أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا

             
19075 103191

العودة   {منتديات كل السلفيين} > المنابر العامة > المنبر الإسلامي العام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 04-22-2010, 12:57 AM
أبو العباس أبو العباس غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 790
افتراضي بين منهجين (18) : من معالم منهج الإمام أحمد في معاملة أهل الأهواء والبدع -1- .

بين منهجين (18) : من معالم منهج الإمام أحمد في معاملة أهل الأهواء والبدع -1- .

إن مما لا خلاف فيه أن الإجماع قد انعقد على صحة معتقد الإمام أحمد ؛ حتى صار معتقده علامة على معتقد السلف ؛ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في مجموع الفتاوى (3\170) : "الإمام أحمد رحمه الله لما انتهى إليه من السنة ونصوص رسول الله أكثر مما انتهى إلى غيره , وابتلي بالمحنة والرد على أهل البدع أكثر من غيره ؛ كان كلامه وعلمه في هذا الباب أكثر من غيره ؛ فصار إماما في السنة أظهر من غيره , وإلا فالأمر كما قاله بعض شيوخ المغاربة -العلماء الصلحاء- قال : (المذهب لمالك والشافعي , والظهور لأحمد بن حنبل) , يعنى أن الذي كان عليه أحمد عليه جميع أئمة الإسلام , وإن كان لبعضهم من زيادة العلم والبيان وإظهار الحق ودفع الباطل ما ليس لبعض".
وقال في المجموع (12\80) : "الصواب في هذا الباب هو الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان وهو ما كان عليه الإمام أحمد بن حنبل ومن قبله من أئمة الإسلام , ومن وافق هؤلاء ؛ فان قول الإمام أحمد وقول الأئمة قبله هو القول الذي جاء به الرسول , ودل عليه الكتاب والسنة , ولكن لما امتحن الناس بمحنة الجهمية , وطلب منهم تعطيل الصفات , وان يقولوا بان القرآن مخلوق , وان الله لا يرى في الآخرة , ونحو ذلك ؛ ثبت الله الإمام احمد في تلك المحنة ؛ فدفع حجج المعارضين النفاة وأظهر دلالة الكتاب والسنة , وان السلف كانوا على الإثبات ؛ فآتاه الله من الصبر واليقين ما صار به إماما للمتقين ؛كما قال تعالى {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون}".
وقال في درء تعارض العقل والنقل (2\307-308) : " أن عامة المنتسبين إلى السنة من جميع الطوائف يقولون : إنهم متبعون للأئمة كمالك و الشافعي وأحمد وابن المبارك وحماد بن زيد وغيرهم , لا سيما الإمام أحمد ؛ فإنه بسبب المحنة المشهورة من الجهمية له ولغيره أظهر من السنة ورد من البدعة ما صار به إماما لمن بعده , وقوله هو قول سائر الأئمة ؛ فعامة المنتسبين إلى السنة يدعون متابعته والاقتداء به سواء كانوا موافقين له في الفروع أو لا ؛ فإن أقوال الأئمة في أصول الدين متفقة , ولهذا كلما اشتهر الرجل بالانتساب إلى السنة كانت موافقته لأحمد أشد".
وليس هذا معناه أن كلام الإمام أحمد وأفعاله ومواقفه تثبت بها العقيدة وغيرها من أمور الدين ؛ فمسائل الشرع –عقيدة وفقها وسلوكا ومنهجا- إنما تؤخذ من الكتاب والسنة وما أجمع عليه السلف ؛ لا بقول أحمد ولا بقول غيره من العلماء ؛ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (6\215-216) : "والنقل عن أحمد -وغيره من أئمة السنة- : متواتر بإثبات صفات الله تعالى وهؤلاء متبعون في ذلك ما تواتر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ؛ فأما إن المسلمين يثبتون عقيدتهم في أصول الدين بقوله أو بقول غيره من العلماء : فهذا لا يقوله إلا جاهل".

قلت : وفي هذا ردٌ واضح على من يزعم أن الاعتقاد أو المنهج يثبت بأقوال الإمام أحمد ؛ بل الاعتقاد لا يثبت إلا بالشرع , أوالإجماع الصحيح , والمنهج لا يؤخذ إلا عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) وما أجمع عليه السلف ؛ وإلا فالأمر كما قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (3\161) : "أما الاعتقاد : فلا يؤخذ عني ولا عمن هو أكبر مني ؛ بل يؤخذ عن الله ورسوله وما أجمع عليه سلف الأمة ؛ فما كان في القرآن وجب اعتقاده وكذلك ما ثبت في الأحاديث الصحيحة مثل صحيح البخاري ومسلم"
وقال –كذلك- في مجموع الفتاوى (3\203) : "ليس الاعتقاد لي ولا لمن هو أكبر مني ؛ بل الاعتقاد يؤخذ عن الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه سلف الأمة . يؤخذ من كتاب الله تعالى ، ومن أحاديث البخاري ومسلم وغيرهما من الأحاديث المعروفة وما ثبت عن سلف الأمة" .

وبعد : فلا يكاد يخفى على طالب علم -بله العلماء- ما للإمام أحمد من اختصاص بمعرفة السنة والذب عنها , ونهيه عن البدع وذمه لها ولأهلها وعقوبته لأهلها , كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في كتاب الاستقامة (1\15) : "أن الإمام أحمد في أمره بأتباع السنة ومعرفته بها ولزومه لها ونهيه عن البدع وذمه لها ولأهلها وعقوبته لأهلها بالحال التي لا تخفى".
وقال في مجموع الفتاوى (3\170) : " الإمام أحمد رحمه الله لما انتهى إليه من السنة ونصوص رسول الله أكثر مما انتهى إلى غيره , وابتلي بالمحنة والرد على أهل البدع أكثر من غيره كان كلامه وعلمه في هذا الباب أكثر من غيره" .
ولشيوع هذه المعرفة صار ينتسب إليه كل أحد , بل ينتسب إليه من كان مخلفا له –عند التحقيق- , ولهذا مع شيوع ظاهرة الانتساب إلى الإمام أحمد –من كل أحد- كان لا بد من معرفة منهج الإمام أحمد مع أهل البدع , كما قال شيخ الإسلام في العقيدة الأصفهانية (ص\109) : "فإن كثيرا من الناس ينتسب إلى السنة أو الحديث أو اتباع مذهب السلف أو الأئمة أو مذهب الإمام أحمد أو غيره من الأئمة أو قول الأشعري أو غيره ويكون في أقواله ما ليس بموافق لقول من انتسب إليهم ؛ فمعرفة ذلك نافعة جدا".
ولأجل تحصيل هذه المنفعة جاء هذا المقال في محاولة لتسليط الضوء على بعض معالم منهج هذا الإمام المبجل في معاملته لأهل الأهواء والبدع معتمدا –في المقام الأول- على ما حكاه عنه أعلم الناس بمنهج هذا الإمام وهو شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- ؛ ثم غيره من أهل العلم ؛ بعيدا عن شقشقات (بعض الناس) المتسلقين على منهج الإمام أحمد –رحمه الله- ؛ فأقول وبالله التوفيق :

