أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا

             
12436 139530

العودة   {منتديات كل السلفيين} > منابر الأخوات - للنساء فقط > منبر الفقه وأصوله - للنساء فقط

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #11  
قديم 10-23-2013, 02:48 PM
أم عبدالله نجلاء الصالح أم عبدالله نجلاء الصالح غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: عمّـــان الأردن
المشاركات: 2,647
افتراضي وانقضى الحج فماذا بعد ؟؟ -3- لفضيلة الشيخ : صالح آل طالب

3.

وانقضى الحج فماذا بعد ؟؟ .

لفضيلة الشيخ : صالح آل طالب
خطبة الجمعة في المسجد الحرام بمكة المكرمة

بتاريخ : 17- 12-1425هـ
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، الحمد لله أسدى فضله وأولى، وأعظم خيره فنِعم المولى، له الحمد في الآخرة والأولى، توالت نعمه، وعظمت مِنَنُه، وعمَّ الخلائق بِرًا ونَوْلاً.

خصَّنا بالإسلام ويسَّر حج البيت الحرام، أحمده تعالى وأشكره وأثني عليه وأستغفره، وأسأله المزيد من فضله والإنعام.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، من دعاه لبَّاه، ومن أخلص له العبادة نجَّاه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وخليله ومصطفاه، بلّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد :

فاتقوا الله تعالى ـ أيها المسلمون ـ بفعلِ أوامرِه واجتنابِ نواهيه والحَذَر من سخَطِه وعِقابه، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ۞ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [سورة الأحزاب:70 - 71].

أمّا بعد : أيّها المؤمنون، حجّاجَ بيتِ الله الحرام، أيّامٌ معدودة مرَّت وليالٍ كالأحلام فرّت، تزاحَمت فيها الجموع، وسكِبَت فيها الدموع، كم فيها من توبةٍ ورجوع وإنابة وخضوع، يجلِّل ذلك كرمُ الله بمغفرةِ الذنوب وإجابة الدعاء وكشفِ الكروب، في الصحيحين أنّ النبي قال: ((من حجَّ هذا البيتَ فلم يرفث ولم يفسق رجَعَ كيومِ ولَدته أمُّه)).
أي : نقِيًّا من الخطايا.

وفي الصحيحين أيضًا أنّ النبيَّ قال: ((العمرةُ إلى العمرة كفّارة لما بينَهما، والحجّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)). فيا ليتَ شِعري، مَنِ المُجاب مِنّا؟ ومَن المقبولُ فيُهنَّا؟

أيّها المسلِمون، ومعَ الثّقةِ بكرَمِ الله وعفوِه ورجائه وعطفِه إلاّ أنّ المسلم يسأل الله القبولَ ولا يغترّ بعمَله، بل يرجو ويخاف ويأمَل ويخشَى، وفي صِفات المؤمنين: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [سورة المؤمنون:57-61].

سألت عائشةُ رسولَ الله عن هذهِ الآية: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ : أهُم الذين يشرَبون الخمرَ ويسرِقون؟ قال: ((لا يا بنتَ الصديق، ولكنّهم الذين يصومون ويصلّون ويتصدّقون وهم يخافون أن لا يُقبَل منهم، أولئك الذين يسارِعون في الخيراتِ)) رواه الترمذي بسند صحيح.

وهذه حقيقةُ التقوى أيها المسلمون، والتي ذكرَها الله - تعالى - في آخرِ آياتِ الحجِّ، حيث قال سبحانه: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [سورة الحج:37].

كما قال سبحانَه في الصّيام : ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:183].

فهل نحقِّق التقوَى في حياتنا مستقبَلاً كنتيجةٍ تحصَّلنها مِنَ الحجِّ ؟؟.
عندما يؤدِّي الحاجّ نُسُكه بنظامٍ وانضباط، ملتزِمًا الحدودَ والمواقيت، ملتزِمًا بمكانِ وزمان كلِّ منسَك مِن مناسك الحجّ، مجتنِبًا المحظورات، صابرًا محتسِبًا وإن لحِقَته مشقة، راجِيًا بذلك ما عند الله، مدرِكًا أنّه يستطيع الاستغناءَ عن كثيرٍ من تَرَف الدّنيا، والتي رأى أنها غيرُ ضروريّة في الحجّ، وأنه يمكِن الاستغناءُ عنها.

ومِن هذا الالتزامِ بالأماكِنِ والأوقات يعلَم أنّ الهوَى يُقيَّد بالشرع، وأنّ أحوالَ الحياة كأحوال الحج، يُسَار بها على مرادِ الله، وليس العكس، وأنَّ التساهلَ في تجاوزِ هذه الحدود يُذهِب أثرَ هذا الالتزام.

فهذه هي التقوى التي يتربَّى عليها الحاجّ ويسير عليها في حياتِه حتى يلقَى اللهَ متعامِلاً بمقتَضاها مع أوامِرِ الله ونواهيه.

وكما أنّ الحجَّ لا رفثَ فيه ولا فسوقَ ولا جدال، فإنّه تربِيَةٌ وتهذيبٌ للسّلوك ليصبِحَ ذلك خلُقَهُ دائمًا، وليكونَ كما وصَفَ النبيّ : ((ليس المسلِم باللّعان ولا الطّعان ولا الفاحش البذيء)).

هذه بعض معالمِ التقوى في الحجّ، فليستَحضِرها المسلمُ مع قولِ الله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ [سورة المائدة:27]، وليضَع نفسَه في الميزان.


يُتبع – إن شاء الله تعالى -.
__________________
يقول الله - تعالى - : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون} [سورة الأعراف :96].

قال العلامة السعدي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية الكريمة : [... {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا} بقلوبهم إيمانًاً صادقاً صدقته الأعمال، واستعملوا تقوى الله - تعالى - ظاهرًا وباطنًا بترك جميع ما حرَّم الله؛ لفتح عليهم بركات من السماء والارض، فأرسل السماء عليهم مدرارا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم في أخصب عيشٍ وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كدٍّ ولا نصب ... ] اهـ.
رد مع اقتباس
  #12  
قديم 10-23-2013, 03:00 PM
أم عبدالله نجلاء الصالح أم عبدالله نجلاء الصالح غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: عمّـــان الأردن
المشاركات: 2,647
افتراضي 3. وانقضى الحج فماذا بعد ؟؟. لفضيلة الشيخ صالح آل طالب.

3.

وانقضى الحج فماذا بعد ؟؟ .

لفضيلة الشيخ : صالح آل طالب.
خطبة الجمعة في المسجد الحرام بمكة المكرمة

بتاريخ : 17- 12-1425هـ

أيّها المسلمون، حجاجَّ بيت الله العتيق، أما وقد وفَّقكم الله تعالى لمرضاته، ويسَّر لكم التعرّضَ لنفحاته، فاستقيموا على أمره.

وليحذَرِ المسلم أن يلوِّثَ صحيفتَه البيضاء، ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا [سورة النحل 92].

وإنّ مِن أولى ما يوصَى به المسلم بعد التّقوى ما أوصَى به النبيّ سفيانَ رضي الله حينما قال: يا رسولَ الله، قل لي في الإسلامِ قولاً لا أسأل عنه أحدًا بعدَك، قال : ((قل: آمنتُ بالله، ثمّ استقم)) رواه مسلم.

ومَع استقامةِ العبدِ فإنّه معرَّض للخَطَأ والتّقصير؛ لِذا قال الله - عزّ وجلّ - : ﴿فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ [سورة فصلت 6].

وإلى ذلك أشار الحديثُ الصحيح الذي رواه أحمد وابن ماجَه عن ثوبان أنّ النبيَّ قال: ((استقِيموا ولن تحصُوا، واعلَموا أنّ خيرَ أعمالكم الصلاة، ولا يحافِظ على الوضوءِ إلا مؤمِن)).

وفي رواية لأحمد : ((سدِّدوا وقاربوا، ولا يحافظ على الوضوءِ إلا مؤمِن))، وفي الصحيحَين أنّ النبيّ قال: ((سدِّدوا وقارِبوا)). فالمطلوبُ مِنَ العبد الاستقامة وهي السّدادُ، فإن لم يحصُل سدادٌ ولا مقارَبَة، فهو مفرِّط مضيِّع.

