أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا

             
5533 82448

العودة   {منتديات كل السلفيين} > المنابر العامة > المنبر الإسلامي العام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 09-28-2017, 12:22 AM
أحمد سالم أحمد سالم غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Nov 2010
الدولة: جزائري مقيم في فرنسا
المشاركات: 2,425
افتراضي طريقة السَّلف الحكماء في النُّصح للسلاطين والأمراء بقلم : الشيخ عبد المالك الرمضاني

طريقة السَّلف الحكماء في النُّصح للسلاطين والأمراء
بقلم :
فضيلة الشَّيخ عبد المالك بن أحمد رمضاني حفظه الله

- المدينة النَّبوية –

بسم الله الرحمن الرحيم

[ بحثي هنا مرتبطٌ بواجبات المحكوم تجاه حاكمه ، ومن الأمور المهمَّة الَّتي يجب عليه معرفتُها أن يَعرفَ الكيفيَّة الَّتي يُعاملُه بها ، ولــــــمَّا كان هذا البَابُ واسعًا ، فإنَّني أحببتُ أن أسهِم فيه ببيان موضوع دَقيق منه ، ألا وهو الطَريقةُ الشَّرعيَّةُ في نصيحة ذَوي السُّلطان .]

وليس المقصودُ من النَّصيحة كلَّ النَّصيحة ، لأنَّ البحث في ذلك يطول أيضًا ، إذ يَدخلُ تحتَه بَذلُ البيعة له وطاعتُه في المعروف والدُّعاء له وحبُّ اجتماع النَّاس تحت ولايته وتركُ الخُروج عليه وغشِّه وتقديم الكلمة النَّاصحة له سواء بتنبيهه على مواطن الصَّلاح في أعماله أو موطن الإصلاح لأغلاطه .
وهذا البابُ الأخيرُ هو مقصودُ هذه الكتابة ، فإنَّ النَّاس يكادون يُجمعون على أنَّ أكثر الولاياتِ الإسلاميَّة اليومَ قد انحرفت عن كثير مـــــمَّا يحب أن تكون عليه الولايةُ الشَّرعيَّةُ ، لكن اختلفوا في الطُّرق المسلوكة لإصلاح هذا الإنحراف :
فمنهم مَنْ يقوم بالتَّشهير بأخطاء رُؤسائه ، ويرى أنَّه لابدَّ من توعية النَّاس بذلك حتَّى يتحزَّبوا معه ضدَّهم أوَّلاً ثمَّ يوظِّفهم في عمليَّة الخروج عليهم والانقلابات ضدَّ نظامهم حين يعزِم عليها ثانيًا .
ومنهم مَن يَحرصُ على الاقتراب من رُؤسائه ويستشفع لذلك بالمدح الصَّادق لهم والكاذب كي يُصيبَ منهم رُتبًا عليَّةً ومُتعًا شهيَّةً
ومنهم مَن لا يأبهُ لنُصحهم ، آيسًا مِن استجابتهم .
ومنهم مَن ترك مُساكنتهم في بلادهم ، آويًا إلى بلاد عدِّوهم ، دائبًا على التَّحزُّب ضدَّهم ، يُفتش عن كلِّ مثليةٍ لهم صحَّت أو لم تَصحَّ ليَنشرها في وسائل الإعلام حرصًا على تشويه سُمعتهم ، ولو العدوُّ الكافرُ لخيانة وليٍّ أمره لم يتردَّد لشدَّة الحقد السَّاكن في قلبه عليهم .
وقد كان من منكرات أكثر المذكورين إقامةُ سبِّ الحكَّام مقامَ النَّصيحة ، واستعاضةُ السَّتر بالفضيحة ، والله المستعان .
