أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا

             
12968 139530

العودة   {منتديات كل السلفيين} > المنابر العامة > منبر الأئمة و الخطباء > خطب نصية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 07-19-2019, 09:46 PM
د. عماد البعقوبي د. عماد البعقوبي غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Nov 2014
الدولة: العراق
المشاركات: 42
افتراضي خطبة مكانة الأشهر الحرم واجتناب الظلم فيها

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبة الجمعة - ١٠ - ١١ - ١٤٤٠

مكانة الأشهر الحرم واجتناب الظلم فيها

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ... إلخ خطبة الحاجة.
أما بعد:
أحبتي في الله: لقد أظلتنا أشهر عظيمة فاضلة، قال الله عز وجل عنها: { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ } [ البقرة: ١٩٧ ].

وقال جل وعلا عنها: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ البقرة: ٢١٧ ].

وقال سبحانه وتعال: { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة: ٥ ].

إنها الأشهر الحرم، قال الله تبارك وتعالى: { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } [التوبة: ٣٦ ].

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ؛ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ؛ ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ : ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ » [ متفق عليه ].

وإنما كانت هذه الأشهر الثلاثة حُرُمًا؛ لأن الناس يقصدون فيها بيت الله عزَّ وجلَّ فذو الْقَعْدَةِ بِفَتْحِ الْقَافِ، وَكَسْرِهَا، لِقُعُودِهِمْ فِيهِ عَنِ الْقِتَالِ وَالتَّرْحَالِ.
وذو الْحِجَّةِ بكسر الحاء، وفتحها سمي بذلك لإقامتهم الْحَجَّ فِيهِ.
والْمُحَرَّمَ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ شَهْرًا مُحَرَّمًا، وَعِنْدِي أَنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ تَأْكِيدًا لِتَحْرِيمِهِ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَتَقَلَّبُ بِهِ فَتُحِلُّهُ عَامًا وَتُحَرِّمُهُ عَامًا، وهو ما يسمى النسيء، قال الله جل وعلا فيه: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } [ التوبة: ٣٧ ].
وأما رجب فهو منفرد في وسط العام، ليؤدوا العمرة مطمئنين، ومعنى اسم رَجَبٌ مِنَ التَّرْجِيبِ وَهُوَ التَّعْظِيمُ. [ ينظر: تفسير ابن كثير ط العلمية: ٤ / ١٢٨ – ١٢٩ ].

فكان السبب في تحريمها: حتى يحج الناس ويعتمرون؛ الحج يحتاج لذهاب وإياب وبقاء في مكة؛ قالوا: الشهر الذي قبل ذي الحجة للذهاب والشهر ذو الحجة لأداء النسك، وشهر محرم للإياب؛ فهذه ثلاث أشهر يحرم فيها القتال، ويأمن فيها الناس؛ حتى أن الواحد من الناس يشاهد قاتل أبيه في هذه الأشهر ولا يقتله!
ونَهَى تَعَالَى عَنِ الظُّلْمِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَإِنْ كَانَ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ مَنْهِيًّا عَنْهُ، إِلَّا أَنَّهُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ آكَدُ، لشدة حرمتها وعظمتها وَلِهَذَا قَالَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التَّوْبَةِ: ٣٦ ] [تفسير ابن كثير ط العلمية: ١ / ٤٠٥ ، ٢ / ٣٥٧ ].

قال الإمام ابن عثيمين رحمه الله ورضي عنه: " ومن العبارات المشهورة عند العلماء قولهم : " تضاعف الحسنة في كل زمان ومكان فاضل ".
فأرجو أن تكون الطاعة في الأشهر الحرم مضاعفة؛ كما أن المعصية في الأشهر الحرم أشد وأعظم .
وللعلماء قاعدة في هذه المسألة يقولون : " تضاعف الحسنات والسيئات في كلِّ زمان ومكان فاضل ".

