط أخرى تأتينا في درسنا القادم إن شاء الله تعالى.
فلما نقول: الضرورات تُبيح المحظورات نحتاج نقيِّدها، ننبذ التحسينيات أصلا، ونُقيِّد الضروريات والحاجيَّات التي تُحلِّل المحرَّمات بالمقدار دون الاعتداء، نأخذ المقدار دون الاعتداء.
والله أعلم.
وصلى الله وسلَّم وبارَك على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

انتهى (الجزء الثاني).

تفريغ : أم زيد


من هنـا تجميع روابط الدروس المفرَّغة
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 10:54 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.