ولقد انتشر في هذا العصر بين أكثر المسلمين أنَّ قيام خطيب الجمعة مثلاً بتـتبُّع عثَرات الدَّولة ونقدها أمام الملأ هو خيرُ دليلٍ على أنَّه الخطيبُ الشُّجاعُ المجاهدُ الَّذي تُعقَد عليه آمالُ التَّغيير ، وأنَّه الخطيبُ الواقعيُّ الَّذي يعيش أحزانَ أمَّته ويُقاسمُها هُمومَها ؟ فيُقال : حضرت اليوم الجمعة عند إمامٍ يقولُ الحقَّ !! وضابطُه أن يكون ضدَّ الحكَّام !!! كما رسخَ في أذهان كثيرٍ منهم أنَّ قيام خطيبِ الجُمعة بالتَّركيز على تَعليم النَّاس دينهم من توحيد وطهارة وصلاة وزكاة وصوم وحجِّ ونحوها هو خيرُ دليلٍ على أنَّه الخطيبُ المغفَّل بل المغيِّبُ عن فقه الواقع ، لأنَّه يُعدُّ عندهم الخطيبَ العاجزَ عن التَّغيير ، وإذا اجتهد في ربط النَّاس باليوم الآخر فخوَّفهم من يوم القيامة ومن عذاب القبر وشوَّقهم إلى الجنَّة قالوا : إنَّه يَعيشُ تحت الأرض أو فوق السماء !! أمَّا ما بينهما فهو عنه غائبٌ ؟؟ وأمَّا لو زاد هذا الخطيبُ على ذلك بيانَ حُقوقِ السُّلطان الـمُسلم كما هوَ مُدَوَّنٌ في الكتبِ الأصول للمتقدِّمين والمتأخِّرين فهي الخطيئةُ الَّتي لا تُبقى ولا تذر ، وصاحبُها على أعتاب الطَّواغيت انتحر !! بل ذلك أكبرُ دَليلٍ عندهم على أنَّه مخدِّرٌ شُعوبٍ وذنَبٌ سُلطانٍ ومُجادِلٌ عن الطَّواغيت ، وتُساءُ به الظَّنونُ حتَّى تُنسجُ حوله بعد ذلك مُباشرةً حكاياتٌ في الموالاة للطَّواغيت والحكَّام القراصنة ، والخُنوع للجبابرة وخدمة الفراعنة ...!!
هذا هو ما يسمَّى اليَومَ بِفقه ( الحركة الإسلاميَّة ) .
وقد مرَّ على الحركة الإسلاميَّة زمنٌ لا يُعرف عندها الخطيبُ النَّاجح والـمُحاضرُ البارعُ إلاَّ ذاك الفالي لأخبار الصُّحف الحفَّاظُ لتحـــــرُّكات الملوك والرُّؤساء ، حتَّى أكلَ ذلك وقتَ خُطبه ، واستَهلمَ جُهودَ دعوته ، واستولَى على السَّاحة الدَّعوية الخُطبُ الكَشْكيَّة المحرِّشةُ للشُّعوب على الأمراء ، والَّتى لا يكاد يرى أصحابُها أنكرَ من أخطاء الرُّؤساء ، حتَّى قلَّد فيها بعضهم بعضًا وغرَّهم في ذلك تصفيقُ الجماهير لهم تارةً وحِلمُ بعض الولاة عليهم تارةً أخرى ، وتحوَّل المسجدُ من بيت عِبادةٍ وتربـــية وهداية وسكينةٍ إلى بيت إثارةٍ وتشويشٍ وتحريض للمسلمين بعضِهم على بعضٍ ، وبتأثيرٍ من هذه الأجواء المهيِّجة ترى مساجدَها أكثرَ طلبًا ، وإن كانت أقلَّ تربيةً وأدبًا ، بل أعرفُ منهم مَن يَسلكُ هذا المسلك ولا أرَبَ له في الإثارة السِّياسيَّة سوى أنَّه يريدُ أن يَستجلب من الشَّبيـبة الثَّائرة وُدَّها ، ويستجلبُ من قيادتها زبدَها ، رزقنا الله الثَّبات على الحقِّ والإخلاصَ فيه .
ولا ريب أنَّ الاجتهاد في النُّصح للأمَّة في الأحوال العصيبة هو نوعٌ من أنواع الجهاد .
ومـــمَّن أُمرنا بإسداء النُّصح له السُّلطان الَّذي حكَّمه الله في رِقابنا ، روى مسلم (55) عن تَــــميم الدَّاريِّ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال :" الدِّين النَّصيحة ، قُلنا : لــمن ؟ قالَ : " لله وَلكِتَابهِ وَلِرَسُولِهِ وَ لأَئمَّةِ الـــمُسلمِينَ وَعَامَّتِهم " وروى ابن عبد البرِّ في التَّمهيد (21/285) : " عن السَّائب بن يزيد قال : قال رجلٌ لعُمر بن الخطَّاب : " ألاَّ أَخاف في الله لومة لائم خيرٌ لي أم أُقْبَلُ على أمرى ؟ فقال : أمَّا مَن ولَيَ من أمر المسلمين شيئًا فلا يخَفْ في الله لومة لائمٍ ، ومَن كان خِلْوًا فليُقبل على نفسه ولينصح لأميره " .