المعلم الأول : إن ما كان من المسائل الخلافية (اجتهاديا) ؛ فلا وجه للتشنيع والإنكار على القائل به .
يرى الإمام أحمد أن مسائل الخلاف –الاجتهادية- أولى بها أن تسمى مسائل السعة , كما حكاه أبو يعلى في طبقات الحنابلة (1\111) قائلا : "كان إسحاق بن بهلول قد سمى كتابه كتاب الاختلاف فقال له احمد : (سمه كتاب السعة)".
بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح العمدة (4\567) : "ثم أن طائفة من أصحابنا منهم : ابن عقيل , وأبو بكر الدينوري ذكروا رواية عن احمد : (أن كل مجتهد مصيب) ؛ بناء على إذنه لبعض من استفتاه أن يقلد غيره من المفتين إذا أفتاه بخلاف قوله".
ومن هذا المنطلق ما كانت مخالفة غيره له في مثل هذه المسائل موجبة لأن تنزل مكانتهم من عينه كما جاء في سير أعلام النبلاء (11\371) عن أحمد أنه قال في إسحاق ابن راهويه: (لم يعبر الجسر -إلى خراسان- مثل إسحاق [بن راهويه] -وإن كان يخالفنا في أشياء-؛ فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضا).
وهذا الموقف من الإمام أحمد مبني على أصله الذي نقله عنه ابن مفلح –رحمه الله- في الفروع (1\150) من قوله : (لا أُعَنِّفُ مَنْ قال شيئاً له وَجْهٌ؛ وإنْ خَالفْنَاهُ) .
وقد علّق على هذه الكلمة الشيخ عبد السلام برجس –رحمه الله- بكلمات بديعات قال فيها : "كلمة قالها الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله -تعالى- هي قاعدة في الخلاف، شهدت لها نصوص الشرع بالصحة، وتحلى بها أهل الإنصاف من علماء المسلمين.
إنها كلمة فيصل؛ لزومها يخرج المسلمين من دائرة الخصام المورث للعداوة، الباعث على الشحناء ، فما أسعد من لزمها! وما أسعد المسلمين به!
وشرح هذه الكلمة يتلخص فيما يلي:
1- قل أن تخلو مسائل العلم من خلاف بين العلماء.
2- هذا الخلاف له درجات: فمنه خلاف قوي، ومنه خلاف ضعيف.
3- الخلاف القوي: هو ما كان في المسائل الاجتهادية، أي: التي يكون لكل مذهب فيها دليل معتبر، وتحديدها يرجع إلى المجتهدين.
4- المصيب واحد، لكن: يجب أن يعلم أن جميع المجتهدين إنما تكلموا بعلم، واتبعوا العلم، إلا أن بعضهم قد يكون عنده علم ليس عند الآخر؛ إما بأن سمع ما لم يسمع الآخر، وإما بأن فهم ما لم يفهم الآخر.
5- فإذا خالفنا أحد في المسائل الاجتهادية؛ فإن خلافه سائغ، فلا يجوز تعنيفه، فضلا عن تضليله .
وبهذه النقاط الخمس يظهر لك عظم تلك الكلمة التي قالها الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله -تعالى-.
وبها يظهر أن مذهبه -رحمه الله- ليس فيه شدة مذمومة، كما قد يتخيله بعض العوام -وغيرهم-، بل مذهبه التيسير الموافق للشريعة.
هذا وقد وقفت على كلام جميل -وتفصيل رائق- لعالم من علماء المسلمين أتمنى أن يقف عليه -ويتأمله- طلبة العلم وأهل الحسبة، إذ هو شرح تفصيلي تأصيلي لمدلول كلمة الإمام أحمد -السابقة-.
إنه كلام للعالم الكبير عز الدين بن عبدالسلام في كتابه «شجرة المعارف والأحوال» (ص381) -وهو ختام الكتاب-، وهذا خلاصته:
1- الإنكار متعلق بما أجمع على إيجابه، أو تحريمه.
2- فمن ترك ما اختلف في وجوبه، أو فعل ما اختلف في تحريمه، فلا يخلو من أمرين:
أ- إن قلد بعض العلماء في ذلك: فلا إنكار عليه؛ إلا أن يقلده في مسألة ينقض حكمه في مثلها.
ب- إن كان جاهلا: لم ينكر عليه.
ولا بأس بإرشاده إلى الأصلح.
ولماذا لم ينكر عليه؟
لأنه لم يرتكب محرما؛ فإنه لا يلزمه تقليد من قال بالتحريم، ولا بالإيجاب.
3- لا بأس بإرشاد العامي إلى ما هو الأحوط في دينه، ولا بمناظرة المجتهد ؛ ليرجع إلى الدليل الراجح.
4- اختلاف العلماء رحمة .
وعلى هذا؛ فلا يجوز الإنكار إلا لمن علم أن الفعل الذي ينهى عنه مجمع على تحريمه، وأن الفعل الذي يأمر به مجمع على إيجابه.
معنى (النهي عن الإنكار) -هنا-: نعني بالنهي عن الإنكار: أن لا ينكره إنكار الحرام؛ فلو أنكر إنكار الإرشاد، أو أمر به أمر النصح والإرشاد: ساغ ذلك.
-انتهى المقصود من كلام العز بن عبد السلام –رحمه الله- .
وهو كلام متين، مبني على نصوص الشرع المطهر، ومقاصده الجليلة، عض عليه بالنواجذ، وإياك أن تخدع بما خالفه من سنن المتشددين ، وطرائق الغالين، فالدين وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، والدين براء من التعلق بالأشخاص والمذاهب إلا شخص رسول الله –صلى الله عليه وسلم- المعظم، وصحابته الكرام.
وما زاغ أكثر الخلق إلا يوم أن والوا وعادوا في غير النبي –صلى الله عليه وسلم- , والله المستعان".
http://www.burjes.com/burjes_article002.php
ولنضرب أمثلة من صنيع الإمام أحمد مؤيدة لما تقدم تقريره ؛ فمن ذلك :
موقفه من الخلاف في التوقف في التربيع بعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه) بعد أبي بكر وعمر وعثمان –في فروع مسائل الاعتقاد- ؛ وذلك فيما رواه الخلال في السنة (2\405) عن محمد بن حبيب قال : قلت لأبي عبد الله : من قال أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ؛ قال : يعجبني أن أقول : أبو بكر وعمر وعثمان وأسكت ؛ وإن قال رجل : وعلي , لم أعنفه).
ومن ذلك قوله –رحمه الله- فيما حكاه عنه ابن مفلح في الآداب الشرعية (1\189) عن مهنا قال سمعت أحمد يقول : (من أراد أن يشرب هذا النبيذ -يتبع فيه شرب من شربه- فليشربه وحده) .
وقال صالح في مسائله لأبيه الإمام أحمد (2\149) : "وسألته عن رجل يصلي في مسجد وهو يشرب من النبيذ ما يسكر منه ؛ فيقيم المؤذن والإمام غائب ؛ فيتقدم هو أيصلى خلفه ؟
قال : إذا كان متأولا ولم يسكر ؛ فأرجو ؛ فإن سكر لم يصل خلفه .
قال : ونحن نروي عمن كان يشرب".
ومعلوم أن الإمام أحمد كان يرى حرمة النبيذ , كما رواية ابنه صالح عنه (1\303) قال : "سألته : من قال في النبيذ شربه قوم على التأويل , وتركه قوم على التحريم , كأنه وقف في قوله ؟
قال أبي : لا يعجبني هذا القول , التحريم أثبت عندي وأقوى , لا يثبت عندي في تحليل المسكر شيء".
فتأمل صنيع هذا الإمام مع أناس فعلوا محرما هو يراه كذلك –باجتهاده- فعذرهم لاجتهادهم , وأجاز الصلاة خلفهم ولم يامر بهجرهم لارتكابهم ما هو محرم عنده !!
ومن ذلك –أيضا- ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (20\365-366) مشيرا إلى فقه الأئمة ومنهم الإمام احمد في التعامل مع المخالفين له في المسائل الاجتهادية: "من المأثور : (أن الرشيد احتجم ؛ فاستفتى مالكا ؛ فأفتاه بأنه لا وضوء عليه ؛ فصلى خلفه أبو يوسف) , ومذهب أبى حنيفة وأحمد أن خروج النجاسة من غير السبيلين ينقض الوضوء , ومذهب مالك والشافعي انه لا ينقض الوضوء ؛ فقيل لأبى يوسف : (أتصلى خلفه؟ , فقال سبحان الله أمير المؤمنين) ؛ فان ترك الصلاة خلف الأئمة لمثل ذلك من شعائر أهل البدع كالرافضة والمعتزلة , ولهذا لما سئل الإمام أحمد عن هذا فأفتى بوجوب الوضوء ؛ فقال له السائل : (فإن كان الإمام لا يتوضأ أصلي خلفه ؟ فقال : سبحان الله ألا تصلى خلف سعيد بن المسيب ومالك بن انس؟!)".

بل وهذا الإمام أحمد –رحمه الله- ينصح بالكتابة عمّن كان يتكلم في شخص الإمام أحمد -من الثقات- ؛ وما ذاك إلا لان الكلام فيه –بغير هوى وبدعة- لا يوجب الطعن في المتكلم , كما قال أبو محمد فوزان فيما رواه عنه ابن عقيل في طبقات الحنابلة (1\195-196) عن أبي محمد فوزان أنه قال: (جاء رجل إلى أحمد بن حنبل فقال له نكتب عن محمد بن منصور الطوسي؟ فقال : إذا لم تكتب عن محمد بن منصور فعمن يكون ذلك ؟! –مرارا- ؛ فقال له الرجل : إنه يتكلم فيك؟! فقال أحمد : رجل صالح ابتلي فينا فما نعمل).
وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق (55\57-58) عن عبد الله بن محمد الوراق قال : (جئنا إلى مجلس أحمد بن حنبل ؛ فقال : من أين أقبلتم ؟ قلنا : من مجلس أبي كريب [محمد بن العلاء] ؛ فقال : اكتبوا عنه فإنه شيخ صالح ؛ فقلنا له : إنه يطعن عليك ؟! قال : فأي شيء حيلتي شيخ صالح قد بلي بي).
فهو –رحمه الله- لم يجعل الكلام فيه والاختلاف فيه سببا للطعن فيمن كان صالحا في نفسه ؛ إلا أن يكون الكلام في مثل الإمام أحمد مرده للهوى والبدعة ؛ فعند ذلك يكون قدحا.
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (5\31) : "عن يحيى بن معين قال: (إذا رأيت إنسانا يقع في عكرمة، وفي حماد بن سلمة، فاتهمه على الإسلام).
قلت [الذهبي] : هذا محمول على الوقوع فيهما بهوى وحيف في وزنهما، أما من نقل ما قيل في جرحهما وتعديلهما على الإنصاف، فقد أصاب".
قلت –أبو العباس-: وفيما تقدم أبلغ ردٍ على من نسب إلى منهج الإمام أحمد غلوه في تبديع وجرح من خالفه في اجتهاداته –سواء في المسائل العلمية , أو الوقائع العينية- ؛ فضلا عن جعل الموقف من شخصه وطروحاته مقياسا على ثبوت السلفية من ضدها!!