أيّها الحاجّ الكرِيم، ما أجملَ أن تعودَ لأهلك ووطنِك بعدَ الحجّ بالخلُق الأكمَل والشِّيَم المرضيّة والسجايا الكريمة، حسَنَ التعامُل مع زوجِك وأولادك وأهلِ بيتك، طاهرَ الفؤاد، ناهِجًا الحقِّ والعدل والسّداد.

إنَّ الحجَّ بكلِّ مناسكه قد زادَك معرفةً بالله، وذكَّرك بحقوقِه وخصائِصِ أُلوهيّتِه جلّ في علاه، وأنّه لا يستحقّ العبادةّ سواه، فهو الواحد الأحَد الذي تسلِم النّفسُ إليه ويوجِّه المؤمِن إليه، ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة الأنعام 79].

فكيف يهون أن تصرِفَ حقًّا من حقوقِ الله إلى غيره كالدعاءِ والاستعانةِ والقَصد والنّذرِ؟! أينَ أثرُ الحجّ فيمن عاد بعد حجِّه مضيِّعًا للصّلاة مانعًا للزّكاة آكلاً للرِّبا والرّشا لا يبالي بأمرٍ أو نهي؟!

أيّها الحاجّ،
الزَم طريقَ الاستقامة، وداوِم العملَ فلستَ بدارِ إقامة، واحذَرِ الرياءَ، فرُبَّ عملٍ كبير تصغِّره النية، وربَّ عملٍ صغير تكبِّره النية.

ليَكُن حجُّك أوّلَ فتوحِك وتباشيرَ فجرِك وإشراقَ صُبحك وبدايةَ مولدك، ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [سورة الحجر 99].


تقبَّلَ الله حجَّك وسعيك، وأعاد عليك وعلينا هذه الأيامَ المباركة أعوامًا عديدة وأزمنةً مديدة والأمّةُ المسلمة في عزّةٍ وكرامة وصلاحٍ واستقامة.

بارَك الله لي ولكُم في القرآن العظيم وسنة سيد المرسلين، ونفعنا بما فيهما من الآياتِ والهدى، وجنبنا مواطن الردى، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله تعالى لي ولكم ولسائرِ المسلمين والمسلِماتِ من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.


يُتبع – إن شاء الله تعالى -.
__________________
يقول الله - تعالى - : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون} [سورة الأعراف :96].

قال العلامة السعدي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية الكريمة : [... {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا} بقلوبهم إيمانًاً صادقاً صدقته الأعمال، واستعملوا تقوى الله - تعالى - ظاهرًا وباطنًا بترك جميع ما حرَّم الله؛ لفتح عليهم بركات من السماء والارض، فأرسل السماء عليهم مدرارا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم في أخصب عيشٍ وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كدٍّ ولا نصب ... ] اهـ.
رد مع اقتباس
  #13  
قديم 10-23-2013, 03:06 PM
أم عبدالله نجلاء الصالح أم عبدالله نجلاء الصالح غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: عمّـــان الأردن
المشاركات: 2,647
افتراضي 3. وانقضى الحج فماذا بعد ؟؟ .

3.

وانقضى الحج فماذا بعد ؟؟ .

لفضيلة الشيخ : صالح آل طالب
خطبة الجمعة في المسجد الحرام بمكة المكرمة

بتاريخ : 17- 12- 1425هـ
الخطبة الثانية:

الحمد لله وحدَه، نَصَر عبدَه، وأعزَّ جندَه، وهزَم الأحزابَ وحدَه، فلا شيءَ بعدَه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، جلّ عن النِّدّ وعن النظيرِ، وتنزَّه عن الصاحبةِ والولد، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [سورة الشورى:11].

وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحابتِه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أمّا بعد:

فاتقوا الله تعالى أيّها المسلمون، واعلموا أنّ أصدقَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هديُ محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثةٍ بدعة، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وكلّ ضَلالة في النّار، وعليكم بالجماعة، فإنّ يدَ الله مع الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار، أعاذَنا الله وإيّاكم منها.

أيّها المؤمنون، بالاستغفارِ تُختَم الأعمال الكبار، وطوبى لمن وجَدَ في صحيفتِه استغفارًا كثيرًا، ومِن علامةِ قَبول الحسنة إتباعُها بالحسنة، لأن مَن قَبِلَه الله وقرَّبه وفَّقه للصّالحاتِ ووقَاه السيّئات.

فاحرِص ـ رعاك الله ـ على حِفظِ عَمَلك وصيانة نفسِك، وسدِّدوا وقارِبوا، وأبشِروا وأمّلوا، والإخلاصُ والصوابُ عليهما مدارُ القبول.

جعَلَك الله بالجنّة فائزًا، ولِأعلَى الدّرَجات حائزًا، وجَعَلنا وإيّاك ممّن تدعو لهم الملائكةُ بقولِ الله - عزّ وجلّ - : ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ۞ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ۞ وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [سورة غافر 7 - 9 ].

هذا وصلّوا وسلِّموا على خير البرية وأزكى البشريّة وأفضل الرسل محمّدِ بنِ عبد الله، فمن صلى عليه صلاة صلّى الله عليه بها عشرًا.

اللهمّ صلِّ على محمّد وعلَى آل محمّد، كما صلّيتَ على إبراهيم وعلَى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيمَ في العالمين إنّك حميد مجيد...
__________________
يقول الله - تعالى - : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون} [سورة الأعراف :96].

قال العلامة السعدي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية الكريمة : [... {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا} بقلوبهم إيمانًاً صادقاً صدقته الأعمال، واستعملوا تقوى الله - تعالى - ظاهرًا وباطنًا بترك جميع ما حرَّم الله؛ لفتح عليهم بركات من السماء والارض، فأرسل السماء عليهم مدرارا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم في أخصب عيشٍ وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كدٍّ ولا نصب ... ] اهـ.
رد مع اقتباس
  #14  
قديم 09-11-2017, 02:55 AM
أم عبدالله نجلاء الصالح أم عبدالله نجلاء الصالح غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: عمّـــان الأردن
المشاركات: 2,647
افتراضي 4. "الأُخوّة بين المسلمين" لفضيلة الشيخ حسين بن عبد العزيز آل الشيخ - حفظه الله -.

4.

وفي المدينة المنورة

ألقى فضيلة الشيخ حسين بن عبد العزيز آل الشيخ - حفظه الله - خطبة الجمعة - بعنوان:

"الأُخوّة بين المسلمين"

والتي تحدَّث فيها عن الأُخوّة بين المسلمين ووجوب تحقيقها، ونشر المودّة في مُجتمعات المؤمنين، مُنوِّهًا إلى خطورة الانجِراف خلف مُخطّطات الأعداء من تفريق المسلمين، وشقّ صفوفهم، وخلخلة وحدتهم، وقد ذكر في ذلك الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الدالَّة على ذلك.

الخطبة الأولى

الحمد لله وليِّ المؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه النبيُّ الأمين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد، فيا أيها المُسلمون :

أُوصيكم ونفسي بخير وصيَّة، ألا وهي: تقوى الله - جل وعلا -؛ فهي خيرُ زادٍ ليوم المعاد.

إخوة الإسلام :

من أُصول الإيمان وقواعِد الإسلام: تحقيقُ الأُخُوَّة الإيمانيَّة بين المُسلمين، ونشر المودَّة في مُجتمعات المؤمنين، قال - جل وعلا -: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [سورة الحجرات: 10]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «المسلم أخُو المسلم».

معاشر المسلمين :

وإن هذا الأصل العظيم والمبدأَ المتين يقتَضِي حقوقًا وواجبات، ويتطلَّبُ مسؤوليَّات والتِزامات، يقول ربُّنا - جل وعلا -: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [سورة التوبة: 71].

إنها أُخُوَّةٌ ! تقتَضِي أن يسيرَ المسلم في حياتِه تجاهَ المسلمين بكل مسلَكٍ كريمٍ وفعلٍ قويمٍ، قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُؤمنُ أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسِه».