قال ابن نَصر المروزي في تعظيم قدر الصَّلاة (2/693) : " وأمَّا النَّصيحةُ لأئمَّة المسلمين ، فحبُّ طاعتهم ورشدهم وعدلهم وحبُّ اجتماع الأمَّة كلَّهم ، وكراهية افتراق الأمَّة عليهم ، والتَّديُّنُ بطاعتهم في طاعة الله ، والبغضُ لمن رأى الخُروج عليهم ، وحبُّ إعزازهم في طاعة الله " ، ووافقه عليه ابنُ رجب في جامع العلوم والحكم (1/80) والنَّووي في شرحه مُسلم (2/38) وحكاه عن الخطَّابي وابن حجَر في الفتح (1/138) وغيرهم.
ومن حديث تـميم الدَّاري رضي الله عنه السَّابق يُفهم أنَّ طريقة النُّصح للسَّلاطين تختلف عن غيرهم ، فإنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم فصَّل عند ذكر الأصناف الـمُستحقَّة للنُّصح ، فعطف بين أئمَّة المسلمين وعامَّتهم ، والقاعدةُ الَّتي يذكرها العُلماءُ هنا تقولُ : إنَّ عطف الشَّيء على الشَّيء يفيدُ الـمُغايرة أي : لـمَّا كانت طريقةُ نُصح الأمراء ، تختلفُ عن طريقة نُصح عامَّة النَّاس لم يجمعها صلى الله عليه وسلم في كلمةٍ واحدة ، وهاك بيانَه :
قال شيخُنا الشَّيخ عبدُ الـمُحسن بن حمَد العبَّاد في كتابِه الماتع " قطف الجنى الدَّاني شرح مقدِّمة رسالة ابن أبي زَيد القيرواني " (ص173) : " ثمَّ إنَّ النَّصيحة لولاة الأمور وغيرهم تكون سرًّا وبرفق ولين ، ويدلُّ لذلك قول الله عزَّوجلَّ لموسى وهارونَ : " اذْهَبَا إلَى فِرْعَوْنَ إنَّه طَغَى ، فَقُولاَ لَهُ قَولاً لَّينًا لَّعلَّهُ يَتَذكَّرُ أَوْ يَخْشَى " [ سورة طه ] ، وعن عائشة رضي الله عنها عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ الرِّفقَ لاَ يَكونُ في شيءٍ إلاَّ زانَه ، ولاَ يُنْزَعُ مِن شيءٍ إلاَّ شَانَه " (1)
وفي صحيح البخاري (3267) ومسلم (2989) ، واللفظُ لمسلم – عن أبي وائل شَقيق بن سَلمة قالَ : قيلَ لأُسامةَ : ألا تَدخُل على عُثمانَ فتُكلِّمَه ؟ فقالَ : " أتُروْن أنِّي لاَ أُكلِّمُه إلاَّ أُسمعُكم ؟ والله ؟ لقَد كلَّمتُه فيما بَينـــي وبينَه مَا دونَ أن أفتحَ أمرًا لاَ أحبُّ أن أَكونَ أوَّلَ مَن فتَحَه "الحديث .
قال الحافظُ ابنُ حجَر في الفتح (13/51) : " أي : كلَّمْتُه فيما أشَرْتم إليه ، لكن على سبيل المصلحة والأدب في السِّرِّ بغير أن يكون في كلامي ما يُـــثيرُ فتنةً أو نحوها " .
وعن عياض بن غنيم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مَن أَرادَ أَن يَنصحَ السُّلطانَ بأَمْرِ فلاَ يُبْدِ له عَلاَنيَةً ، ولَكِن لِيَأْخُذْه بيَده فيَخلُو به ، فإن قَبلَ منه فذاكَ ، وإلاَّ كانَ قد أَدَّى الَّذي علَيه لَه " (2)
وإذا خلا النُّصحُ من الرِّفق واللِّين وكان علانيةً فإنَّه يضرُّ ولا ينفعُ ، ومن المعلُوم أنَّ أيِّ إنسان إذا كان عنده نقصٌ يحبُّ أن يُنصح برفقٍ ولينٍ ، وأن يكون ذلك سرًّا ، فعليه أن يُعامل النَّاس بمثل ما يحبُّ أن يعاملوه به ، ففي صحيح مسلم (1844) في حديث طويل عن عبد الله بن عَمرو بن العاص رضي الله عنهما أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ : " فمَن أَحَبَّ أن يُزحْزَحَ عن النَّارِ ويُدخَلَ الجنَّةَ فَلْتَأته مَنيَّتُه وهو يُؤمنُ بالله واليوم الآخر ، وَلْيَأتِ إِلى النَّاس الَّذي يُحبُّ أن يُؤتَى إلَيه "ا.هــــــــ كلامه حفظه الله .