المعلم الثاني : توقي الإمام أحمد في تبديع المخالفين له ؛ لأن إخراج الناس من السنة وتبديعهم أمر شديد –عنده- .
على الرغم مما عرف واشتهر عن الإمام أحمد من رده على أهل الأهواء والبدع –بأنواعهم وأعيانهم- , حتى قيل له : (الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلى واعتكف، فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع، فإنما هو للمسلمين، هذا أفضل) .
إلا أنه –رحمه الله- كان حريصا على ضبط هذا الكلام بما يحقق مقصوده الشرعي , ولا يخرج بصاحبه إلى حد البغي والعدوان ؛ فكان أصله –رحمه الله- في هذا الباب ما جاء في السنة للخلال (ص\2\373) عن الإمام أحمد قوله : (إخراج الناس من السنة شديد) .
وهذا التوقي قد اشتهر عنه كما دلّ عليه ما رواه ابنه عبد الله في كتاب العلل ومعرفة الرجال (1\364) عن أبي مالك قال : (قال حسين بن حبان , وعباس ؛ ليحيى بن معين : لو أمسكت لسانك عن الناس ؛ فإن أحمد يتوقى ذلك ؛ فقال : هو والله كان أشد في الكلام في الرجال مني , ولكنه اليوم هو ذا يمسك نفسه).
وقد روى الخلال في السنة (2\378) عن بكر بن محمد عن أبيه عن أبي عبد الله : (وسأله عمن قال : أبو بكر وعمر وعلي وعثمان؟ فقال ما يعجبني هذا القول , قلت : فيقال إنه مبتدع ؟ قال : أكره أن أبدعه البدعة الشديدة , قلت : فمن قال أبو بكر وعمر وعلي وسكت فلم يفضل أحدا ؟ قال : لا يعجبني أيضا هذا القول , قلت : فيقال مبتدع ؟ قال : لا يعجبني هذا القول) .
ولهذا فقد كان الإمام أحمد يحتاط ويتوقى ويدفع التبديع والإخراج من السنة ما أمكنه ذلك ؛ وأصله في هذا الباب ما نقله عنه ابن حجر في تهذيب التهذيب (7\241) : (كل رجل ثبتت عدالته، لم يقبل فيه تجريح أحد، حتى يتبين ذلك عليه بأمر لا يحتمل غير جرحه) .
بل وكان –رحمه الله- ينهى عن الكلام في الناس بغير تثبت ؛ ويذكر بعاقبة ذلك ؛ كما في الآداب الشرعية (2\140) : "قال أبو الحارث : سمعت أبا عبد الله غير مرة يقول : (ما تكلم أحد في الناس إلا سقط , وذهب حديثه , قد كان بالبصرة رجل يقال له : الأفطس كان يروي عن الأعمش والناس وكانت له مجالس وكان صحيح الحديث ؛ إلا أنه كان لا يسلم على لسانه أحد ؛ فذهب حديثه , وذكره .
وقال في رواية الأثرم -وذكر الأفطس , واسمه عبد الله بن سلمة- قال : (إنما سقط بلسانه ؛ فليس نسمع أحدا يذكره , وتكلم يحيى بن معين في أبي بدر ؛ فدعا عليه , قال أحمد : فأراه استجيب له) .
[قال ابن مفلح :] والمراد بذلك -والله أعلم- : عدم التثبت , والغيبة بغير حق".
ومن ذلك تثبته –بنفسه- من حال الحارث المحاسبي فيما حكاه ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد (ص\253-254) , والحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (10\329-330) عن إسماعيل بن إسحاق السراج قال : (قال لي أحمد بن حنبل : هل تستطيع أن تريني الحارث المحاسبي -إذا جاء منزلك- ؟ فقلت : نعم , وفرحت بذلك , ثم ذهبت إلى الحارث ؛ فقلت له : إني أحب أن تحضر الليلة عندي أنت وأصحابك ؛ فقال : إنهم كثير ؛ فأحضر لهم التمر والكسب ؛ فلما كان بين العشاءين جاؤوا , وكان الإمام أحمد قد سبقهم ؛ فجلس في غرفة بحيث يراهم ويسمع كلامهم , ولا يرونه ؛ فلما صلوا العشاء الآخرة لم يصلوا بعدها شيئا , بل جاؤوا بين يدي الحارث سكوتا مطرقي الرؤوس كأنما على رؤوسهما الطير , حتى إذا كان قريبا من نصف الليل سأله رجل مسألة ؛ فشرع الحارث يتكلم عليها وعلى ما يتعلق بها من الزهد والورع والوعظ ؛ فجعل هذا يبكي , وهذا يئن , وهذا يزعق ؛ قال فصعدت إلى الإمام احمد إلى الغرفة ؛ فإذا هو يبكي حتى كاد يغشى عليه, ثم لم يزالوا كذلك حتى الصباح ؛ فلما أرادوا الانصراف , قلت : كيف رأيت هؤلاء يا أبا عبد الله ؛ فقال ما رأيت أحدا يتكلم في الزهد مثل هذا الرجل , وما رأيت مثل هؤلاء , ومع هذا فلا أرى لك أن تجتمع بهم) .. .
قلت [ابن كثير]: بل إنما كره ذلك لأن في كلامهم من التقشف وشدة السلوك التي يرد بها الشرع والتدقيق والمحاسبة الدقيقة البليغة ما لم يأت بها أمر , ولهذا لما وقف أبو زرعة الرازي على كتاب الحارث المسمى بالرعاية قال : (هذا بدعة , ثم قال للرجل -الذي جاء بالكتاب- : عليك بما كان عليه مالك والثوري والأوزاعي والليث ودع عنك هذا فإنه بدعة)".
ومن ذلك –أيضا- تثبته –رحمه الله- من عبد الرحمن بن صالح –بنفسه- لما بلغه أنه يحدث بما فيه ثلب للصحابة , كما رواه عنه الخلال في السنة (3\501) عن الإمام أحمد قوله : (جاءني عبد الرحمن بن صالح ؛ فقلت له : تحدث بهذه الأحاديث؟ فجعل يقول : قد حدث بها فلان , وحدث بها فلان , وأنا أرفق به وهو يحتج ؛ فرأيته بعد فأعرضت عنه , ولم أكلمه) .
ومما يدللك على توقيه في نسبة الأقوال إلى قائليها ما رواه الخلال في السنة (2\373) عن أبي جعفر حمدان بن علي أنه سمع أبا عبد الله قال : (وكان يحيى بن سعيد يقول : (عمر وقف وأنا أقف) , قال أبو عبد الله : وما سمعت أنا هذا من يحيى) .
وقال ابنه عبد الله في العلل ومعرفة الرجال (2\59) : (سألت أبي قلت له : عبد الرزاق كان يتشيع ويفرط في التشيع ؛ فقال : أما أنا فلم أسمع منه في هذا شيئا , ولكن كان رجلا تعجبه أخبار الناس أو الأخبار) .
وقال ابن هانئ في سؤالاته (2382) : (سألت أبا عبد الله، أو سئل عن قيس بن مسلم ؟ فقال: قال بعض الناس: كان مرجئًا، ولا أدري ثبت هذا أم لا، وهو ثقة في الحديث).
وروى الخطيب البغدادي في تاريخه (5\416) عن أبي مزاحم موسى بن عبيد الله قال : (سأل عمي أبو علي عبد الرحمن بن يحيى أحمد بن حنبل عن ابن المؤذن؟ فقال: كان مع ابن أبي دؤاد وفي ناحيته، ولا أعرف رأيه اليوم) .

ومما يؤكد تروي الإمام أحمد وعدم تسرعه في تبديع الخلق وإخراجهم من السنة بمخالفتهم في المسائل الاجتهادية –ولو كانت من فروع مسائل الاعتقاد- ؛ ما روى عنه الخلال في السنة (2\408) عن هارون بن سفيان قال : قلت لأحمد بن حنبل : يا أبا عبد الله ما تقول فيمن قال أبو بكر وعمر وعثمان ؛ فقال : هذا قول ابن عمر وإليه نذهب , قلت : من قال : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ؟ قال : صاحب سنة , قلت : فمن قال : أبو بكر وعمر ؟ قال : قد قاله سفيان وشعبة ومالك , قلت : فمن قال : أبو بكر وعمر وعلي ؛ فقال هذا الآن شديد , هذا الآن شديد) .
بل واعتبر سلامة أصل من قال بقول يوافق قول أهل البدع ؛ ليجعله قرينة مانعة من التبديع ؛ كما قال عبد الله بن أحمد في السنة (1\307) : (سألت أبي عن رجل يقول : الإيمان قول وعمل , يزيد وينقص , ولكن لا يستثني أمرجئ ؟ قال : أرجو أن لا يكون مرجئاً).
وفي السنة للخلال (3\598) من رواية أبي بكر الأثرم قال : قلت لأبي عبد الله -يعني : لما قال له الاستثناء مخافة واحتياطا- ؛ فقلت له : كأنك لا ترى بأسا أن لا يستثنى ؛ فقال : إذا كان ممن يقول الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ؛ فهو أسهل عندي ؛ ثم قال أبو عبد الله : إن قوما تضعف قلوبهم عن الاستثناء كالمتعجب منهم) .
ولهذا قال الإمام أحمد في مسائله التي نقلها عنه ابن هانئ (2/247) أنه قال بعد أن سئل عن مسعر –وكان ممن لا يستثني في الإيمان-: (أما مسعر فلم أسمع منه أنه كان مرجئاً , ولكن يقولون : إنه كان لا يستثني) .
وكذلك توقف –رحمه الله- في تبديع أهل الكوفة الذين كانوا يفضلون عليا على عثمان مع ميله إلى تبديع من قال بهذا التفضيل , وذلك فيما رواه عنه الخلال في السنة (2\380) عن حنبل قال : (سمعت أبا عبد الله وسئل عن من يقدم عليا على عثمان هو عندك مبتدع ؟ قال : هذا أهل أن يبدع , أصحاب رسول الله قدموا عثمان بالتفضيل .
وقال حنبل في موضع آخر : سألت أبا عبد الله من قال علي وعثمان ؟ قال : هؤلاء أحسن حالا من غيرهم , ثم ذكر عدة من شيوخ أهل الكوفة , وقال هؤلاء أحسن حالا من الروافض).
وروى الخلال في السنة (2\373) عن أبي جعفر حمدان بن علي أنه سمع أبا عبد الله قال : وكان يحيى بن سعيد يقول : (عمر وقف وأنا أقف) , قال أبو عبد الله : وما سمعت أنا هذا من يحيى , حدثني به أبو عبيد عنه , وما سألت أنا عن هذا أحدا , أو ما أصنع بهذا ؟! .
قال أبو جعفر : فقلت : يا أبا عبد الله من قال أبو بكر وعمر هو عندك من أهل السنة ؟! قال : لا توقفني هكذا ؛ كيف نصنع بأهل الكوفة ؟!).
وأهل الكوفة كانوا مفضلة –ممن يفضلون عليا على عثمان –رضي الله عنهما- , كما روى الخلال في السنة (2\395) عن صالح بن أحمد قال : سمعت أبي يقول : (أهل الكوفة كلهم يفضلون) .
وعن عبد الله بن أحمد قال : قال أبي : (أهل الكوفة يفضلون عليا على عثمان إلا رجلين طلحة بن مصرف وعبد الله بن إدريس , قلت : ولا زبيد , قال : لا كان يحب عليا يعني يفضل عليا على عثمان) .
وقد حكى أبو بكر الخلال في السنة (2\382) ما استقر عليه قول الإمام أحمد في مسألة تبديع من فضل عليا على عثمان ؛ فقال : "لا نرى في هذا الباب مع توقف أبي عبد الله في غير موضع يكره أن يقول مبتدع فكأنه لم ير بأسا لو قال له مبتدع ... ؛ فاستقر القول من أبي عبد الله أنه يكره هذا القول ولم يجزم في تبديعه وإن قال قائل هو مبتدع لم ينكر عليه" .
بل وكان –رحمه الله- يلتمس الأعذار لمن أجاب في المحنة بعد الحبس والقيد –رغم شدة موقفه ممن أجاب فيها بمجرد الترهيب- كما قال المقريزي فيما نقله عنه صاحب مفاتيح الفقه الحنبلي (1\242) عن التماس الإمام أحمد العذر لسجادة والقواريري، دون غيرهما ؛ قال المقريزي : "وكان أبو عبد الله يقيم عذرهما ويقول: (أليس قد حبسا وقيدا، قال الله تعالى: {إلا من أكره وقبله مطمئن بالايمان}) , قال أبو عبد الله: القيد كره والحبس كره , والضرب كره ، فأما إذا لم تنل بمكروه فلا عذر له" .
ولهذا كان الإمام أحمد يثني على سجادة كما في تاريخ بغداد (7\296) عن أبي مزاحم موسى بن عبيد الله : أن عمه أبا علي عبد الرحمان بن يحيى بن خاقان سأل أحمد بن حنبل , عن سجادة ؛ فقال : (صاحب سنة ، وما بلغني عنه إلا خير).
وروى عن القواريري مسائل –بعد المحنة- كما في العلل ومعرفة الرجال لعبد الله بن الإمام أحمد (1694) قال: سمعتُ أَبي يقول: (هذه مسائل عبيد الله القواريري لهشيم المقرونة: مغيرة، عن إبراهيم، ويونس، عن الحسن، وعبد الملك، عن عطاء، وكانت له شفاعة إلى هشيم، فكان يسأله) .
قلت –أبو العباس- : وقد كان سماع عبد الله بن أحمد من أبيه المسند -وغيره- بعد محنة خلق القرآن ؛ كما قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (11\181) : " فسماع عبد الله بن أحمد لسائر كتاب "المسند" من أبيه كان بعد المحنة بسنوات في حدود سنة سبع وثمان وعشرين ومئتين ، وما سمع عبد الله شيئا من أبيه , ولا من غيره إلا بعد المحنة، فإنه كان أيام المحنة صبيا مميزا ما كان حله يسمع بعد , والله أعلم" .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في المسودة (ص\239) مبينا منهج الإمام أحمد في التعامل مع زلات أهل العلم : "فأما من فعل محرما بتأويل فلا ترد روايته في ظاهر المذهب , قال أبو حاتم : (حادثت أحمد بن حنبل فيمن شرب النبيذ من محدثي أهل الكوفة وسميت له عددا منهم ؛ فقال : هذه زلات لهم ؛ لا نسقط بزلاتهم عدالتهم)" .
وأقول: وفيما تقدم أبلغ ردٍ على من يزعم حمله لراية منهج الإمام أحمد وهو يسقط عدالة العلماء بالزلات , ويطعن بناء على المسموعات من غير تثبت فيها ولا تأن , ومن غير اعتبار لسلامة أصول من زلّ فيما زلّ فيه .