إنها الأُخُوَّة التي تحمِلُ الصدقَ من القلبِ في جلبِ المصالِح والمنافِع إلى المُسلمين، ودرءِ الشُّرور والأذى عن المُؤمنين، قال - جل وعلا - : ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب: 58]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «المسلمُ من سلِمَ المسلمون من لسانِه ويدِه».

إخوة الإيمان :

إن الأُخُوَّة الإيمانية أصلٌ كبيرٌ في الإسلام، يُزاوِلُه المسلمُ في علاقته بإخوانه المُسلمين ومُجتمعه المُسلم مُزاولَةً عباديَّة، ويُمارِسُها كشعيرةٍ من شعائِر الإيمان، يقومُ بها المسلم كفريضةٍ عظيمةٍ لا يدفعُه غرضٌ نفعيٌّ ولا مصلحةٌ ذاتيَّةٌ.

وبهذا يصيرُ المُجتمع المسلم كما أرادَه الشرعُ العظيم كالبُنيان الواحِد يشدُّ بعضُه بعضًا، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمنُ للمُؤمن البُنيان يشدُّ بعضُه بعضًا» وشبَّك بين أصابِعه.

إنها أُخُوَّةٌ تتطلَّبُ التضحيَةَ والفِداء، والتعاطُفَ والتراحُم، واللُّطفَ والرِّفقَ، وغيرها من المعاني والمسالِك الكريمة التي دعا إليها المُصطفى - صلى الله عليه وسلم - في قولِه: «مثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم كمثَلِ الجسَد الواحِد، إذا اشتكَى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسَد بالسهَر والحُمَّى».


يُتبع إن شاء الله - تعالى -.
__________________
يقول الله - تعالى - : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون} [سورة الأعراف :96].

قال العلامة السعدي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية الكريمة : [... {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا} بقلوبهم إيمانًاً صادقاً صدقته الأعمال، واستعملوا تقوى الله - تعالى - ظاهرًا وباطنًا بترك جميع ما حرَّم الله؛ لفتح عليهم بركات من السماء والارض، فأرسل السماء عليهم مدرارا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم في أخصب عيشٍ وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كدٍّ ولا نصب ... ] اهـ.
رد مع اقتباس
  #15  
قديم 09-11-2017, 03:06 AM
أم عبدالله نجلاء الصالح أم عبدالله نجلاء الصالح غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: عمّـــان الأردن
المشاركات: 2,647
افتراضي 4. "الأُخوّة بين المسلمين" لفضيلة الشيخ حسين بن عبد العزيز آل الشيخ - حفظه الله -.

4.

معاشر المسلمين:


ومن مُنطلقات هذه الثوابت الإيمانية والأصول الإسلامية فإن أمة الإسلام مُطالبَةٌ أن تُحافِظَ على وحدتها الإسلامية، وصفِّها الإيمانيِّ، وأن تحذَر من مكر الأعداء ومُخطَّطاتهم في تفريق الصُّفُوف، وتمزيق وحدة المسلمين، وبثِّ وسائل العداوة بينهم، ونشر عناصِر البَغضاء في مُجتمعاتهم، ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [سورة آل عمران: 118].

إن ما تُعانيه أمة المسلمين اليوم من تفرُّق المُجتمع الواحد، وانتِشار ثقافَة العداوَة والبَغضاء في مُجتمعٍ واحدٍ حتى آلَ الأمرُ إلى حملِ بعضِهم السلاحَ على بعضٍ لأمرٌ جليلٌ لا يُرضِي ربَّ العالمين، ولا يستقيمُ مع أحكام الدِّين، ولا يتَّفقُ مع وصايا سيِّد الخلقِ - عليه أفضل الصلاة والتسليم -.

يقول - صلى الله عليه وسلم -: «من حملَ علينا السلاح فليس منَّا»، ويقول في حديثٍ آخر: «لا يُشيرُ أحدُكم على أخيه بالسِّلاح؛ فإنه لا يدرِي لعلَّ الشيطان ينزَعُ في يدِه فيقَع في حُفرةٍ من النار».

أمة الإسلام :

احذَروا من أسباب التفرُّق، تجنَّبوا عوامِل الفتن، احذَروا من أفعالٍ تُؤدِّي إلى مفاسِد لا تُحصَى، وشرورٍ لا تتناهَى من سفكِ الدماء، وهَتك الأعراض، وإفساد المُقدَّرات، وخَلخَلة الصفِّ، وزوال هيبَة مُجتمع المُسلمين، والأعداءُ يتفرَّجون فرِحين مُستبشِرين.

فذلكم ما يقعُ في الأمة، ذلك هو بُغيةُ الأعداء وهدفُهم ومقصدُهم وغرضُهم، ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة: 47].

إخوة الإسلام :

من أعظم أسباب الفتن التي يجبُ الحذرُ منها والبُعد عنها: السعيُ بالتكفير لعامة المُسلمين بدون بُرهانٍ ربَّانيٍّ ولا سُلطانٍ نبويٍّ، غنما من جرَّاء عاطفةٍ دينيَّةٍ لا تحمِلُ دليلاً شرعيًّا، ولا بُرهانًا ربَّانيًّا.

فما حلَّت النَّكبَات ولا وقعَت المثُلات في المسلمين عبر التاريخ إلا بمثلِ تلك المسالِك الهَوجاء، والمناهِج العَوجاء.

يقول - صلى الله عليه وسلم - مُخاطِبًا بخطابٍ صريحٍ يفهمُه كلُّ أحدٍ: «من صلَّى صلاتَنا، واستقبلَ قبلتَنا، وأكلَ ذبيحَتنا فذلك المسلم الذي له ذمَّةُ الله وذمَّةُ رسوله»؛ والحديثُ في "صحيح البخاري".

ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «المسلم أخو المسلم لا يظلِمه ولا يخذُلُه ولا يحقِره، كل المُسلم على المسلم حرامٌ دمُه ومالُه وعِرضُه».

معاشر المسلمين :

من أمارات التوفيق، وعلامات السعادة : أن يكون المسلم سببًا للأُلفة وعاملاً لجمع الكلمة ووحدة الصفِّ.

وإن من الخُذلان وأماراتِ الخُسران: السعيَ بالإفساد بين المسلمين، ونشرَ أسباب العداوة بينهم، يقول ربُّنا - جل وعلا -: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [سورة النساء: 114]، ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [سورة الحجرات: 10]، ﴿وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [سورة الأنفال: 1].

ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أخبِرُكم بأفضل من درجَة الصيام والصدقة والصلاة؟». قالوا: بلى. قال: «إصلاحُ ذاتِ البَيْن».

إخوة الإسلام :

إن الإسلام وهو يؤكِّدُ على تحريم الأُخُوَّة الإيمانية ليُحرِّم تحريمًا تأكيدًا أن يحمِل المسلم البغضاءَ للمؤمنين والعداوةَ للمسلمين، مما يُثيرُ فتنًا لا تُحصَى، قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تباغَضُوا، ولا تحاسَدوا، ولا تدابَروا، ولا تقاطَعوا»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «تُفتَحُ أبوابُ الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيُغفَرُ لكل عبدٍ لا يُشرِك بالله شيئًا، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شَحناء، فيُقال: أنظِروا هذين حتى يصطلِحَا».

فينبغي على مل مسلم أن يحرِص على سلامة قلبِه من الغلِّ لإخوانه المسلمين، مهما اختلفَ معهم في وجهات النَّظر.

يجبُ عليه أن يُحبَّ لهم كل خيرٍ وصلاحٍِ ونفعٍ، فنبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من أحبَّ أن يُزحزحَ عن النار ويُدخَل الجنة فلتأتِه منيَّتُه وهو يؤمنُ بالله واليوم الآخر، وليأْتِ إلى الناس الذي يحبُّ أن يُؤتَى إليه».

بارك الله لنا ولكم فيما سمعنا، أقول هذا القول، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.


يُتبع إن شاء الله - تعالى -.
__________________
يقول الله - تعالى - : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون} [سورة الأعراف :96].