ويؤيِّده قولُ ابن القيِّم رحمه الله في الطُّرق الحُكميَّة (ص58) : " ومِن دقيق الفطنة أنَّك لا تردُّ على الــمُطاع خطأه بين الملأ ، فتَحمله رُتبتُه على نُصرة الخطأ ، وذلك خطأ ثانٍ ، ولكن تلَّطف في إعلامه به حيث لا يشعر به غيرُه "
وهناك آثارُ عن السَّلف تؤيِّد ما ذكره الشَّيخ [عبدُ الـمُحسن بن حمَد العبَّاد ] حفظه الله :
- ما رواه سعيد بن منصُور في سننه (846) وابن أبي شيبة في مصنَّفه (37307) وابن الدُّنيا في الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر وابن المقرئ في المعجم (1230) والبيهقيُّ في شُعَب الإيمان (7592) بإسناد حسنٍ عن سعيد ابن جبير قال : قلتُ لابن عبَّاس : آمرُ أميري بالمعروف وأنهي عن الـمُنكر ؟ فقال :" إن خفتَ أن يقتلك فلا تُعنف السُّلطان ، فإن كنت لابدَّ فاعلاً ففيما بينك وبينه " ، وفي رواية : " ولا تعبْ إمامَك "
- وروى البخاريُّ في التَّاريخ الكبير (2352) عن أبي جمرةَ قال : " لــمَّا بلغني تحريقُ البيت خرجتُ إلى مكَّة واختلفتُ إلى ابن عبَّاس حتَّى عرفني واستأنس بي ، فسببتُ الحجَّاجَ عند ابن عبَّاس ، فقالَ : " لا تكن عونًا للشَّيطان " ، هذا مع ما حصل من الحجَّاج حين رمى ابنَ الزُّبير بالــمَنجَنيق فأصاب الكعبة واحترقت .
- ومنها ما رواه أحمد (19415) وحسَّنَه الألبانيُّ في ظلال الجنة (905) – عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال : " إن كانَ السُّلطانُ يَسمعُ منك فأْتِه في بيته فأخبره بما تعلمُ ، فإن قبلَ منك وإلاَّ فدعه .... "
- ومنها عن أنَس بن مالك رضي الله عنه قال : " كان الأكابرُ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهوننا عن سبِّ الأُمراء " رواه ابن عبد البرِّ في التَّمهيد (21/287) ، وجوَّد الألبانيُّ إسنادَه في ظلال الجنَّة في تخريج السنَّة لابن أبي عاصم ، فقد رواه تحت رقم (1015) ، وكذا ابنُ حبَّان في الثِّقات (5/314) ، وأبو نعيم في تاريخ أصبهان (421) ، والبيهقي في الشُّعب (7507) ، وأبو عَمرو الدَّاني في السُّنن الواردة في الفتن (141) ، وزادُوا في روايتهم عنه رضي الله عنه أنَّه قال : " .... أن لا تَسبُّوا أُمراءَكم ولاَ تَعيبُوهم ، واتَّقوا الله واصبروا ، فإنَّ الأمر قَريبٌ " وفي روايةٍ : " ولا تغُشُّوهم " .