المعلم الثالث : أهل البدع الذين ذمّهم الإمام أحمد وغيره هم من كانت بدعتهم قد اشتهر عند أهل العلم بالسنة مخالفتها للكتاب المستبين والسنة المستفيضة , أو ما أجمع عليه سلف الأمة -خلافا لا يعذر فيه- ؛ كبدعة : الخوارج , والروافض , والقدرية , والمرجئة .
قال الإمام أحمد –رحمه الله- في عقيدته التي رواها عنه محمد بن عوف الحمصي وأوردها أبو يعلى في طبقات الحنابلة (1\311-312) –وغيره- : "ولا نترك الصلاة على أحد من أهل القبلة بذنب أذنبه صغيراً أو كبيراً ؛ إلا أن يكون من أهل البدع : الذين أخرجهم النبي -صلى الله عليه وسلم- من الإسلام : القدرية , والمرجئية , والرافضة , والجهمية".
ومما يؤكد أن مفهوم البدعة عند الإمام أحمد هو ما كان مخالفا للكتاب والسنة ؛ أن الإمام أحمد كان يرى أن الردّ على أهل البدع لا يكون إلا بالسنة المحضة -لا بالأقوال والآراء والنظر والاجتهادات- , كما روى ابن مفلح في الآداب الشرعية (1\221) عن العباس بن غالب أنه قال : (قلت : يا أبا عبد الله! أكون في المجلس ليس فيه من يعرف السنة غيري، فيتكلم مبتدع؛ أرد عليه؟! قال: لا تنصب نفسك لهذا، أخبره بالسنة، ولا تخاصم ؛ فأعدت عليه القول! ؛فقال: ما أراك إلا مخاصما).
ونصح –رحمه الله- في زمن شيوع البدع بالحرص على طلب الحديث لأنه العاصم من البدع المضادة له كما روى ابن الجوزى في مناقب الإمام أحمد (ص\251) عن الحسن بن ثواب قال : قال لي أحمد بن حنبل : (ما أعلمُ الناس فى زمانٍ أحوجُ منهم إلى طلب الحديث من هذا الزمان ، قلت : وَلِمَ ؟ قال : ظهرتٌ بدعٌ فمن لم يكن عنده حديثٌ وقع فيها).
والناظر في الآثار المروية عن الإمام أحمد في ذم أهل البدع والأهواء والأمر بهجرهم وعقوبتهم يجدها :
-إما منصوصة في أهل الأهواء والبدع من الجهمية , والخوارج , والروافض , والقدرية , والمرجئة , وأشباههم من الواقعين في البدع المخالفة لنصوص الكتاب والسنة وما أجمع عليه سلف الأمة.
- أو يجدها مقولة في أفراد من أهل هذه الطوائف .
- أو مطلقة ؛ فينبغي أن تحمل على ما مراد أهل العلم المتقدمين , ومنهم الإمام أحمد –نفسه- لا أن تحمل على على جميع أنواع المبتدعة ؛كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في المسودة (ص\239) : "وما علمت لأحمد كلاما بالنهى عن جميع أنواع المبتدعة -حتى المرجئة-إذا لم يكونوا دعاة-كما يقتضيه تعميم أبى الخطاب-!!" .
فهذا ابن قدامة الحنبلي –رحمه الله- حمل قول الإمام أحمد : (لا يصلى خلف أحد من أهل الأهواء) على أمثال المعتزلة والقدرية والمرجئة ؛ فقال في الشرح الكبير (2\24) : "قال أحمد (لا يصلى خلف أحد من أهل الأهواء) , إذا كان داعية إلى هواه , وقال : (لا تصلى خلف المرجئ إذا كان داعية) , وقال القاضي : وكذلك إن كان مجتهدا يعتقدها بالدليل كالمعتزلة والقدرية".
وهذا ابن القيم حمل منع الإمام أحمد من قبول شهادة (أهل البدع) على أمثال الجهمية والرافضة والقدرية ؛ فقال في الطرق الحكمية (ص\253-254) : "وإنما منع الأئمة كالإمام أحمد بن حنبل وأمثاله قبول رواية الداعي المعلن ببدعته وشهادته والصلاة خلفه هجرا له وزجرا لينكف ضرر بدعته عن المسلمين ؛ ففي قبول شهادته وروايته والصلاة خلفه واستقضائه وتنضيد أحكامه رضىً ببدعته وإقرار له عليها , وتعريض لقبولها منه , قال حرب قال أحمد : (لا تجوز شهادة القدرية والرافضة , وكل من دعا إلى بدعة ويخاصم عليها) .
وقال الميموني قال أبو عبد الله -في الرافضة- : (لعنهم الله لا تقبل شهادتهم ولا كرامة لهم).
وقال إسحاق بن منصور قلت لأحمد : (كان ابن أبي ليلى يجيز شهادة كل صاحب بدعة إذا كان فيهم عدلا لا يستحل شهادة الزور , قال أحمد ما تعجبني شهادة الجهمية والرافضة والقدرية والمعلنة) .
وقال الميموني سمعت أبا عبد الله يقول : (من أخاف عليه الكفر مثل الروافض والجهمية لا تقبل شهادتهم ولا كرامة لهم).
وقال في رواية يعقوب بن بختان : (إذا كان القاضي جهميا لا نشهد عنده)".
وهذا الشيخ محمد بن عبد الرحمن القاسم حمل كلام الإمام أحمد في المنع من الاستعانة بأهل الأهواء في إدارة شؤون المسلمين على أمثال كالرافضة والقدرية والجهمية وفروعهم والخوارج ؛ فقال في المستدرك على مجموع الفتاوى (3\219-220) : "يستعان باليهود والنصارى ولا يستعان بأهل الأهواء كالرافضة والقدرية والجهمية وفروعهم والخوارج .... ؛ قال أبو علي بن الحسين بن أحمد بن المفضل البلخي: دخلت على أحمد بن حنبل فجاءه رسول الخليفة يسأله عن الاستعانة بأهل الأهواء فقال أحمد: لا يستعان بهم، قال: يستعان باليهود والنصارى , ولا يستعان بهم؟ قال: إن النصارى واليهود لا يدعون إلى أديانهم وأصحاب الأهواء داعية) , عزاه الشيخ تقي الدين إلى مناقب البيهقي وابن الجوزي يعني للإمام أحمد.
وقال : فالنهي عن الاستعانة بالداعية لما فيه من الضرر على الأمة".
قلت : وهذا الحمل بين واضح ؛ ذلك أن مقالة الإمام أحمد –الشهيرة- : (أن أهل البدع والاهواء، لا ينبغي أن يستعان بهم في شئ من أمور المسلمين) قد جاءت في سياق كلامه –رحمه الله- عن الجهمية وأضرابهم , فيما حكاه ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد (ص\251-252) عن أبي مزاحم الخاقاني قال : قال لي عمي عبد الرحمن بن يحيى بن خاقان : (أمر المتوكل بمسألة أحمد عمن يقلد القضاء، فسألت عمي أن يخرج إلي جوابه، فوجه إلي نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم نسخة الرقعة التي عرضتها على أحمد بن محمد بن حنبل بعد أن سألته، فأجابني بما قد كتبته.
سألته عن أحمد بن رباح، فقال فيه: جهمي معروف، وانه إن قلد شيئا من أمور المسلمين، كان فيه ضرر عليهم.
وسألته عن الخلنجي، فقال فيه: كذلك.
وسألته عن شعيب بن سهل، فقال: جهمي معروف بذلك.
وسألته عن عبيد الله بن أحمد، فقال: كذلك.
وسألته عن المعروف بأبي شعيب، فقال: كذلك.
وسألته عن محمد بن منصور قاضي الاهواز، فقال: كان مع ابن أبي دواد، وفي ناحيته وأعماله، إلا أنه كان من أمثلهم.
وسألته عن علي بن الجعد، فقال: كان معروفا بالتجهم، ثم بلغني أنه رجع.
وسألته عن الفتح بن سهل، فقال: جهمي من أصحاب المريسي.
وسألته عن الثلجي، فقال: مبتدع صاحب هوى.
وسألته عن إبراهيم بن عتاب،فقال: لاأعرفه إلا أنه كان من أصحاب بشر المريسي.
وفي الجملة أن أهل البدع والاهواء، لا ينبغي أن يستعان بهم في شيء من أمور المسلمين مع ما عليه رأي أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه، من التمسك بالسنة والمخالفة لأهل البدع) .
قلت –أبو العباس- : وبهذا المفهوم لمعنى (أهل الأهواء والبدع) قال أهل العلم ومنهم :
شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في مجموع الفتاوى (35\414-415) : "والبدعة التي يعد بها الرجل من أهل الأهواء ما اشتهر عند أهل العلم بالسنة مخالفتها للكتاب والسنة ؛ كبدعة الخوارج والروافض والقدرية والمرجئة فإن عبد الله بن المبارك ويوسف بن أسباط وغيرهما قالوا : (أصول اثنتين وسبعين فرقة هي أربع : الخوارج والروافض والقدرية والمرجئة , قيل لابن المبارك : فالجهمية ؟ قال : ليست الجهمية من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- )" .
وقال في مجموع الفتاوى (24\96) : "من خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة , أو ما أجمع عليه سلف الأمة -خلافا لا يعذر فيه- ؛ فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع".
ولهذا فقد قال الإمام مالك في بيان من هم أهل البدع -كما في الحجة في بيان المحجة (1\114)- : (إياكم والبدع ؛ فقيل : يا أبا عبد الله وما البدع ؟ , قال : أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان) .
وقال أحمد بن سيار كما في سير أعلام النبلاء (11\447) : (وكان أبو الصلت يرد على أهل الأهواء من الجهمية المرجئة والقدرية).
وقال الخطيب البغدادي في الكفاية (ص\194) : "أهل البدع والأهواء كالقدرية والخوارج والروافض" .
وقال القرطبي –رحمه الله- في تفسيره (1\356) : "وأما أهل البدع من أهل الأهواء كالمعتزلة والجهمية وغيرهما ؛ فذكر البخاري عن حسن : صل وعليه بدعته ؛ وقال أحمد : لا يصلى خلف أحد من أهل الأهواء –إذا كان داعية إلى هواه-".
وقال ابن القيم في الطرق الحكمية (ص\254) : "أهل البدع : الموافقون لأهل الإسلام ولكنهم مخالفون في بعض الأصول كالرافضة والقدرية والجهمية وغلاة المرجئة".
وقال الذهبي في ترجمة مجاهد كما في سير أعلام النبلاء (4\454-455) : "عن الأعمش عن مجاهد، قال: (ما أدري أي النعمتين أعظم، أن هداني للإسلام، أو عافاني من هذه الأهواء).
قلت : مثل الرفض والقدر والتجهم".
قلت –أبو العباس- : ومن خلال ما تقدم يتبين لنا أن ما جاء عن الإمام أحمد في أهل الأهواء ؛ فإنما هو فيمن أتى ببدعة مخالفة للكتاب المستبين والسنة المستفيضة , أو ما أجمع عليه سلف الأمة -مخالفة لا عذر فيه- ؛ كبدعة : الخوارج , والروافض , والقدرية , والمرجئة , فمن أنزل أقوال الإمام أحمد على من لم يخالف الكتاب والسنة وما أجمع عليه سلف الأمة ؛ فقد افترى على منهج هذا الإمام , وتقول عليه , كما هو صنيع بعض المتسلقين على منهجه –رحمه الله- من (بعض الناس) الذين يبدعون أفاضل المسلمين المخالفين لهم في اجتهاداتهم ؛ ثم يأمرون بهجرهم ومقاطعتهم , بل وهجر من لم يهجرهم ؛ وهم يزينون لانفسهم سوء فعالهم بالآثار المروية عن الإمام أحمد في أهل الأهواء والبدع .