قال العلامة السعدي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية الكريمة : [... {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا} بقلوبهم إيمانًاً صادقاً صدقته الأعمال، واستعملوا تقوى الله - تعالى - ظاهرًا وباطنًا بترك جميع ما حرَّم الله؛ لفتح عليهم بركات من السماء والارض، فأرسل السماء عليهم مدرارا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم في أخصب عيشٍ وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كدٍّ ولا نصب ... ] اهـ.
رد مع اقتباس
  #16  
قديم 09-11-2017, 03:11 AM
أم عبدالله نجلاء الصالح أم عبدالله نجلاء الصالح غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: عمّـــان الأردن
المشاركات: 2,647
افتراضي 4. "الأُخوّة بين المسلمين" لفضيلة الشيخ حسين بن عبد العزيز آل الشيخ - حفظه الله -.

4.

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رِضوانه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابِه.

يا أيها المسلمون :

إن فريضةَ الحجِّ فريضةٌ تبرُزُ فيها مقاصِدُ الشريعة في تحقيق الأُخُوَّة بين المسلمين، وإشاعة المودَّة بين المؤمنين، فانتهِزوا - أيها الحُجَّاج -، انتهِزوا - أيها المسلمون - هذه الفريضةَ العظيمة لتحقيق الإخاء بينكم.

فعلى الحاجِّ أن يُظهِر في هذه الفريضَة الحرصَ على التخلُّقِ بكل خُلُقٍ كريمٍ ومسلَكٍ قويمٍ، عن جابرٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أفضلُ الإيمان عند الله - عز وجل -: إيمانٌ بالله، وجهادٌ في سبيل الله، وحجٌّ مبرورٌ»، فسُئِل عن الحجِّ المبرُور. فقال: «إطعامُ الطعام، وطِيبُ الكلام»؛ رواه أحمد، وهو حديثٌ حسنٌ عند العلماء.

وفي خُطبة حجَّة الوداع ذكَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - المُسلمين بمقاصِد عُظمَى وغاياتٍ كُبرى، من أهمِّها: العنايةُ بتحقيق الأُخُوَّة بين المسلمين، «إن أموالَكم وأنفسَكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ كحُرمة يومِكم هذا، في بلدِكم هذا، في شهرِكم هذا».

فالأذيَّةُ بالمسلم والضَّجَرُ بالمؤمن أمرٌ كبيرٌ عند الله - جل وعلا -، ومما يُضادُّ مقاصِد هذه الفريضة العظيمة.

وردَ في حديثِ أنسٍ قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ثلاثٌ من كُنَّ فيه فهو مُنافِقٌ وإن صامَ وصلَّى وحجَّ واعتمرَ وقال: إني مُسلم؛ إذا حدَّث كذب، وإذا وعدَ أخلَف، وإذا اؤتُمِن خان»؛ رواه أبو يعلى، وحسَّنه جمعٌ من المُحقِّقين.

ثم إن الله - جل وعلا - أمرَنا بأمرٍ عظيمٍ، ألا وهو: الصلاةُ والسلامُ على النبي الكريم، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وأنعِم على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وأصحابِه إلى يوم الدين.

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم احفظ المسلمين في كل مكان، اللهم احفظ المسلمين في كل مكان.

اللهم قِهِم شرورَ أنفسهم، وسيِّئات أعمالهم، اللهم قِهِم مُخطَّطات أعدائِهم، اللهم قِهِم مُخطَّطات أعدائِهم.

اللهم حقِّق الأُخُوَّة بين المسلمين، اللهم اجعَلهم إخوةً مُتحابِّين، وعلى الخير مُتعاوِنين.

اللهم اغفر لنا وللمسلمين، اللهم اغفر لنا ولجميع المؤمنين، اللهم اغفر لنا ولجميع المؤمنين، الأحياء منهم والميتين.

اللهم احفظ الحُجَّاج والمُعتمِرين، اللهم احفظهم ويسِّر لهم حجَّهم، اللهم حقِّق الأمن والطُّمأنينة والاستقرار لهم ولجميع المؤمنين.

اللهم ارحم المسلمين في كل مكان، اللهم ارحمهم رحمةً تُصلِح بها أحوالهم، اللهم ارحمهم رحمةً تُصلِح بها أحوالهم، اللهم أنزِل عليهم رحمةً من عندك تُصلِح أحوالهم، وتحفظ أنفسَهم وأموالهم وأعراضَهم، وتكبِتُ بها عدوَّهم يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين لما تحبُّ وترضَى، اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين لما تحبُّه وترضَاه.
اللهم أوزِعنا أن نشكُر نعمتَك علينا، اللهم حقِّق الأمنَ والأمانَ لنا ولجميع المسلمين، اللهم حقِّق الأمنَ والأمانَ لنا ولجميع المسلمين.

اللهم ولِّ علينا خيارَنا، اللهم ولِّ علينا خيارَنا، اللهم ولِّ علينا خيارَنا.

اللهم آتِنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً.

اللهم حقِّق لنا وللحُجَّاج ما نصبُو إليه، اللهم رُدَّ الحُجَّاج إلى بيوتهم سالِمين غانِمين وقد غفرتَ لهم يا أرحم الراحمين.

عباد الله:

اذكُروا اللهَ ذِكرًا كثيرًا، وسبِّحوه بُكرةً وأصيلاً، وآخرُ دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


__________________
يقول الله - تعالى - : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون} [سورة الأعراف :96].

قال العلامة السعدي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية الكريمة : [... {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا} بقلوبهم إيمانًاً صادقاً صدقته الأعمال، واستعملوا تقوى الله - تعالى - ظاهرًا وباطنًا بترك جميع ما حرَّم الله؛ لفتح عليهم بركات من السماء والارض، فأرسل السماء عليهم مدرارا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم في أخصب عيشٍ وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كدٍّ ولا نصب ... ] اهـ.
رد مع اقتباس
  #17  
قديم 09-11-2017, 03:51 AM
أم عبدالله نجلاء الصالح أم عبدالله نجلاء الصالح غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: عمّـــان الأردن
المشاركات: 2,647
افتراضي 5. "أخلاقنا في الحروب" لفضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله -

5

أخلاقنا في الحروب

فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله -

خطبة الجمعة 1434/11/28 هـ. الموافق 4 اكتوبر 2013

ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة في الحجيج بعنوان: "أخلاقنا في الحروب"، والتي تحدَّث فيها عن الأحداث التي يمرُّ بها العالم وما يكتنِفها من قسوةٍ وغِلظَةٍ، ثم عرَّج على أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين بعده في الحروب والمعارِك، وأن دينَنا لا يتشفَّى بالقتل؛ بل نهى عن التمثيل بالجُثث.

الخطبة الأولى

الحمد لله تباركَ ربُّنا وتعالى، لا إله إلا هو قدَّر المقاديرَ على الخلائِق إدبارًا وإقبالاً، وانتقالاً وارتِحالاً، أحمده - سبحانه - على ما أنعم، وأشكرُه على ما والَى كرمًا منه وجُودًا وإفضالاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً خالصةً ذُخرًا لقائِلِها عاجلاً وآجلاً، وحالاً ومآلاً، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه فتحَ به أعيُنًا عُميًا، وقلوبًا غُلفًا، وآذانًا صُمًّا، وهدَى به ضُلاَّلاً، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابِه الغُرِّ الميامين الصالحين أعمالاً، والصادقين أقوالاً، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا كثيرًا مزيدًا يتوالَى.

أما بعد:

فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -.

من عرفَ الدنيا لم يفرَح فيها برخاءٍ، ولم يحزَن فيها على بلاء، ومن تعاقبَ عليه الليلُ والنهارُ أردَيَاه، ومن وُكِّل به الموتُ أفناه.

العمرُ تنقصُه الساعاتُ والصحةُ تعرِضُ لها الآفات، والعبدُ لا يستقبلُ يومًا إلا بفِراقِ آخر، وأعظمُ المصائبِ انقِطاعُ الرَّجاء.

فاستعدُّوا - رحمكم الله - ليومٍ تُرجَعون فيه إلى الله؛ فإنه لا ملجَأَ من الله إلا إليه، فلله درُّ عيونٍ ذرَفَت بعد ما عرفَت، وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران: 185].