وقال الشيخ بن عثيمين رحمه الله: " المضاعفة للسيئات ليست من ناحية الكمية، ولكنها تتضاعف من ناحية الكيفية "
بمعنى: أن العقوبة تكون أشد وأوجع، والدليل على أنها لا تضاعف الكمية قوله تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ [الأنعام: ١٦٠ ]، [ ينظر: لقاءات الباب المفتوح: ٥٨ ].
والظلم أنواع بعضه أشد من بعض، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ «الظُّلْمُ ثَلَاثَةٌ: فَظُلْمٌ لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ، وَظُلْمٌ يَغْفِرُهُ اللَّهُ، وَظُلْمٌ لَا يَتْرُكُهُ اللَّهُ، فَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ فَالشِّرْكُ، وَقَالَ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: ١٣ ] ، وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي يَغْفِرُهُ اللَّهُ فَظُلْمُ الْعِبَادِ لِأَنْفُسِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ، وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لَا يَتْرُكُهُ فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا حَتَّى يَدِينَ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ » [ حديث حسن، رواه الطيالسي والبزار، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: ٢ / ٧٣٤ ، والسلسلة الصحيحة، برقم: ١٩٢٧ ].
وعَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « الدَّوَاوِينُ عِنْدَ اللَّهِ ثَلَاثَةٌ: دِيوَانٌ لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئًا، وَدِيوَانٌ لَا يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا، وَدِيوَانٌ لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ، فَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ فَالشِّرْكُ بِاللَّهِ، قال الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الآية، وقال إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ [الْمَائِدَةِ: ٧٢ ] ، وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئًا، فَظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ مِنْ صَوْمِ يَوْمٍ تَرْكَهُ أَوْ صَلَاةٍ تَرْكَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ ذَلِكَ وَيَتَجَاوَزُ إِنْ شَاءَ، وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، الْقَصَاصُ لَا مَحَالَةَ » [ أَحْمَدُ ].
فأما الظلم العظيم فهو الشرك ، فهذا أعظم الظلم وأشده وأخطره، وهو اعظم الذنوب على الإطلاق، قال الله عز وجل: { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان: ١٣ ].
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: { الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ } [ الأنعام: ٨٢ ].
شَقَّ ذَلِكَ على الناس، فقالوا: يا رسول الله أينا لم يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ قَالَ: « إِنَّهُ لَيْسَ الَّذِي تَعْنُونَ أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: { يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ » [ رواه احمد ].
وهو الذنب الذي لا يغفره الله إن مات صاحبه عليه ولم يتب منه، قال الله جل وعلا: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً } [ النساء: ٤٨ ].
ووجه أنه ظلم عظيم أن الله عز وجل يخلق والمشرك يعبد غيره، والله يرزقه وهو يشكر غيره، والله يعطيه وهو يدعو غيره، فيعطي حق الله الخالق الرازق المدبر إلى المخلوق الضعيف العاجز، قال الله جل وعلا: { ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } [ الزمر: ٢٩ ]
أي: ضرب مثلا للشرك والتوحيد فقال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا} أي: عبدا {فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} فهم كثيرون، وليسوا متفقين على أمر من الأمور وحالة من الحالات حتى تمكن راحته، بل هم متشاكسون متنازعون فيه، كل له مطلب يريد تنفيذه ويريد الآخر غيره، فما تظن حال هذا الرجل مع هؤلاء الشركاء المتشاكسين؟
{وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ} أي: خالصا له، قد عرف مقصود سيده، وحصلت له الراحة التامة. {هَلْ يَسْتَوِيَانِ} أي: هذان الرجلان {مَثَلا} ؟ لا يستويان.