المعلم الرابع : التفريق بين الكلام في المبتدع المطلق (النوع) ,والكلام في المبتدع المعين .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- فيما نقله عنه صاحب الإنصاف (10\345) حاكيا مذهب الإمام أحمد: "نصوصه صريحة في عدم تكفير (الخوارج والقدرية والمرجئة وغيرهم) , وإنما كفر الجهمية لا أعيانهم .. , وطائفة تحكي عنه روايتين في تكفير أهل البدع مطلقًا -حتى المرجئة والشيعة المفضلة لعلي- , قال : ومذاهب الأئمة الإمام أحمد وغيره رحمهم الله مبنية على التفصيل بين النوع والعين".
ولهذا فرغم تكفير الإمام أحمد للجهمية كنوع , وتكفيره للجهمي (المعين المطلق) لم يكفر بعض أعيان الجهمية كما قال –رحمه الله- في مجموع الفتاوى (7\507-508) : "والمحفوظ عن أحمد وأمثاله من الأئمة إنما هو تكفير الجهمية المشبهة وأمثال هؤلاء .... , مع أن أحمد لم يكفر أعيان الجهمية , ولا كل من قال إنه جهمي كفره , ولا كل من وافق الجهمية في بعض بدعهم ؛ بل صلى خلف الجهمية الذين دعوا إلى قولهم , وامتحنوا الناس , وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة ؛ لم يكفرهم أحمد وأمثاله , بل كان يعتقد إيمانهم وإمامتهم , ويدعو لهم , ويرى الائتمام بهم في الصلوات خلفهم , والحج والغزو معهم , والمنع من الخروج عليهم ما يراه لأمثالهم من الأئمة , وينكر ما أحدثوا من القول الباطل الذي هو كفر عظيم , وإن لم يعلموا هم أنه كفر , وكان ينكره , ويجاهدهم على رده بحسب الإمكان ؛ فيجمع بين طاعة الله ورسوله في إظهار السنة والدين , وإنكار بدع الجهمية الملحدين , وبين رعاية حقوق المؤمنين من الأئمة والأمة , وإن كانوا جهالا مبتدعين , وظلمة فاسقين" .
وقد حكى شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- الاضطراب الذي وقع عند البعض ممن نظر في أقوال الإمام أحمد في تكفيره الجهمية , وبين مباشرته لأعيان منهم بما لا يدل على تكفيره لهم , وبين معرفتهم بأعيان أناس قام بهم من الإيمان ما يمتنع أن يكونوا معه كفارا ؛ ثم بين وجه الخروج من هذا الاضطراب في مجموع الفتاوى (12\487-489) بالقول : "وسبب هذا التنازع تعارض الأدلة ؛ فإنهم يرون أدلة توجب إلحاق أحكام الكفر بهم , ثم أنهم يرون من الأعيان الذين قالوا تلك المقالات من قام به من الإيمان ما يمتنع أن يكون كافرا ؛ فيتعارض عندهم الدليلان , وحقيقة الأمر أنهم أصابهم في ألفاظ العموم في كلام الأئمة ما أصاب الأولين في ألفاظ العموم في نصوص الشارع , كلما رأوهم قالوا : (من قال كذا فهو كافر) اعتقد المستمع أن هذا اللفظ شامل لكل من قاله , ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين , وان تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين , إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع ؛ يبين هذا : أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه .
فإن الإمام أحمد مثلا قد باشر الجهمية الذين دعوه إلى خلق القرآن ونفي الصفات , وامتحنوه وسائر علماء وقته , وفتنوا المؤمنين والمؤمنات الذين لم يوافقوهم -على التجهم- بالضرب , والحبس , والقتل , والعزل عن الولايات , وقطع الأرزاق , ورد الشهادة , وترك تخليصهم من أيدي العدو ؛ بحيث كان كثير من أولى الأمر إذ ذاك من الجهمية من الولاة والقضاة وغيرهم يكفرون كل من لم يكن جهميا موافقا لهم على نفي الصفات مثل القول بخلق القرآن , ويحكمون فيه بحكمهم في الكافر ؛ فلا يولونه ولاية ؛ ولا يفتكونه من عدو ؛ ولا يعطونه شيئا من بيت المال ؛ ولا يقبلون له شهادة ولا فتيا ولا رواية , ويمتحنون الناس عند الولاية والشهادة والافتكاك من الأسر وغير ذلك ؛ فمن أقر بخلق القرآن حكموا له بالإيمان , ومن لم يقر به لم يحكموا له بحكم أهل الإيمان , ومن كان داعيا إلى غير التجهم قتلوه أو ضربوه وحبسوه .
ومعلوم أن هذا من أغلظ التجهم ؛ فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من قولها , وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها , والعقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب.
ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره ممن ضربه وحبسه واستغفر لهم وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر , ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم ؛ فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع , وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون القرآن مخلوق , وان الله لا يرى في الآخرة .
وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفر به قوما معينين ؛ فأما أن يذكر عنه في المسألة روايتان ففيه نظر .
أو يحمل الأمر على التفصيل ؛ فيقال : من كفر بعينه فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه , ومن لم يكفره بعينه فلانتفاء ذلك في حقه , هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم , والدليل على هذا الأصل الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار".
وقد بين –رحمه الله- خطورة أخذ الأقوال المطلقة الصادرة عن الإمام أحمد وغيره والآمرة بهجر أهل الأهواء والبدع وتنزيلها على الأعيان التي يحتاج تنزيل الحكم عليها إلى النظر في استكمال الشروط وانتفاء الموانع ؛ فقال في مجموع الفتاوى (28\212-213): "وكثير من أجوبة الإمام أحمد -وغيره من الأئمة- خرج على سؤال سائل، قد علم المسئول حاله، أو خرج خطابا لمعين قد علم حاله؛ فيكون بمنزلة قضايا الأعيان الصادرة عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، إنما يثبت حكمها في نظيرها , فإن أقواما جعلوا ذلك عاما فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به ؛ فلا يجب ولا يستحب , وربما تركوا به واجبات أو مستحبات , وفعلوا به محرمات".
قلت –أبو العباس- : فالحكم على المعينين بما توجبه بدعهم –عند الإمام أحمد- موقوف على العلم بحقيقة حال المعين ؛ لا على مجرد وقوعه في البدعة ؛ فمن حكم عليه بعينه فلأنه وجدت فيه شروط الحكم وانتفت موانعه , ومن انتفت شروط الحكم في حقه أو جد ما يمنع منه ؛ لم يحكم عليه –بعينه- بما توجبه بدعته ؛ مع ذم النوع , والمبتدع المطلق –قطعا- .
ومنه تعلم بطلان نهج من انتسب إلى الإمام أحمد كأمثال (بعض الناس) الذين يبدعون أعيانا من أفاضل المسلمين من غير اعتبار لاستكمال شروط ولا لانتفاء موانع ؛ بل قد يبدعونهم عبر الجوالات , بل وبدعوا من لا يعرفون عينهم ولا ما عندهم .