أيها المسلمون، حُجَّاج بيت الله:

بشريَّةٌ مُنهَكة رغم ما توفَّر لها من وسائل الرَّاحة، وشعوبٌ تعِسَة رغم ما بين يدَيها من تِقَنيَّات الدلالات، ودولٌ مُتناحِرة رغم ما تملِك من عوامِل الالتِقاء وأسباب الاجتِماع.

البشريَّةُ اليوم في حاجةٍ مُلِحَّة، ومدعوَّةٌ بإلحاحٍ وإشفاقٍ إلى أن تسلُك طريقَ المحبَّة والتراحُم والتسامُح. إن عالَمَ اليوم يُعانِي من فُقدان الرَّحمة في مُعظم تعامُلاته ومسالِكِه وسياساته. العنفُ والقسوةُ والظلمُ سِماتٌ ظاهرةٌ من سِمات الحياة المُعاصِرة.

أيها الإخوة في الله:

ولئن كانت مُعضِلةً حقيقيَّةً، ومُشكلةً ظاهرةً عند كثيرٍ من أساطِين السياسَة، ورجالات الاقتِصاد، وقادَة الحُروب وغيرهم في تشعُّبات الحياة ومسارَاتها، لئن كان مُعضِلةً عند هؤلاء أن يضبِطوا تعامُلاتهم بأُطُرٍ أخلاقيَّة، وضوابِط إنسانيَّة، لكنَّ ذلك - والتاريخُ خيرُ شاهدٍ - لم يكُن مُعضِلةً في دينِنا، ولا مُشكِلةً في إسلامِنا؛ بل إن جوهرَ دينِنا وأصلَه وغايتَه: ï´؟وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَï´¾ [سورة الأنبياء: 107].
ï´؟فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْï´¾ [سورة آل عمران: 159]. ï´؟وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍï´¾ [سورة الأعراف: 156].

لقد تعاملَ دينُنا مع كلِّ الأحداث التي واجهَتْه عبرَ التاريخ بطريقةٍ فذَّة، وقُدوةٍ مُشرِّفة، وسيرةٍ حسنَة، ومسيرةٍ طاهرةٍ، أخرجَت كنوزًا هائِلة من فُنون التعامُل وآداب العلاقات، اعترفَ بها العدوُّ قبل الصديق، حتى لا يخلُو موقفٌ ولا حدثٌ ولا فعلٌ ولا ردُّ فعلٍ من بُرُوز هذه الفُنون العالِية والآداب الرَّاقِية، حتى في أمور الحرب والسياسة، والتعامُل مع الظالمين والفاسِقين والمُحارِبين، ناهِيكم بالتعامُل مع النِّساء والوِلدان وسائرِ المدنيِّين.

إخوتي في الله، ضُيوفَ الرحمن:

والحديثُ ذو شُعَبٍ وذو شُجُونٍ، ولكن هذا توقُّفٌ عند الرحمة والعفو والتسامُح في دينِنا، وتعامُلنا في أحوال الحُروب، والعلاقات المُتوتِّرة والصِّراع المُسلَّح.

الرحمةُ - رحمكم الله - أساسُ سعادة الأمم، واستِقرار النُّفوس، وأمان الدنيا. والرحمةُ في دينِنا ليست محدودةً بمكانٍ أو زمانٍ، ولا بدينٍ أو جنسٍ؛ بل هي لكلِّ العالمين منذ البِعثة المُحمديَّة إلى يوم الدين، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ.



https://ar-ar.facebook.com/notes/%D8...50920841608732


يُتبع إن شاء الله - تعالى -
__________________
يقول الله - تعالى - : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون} [سورة الأعراف :96].

قال العلامة السعدي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية الكريمة : [... {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا} بقلوبهم إيمانًاً صادقاً صدقته الأعمال، واستعملوا تقوى الله - تعالى - ظاهرًا وباطنًا بترك جميع ما حرَّم الله؛ لفتح عليهم بركات من السماء والارض، فأرسل السماء عليهم مدرارا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم في أخصب عيشٍ وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كدٍّ ولا نصب ... ] اهـ.
رد مع اقتباس
  #18  
قديم 09-11-2017, 04:00 AM
أم عبدالله نجلاء الصالح أم عبدالله نجلاء الصالح غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: عمّـــان الأردن
المشاركات: 2,647
افتراضي 5. "أخلاقنا في الحروب" لفضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله -

معاشر الإخوة، معاشر الحَجيج:

ليس بِدعًا أن يكون الحديثُ عن الرَّحمة يمُرُّ بالحديثِ عن الحربِ؛ لأن من الرَّحمة ما يقتَضِي إيصالَ منافِع والمصالِح إلى الخلق وإن كرِهَتها نفوسُهم، وشقَّت عليها طباعُهم، فهذه من أعظم صُور الرَّحمة؛ كرحمةِ الأب بابنِه حين يحمِلُه على محامِل العلم والأدب ولو لحِقَ الابنَ المشقَّة.

وكالرَّحمة بالمريضِ حين يُسقَى مُرَّ الدواء، وكذلك الحالُ حين تدعُو الأسبابُ إلى حربٍ غير محبوبةٍ، فهي تستبطِنُ الرَّحمةَ من خلالِ أحكامِها وآدابِها وأخلاقيَّتها.

نعم، لقد تجلَّت الرَّحمةُ في دينِنا في ظروف الحربِ والمعارِك، فويلاتُ الحروب لا تخفَى، ونتائِجُها هلكَى وجرحَى، ودينُنا ليس حفِيًّا بالحروب، ولا مُرحِّبًا بالصراع المُسلَّح؛ بل إنه يدفعُ ذلك ويدرؤُه ما استطاع، فهو لا يدعُو إلى الحربِ، وليس حريصًا على المُبادَرَة بها؛ بل قال: «لا تتمنَّوا لقاءَ العدوِّ، وسَلُوا اللهَ العافية».

وإذا كان لفظُ الحرب جاء في كتاب الله ستَّ مراتٍ؛ فإن لفظَ السِّلمِ والسلامِ جاءَ مائةً وأربعين مرَّة، وعلى المُتفكِّر تأمُّل النسبَةِ بين الرَّقمين، ولا يُقاتَلُ في الإسلام إلا المُقاتِلة، ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ۞ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ [سورة الأنفال: 61 - 62].

ويعلمُ الله والمؤمنون والمُنصِفون أن غزوات المُسلمين وحروبَهم وجهادَهم غزواتٍ وسرايا لم تكُن طلبًا لدنيا، ولا جمعًا لمالٍ، ولا رغبةً في زعامةٍ، ولا توسِعَةً في ممالِك؛ بل ذلك كلُّه لهداية الناس وتحريرِ العبادِ من عبادةِ العبادِ واستِعبادِهم إلى عبادةِ الله ربِّ العباد وحدَه، ورفعِ الظُّلم، والانتِصار للمظلومين، مقرونًا ذلك بأعلى أساليب الرَّحمة والعِفَّة والنُّبل والشَّرف، والتأريخُ خيرُ شاهِدٍ، والمُقارَناتُ مع الآخرين أعظمُ بُرهانٍ.

معاشر الأحِبَّة، حُجَّاج بيت الله:

وإذا كان قد شاعَ في هذه الأزمِنة مُصطلحُ "القوة الناعِمة"، فإننا نقولُ بكل ثقةٍ وقوةٍ وإعجابٍ: إن الحربَ في الإسلام وآدابَها وأحكامَها هي القوةُ الناعِمة.

وفي إحصاءٍ سريعٍ في عهد النبُوَّة يتبيَّنُ أن المُدَّة الإجماليَّة للحروب هي خمسُ سنواتٍ فقط من ثلاثٍ وعشرين سنة، ومجموعُ القتلَى في كل هذه السنوات والغَزَوات لم يتجاوَز ألفًا وثمانيةً وأربعين قتيلاً ليس فيهم مدنيٌّ واحدٌ؛ بل إن بعضَ الباحِثين يقول: إنهم لم يتجاوَزُوا المِئات.