وقد نسب أنسٌ هذا الحُكم إلى أكابر الصَّحابة رضي الله عنهم وحسبُك بهم ؟ فعلام التَّرفع عن هدي سادات هذه الأمُة لــمَن يتشرَّف بالانتساب إليهم ؟ ومعلومٌ أنَّه ليس ينفع الانتساب لأى السَّلف الصَّالحين إن لم يُصدِّقه العملُ بهديهم ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ بَطَّأَ بهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بهِ نَسَبُهُ "(3)
- وروى ابن أبي عاصم أيضًا (1016) عن أبي الدَّرداء رضي الله عنه قال : " إيَّاكم ولعنَ الولاة ، فإنَّ لعنهم الحالقُة وبُغضَهم العاقرةُ " ، قيل يا أبا الدَّرداء ؟ فكيف نصنعُ إذا رأينا منهم ما لا نحبُّ ؟ قال : " اصبروا ، فإنَّ الله إذا رأى ذلك منهم حبسهم عنكم الموت "
- وعنه قال : " كيف أنتُم إذا لعنتكم أُمراؤُكم علانيةً ولعنتُموهم سرًّا ؟؟ فهنالك تهلكون " (4)
- ورَوى الخلاَّل في السُّنَّة (546) بسند صحيح أنَّ عبدَ الله ابن عمر رضي الله عنه قال : " جاءني رجلٌ من الأنصار في خلافة عثمان فكلَّمني ، فإذا هو يأمرُني في كلامه بأن أعيبَ على عثمان ، فتكلَّم كلامًا طويلاً وهو امرؤٌ في لسانه ثقلٌ ولم يكن يقضي كلامه في سَريح ، فلمَّا قضى كلامه ، قلتُ : " إنَّا كنَّا نقول ورسول الله بعده أبو بكرٍ ثمَّ عمر ثمَّ عثمان ، وإنَّا والله ! - ما نعلمُ عثمانَ قتل نفسًا بغير حقٍّ ولاجاء من الكبائر شيئًا ، ولكن هو هذا المالُ ، فإن أعطاكُموه رضيتم ، وإن أعطاه أولي قرابته سخطتُم ، إنَّما تريدون أن تكونوا كفارس والرُّوم لا يتـــــرُكون لهم أميــــرًا إلاَّ قتلوه " ، قال : " ففاضَت عيناه بأربعٍ من الدَّمع ، ثمَّ قال : اللَّهمَّ لا نُريدُ ذلك " .
- وروى ابن أبي الدُّنيا في الصَّمت (235) أبو القاسم البغوي في مسند ابن الجعد (827) أبو نعيم (5/41) عن زائدةَ بن قُدامةَ قالَ : قلتُ لمنصُور بن الـــمُعتمر : " اليوم الَّذي أصوم فيه أقعُ في الأمراء ؟ قال : " لا ! قلتُ فأقع فيمن يتناول أبا بكرٍ وعمر ؟ قال : نعم ! "
وذلك لأنَّ الطَّعن على مَن يسبُّ الصَّحابة دينٌ ، وأمَّا الطَّعنُ على الأمراء فقد مرَّ أنَّه ليس من الدِّين ، وتفسيرُه أنَّ غالبَ الواقعين في أعراض حكَّامهم فإنَّ باعثهم عليه الدُّنيا ، كما في أثر ابن عمر السَّابق حتَّى الخوارج الَّذين ظاهرُهم الغضبُ من أجل الدِّين ، فيكونُ هذا من قبيل عدم الصَّبر على الشَّهوات ، وأمَّا تناولُ الرَّافضة أبا بكر وعمر رضي الله عنهما بالطَّعن فإنَّه من قبيل الشُّبهات ، ومعلومٌ أنَّ فتنة الشُّبهات أشدُّ من فتنة الشَّهوات كما هو مأثورٌ عن السَّلف ، والحركيُّون عكسوا هذا من أصله ، نسأل الله أن يقيَنا شرَّ الشُّبهات والشَّهوات جميعًا .
- وروى أبو نعيم (2/271) والبيهقيُّ في شعب الإيمان (6681) عن سُهيل القُطَعي قال : سمع ابنُ سيرين رجُلاً يسبُّ الحجَّاج ، فقال : " مَهْ أيُّها الرَّجلُ ! إنَّك لو وافَيتَ الآخرةَ كان أصغر ذنبٍ عملتَه قطُّ أعظم عليك من أعظم ذنب عمله الحجَّاجُ " (5)، واعلم أنَّ الله عزَّوجلَّ حكمٌ عَدلٌ ، إن أخذ من الحجَّاج لمن ظَلَمه شيئًا فشيئًا أخذ للحجَّاج ممَّن ظلمه ، فلا تشعلنَّ نفسك بسبٍّ أحدٍ " .