المعلم الخامس : التفريق بين أنواع البدع في معاملة المتلبس بها .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في " المسودة في أصول الفقه (237-239) : "وكلام أحمد يفرق بين أنواع البدع ... , وما علمت لأحمد كلاما بالنهى عن جميع أنواع المبتدعة" .
وأشار الحافظ ابن رجب الحنبلي في شرح علل الترمذي (1\358) إلى هذا التنوع في موقف الإمام أحمد تبعا لتنوع البدع ؛ فقال –بعد أن ذكر الروايات في تنوع مواقف الإمام من أهل البدع-: "فيخرج من هذا :
أن البدع الغليظة كالتجهم يَرُدُّ بها الرواية مطلقاً .
والمتوسطة كالقدر إنما يَرُدُّ رواية الداعي إليها .
والخفيفة كالإرجاء هل تقبل معها الرواية مطلقاً ؟ أو ترد عن الداعية؟ على روايتين".
قلت: وهذا المنهج بين واضح في تنوع أقوال الإمام أحمد في أهل البدع تبعا لتنوع بدعهم وخطورتها , ومن ذلك :

موقفه من الجهمية : وتمثل بنهيه المطلق عن الجهمية ؛ فمن ذلك نهيه عن موارثتهم , كما قال ابن بطة في الإبانة الكبرى (2294) : عن المروذي، قال: (سألت أبا عبد الله عن الجهمي يموت وله ابن عم ليس له وارث غيره، فقال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : [لا يرث المسلم الكافر] ؛ قلت: فلا يرثه؟ قال: لا. قلت: فما يصنع بماله؟ قال: بيت المال، نحن نذهب إلى أن مال المرتد لبيت المال).
ومنه إبطاله صلاة الجهمي –مطلقا- كما في الإبانة –أيضا- (2359) عن المروذي عن أبي عبد الله، قال: قلت لأبي عبد الله: (رجل صلى خلف الصف هو ورجل، فلما سلم نظر إلى الذي صلى على جانبه فإذا هو جهمي ؟ قال: يعيد الصلاة، فإنه إنما صلى خلف الصف وحده، أو كلام هذا معناه -إن شاء الله-) .
ومنه استحلاله أخذ متاع الجهمية , كما في الإبانة (2375) عن الحارث الصائغ قال : قلت لأبي عبد الله : (إن أصحاب ابن الثلاج نلنا منهم ومن أعراضهم [= متاعهم] ، فنستحلهم من ذلك؟ فقال: لا، هؤلاء جهمية، من أي شيء يستحلون؟!) .
ومنه نهيه المطلق عن الصلاة خلف خلف الجهمية أو الشهادة عند قضاتهم , كما في الإبانة (2379) عن عبد الله بن أحمد قال : (سألت أبي عن الصلاة خلف أهل البدع، فقال: لا تصل خلفهم مثل الجهمية والمعتزلة، وقال: إذا كان القاضي جهميا، فلا تشهد عنده).
وقال ابن هانئ في سؤالاته (312) : (وسئل -يعني أبا عبد الله أحمد بن حنبل- عن الصلاة خلف الجهمية. قال: لا يصل، ولا كرامة) .
وقال ابن هانئ في سؤالاته (1864) : وسألته (يعني أبا عبد الله أحمد بن حنبل) عن الذي يقول: لفظي بالقرآن مخلوق؟قال: هذا كلام جهم، من كان يخاصم منهم، فلا يجالس، ولا يكلم، والجهمي كافر) .
وقال ابن هانئ في سؤالاته (295) : وسئل (يعني أبا عبد الله أحمد بن حنبل عمن يقول لفظي بالقرآن مخلوق، أيصلى خلفه؟ قال: لا يصلى خلفه، ولا يجالس، ولا يكلم، ولا يسلم عليه) .
ومن هذا الباب كان هجره لداود بن علي الظاهري لمّا بلغه أنه قال في القران أنه محدث , وذلك فيما رواه الخطيب البغدادي في تاريخه (8\373-374) عن أبي زرعة أنه قال : (قدم علينا [داود] من نيسابور فكتب الي محمد بن رافع , ومحمد بن يحيى , وعمرو بن زرارة , وحسين بن منصور أبدله شيئا من ذلك ؛ فقدم بغداد وكان بينه وبين صالح بن أحمد حُسنٌ ؛ فكلم صالحا أن يتلطف له في الاستئذان على أبيه ؛ فأتى صالح أباه ؛ فقال له : رجل سألني أن يأتيك ؟ قال : ما اسمه ؟ قال : داود , قال : من أين ؟ قال : من أهل أصبهان , قال : أي شيء صناعته؟ قال : -وكان صالح يروغ عن تعريفه إياه ؛ فما زال أبو عبد الله يفحص عنه حتى فطن ؛ فقال : هذا قد كتب إلي محمد بن يحيى النيسابوري في أمره أنه زعم أن القرآن محدث ؛ فلا يقربني , قال : يا أبت ينتفي من هذا وينكره ؛ فقال أبو عبد الله : أحمد بن محمد بن يحيى أصدق منه , لا تأذن له في المصير اليَّ) .
وكان موقف أحمد –رحمه الله- ممن يراه جهميا شديدا جدا ؛ حتى أنه أمر بهجر من سلَّم على جهمي أو تكلم معه , كما في تاريخ بغداد (2\146) عن أبي جعفر محمد بن الحسن بن هارون الموصلي : سألت أبا عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل . وقلت : (يا أبا عبد الله , أنا رجل من أهل الموصل , والغالب على أهل بلدنا الجهمية ، وفيهم أهل سنة , نفر يسير يحبونك , وقد وقعت مسألة الكرابيسي : نطقي بالقرآن مخلوق ؟ فقال لي أبو عبد الله : إياك إياك وهذا الكرابيسي , لا تكلمه , ولا تكلم من يكلمه , أربع مرات , أو خمس مرات , قلت : يا أبا عبد الله فهذا القول عندك وما تشعب منه يرجع إلى قول جهم ؟ قال : هذا كله من قول جهم).
وروى صالح في سيرة أبيه (ص\74) عن أبي الفضل أنه قال : (قدم ابن رباح يريد البصرة ؛ فبلغه أن عبد الله القواريري شيعه أو سلم عليه ؛ فصار القواريري إلى أبي فلما نظر إليه قال : ألم يكف ما كان منك من الإجابة ؛ حتى سلمت على ابن رباح , ورد الباب في وجهه) .
بينما في غير الجهمية لم يمنع من مكالمة من ماشى مبتدعا ؛ إلا أن يكون نصحه وأعلمه ثم أصر ؛ كما روى ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد (ص\250) عن أبي داود السجستاني أنه قال: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: أرى رجلاً من أهل السنة مع رجل من أهل البدعة، أترك كلامه؟، قال: " لا، أو تُعْلِمه أن الرجل الذي رأيته معه صاحب بدعة، فإن ترك كلامه، فكلمه، وإلا فألحقه به، قال ابن مسعود: (المرء بخدنه) ) .
وهذا الموقف منه –رحمه الله- من الجهمية مبني على أصله في تكفيره للجهمية –وأمثالهم- دون سواهم من أهل الأهواء كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في مجموع الفتاوى (7\507) : "والمحفوظ عن أحمد وأمثاله من الأئمة ؛ إنما هو تكفير الجهمية والمشبهة وأمثال هؤلاء .
ولم يكفر أحمد "الخوارج" ولا "القدرية" -إذا أقروا بالعلم ؛ وأنكروا خلق الأفعال وعموم المشيئة- ؛ لكن حكي عنه في تكفيرهم روايتان .
وأما " المرجئة " فلا يختلف قوله في عدم تكفيرهم".
ولهذا اختلف موقفه مما سوى الجهمية من أهل البدع ؛ فمن ذلك :

موقفه من بدعة التشيع -التي هي دون بدعة الرفض- : فقد قال ابن هانئ في سؤالاته (311) : قلت [يعني لأبي عبد الله أحمد بن حنبل] أيصلى خلف من قدم عليا على أبا بكر؟ قال: إذا كان جاهلاً لا علم له بمن فضل، أرجو أن لا يكون به بأس، وإن كان يتخذه دينًا فلا يصلى خلفه).
ولهذا فإن الإمام أحمد قد استقبل في بيته من كان متشيعا ووثقه ؛ كما رواه الخطيب الخطيب في «تاريخ بغداد» (10/262) عن يعقوب بن يوسف المطوعي، قال: (كان عبد الرحمن بن صالح الأزدي رافضيا، وكان يغشى أحمد بن حنبل، فيقربه ويدنيه، فقيل له: يا أبا عبد الله! عبد الرحمن بن صالح رافضي؟!
فقال: سبحان الله! رجل أحب قوما من أهل بيت النبي ? نقول له: لا تحبهم! هو ثقة) .

وأما موقفه من القدرية ؛ فقد كان متنوعا بحسب مقالاتهم البدعية , فهو قد أمر باستتابة منأنكر العلم من القدرية كما في شرح أصول الاعتقاد (4\710) عن بكر بن محمد عن أبيه عن أبي عبد الله أحمد بن حنبل قال: -وسألته عن القدري يستتاب- وقلت: إن عمر بن عبد العزيز ومالك بن أنس يريان أن يستتيبوه ، فإن تاب وإلا ضربت عنقه. قال أبو عبد الله: أرى أن يستتيبه إذا جحد العلم ؛ قلت: فكيف يجحد علم الله؟ قال: إذا قال لم يكن هذا في علم الله استتبته، فإن تاب وإلا ضربت عنقه) .
وفي السنة للخلال (3\532) عن أبي بكر قال : (سألت أبا عبد الله عن القدري؟ فلم يكفره إذا أقر بالعلم) . ولهذا هو –رحمه الله- قد روى عن القدرية –غير الغلاة- كما في تاريخ بغداد (12\200): "نحن نحدث عن القدرية، لو فتشت أهل البصرة وجدت ثلثهم قدرية".

وأما موقفه من المرجئة ؛ فقد أجاز –رحمه الله- السلام على الأقرباء الذين يرون رأي المرجئة والحديث معهم –ما لم يكونوا دعاة مخاصمين- , كما قال أبو داود في مسائله للإمام احمد (ص\276) : قلت لأحمد : (لنا أقارب بخراسان يرون الإرجاء فنكتب الى خراسان نقرئهم السلام ؟ فقال : سبحان الله لم لا تقرؤهم السلام ؟ قال : قلت لأحمد : نكلمهم ؟ قال : نعم إلا إن يكون داعيا ويخاصم فيه) .
وقال أبو داود في سؤالاته (136) : (سمعت أحمد يقول: احتملوا المرجئة في الحديث).