قارِنوا ذلك بإحصائيَّات الحربين العالميَّتين الأخيرتين؛ ففي الأولى: كان عددُ القتلَى سبعة عشر مليونًا ما بين عسكريٍّ ومدنيٍّ، وفي الثانِية: ستين مليونًا، والمجموع سبعةٌ وسبعون مليونًا في حربين فقط، أما ما بعد ذلك فقد لا يُحصِيه العادُّون.

لماذا هذا الفرق؟! لأن دينَنا لا يُحبُّ الحربَ؛ بل يتجنَّبُها قدرَ الإمكان، ولا يدخلُها إلا مُضطرًّا، ولأن له فيها آدابًا وشروطًا وأخلاقًا، ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج: 39].

﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ [سورة البقرة: 190]. ﴿وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ [سورة الأنفال: 7]. لا يُقاتِلون إلا المُقاتِلة، ولا يُجهِزون على مُدبِرٍ.

جهادُ المسلمين فيه قوةٌ، ولكن فيه رحمةٌ وعفوٌ وعِفَّةٌ وصفحٌ، وعند قيام المعرَكة وحَمْيِ الوَطيس يحرِصُ الإسلام على عدم إطالَة مدَى المعركة وإنهاء الصِّراع المُسلَّح سريعًا، ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا [محمد: 4].

لقد قاتلَ المُسلمون بالرَّحمة، وانتصَروا بالعفو، وفازُوا بعدم المُعاملَة بالمِثْلِ، تعليماتُنا: لا تغدِروا، ولا تغُلُّوا، ولا تُمثِّلوا، ولا تقتُلُوا الشيوخَ والوِلدان وأصحابَ الصوامِع، ولا تقطَعوا شجرةً.

معاشر الحُجَّاج، معاشر المسلمين:

وليزدادَ منكم العجَب فانظُروا رحمةَ نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم - وعفوَه وتسامُحَه، وهم قدوتُنا وأُسوتُنا، عفوُه وتسامُحه فيمن آذاه واعتدَى عليه وظلمَه.

انظُروها فيما جاء في خبر "الصحيحين": قام أعرابيٌّ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسَّيف وهم نائمٌ تحت الشجَرة، فقال: من يمنَعُك مني يا محمد؟ قال: «الله - عز وجل -». فسقَطَ السَّيفُ من يدِه. فأخذَه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «من يمنَعُك منِّي؟». فقال الأعرابيُّ: كُن خيرَ آخِذٍ. فقال: «أتشْهَدُ أن لا إله إلا الله؟»، قال: لا، ولكنِّي أُعاهِدُك ألا أقاتِلَك ولا أكونَ مع قومٍ يُقاتِلُونَك. فخلَّى سبيلَه، فذهبَ إلى أصحابِه فقال: جِئتُكم من عند خيرِ الناس.

ولما قِيل له - عليه الصلاة والسلام -: ادعُ على المُشركين. قال: «إني لم أُبعَثْ لعَّانًا، وإنما بُعِثتُ رحمةً».

وقيل له: ادعُ على ثَقيفٍ، فقال: «اللهم اهدِ ثَقيفًا»، فدعا لهم ولم يدعُ لهم. رواه الترمذي.
العدلُ درجةٌ عظيمةٌ، ولكنَّ الرحمةَ والعفوَ درجةٌ أعظم.

وبعد، عباد الله:

فإن من أعظم مظاهر الرَّحمة والعفوِ والأدبِ الرَّاقِي: أن نبيَّنا محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يفضَح أسماءَ المُنافِقين، فضلاً عن أن يقتُلَهم أو يُعاقِبَهم، ومنهجُه: «ما بالُ أقوامٍ»، وأُسِّست دولةُ الإسلام على المحبَّة والرَّحمة والمُؤاخاة والنُّصرة.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة: 218].

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.



يُتبع إن شاء الله - تعالى -.
__________________
يقول الله - تعالى - : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون} [سورة الأعراف :96].

قال العلامة السعدي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية الكريمة : [... {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا} بقلوبهم إيمانًاً صادقاً صدقته الأعمال، واستعملوا تقوى الله - تعالى - ظاهرًا وباطنًا بترك جميع ما حرَّم الله؛ لفتح عليهم بركات من السماء والارض، فأرسل السماء عليهم مدرارا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم في أخصب عيشٍ وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كدٍّ ولا نصب ... ] اهـ.
رد مع اقتباس
  #19  
قديم 09-11-2017, 04:22 AM
أم عبدالله نجلاء الصالح أم عبدالله نجلاء الصالح غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: عمّـــان الأردن
المشاركات: 2,647
افتراضي 5. "أخلاقنا في الحروب" لفضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله -.

الخطبة الثانية

الحمد لله الكريم الرَّازِق، أحمدُه - سبحانه - وأشكرُه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كلُّ شيءٍ على دلائل وحدانيَّته ناطِقٌ، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه الأمينُ الصادقُ، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِهِ وأصحابِهِ آمنُوا بربِّهم، وصدَّقُوا برسُولِه، وقطَعوا عن الأهواء العلائِق، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يومٍ تجتمعُ فيه الخلائِق.

أما بعد، أيها المسلمون، حُجَّاج بيت الله :

دينُنا دينُ الرَّحمة، ونبيُّنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - هو نبيُّ الرَّحمة، ولكن مع الأسَف فإن ثقافةَ العصر وسلبيَّات وسائل الإعلام والاتِّصال، ومواقع التواصُل يضيقُ معها صدرُ المؤمن حين يرَى بعضَ المشاهِد التي تُشوِّشُ على ذلك أيَّما تشويشٍ، وهي ليست من أخلاقِ أهل الإسلام ولا من أحكامِ الشَّرع، حين ترَى تصرُّفات بعضِ من لا فِقهَ عنده حين يحضُرُون مواقِعَ القتال وساحَات الحُروب ثم ترَى فيهم من مظاهِر القَسوة والغِلظَة التي ليست من دينِنا، ولا من توجِيهاتِ نبيِّنا في المعارِك.

ترى تمثيلاً لجُثَث، وقطعًا للرُّؤوس بعد القَطع، ويُصاحِبُ ذلك في بعضِ المشاهِد تكبيرٌ وقسوةٌ، ثم يُصوَّرُ ذلك ويُنشَر في وسائل التواصُل الاجتماعيِّ مقرونًا بابتِهاجٍ وفرحٍ.

ولئن كان بعضُ هؤلاء القتلَى يستحقُّون القتل، لكن ليس في دينِنا التمثِيلُ، ولا إظهار التشفِّي. فهذه مظاهرُ قسوةٍ وغِلظَةٍ لها آثارُها وانعِكاسُها على التربية والسُّلوك والمواقِف، واستِقبال الأجيال لها، ولاسيَّما الأحداث وصِغارُ الأحلام ومن لا فِقهَ عنده.

معاشر الأحِبَّة:

الرَّحمةُ في دينِنا لا تُنزَعُ إلا من شقيٍّ، والرَّحمةُ في الخَلق رقَّةٌ في القلبِ، كما قال أهلُ العلم: "ورِقَّةُ القلبِ علامةُ الإيمان".

فمن أرادَ الرَّحمةَ فليرفُق بالناس، وليُحسِن إلى عباد الله؛ فإن رحمةَ الله قريبٌ من المُحسِنين، وفي الحديث: «الرَّاحِمون يرحمُهم الرحمنُ»؛ أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي.

يقول القُرطبيُّ - رحمه الله - مُعلِّقًا على ذلك، قال: "أتَى بصِيغة العُموم ليشملَ جميعَ أصنافِ الخلقِ وغيرهم، البرَّ والفاجرَ، والناطِقَ والبَهيمَ، والوحوشَ والطَّيرَ".

ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فشأنُ المُؤمنين التواصِي بالمَرحَمة، فإذا كان الصبرُ مِلاكَ كبحِها والنفوس، فإن المرحَمة مِلاكَ صلاح العباد والبلاد،﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ۞ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ [سورة البلد 17 - 18].

هذا، وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم في مُحكم تنزيله، فقال - وهو الصادقُ في قِيله - قولاً كريمًا: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [سورة الأحزاب 56].

اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك سيِّدنا ونبيِّنا محمدٍ الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافَك واتَّقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.

اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتَك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، وألبِسه لباسَ الصحةِ والعافيةِ، ومُدَّ في عُمره على طاعتك، ووفِّقه ونائِبَيْه وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.

اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتَهم على الحق والهُدى والسنَّة يا رب العالمين.

اللهم أصلِح أحوال المسلمين، اللهم أصلِح أحوال المسلمين، واحقِن دماءَهم، واجمع على الحقِّ والهُدى والسنةِ كلمتَهم، وانصُرهم على عدوِّك وعدوِّهم.

اللهم من أرادَنا وأرادَ دينَنا وديارَنا وأمَّتَنا وأمنَنا ووُلاةَ أمرنا وعلماءَنا وأهلَ الفضل والصلاح والاحتِساب منَّا، وأرادَ وحدَتنا واجتماعَنا بسوءٍ اللهم فأشغِله بنفسِه، واجعَل كيدَه في نحرِه، واجعَل تدبيرَه تدميرًا عليه يا قويُّ يا عزيز.

اللهم وأبرِم لأمةِ الإسلام أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ الطاعة، ويُهدَى فيه أهلُ المعصية، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيءٍ قديرٌ.

اللهم يا وليَّ المؤمنين، ويا ناصر المُستضعَفين، ويا غِياثَ المُستغِيثين، يا عظيمَ الرجاء، ويا مُجيرَ الضُّعفاء، اللهم أغِث أهلَنا في سوريا، اللهم أغِث أهلَنا في سوريا، اللهم اكشِف كربَهم، وعجِّل فرَجَهم، وألِّف بين قلوبهم، اللهم مُدَّهم بمدَدك، وأيِّدهم بجُندك، وانصُرهم بنصرك، اللهم إنا نسألُك لهم نصرًا مُؤزَّرًا، وفرَجًا ورحمةً وثباتًا، اللهم سدِّد رأيَهم، وصوِّب رميَهم، وقوِّ عزائمَهم، واجمَع كلمتَهم.
اللهم ارحَم الأطفال الرُّضَّع، والشيوخَ الرُّكَّع.

اللهم عليك بطغاة سوريا الظالمين ومن شايعَهم ومن أعانَهم، اللهم فرِّق جمعَهم، وشتِّت شملَهم، ومزِّقهم كلَّ مُمزَّقٍ، واجعل تدميرَهم في تدبيرِهم.

اللهم عليك باليهود الغاصِبين، اللهم عليك باليهود الغاصِبين المُحتلِّين، فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم وأنزِل بهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القومِ المُجرمِين، اللهم إنا ندرأُ بك في نُحورِهم، ونعوذُ بك من شُرورهم.

اللهم وفِّقنا للتوبة والإنابة، وافتح لنا أبوابَ القبول والإجابة، اللهم تقبَّل طاعاتنا، ودعاءَنا، وأصلِح أعمالَنا، وكفِّر عنا سيِّئاتِنا، وتُب علينا، واغفر لنا وارحَمنا، يا أرحم الراحمين.

﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [سورة الأعراف 23].

﴿سبحان ربِّك ربِّ العزة عما يصِفون ۞ وسلامٌ على المُرسَلين ۞ والحمدُ لله رب العالمين.[سورة الصافات 180 - 182].
__________________
يقول الله - تعالى - : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون} [سورة الأعراف :96].

قال العلامة السعدي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية الكريمة : [... {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا} بقلوبهم إيمانًاً صادقاً صدقته الأعمال، واستعملوا تقوى الله - تعالى - ظاهرًا وباطنًا بترك جميع ما حرَّم الله؛ لفتح عليهم بركات من السماء والارض، فأرسل السماء عليهم مدرارا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم في أخصب عيشٍ وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كدٍّ ولا نصب ... ] اهـ.
رد مع اقتباس
  #20  
قديم 08-31-2018, 01:20 PM
أم عبدالله نجلاء الصالح أم عبدالله نجلاء الصالح غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: عمّـــان الأردن
المشاركات: 2,647
افتراضي ماذا بعد الحج؟ - 6 - لفضيلة الشيخ أحمد بن عبد الله الحزيمي

6

ماذا بعد الحج؟

لفضيلة الشيخ أحمد بن عبد الله الحزيمي

تاريخ الإضافة: 17/9/2016م - 14/12/1437 هـ.

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ الرَّحمنِ الرَّحيم، وأشهدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ولِيُّ الصالحين، إِلهُ الأولِينَ والآخِرِين، وأشهدُ أَنَّ نبِيَّنَا محمدَاً عبدهُ ورسولُهُ وَصفِيُّهُ وَخلِيلهُ وخِيرتهُ مِنْ خلقهِ صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلهِ وصحبهِ وسلّمْ تسلِيمَاً كثيراً إِلَى يوْمِ الدِّين.

أَمَّا بَعْدُ: فاتَّقُوا اللهَ عبادَ اللهِ واستعدُّوا لِلقائهِ، فإنَّهَا -واللهِ- أيامٌ وليَالٍ ثم تأَتِي النهَايَةُ {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [سورة الأنعام: 62].

يَقدمُ عمرُو بنُ العاصِ مِنْ مكةَ إِلَى المَدينةِ ليعرِضَ إسلامهُ علَى رسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ علَيْهِ وسَلَّمَ-، فهشَّ لهُ الْمُصْطَفَى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبَشَّ، وَبَسَطَ يَمِينَهُ لِيُبَايِعَهُ عَلَى الإِسْلامِ، وَلَكِنَّ عَمْرًا قَبَضَ يَدَهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَا لَكَ عَمْرُو؟!)، قَالَ: "أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ"، فَقَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: (تَشْتَرِطُ مَاذَا؟!)، قَالَ: "أَشْتَرِطُ أَنْ يُغْفَرَ لِي"، فَقَالَ رَسُولُ الْهُدَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا عَمْرُو: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلامَ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ؟).

وهكذا -أيها الكرام- انقضى موسم من أشرف مواسم أهل الإسلام، ومرّت الأيام المعلومات ثم الأيام المعدودات، وكانت تلك الأيام محملة بالخيرات والمسرات والفضائل والبركات، ذهب الحجيج وعاشوا رحلة الحج الأكبر، وتنقلوا بين المشاعر، وتعرضوا للنفحات؛ طمعاً في رضا رب الأرض والسماوات، عادُوا بعدها فَرِحينَ بما آتَاهمُ اللهُ مِن فضلهِ، مُستبشرِينَ بما مَنَّ عَليهم مِن توفِقِهِ وحجِّ بيتهِ، فهنيئًا للحجَّاجِ حَجُّهُم وَعِبَادَتُهُم وَاجتِهَادُهُم.

وأما في الأمصار فبشائر الخير لم تنقطع، فأدركوا عشر ذي الحجة التي هي أفضل أيام الدنيا عند الله، فصاموا يوم عرفة الذي يكفر صيامه سنتين، حتى صار كأنه من أيام رمضان، لكثرة صائميه حتى من الصغار، ومر بهم يوم النحر فصلوا وضحوا، من كثرتها كادت الطرقات تسيل بدماء القربة لله، وامتلأت مصليات الأعياد، ثم توالت عليهم أيام التشريق فأكلوا وشربوا وذكروا الله، وحمدوه وشكروه على ما رزقهم،فما أجدرهم أن يفرحوا بذلك كله؛ {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].

وهكذا تنقضي مواسم الخير، بل هكذا تنتهي حياة الإنسان سريعة خاطفة ثم يجني ما أودعه فيها، فطوبى لمن قدم خيرا..

عبادَ اللهِ: ولعلنا وفي عجالة نستذكِرَ شيئا مما قد تعلَّمناهُ من مدرسةِ الحجِّ من فوائدَ، وَمَا جنيناهُ خلالَ أَيَامهَا مِنْ عَوَائِدَ.

من أبرز دروس فريضة الحج تلكم المحبةَ التي جعلها الله - تعالى - لبيته الحرام في قلوب عباده، قال تعالى: } وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا } [البقرة: 125]، قال ابن عباس - رضي الله عنهما - فيما رواه عنه ابن جرير وغيره: لا يقضون منه وطرًا، يأتونه ثم يرجعون إلى أهليهم، ثم يعودون إليه، وأنشد القرطبي في هذا المعنى قول الشاعر:

جَعَلَ الْبَيْتَ مَثَابًا لَهُمُ ♦♦♦ لَيْسَ مِنْهُ الدَّهْرَ يَقْضُونَ الْوَطَرْ.