كذلك المشرك، فيه شركاء متشاكسون، يدعو هذا، ثم يدعو هذا، فتراه لا يستقر له قرار، ولا يطمئن قلبه في موضع، والموحد مخلص لربه، قد خلصه الله من الشركة لغيره، فهو في أتم راحة وأكمل طمأنينة، فـ {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا الْحَمْدُ لِلَّهِ} على تبيين الحق من الباطل، وإرشاد الجهال. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [ تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن: ٧٢٤ ].
وقال سبحانه وتعالى: { وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * } [ يس: ٢٠ – ٢٤ ].
أي: وما المانع لي من عبادة من هو المستحق للعبادة، لأنه الذي فطرني، وخلقني، ورزقني، وإليه مآل جميع الخلق، فيجازيهم بأعمالهم، فالذي بيده الخلق والرزق، والحكم بين العباد، في الدنيا والآخرة، هو الذي يستحق أن يعبد، ويثنى عليه ويمجد، دون من لا يملك نفعا ولا ضرا، ولا عطاء ولا منعا، ولا حياة ولا موتا ولا نشورا، ولهذا قال: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ} لأنه لا أحد يشفع عند الله إلا بإذنه، فلا تغني شفاعتهم عني شيئا، وَلا هُمْ يُنْقذون من الضر الذي أراده الله بي. {إِنِّي إِذًا} أي: إن عبدت آلهة هذا وصفها {لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}. [ تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن: ٦٩٤ ].

يعني الآن لو أن شخص يجلس في بيت أبيه وأهله وهم يطعمونه ويؤونه ويحسنون إليه ويرعون جميع شؤونه، وهو لا يعمل شيء ويذهب يعمل مجانا لأناس آخرين لا ينتفع منهم بشيء فهذا أقل ما يقال فيه أنه إنسان منحرف غير آدمي، طالع من الطريق، لماذا؟ لأنه تارك أهله ويذهب يعمل مع غيرهم بلا مقابل. كذلك حال من يشرك بالله عز وجل، الله الذي خلقه ورباه وأنعم عليه وحفظه ورزقه ويدبر جميع شؤونه وهو يذهب يعبد غير الله مما لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فضلا عن أن يملك لغيره.
وقال عز وجل: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } [ النساء: ١١٦ ].
فهذا هو وجه الظلم العظيم في الشرك؛ لذلك استحق هذا الظلم العذاب وكان الذنب الذي لا يغفره الله عز وجل، فقال عز من قائل: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } [ المائدة: ٧٢ ].
والإشراك بالله صار منتشرا في كثير من الأوساط، وبين كثير من المسلمين مع أنه أخطر الذنوب وأكبرها وشرها، وله صور كثيرة منتشرة اليوم منها:
الاستغاثة بغير الله: كما يفعل الجهال والقبوريون فيقولون: يا محمد مدد ، يا حسين أغثني ، .. يا بدوي ، يا رفاعي .. الخ من دعـاء الأموات من الأنبياء والأولياء والصالحين.
ومنه الذبح لغير الله والنذر لغير الله عز وجل.
ومنه الخوف التعبدي من غير الله.
ومنه التوكل على غير الله والتعلق بغيره.
ومنه الاستعانة بغير الله والاستغاثة بغير، والاستعاذة بغيره، واللوذ بغيره..
ومنه التطير، والتنجيم والتكهن، وادعاء علم الغيب.
وغيره كثير.. وهذا كله شرك أكبر هو مثل شرك الجاهليين الذي حاربهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم واستباح دماءهم وأموالهم وسى نساءهم بسب هذا الشرك، ففاعله يخرج من ملة الإسلام إذا توفرت فيه الشروط وانتفت الموانع.
ومن صور الشرك الصغر وهو أيضا من أكبر الكبائر لكنه لا يخرج صاحبه من ملة الإسلام:
الرياء والتسميع بالعمل..
والحلف بغير الله.
وعطف مشيئة العبد على مشيئة الله عز وجل بالواو التي تقتضي الجمع والمساواة فيقول ما شاء الله وشئت، أو يقول مالي إلا الله وأنت، أو يقول جئت على الله وعليك.. فهذه كلها من الشرك الأصغر؛ لأن العطف بالواو في العربية يعني مطلق الجمع فيقتضي المساواة، وإنما الصوا ان يقول الله ثم أنت، فالعطف بــ " ثم " يعني الترتيب، أي: تقدم الأول وتأخر الثاني.
أعاذني الله وإياكم من الشرك كله صغيره وكبيره سره وعلنه ، وأسأله ان يعيذنا من أن نشرك به شيئا ونحن نعلم وأستغفره لما لا نعلم..
عبدا الله ادعوا الله دعوة موقن، بقلب حاضر خاشع غير ساهٍ ولا لاهٍ.

الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا كما أمر، أحمده حمدا يليق بجلاله وعظيم سلطانه لا احصي ثناء عليه كما هو سبحانه اثنى على نفسه، والصلاة والسلام على الرحمة المهداة، خير الخلائق والبشر، من اصطفاه الله لختم رسالاته واتخذه خليلا كما اتخذ إبراهيم من قبله وعلى آله وصحبه ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على سنته ونهجه
أما بعد:
أحبتي في الله: نكمل نوعي الظلم الباقيين وهما:
النوع الثاني من الظلم: هو ظلم الخلق:
وهذا أقل من الظلم الذي قبله، لكنه أيضا ذنب عظيم، وعواقبه وخيمة، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . [ مُتَّفق عَلَيْهِ ].
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَهُنَا» . وَيُشِير إِلَى صَدره ثَلَاث مرار " « بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ ومالهُ وَعرضه » [ رَوَاهُ مُسلم ].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ويقول والذي نفسي بيده ما تواد اثنان فيفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما [ صحيح ، صحيح الترغيب والترهيب: ٢/ ٢٦٣ ، برقم: ٢٢١٩ ].
فالظلم ظلمات يوم القيامة عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « اتَّقُوا الظُّلْمَ؛ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ؛ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَحَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ ». [ رواه مسلم ].

وعن أبي هريرة رضي الله عنهـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم ودعوة المسافر ودعوة الوالد على ولده " رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن. وليس في رواية أبي داود: " على ولده » [ حديث حسن لغيره، ينظر: السلسلة الصحيحة، رقم: ٥٩٦ ، ١٧٩٧ ].

وما تجرأ عاقل وذو لب على الظلم، لأن دعوة المظلوم مجابة حتى ولو كان كافرا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: « إِنَّك تَأتي قوما من أهل الْكتاب. فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. فَإِنْ هُمْ أطاعوا لذَلِك. فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ. فَإِنْ هم أطاعوا لذَلِك فأعلمهم أَن الله قد فرض عَلَيْهِم صَدَقَة تُؤْخَذ من أغنيائهم فَترد فِي فُقَرَائِهِمْ. فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ. فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَين الله حجاب » [ متفق عليه ].
ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: « لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَين الله حجاب » ، أي: إن الحج كلها ترفع، وتزاح أمام دعوة المظلوم، فلا يحجبها عصيانه ولا فسوقه، ولا اكله للحرام، بل ولا حتى شركه، كلها ترفع من أمام دعوة المظلوم، حبا من الله للعدل، وليس لتقصير المظلوم، فالحجب كلها تزاح من أمامها، فتسمع وتجاب أيا كان حال المظلوم وعمله..
« اتقوا دعوة المظلوم، فإنها تحمل على الغمام، يقول الله جل جلاله:
وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين » [ حديث حسن: رواه البخاري في " التاريخ الكبير " والدولابي والطبراني في الكبير، ينظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها: ٢ / ٥٢٦ ]
فما بالك بدعوة يقسم الله بعزته وجلاله أنه ينصرها، إنه دعوة جديرة بأن يتقيها الإنسان، وأن يخشى الله عز وجل فيها، فهي مجابة والمظلوم منصور ولو بعد حين، بعد يوم بعد شهر بعد سنة لا بد أن تنصر دعوته كما وعد الله عز وجل وأقسم على ذلك.
وكلما كان المظلوم أقرب وحقه اكبر كان الظلم اثمه أعظم.

ومن أنواع الظلم المنتشرة، والتي ابتلي بها كثير من الناس اليوم: عقوق الوالدين، وظلم الآباء لأولادهم
وظلم الأمهات لبناتهم وظلم الزوج لزوجه وقطيعة الرحم فهذه كلها محرمات ومن الكبائر وفعلها في الأشهر الحرم إثمه أشد و وزره أعظم.