وهَذا على معنى أنَّ الحجَّاج لو أُخذ من حسناته لمن ظلمه فيسترجعها ممَّن يسبُّه أضعافًا مُضاعفةً ، لأنَّه جرَت العادة أنَّ المتكلِّمين في الحكَّام كثيرٌ جدًّا ، ويُوضِّحهُ ما رواه البلاذري في تَرجمة عُمر بن عبد العزيز رحمه الله من كتاب " أنساب الأشراف " عن السَّائب الكَلبي قالَ : " كتب عمر إلى عبد الحميد ابن عبد الرَّحمن ابن زيد بن الخطَّاب عامله على الكوفة ، أمَّا بعد ، فقد بلغني أنَّ المظلوم يدعو على الظَّالم ، فيكون المظلُوم ظالـــمًا والظَّالمُ مظلومًا أي : يصبح الـــمَظلوم ظالــمًا بسبب تجاوزه حدَّه في الانتصار ، كما روى ابن المبارك في الزُّهد (681) وعنه أبو نعيم في الحلية (5/277) باسنادٍ حسن عن رياح بن عَبيدة قال : " كنتُ قاعدًا عند عُمرَ بن عبد العزيز ، فذكر الحجَّاج فشتمتُه ووقعتُ فيه ، قال عُمرُ : مهلاً يا ريَاح ؟ إنَّه بلغني أنَّ الرَّجل يظلمُ بالــمظلمة فلا يزالُ الــمظلومُ يشتمُ الظَّالم وينتقصه حتَّى يستوفى حقَّه ويكون للظَّالم الفصلُ عليه " ، وبمثل هذا يظلُّ النَّاسُ يجودون بحسناتهم على ملوكهم المبغضين لديهم وهم لا يشعرون ، ولذلك روى معمر في جامعه كما في ذيل مصنَّف عبد الرَّزاق (11/180) عن قتادة قال : " سبَّ الحجَّاج بن يوسف رجلٌ عند عمر بن عبد العزيز ، فقال عمر : أظلمك بشيءٍ ؟ قال نعم ؟ ظلمني بكذا وكذا ، قال عمر : فهلاَّ تركتَ مظلمَتك حتَّى تقدمَ عليها يوم القيامة وهي وافرةٌ ؟؟ " .
- روى ابن زنجوية في الأموال (1/78) بإسنادٍ صحيحٍ عن أبي مِجْلز قال : " سبُّ الإمام الحالقةُ ، لا أقولُ : حالقة الشَّعر ولَكن حالقة الدِّين " .
- وفيه أيضًا (1/80) بإسنادٍ صحيح عن أبي إدريس الخَوْلاني أنَّه كان يقولُ هو يقصُّ في زمان عبد الملك :" إيَّاكُم والطَّعنَ على الأئمَّة ، فإنَّ الطَّعن عليهم هي الحالقة ، حالقة الدِّين ليس حالقةَ الشَّعر ، ألا إنَّ الطَّعَّانينَ هُم الخائبون وشرارُ الأشرار "
- وأخرج أبو عمرو الدَّاني في السُّنن الواردة في الفتن (146) وابن عبد البرِّ في التَّمهيد (21/287 ) وفي الاستذكار (8/579) عن أبي إسحاق السَّبيعي رحمه الله أنَّه قال : " ما سبَّ قومٌ أميرَهم إلاَّ حرموا خيره " .
ما أصدقَ هذا الكلام على واقع البلدان في كلِّ زمان ؟ وكلَّما توهَّم الماحضرون السَّبَّابون للحكَّام أنَّهم وصلوا بالنَّاس إلى التَّوعية السِّياسيَّة المطوية والتَّشريح الواقعي لأحوال الدُّول ازداد الأمرُ تفاقمًا والفتنةُ تعاظمًا ، والله المستعان .
- وروى ابن حاتم في الجرح والتَّعديل (1/97) بسندٍ صحيح عن عبد الرَّحمن بن مهدي قال : " ما سمعتُ سُفيان أي : الثَّوريِّ يسبُّ أحدًا من السُّلطان قطُّ في شدَّته عليهم "
وكان شديدًا عليهم ، لأنَّه لم يكن يقبل جوائزَهم كما هو مدَّونٌ في سيرته من المصدر المذكور آنفًا ، وكذلك لم يكن يجاملُهم إذا مثل بين أيديهم ، بل يخبرهم بما فيهم نصحًا إخلاصًا وحبًّا في إصابتهم الخيرَ وسلامتهم من الشَّرِّ
كما روى أيضًا بالسَّند نفسه عن عبد الرَّحمن بن مهدي قال : سمعتُ سُفيان يقولُ : " إنِّي لأدعوُ للسُّلطان يعني بالصَّلاح ، ولكن لا أستطيع أن أذكر إلاَّ ما فيهم " .
أي : إنَّه إذا مثل بين أيديهم لا يغرُّهم بالمدح الكاذب ، بل يُبين لهم نقائصَهم كما هي حتَّى يتجنَّبوها ، لا تشفِّيًا كما يفعل المبتلون بمطاردة أحوال السَّلاطين بإحصاء أخطائهم ونشرها على منابرهم ، فإنَّ المجرَّبَ عليهم أنَّهم أحبنُ النَّاس عند لقائهم وكثيرًا ما يحصل أنَّ السُّلطان الذَّكيِّ يمتحنهم بشيءٍ من الدُّنيا وأنواع الإكرام ليستدرَّ منهم الثَّناء عليه ، فيحصلُ ذلك منهم بدون أدنى تردُّد .