وأما موقفه من أهل النصب ؛ فقد كان –رحمه الله- يراسل بعض المنتصرين للسنة ممن وقع في شيء من بدعة النصب , كما كان يراسل الجوزجاني الذي نسب إلى النصب كما قال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب (1\159) : "وقال السلمي عن الدارقطني -بعد أن ذكر توثيقه- : (لكن فيه انحراف عن علي ؛ اجتمع على بابه أصحاب الحديث فأخرجت جارية له فروجة لتذبحها، فلم تجد من يذبحها؛ فقال: سبحان الله فروجة لا يوجد من يذبحها وعلي يذبح في ضحوة نيفا وعشرين ألف مسلم) .
قلت : وكتابه في الضعفاء يوضح مقالته , ورأيت في نسخة من كتاب بن حبان : (حريزي المذهب) وهو بفتح الحاء المهملة وكسر الراء وبعد الياء زاي نسبة إلى حريز بن عثمان المعروف بالنصب , وكلام ابن عدي يؤيد هذا".
ومع هذا فقد كان الإمام أحمد يكاتبه ويجله كما في تهذيب الكمال (2\248) عن أبي بكر الخلال قال : (إبراهيم بن يعقوب جليل جدّا كان أحمد بن حنبل يكاتبه ويكرمه إكراما شديداً , وقد حدثنا عنه الشيوخ المتقدمون وعنده عن أبي عبد الله جزءان مسائل) .

قلت –أبو العباس- : فهذه الأمثلة من صنيع الإمام أحمد مؤكدة لصحة مقالة شيخ الإسلام ابن تيمية المتقدمة أن الإمام (أحمد يفرق بين أنواع البدع) ؛ وفيما تقدم ردٌ واضح وصريح على (بعض الناس) الذين ينسبون لمنهج الإمام أحمد أن القاعدة في أهل البدع أنهم جميعا سواء , من غير تفريق بين بدعة وأخرى ؛ فيعاملون الجميع معاملة واحدة ؛ بل ويعاملون من لم يكن مبتدعا –في نفس الأمر- معاملة الإمام أحمد لشر أنواع المبتدعة (الجهمية) ؛ فتراهم يأمرون بهجر من لم يهجر من بدعوهم ؛ ويستشهدون على باطلهم بالآثار المروية عن الإمام أحمد في الجهمية .

المعلم السادس : حكمه على أعيان المبتدعة بما يستحقونه مدحا أو قدحا .
إن الروايات عن الإمام أحمد في ذم أعيان المبدعة كثيرة جدا , ومثلها في الكثرة ثناؤه أو تمشيته لأحوال أعيان أخرى منهم –ليسوا غلاة ولا دعاة- –تبعا لما تقتضيه أحوالهم –شرعا- , ومن أمثلة هذا المدح والثناء , أو تمشية الحال :
موقفه من بعض من وقع في بدعة التشيع -التي هي دون بدعة الرفض- :
روى الخطيب في «تاريخ بغداد» (10/262) عن يعقوب بن يوسف المطوعي، قال: (كان عبد الرحمن بن صالح الأزدي رافضيا، وكان يغشى أحمد بن حنبل، فيقربه ويدنيه، فقيل له: يا أبا عبد الله! عبد الرحمن بن صالح رافضي؟!
فقال: سبحان الله! رجل أحب قوما من أهل بيت النبي ? نقول له: لا تحبهم! هو ثقة) .
وقال المروذي في سؤالاته (189) : قال أبو عبد الله: (تليد بن سليمان كان مذهبه التشيّع، ولم ير به بأساً).
بل وكتب عنه أحاديث كثيرة كما في تاريخ بغداد (7\137) عن الأثرم قال :"سمعت أبا عبد الله، وهو أحمد بن حنبل، ذكر تليد بن سليمان فقال: كتبت عنه حديثاً كثيراً عن أبي الجحاف".
وفي ضعفاء العقيلي (625) : قال محمد بن عوف بن سفيان: قيل لأحمد بن حنبل: (سليمان بن قرم؟ قال: لا أرى به بأساً، ولكنه كان يفرط في التشيع) .
وقال عبد الله في في العلل ومعرفة الرجال (2\341) : (سألته عن عبد الجبار بن العباس , قال : (هو الذي يقال له الشبامي رجل من أهل الكوفة أرجو ألا يكون به بأس ؛ حدثنا عنه وكيع وأبو نعيم , وكان يتشيع) .
وقال كما في العلل ومعرفة الرجال (2\491) : (عدي بن ثابت ثقة إلا أنه كان يتشيع) .
وقال عبد الله في العلل ومعرفة الرجال (3\117) : (سألته عن علي بن بذيمة ؛ فقال : صالح الحديث , ولكن كان رأسا في التشيع) .
وقال ابنه عبد الله في العلل ومعرفة الرجال (1\443) : "سألت أبي عن فطر بن خليفة، فقال: ثقة صالح الحديث، حديثه حديث رجل كيِّس، إلا أنه يتشيّع".
وقال عبد الله أيضاً في (2\338) : "قال أبي: كان فطر عند يحيى ثقة، ولكنه خشبي مفرط".
وفي كتاب الجرح والتعديل (8\263) قال حرب بن إسماعيل: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: محمد بن فضيل ؟ قال: كان يتشيع، وكان حسن الحديث) .
وقال (2\475) : (سألته عن هارون بن سعد , قال : روى عنه الناس شريك وهو صالح , أظنه كان يتشيع) .
وفي تهذيب التهذيب (11\35) قال أبو العرب الصقلي: قال أحمد بن حنبل: (هاشم بن البريد، ثقة، وفيه تشيعٌ قليل) .

وأما موقفه من بعض من وقع في بدعة القدرية ؛ فقد وثّق –رحمه الله- بعض من كان يقول بالقدر -ما لم يتكلم فيه- , كما في العلل ومعرفة الرجال (3\260) : قال عبد الله بن أحمد: قال أبي: (سيف اختلفوا فيه ، ابن سليمان ، أو ابن أبي سليمان ، ثقة ، زكريا بن إسحاق ثقة ، شبل ثقة ، هؤلاء ما أقربهم ، سيف ، وزكريا ، وشبل ، وإبراهيم بن نافع، ثقة ، أصحاب ابن أبي نجيح قدرية عامتهم ، ولكن ليسوا هم أصحاب كلام ، إلا أن يكون شبل ، لا أدري) .
وفي تاريخ بغداد (12/184) : (قال عبد الله : وسألت أبي عن عمرو بن عبيد ؛ فقلت له : ليس بشيء لا يكتب حديثه ؟ فأومأ برأسه , أي نعم ! فقلت : قوم يرمون بالقدر إلا أنهم لا يدعون إليه ولا يأتون في حديثهم بشيء منكر , مثل قتادة , وهشام الدستوائي , وسعيد أبي عروبه , وأبي هلال , وعبد الوارث , وسلام ابن مسكين ؟ فقال : هؤلاء ثقات)
وقال صالح ابن الإمام أحمد في مسائله (1122) : (قال أبي : إسحاق بن حازم شيخ ثقة إلا أنه كان يرى القدر) .
وقال أبو داود في سؤالاته للإمام أحمد (274) : (قلت لأحمد : برد بن سنان ؟ قال : ليس به بأس , ولكن كان يرى القدر , زعموا أنهم طلبوا القدرية بدمشق ففر إلى البصرة , فسمع البصريون منه) .
وقال عبد الله بن الإمام أحمد في العلل ومعرفة الرجال (2\74-75) : (وسئل [أباه] عن ثور الديلي فقال حدث عنه مالك بن أنس صالح الحديث وثور بن يزيد ؛ فقال كان يرى القدر هو ثقة في الحديث) .
قال عبد الله بن الإمام أحمد في العلل ومعرفة الرجال (1\403) : (قال أبي : عبد الله بن أبي لبيد مديني وكان قدم الكوفة ما أعلم بحديثه بأسا حدث عنه بن إسحاق وابن عيينة والثوري وكان يرى القدر يعني بن أبي لبيد) .
وقال عبد الله بن الإمام أحمد في في العلل ومعرفة الرجال (1\362-363) : سمعت أبي يقول : (عمر بن أبي زائدة , هو أخو زكريا بن أبي زائدة , وعمر أكبر من زكريا , عمر سمع من قيس بن أبي حازم , وزكريا مات قبله , وجميعًا ثقة . قال أبي : ويقولون : أن عمر كان يرى القدر , وكان أكبر من زكريا) .
وقال في نفس المصدر (1\512) : (سمعت أبي يقول : مهدي بن ميمون , وسلام بن مسكين , وأبو الأشهب , وحوشب بن عقيل من الثقات كلهم ؛ إلا أن مهدي أحب إلي , هو في القلب أحلاهم -يعني مهدي- إلا أن سلاما كان يرى القدر) .
وقال عبد الله بن الإمام أحمد في العلل ومعرفة الرجال (2\538) : (قال أبي : الوضين بن عطاء ليس به بأس كان يرى القدر) .

وأما موقفه من بعض من وقع في بدعة المرجئة ؛ فمن أمثلته ما قاله المروذي في سؤالاته للإمام أحمد (213) : (سألته عن عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، كيف هو؟ فقال: كان مرجئاً، قد كتبت عنه) .
وفي الكامل (1500) عن أحمد بن أبي يحيى قال : سمعت ابن حنبل يقول: (عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، لا بأس به، وكان فيه غلو في الإرجاء، ويقول: هؤلاء الشكاك).
وقال أبو داود في سؤالاته (559) : سمعت أحمد قال : (إبراهيم بن طهمان ، هو صحيح الحديث ، مقارب ، إلا أنه كان يرى الإرجاء) .
وفي تاريخ بغداد (6\108) عن حنبل بن إسحاق قال : سمعت أبا عبد الله يقول : (كان إبراهيم بن طهمان ، من أهل خراسان ، من نيسابور ، وكان مرجئُا ، وكان شديدًا على الجهمية) .
بل أنّ الإمام أحمد بن حنبل كان يجلّ إبراهيم بن طهمان كما قال أبو زرعة في تذكرة الحفاظ (1\213) : (كنت عند احمد بن حنبل ؛ فذكر إبراهيم بن طهمان -وكان متكئا من علة- فجلس وقال : لا ينبغي أن يذكر الصالحون فيتكأ).
ووثق الإمام أحمد جملة من رجالات المرجئة ومنهم :
عمر بن ثابت –مع كونه مرجئا- كمال في الضعفاء –للعقيلي- (1332) عن عبد الله بن الإمام أحمد قال : سمعتُ أَبي يقول: (عمر بن عامر ثبت، ثقة في الحديث، إلا أنه كان مرجئًا).
وفي العلل (2\186) عن عبد الله بن أحمد قال : سمعتُ أَبي يقول: (عثمان بن غياث، ثقة، ثبت الحديث، إلا أنه كان مرجئاً) .
قال أبو داود في سؤالاته (560) : قلت لأحمد: (أبو سعد محمد بن ميسر ؟ قال السيناني، هو صدوق، قال: ولكن كان مرجئًا، قلت: كتبت عنه ؟ قال: نعم) .
وقال ابن هانئ في سؤالاته (2298) للإمام أحمد : (سألته عن قيس بن مسلم الجدلي ؟ فقال: كوفي، وهو ثقة، وهو ثبت، وكان هو وعلقمة بن مرثد مرجئين) .
وقال ابنه عبد الله في العلل ومعرفة الرجال (1\414) : (سألته عن عمر بن ذر فقال : قد روى عنه وكان مرجئا) .
وقال ابنه عبد الله في العلل ومعرفة الرجال (2\186) : (سمعت أبي يقول عثمان بن غياث ثقة ثبت ؛ ثبت الحديث إلا أنه كان مرجئا) .