النوع الثالث من الظلم: هو ظلم المسلم نفسه:

ويكون ظلم النفس على نوعين:
أ‌- ظلم بترك الواجبات كترك الصلاة وغيرها من الواجبات، وهو التقصير في أداء الواجب.
ب‌- ظلم بفعل المحرمات كالاشتراك بالله واقتراف الفواحش والظلم وعقوق الوالدين وقطيعة الرحم، وهو التقصير في ترك المحرمات. ومن أنواع المحرمات التي انتشرت وابتلي بها بعض الناس، غير مبالين بها، وبعضها من الموبقات: الخمر والمخدرات وأكل الربا ومال اليتيم والسرقة والرشوة والغيبة والنميمة والكذب والحسد ومشاهدة الأفلام والمسلسلات وسماع المعازف والغناء والتدخين وغيرها من المعاصي كبائر كانت أو صغائر.!
فالواجب المبادرة والإسراع التوبة من جميع ذلك،
‏قال الامام ابن رجب: { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } ومن قصرت همّته عن الازدياد من العمل الصالح في الأشهر الحرم فليرحم نفسه بالكف عن المعاصي .
ما ينبغي فعله في الأشهر الحرم:
يجب على المسلم أن يعظم هذه الأشهر فإن تعظيمها من التقوى، قال الله عز وجل: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ } [ الحج: ٣٢ ]. وشعائر الله هي معالم دينه الظاهرة.
فليحذر المسلم من فعل المحرمات في هذه الأشهر الحرم فالأشهر الحرم فرصة عظيمة للتوبة من المحرمات والفواحش والمنكرات والمسارعة فيها للطاعات والخيرات. فهذا من تعظيم الأشهر الحرم، والله عز وجل ويضع يده بالليل ليتوب مسيء النهار.
والاستزادة من الطاعات فهذه الأشهر من الازمنة الفاضلة التي يرجى فيها مضاعفة الحسنات فالحسنات وأجور الاعمال الصالحات تضاعف في الازمنة والأمكنة الفاضلة كهذه الأشهر الحرم.
الأشهر الحرم فرصة عظيمة للتوبة من الظلم ورد
المظالم الى اَهلها وترك المعاصي والإقلاع عنها والتوبة منها والندم عنها والعزم الصادق على عدم العودة إليها.
و ليحذر كل ظالم لغيره او لنفسه بالمعاصي من الاستمرار في ظلمه ومعصيته ربه في هذه الأشهر الحرم لان المعاصي فيها أعظم إثما وأشد ذنبا من المعصية في غير الاشهر الحرم .! اتقاء الظلم بأنواعه الثلاثة، والتوبة إلى الله عز وجل من ذلك، فإن الله يتوب على من تاب.
ربنا تب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا وارحمنا يا غفور يا رحيم، نستغرك اللهم العظيم من جميع الذنوب والخطايا ونتوب إليك.. اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما اخرنا وما اسررنا وما اعلنا وما اسرفنا وما انت به اعلم منا.. اللهم انت بنا لا غله غلا انت خلقتنا ونحن عبادك ونحن على عهدك ووعدك ما استطعنا نعوذ بك من شر ما صنعنا نبوء لك بنعمك علينا ونبوء بذنوبنا فاغفر لنا فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الكفر والكافرين الشرك والمشركين والظلم والظالمين والبدعة والمبتدعين، وانصر يا ربنا بفضلك ونصرك من نصر الدين، وأخذل بقدرتك وقوتك وعدلك من خذله يا رب العالمين.. اللهم لا تدع لنا في جمعنا هذا ولا لأحد من المسلمين ذنبا إلا غفرته ولا هما إلا فرجته ولا مريضا إلا شفيته وعافيته ولا غائبا إلا بالخير والعافية إلى أهله رددته وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين وتابعيهم ومن تبعهم بإحسان وأهل السنة والجماعة إلى يوم الدين.
رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
الاشهر.الحرم.عمادالبعقوبي

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:02 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.