فكيف بمن لا ينصح إلاَّ من وراء جُدُرٍ ؟! إنَّ كثير الثَّرثاريـــن بالمسائل السِّياسيَّة المعاصرة للطَّعن بها على الحكَّام هم من هذا الطِّراز الجبان ، ولذلك فإنَّ أهل المكر من العلمانيِّــين لا يجدون تعبًا يُذكر في تذويــبهم وصناعتهم على عينهم ، وقد عرف النَّاسُ كثيـــرًا منهم قد غيَّر سياستَه في معاملة أميره لمجرَّد رفع مرتبةٍ أو زيادة راتبٍ أو تمكينهم من ذيُوع صيتهم عند العامَّة وتسميع حالهم في وسائل الإعلام ، فهنالك تبردُ حميَّته ، وتنكسرُ همَّتُه !!
فالنَّصيحة لمن كان قليلَ الثَّبات ضعيفَ الشَّخصيَّة ، سريعَ التَّلوُّن والتَّقيَّة أن يتنحَّى عن هذه السَّبيل ، ومن كان غير ذلك فلْيَتَعلَّم الهديَ النَّبويَّ الإصلاحيَّ وليُحسِن التَّأسِّي .
والخلاصةُ : أنَّ هؤلاء جمعٌ من أَهل العلم من سلفنا الصَّالح قد تناقلوا هذه الطَّريقةَ النَّبويَّةَ الحكيمةَ في التَّعامل مع ولاتهم دون أن يجدُوا في أنفسهم حرجًا منها ، وهذه هي الشَّجاعةُ الحقَّةُ والنُّصحُ الصَّادقُ ، وهو أن يكون المرءُ صائمًا عن أعراض الولاة ، بل داعيًا لهم بظَهرِ الغيب ، فإذَا حان وقتُ نصيحة لهم لم يَضعُفْ عنها ، كما قال عُبادة بن الصَّامت رضي الله عنه : " بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السَّمع والطَّاعة في العسر واليسر والمنشط والمكرَه ، وعلى أثَرةٍ علينا ، وعلى أن لا ننازع الأمر أهلَه ، وعلى أن نقول بالحقِّ أينما كنَّا لا نخاف في الله لومة لائم " (6)
وإذا قوي على قول الحقِّ لم يَضعُف عن التزام الأسلوب الحكيم الَّذي دلَّت عليه الآثار الَّتي مرَّت ، ومَن كان في انتقادهم على المنابر أسدًا ، لأنَّه بعيدٌ عنهم ومُستترٌ بالجماهير ، رَّبما تحوَّل إلى نعامة عند اللِّقاء بمَن ينتقدُ من الملوك والأمراء ، كما هو غالبُ حالِ هؤلاء الَّذين يُخالفون الآثار السَّابقةَ بنوع فلسفةٍ فأين الاقتداء بالسَّلف ؟! وأين الجهاد المزعومُ ؟! بل هو عند ذوي أطبَّاء الآثام الباطنة بمنزلة من يُقاتلُ حميَّةً ورياءً !
إذن ، هذه هي الطَّريقة الشَّرعيَّة الَّتي دلَّت عليها الأدلَّة وجرى عليها عملُ الأجلَّة ، فتَّمسك بها وعضَّ عليها بالنَّواجذ ، يجعل الله في نصحك بهذه الطَّريقة النَّبويَّة الهِدايةَ لسلطانك والإصلاحَ لمجتمعك ويُعظم لك أجرَك ، ولا يحملنَّك كثرةُ انحراف من ترى على سلوك طرائق المتهوِّرين والمتعجِّلين ، كما نقل الشاطبيُّ في الاعتصام (1/83) عن الفُضَيل بن عياض أنَّه قال : " اتَّبع طرُقَ الهدَى ولا يضرُّك قلَّةُ السَّالكين ، وإيَّاك وطُرقَ الضَّلالة ولا تغترَّ بكثرة الهالكين "
والحقيقة أنَّ الله هو الَّذي يولِّي على النَّاس مَن شاء من السَّلاطين بحكمته وعدله ، كما قال سبحانه وتعالى : " قُلْ اللَّهمَّ مَالكَ الـمُلْكَ تُؤتِي الـمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الـمُلْكَ ممَّن تَشَاءُ وتُعزُّ مَن تَشَاءُ وتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بيَدِكَ الخَيْرُ إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ " [ آل عمران:26 ]