قلت –أبو العباس- : فهذه عينة من صنيع الإمام أحمد دالة على عدله وإنصافه مع أهل البدع ؛ فلم تمنعه بدعتهم من أن يعدل فيهم ؛ فيزكيهم -عند قيام المقتضى الشرعي- بما هو فيهم , ويشير إلى بدعتهم لئلا يغتر بهم من لا يعرفهم .
وفي هذا الصنيع من هذا الإمام أوضح ردّ على :
أولا : من يزعم أن من منهج الإمام أحمد : أن لا تذكر لمبتدع حسنة ولا مدح –مطلقا- بل الجرح فقط !!!.
ثانيا : ورد على من يزعم أن مطلق البدعة موجبة للقدح في عدالة المبتدع , بعيدا عن التفصيل في نوع البدع , وأحوال المبتدع .

تنبيه : يتبع -إن شاء الله- القسم الثاني .
__________________

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الرد على البكري (2\705) :
"فغير الرسول -صلى الله وعليه وسلم- إذا عبر بعبارة موهمة مقرونة بما يزيل الإيهام كان هذا سائغا باتفاق أهل الإسلام .
وأيضا : فالوهم إذا كان لسوء فهم المستمع لا لتفريط المتكلمين لم يكن على المتكلم بذلك بأس ولا يشترط في العلماء إذا تكلموا في العلم أن لا يتوهم متوهم من ألفاظهم خلاف مرادهم؛ بل ما زال الناس يتوهمون من أقوال الناس خلاف مرادهم ولا يقدح ذلك في المتكلمين بالحق
".
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 04-22-2010, 08:34 AM
عبد الله بن مسلم عبد الله بن مسلم غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2009
المشاركات: 5,131
افتراضي

اقتباس:
رجل يقول : الإيمان قول وعمل , يزيد وينقص , ولكن لا يستثني

جزاك الله خيراً أخي الكريم.

ما معنى (لا يستثني) ؟ أفيدوني عن ماذا تعني بارك الله فيكم.
__________________
قال سفيان الثوري (ت161هـ): "استوصوا بأهل السنة خيرًا؛ فإنهم غرباء"
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 04-22-2010, 09:03 AM
حذيفة حذيفة غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 231
افتراضي

بارك الله فيك شيخنا ابا العباس
كلمات من ذهب
__________________
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
وإنما هذا لأني لما قررت ذاك المعنى أولاً تقريراً أعجبني،
صرت أهوى صحته ،

هذا مع أنه لم يعلم بذلك أحد من الناس ،
فكيف إذا كنت قد أذعته في الناس ثم لاح لي الخدش ؟
فكيف لولم يلح لي الخدش، ولكنّ رجلاً آخر اعترض عليّ به ؟
فكيف لوكان المعترض ممن أكرهه ؟
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 04-22-2010, 10:34 AM
أبومعاذ الحضرمي الأثري أبومعاذ الحضرمي الأثري غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Mar 2009
الدولة: اليمن
المشاركات: 1,139
افتراضي

جزاك الله خيراً شيخنا الكريم ونفع الله بعلمك
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 04-22-2010, 11:36 AM
أبو العباس أبو العباس غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 790
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبد الله بن مسلم مشاهدة المشاركة

جزاك الله خيراً أخي الكريم.

ما معنى (لا يستثني) ؟ أفيدوني عن ماذا تعني بارك الله فيكم.
الاستثناء في الإيمان معناه : أن لا يجزم العبد بإيمانه الموجب لدخوله الجنه ؛ بل إذا سئل أمؤمن هو ؟ يقول : أنا مؤمن إن شاء الله ؛ وهذا الجواب مبناه على أصل أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل , يزيد وينقل , وأنه أصل وكمال ؛ فمن جزم بإيمانه فهذا معناه انه قد زكى نفسه , وألزم بأن يجزم لنفسه بدخول الجنة .

وقد خالفت المرجئة في هذا بناء على أصلها في الإيمان أنه التصديق وهو كل لا يتجزأ ؛ فقال بعض فرقها أن من استثنى في إيمانه فقال (أنا مؤمن إن شاء الله) فقد شك , ومن شك في إيمانه كفر .


والمسالة فيها تفصيل أكثر ؛ تنظر في كتب مفصل الاعتقاد كشرح الطحاوية , ونحوها .
__________________

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الرد على البكري (2\705) :
"فغير الرسول -صلى الله وعليه وسلم- إذا عبر بعبارة موهمة مقرونة بما يزيل الإيهام كان هذا سائغا باتفاق أهل الإسلام .
وأيضا : فالوهم إذا كان لسوء فهم المستمع لا لتفريط المتكلمين لم يكن على المتكلم بذلك بأس ولا يشترط في العلماء إذا تكلموا في العلم أن لا يتوهم متوهم من ألفاظهم خلاف مرادهم؛ بل ما زال الناس يتوهمون من أقوال الناس خلاف مرادهم ولا يقدح ذلك في المتكلمين بالحق
".
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 04-22-2010, 01:21 PM
أبو عبد الرحمن الوهراني أبو عبد الرحمن الوهراني غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2009
المشاركات: 678
افتراضي

وقد قيل: أصل الارجاء ترك الاستثناء


اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو العباس مشاهدة المشاركة
الاستثناء في الإيمان معناه : أن لا يجزم العبد بإيمانه الموجب لدخوله الجنه ؛ بل إذا سئل أمؤمن هو ؟ يقول : أنا مؤمن إن شاء الله ؛ وهذا الجواب مبناه على أصل أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل , يزيد وينقل , وأنه أصل وكمال ؛ فمن جزم بإيمانه فهذا معناه انه قد زكى نفسه , وألزم بأن يجزم لنفسه بدخول الجنة .

وقد خالفت المرجئة في هذا بناء على أصلها في الإيمان أنه التصديق وهو كل لا يتجزأ ؛ فقال بعض فرقها أن من استثنى في إيمانه فقال (أنا مؤمن إن شاء الله) فقد شك , ومن شك في إيمانه كفر .


والمسالة فيها تفصيل أكثر ؛ تنظر في كتب مفصل الاعتقاد كشرح الطحاوية , ونحوها .
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 04-22-2010, 07:06 PM
راشد بن عبيد بن إسماعيل راشد بن عبيد بن إسماعيل غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jun 2009
المشاركات: 165
افتراضي

فشتان بين منهجين ...منهج الوسطية ومنهج الغلاة
رد مع اقتباس
  #8  
قديم 04-23-2010, 12:09 AM
أبوالأشبال الجنيدي الأثري أبوالأشبال الجنيدي الأثري غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 3,472
افتراضي

جزاك الله خيرا أبا العباس على هذا المقال الجيد ,
وننتظر القسم الثاني .
هذا الإمام أحمد ,فأين من يجعل مخالفته ؛ مخالفةً
للسلفية , والكلام فيه ؛ طعناَ في السلفية ؟!
__________________

دَعْوَتُنَا دَعْوَةُ أَدِلَّةٍ وَنُصُوصٍ وليْسَت دَعْوَةَ أسْمَاءٍ وَشُخُوصٍ .

دَعْوَتُنَا دَعْوَةُ ثَوَابِتٍ وَأصَالَةٍ وليْسَت دَعْوَةَ حَمَاسَةٍ بجَهَالِةٍ .

دَعْوَتُنَا دَعْوَةُ أُخُوَّةٍ صَادِقَةٍ وليْسَت دَعْوَةَ حِزْبٍيَّة مَاحِقَة ٍ .

وَالحَقُّ مَقْبُولٌ مِنْ كُلِّ أحَدٍ والبَاطِلُ مَردُودٌ على كُلِّ أحَدٍ .
رد مع اقتباس
  #9  
قديم 04-23-2010, 04:35 AM
عبد الله بن مسلم عبد الله بن مسلم غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2009
المشاركات: 5,131
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو العباس مشاهدة المشاركة
الاستثناء في الإيمان معناه : أن لا يجزم العبد بإيمانه الموجب لدخوله الجنه ؛ بل إذا سئل أمؤمن هو ؟ يقول : أنا مؤمن إن شاء الله ؛ وهذا الجواب مبناه على أصل أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل , يزيد وينقل , وأنه أصل وكمال ؛ فمن جزم بإيمانه فهذا معناه انه قد زكى نفسه , وألزم بأن يجزم لنفسه بدخول الجنة .

وقد خالفت المرجئة في هذا بناء على أصلها في الإيمان أنه التصديق وهو كل لا يتجزأ ؛ فقال بعض فرقها أن من استثنى في إيمانه فقال (أنا مؤمن إن شاء الله) فقد شك , ومن شك في إيمانه كفر .


والمسالة فيها تفصيل أكثر ؛ تنظر في كتب مفصل الاعتقاد كشرح الطحاوية , ونحوها .
جزاك الله خيراً أخي الكريم.
__________________
قال سفيان الثوري (ت161هـ): "استوصوا بأهل السنة خيرًا؛ فإنهم غرباء"
رد مع اقتباس
  #10  
قديم 11-10-2016, 08:09 AM
محمد جمعه الراسبي الأثري محمد جمعه الراسبي الأثري غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2013
المشاركات: 545
Lightbulb

للرفع..
رفع الله قدركم
__________________
(إن الرد بمجرد الشتم والتهويل لا يعجز عنه أحد ، والإنسان لو أنه يناظر المشركين وأهل الكتاب : لكان عليه أن يذكر من الحجة ما يبين به الحق الذي معه والباطل الذي معهم ، فقد قال الله عز وجل لنبيه صلي الله عليه وسلم : (ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) وقال تعالي : (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)
الفتاوي ج4 ص (186-187)
بوساطة غلاف(التنبيهات..) لشيخنا الحلبي
رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 04:11 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.