وذلك بحسب أحوال النَّاس صلاحًا وفسادًا ، كما قال سبحانه وتعالى : " وَكَذَلِكَ نُوَلِى بَعْضَ الظَّالمينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ " [ الأنعام:129] ، فإن كانوا صالحين ولَّى عليهم القاعدة الَّتي اجتمعت عليها كلمةُ الحكماء منذ زمنٍ قديم ، وأكَّدها قديمًا وحديثًا الفقهاءُ ، ألا وهي قولهم : " كما تكونوا يولَّى عليهم "وقد أسهبتُ في بيان ذلك بأدلَّته الكثيرة في رسالة بعنوان القاعدة المذكورة فليرجع إليها من شاء ، فإذا كان الله يولِّي الحكَّام على هذا الأساس فمن الطَّعن في أمر الله أن يدأبَ طالبو الإصلاح على الطَّعن على السَّلاطين ويركِّزوا عليه عملهم ولـــــمَّا يُصلحوا أنفسهم بعدُ ولا من يلُون، تلك الأنفس الَّتي هي المتسبِّبُ الأوَّلُ في وجود سلاطين غير صالحين ، ولذلك فإنَّ الموفَّقين يرجعون إلى أنفسهم بالتُّهمة والطَّعن ثمَّ بالتَّغيير من جهتها ليُغير الله أحوال حكَّامهم ، ليس استسلامًا للواقع ولكن تسليمًا لحكم الله تعالى الَّذي قال : " إنَّ اللهَ لاَ يُغَيرُ مَا بِقَومٍ حَتَّى يُغَيْرُوا مَا بِأنفُسِهُمْ وَإِذَا أرَادَ اللهُ بِقَومٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مْن دُونِهِ مِن وَالٍ " [ الرعد :11 ] ، ولذلك روى عبد الملك بنُ حبيب في كتاب أدب النِّساء (ص187) عن يونس بن عُبيد قال : " صحبتُ الحسنَ البصريَ ثلاثين سنةً ، فما سمعتُه قطُّ قال : عُزل أميرٌ ولا وليٌّ ، ولا غلا سعرٌ ولا رخصَ سعرٌ ، ولا اشتدَّ حرٌّ ، وما كان ذكره إلاَّ : الموتُ جاءكم ؟ ... "
هذا عكس ما عليه الحركيُّون تمامًا ، وعلى هذا الأساس يَفهمُ القارىءُ سببَ كون السَّلف كانوا يكرهون الاشتغال بسبِّ الحكَّام كما مرَّ ، والله المستعان !
الحواشي :
(1) : رواه مسلم (2594)
(2) : رواه أحمد (15333)، والحاكم (3/290) ، وابن أبي عاصم في السنَّة (1096، 1098) ، قال الألبانيُّ في تخريجه (2/523) : " فالحديثُ صحيحٌ بمجموع طُرقه "
(3) : رواه مسلم (2699)
(4) : رواه معمر في جامعه بذيل مصنَّف عبد الرَّزَّاق (11/344) .
(5) : يُريدُ منه أن يَشتغلَ بذُنوبه بدلاً من الاشتغال بذُنوب الحَجَّاج ، فإنَّ الإنسانَ إذَا جاءَ يومَ القيامة استَعظمَ كلَّ ذنب عملَه مَهْمَا صَغُرَ ، إذ لاَ يُهمُّه إلاَّ شأنه ، لا كحالِه في الدُّنيا إذ يُعمِيهِ تعلُّقُه بها عن مُحاسبةِ نَفسِه ويَنطلق لـمُحاسبة أمرائِه .
(6) : رواه البخاري (7200) ومسلم (1709)

المصدر : العدد الثَّامن والعشرون لمجلتنا الغراء: " الإصلاح " - الجزائر
__________________
مجالس فضيلة الشيخ عبد المالك رمضاني – حفظه الله-
http://majaliss.com/forumdisplay.php?f=50
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 09-28-2017, 04:07 PM
عبد الله زياني عبد الله زياني غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 853
افتراضي



حتى من ناحية الواقع: نصح الحاكم جرا وشتم والتشهير به لن يزيده إلا مكابرة. والذي يشتم ويشهر في العموم يفعل ذلك انتقاما للنفس وإبرازا للعضلات كي يقال أنه لا يخشى في الله لومة لائم. أعطني مثالا على تشهير أدى إلى الإصلاح؟

__________________

ﺍﻟﻠﻬﻢ ﻟك ﺍﻟﺤﻤﺪ.
رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:14 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.