وأنشد غيره في الكعبة:

لاَ يَرْجِعُ الطَّرْفُ عَنْهَا حِينَ يَنْظُرُهَا ♦♦♦ حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهَا الطَّرْفُ مُشْتَاقَا.

مع أنها أرض جرداء، وجبال سوداء؟ وأجواء حارة مقفرة، أرأيتم صعيد عرفات، فهل رأيتم فيه مناظر خلابة، أو أجواء عليلة، أو خضرة دائمة؟ ومع هذا فقلوب المؤمنين كلُها تحن إليها، لا لأجل بقعتها؛ بل لأنها مأوى طاعة الله، وتنزُّل رحمته.

عباد الله: لن ينسى الحجاج ولا المقيمين مشهد الحجيج في عرفات، حين كانت العيونُ دامعةً، والأكفُ مرفوعةً، والقلوبُ مخبتة، الجميع عرف هناك فقره وذله ورأينا شيئاً من دلائل عظمته سبحانه وتعالى. حين نرى ألواناً من الناس كلٌ يدعو ربه بلغته، كل يطلب حاجته، كل يناجيه بخفي الصوت، وهو سبحانه العظيم لا تختلف عليه حاجة، ولا يشغله طلب عن طلب، بل يسمع ذلك كله، فيجيب سؤالاً، ويغفر ذنباً، ويكشف كرباً، ويشفي مريضاَ، ويغني فقيراً، وهو على كل شيء قدير، وذلك شيء من دلائل عظمة الله وقدرته وكرمه ورحمته.

ومن دروس الحج أنك ترَى الحاجَّ يتحرَّى ويسأَلُ، ويتتبَّعُ ولا يحيدُ؛ حتَّى يكونَ حَجُّهُ كُلُّهُ وفقَ الهديِ النبوِيِّ الْكَرِيمِ، وهذا شيء جميل لكن الأَجملَ أَنْ يجعلَ العبدُ المسلمُ هذا الاقتفاءَ وذاك الاتّباعَ مَنهجَهُ فِي حياتهِ كُلِّهَا؛ فِي عبادتهِ ومُعاملتهِ، فِي مَظهرِهِ ومَخبرِهِ، فِي حضَرِهِ وسفرِهِ، ونومهِ ويَقظَتِهِ، وفي أَحوالهِ كلِّهَا يكونُ قَرِيبًا مِنْ سنَّةِ نبيِهِ مُتعلِّقًا بِهَا.وإِذا رُزِقَ العبدُ اقتِفاءً حسنًا فتحتْ لهُ الْهدايةُ أَبوابها، وتنزَّلتْ عليهِ الرَّحماتُ الإِلَهِيَّةُ {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [سورة آل عمران: 31].

عبد الله إنه ليس أمراً هيناً ذهابك إلى مكة أو استغلالك موسم العشر بأنواع الطاعات كم من الناس من لم يُعر هذا الموسم اهتمامه، فمضى عليه دون جهد يذكر، كم من الناس من لم يحج فرضه، أو انه منذ سنين طويلة لم يبادر الحج، مع أنه قادر ومستطيع، وما ذاك إلا أن المعاصي كبلته عن ذلك ولا شك.
لهذا كان من دروس الحج شكر الله على هذا الإنعام {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [سورة الرحمن: 60]، فلا بد أن يكون شاكرًا لربه منيبًا إليه، وليس الشكر كما يتصوّره البعض بأنه الشكر اللساني فقط، لكنه في حقيقة الأمر هو الشكر القلبي، حيث يظل قلبك متعلقًا بخالقك، مستشعرًا نعمته عليك، ومعه الشكر العملي، فتكون بعيدًا عن كل ما يغضب المنعم عليك، قريبًا من كل ما يحبه ويرضاه، قال تعالى مبينًا هذا المعنى: ﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سورة سبأ: 13].

ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة، فقد كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه الشريفتان فيقال له: يا رسول الله، لم تفعل ذلك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فيجيب صلوات ربي وسلامه عليه معلمًا للأمة حقيقة الشكر (أفلا أكون عبدًا شكورًا).

عباد الله !! لقد علَّمنا الحج قدر العلماء، وأهمية أن يصدر المرء عن رأيهم، وكان الحجاج في كل حركاتهم في نسكهم يرجعون إلى العلماء ولا يخالفونهم، خشية أن ينقص حجهم فهل يدوم الأمر، ونعرف للعلماء قدرهم، ونقف عند فتاوى المعتبرين منهم؟.

لقد كنتم أيها الحجاج تتحرون وتتورعون من أشياء يسيرة من المحظورات خشية أن تؤثر على حجكم، فهل يدوم التحري وذلك الورع؟ لنتورع عن المحرمات من الأعمال والأقوال والأموال؛ لئلا تؤثر على قلوبنا وإيماننا.

لقدِ استحضرَ الحجَّاجُ أنَّ (الحجَّ المبرورَ ليسَ لهُ جزاءٌ إِلَّا الجنَةَ)، فأَنفقوا أَموالهمْ، وضحّوا بأوقاتِهِمْ، وتحمَّلُوا مَا تَحملوا بنفُوسٍ مُطمئنَّةٍ، وقلوبٍ راضيَةٍ.

إِنَّ استشعارَ ثوَابِ العملِ يُعلي الهمةَ، ويطردُ الكسلَ، ويربِي فِي السلِمِ الحرصَ على الأَعمالِ الصالحاتِ، وَالْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهَا، وَالْتِزَامَهَا طِيلَةَ الْحَيَاةِ.

أَمَا وَاللهِ لَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْ صَلاةِ الْفَجْرِ مَنِ اسْتَشْعَرَ فِي قَلْبِهِ حَقًّا قَوْلَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَنْ يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قَبْلَ طُلُوُعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا)، وَقَوْلَهُ: (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَلا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا).

أَما واللهِ لن تترد يدٌ عنِ الصَّدقَةِ، ولنْ تشِحَّ نفسٌ عنِ البذلِ إِذَا ما استحضَرَتْ صِدقًا قولَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: (لا يَتَصَدَّقُ أَحَدٌ بِتَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ إِلَّا أَخَذَهَا اللهُ بِيَمِينِهِ، فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ قَلُوصَهُ حتَّى تكونَ مثلَ الجبلِ أَو أَعظمَ). رواهُ (البخارِيُّ وَمسلمٌ).

إِخوةَ الإيمانِ: وعَلّمتنا مدرسةُ الحجِّ أيضاً قصرَ الأَملِ، لقدْ خرجَ الحاجُّ مِنْ ديارِهِ مُصَبِّرًا نفسهُ علَى الطَّاعَاتِ، حَابِسًا هواهُ عَنِ الشَّهَواتِ طِيلةَ أَيَّامِ مِنًى وعرفاتٍ؛ لأَنَّهُ يَستيقِنُ أَنَّها ساعَاتٌ معدوداتٌ ويأتِي الرَّحيلُ عمَّا قرِيبٍ.

فما أَجملَ أَن يستحضرَ الحاجُّ قصرَ أَيَّامِ عُمرِهِ، وأَنَّ المُكثَ فِي هذهِ الدَّارِ قلِيلٌ، والبَقَاءَ فيها يسيرٌ، وهذَا مبدأٌ ربَّىَ عليهِ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- صحابتهُ الكرامَ: (كن فِي الدُّنيَا كأنَكَ غريبٌ، أَو عابرُ سبيلٍ).

نسأَلُ اللهَ - تعالَى- أنْ يقبلَ منَّا ومنَ الحجَّاجِ، وأنْ يجعلنَا وإِيَّاهمْ ووالدينا والمسلمينَ من عتقائهِ مِنَ النَّارِ،، إِنَّهُ سميعٌ مجيبٌ.

أَقولُ قولِي هذَا، وأَستغفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.


يُتبع إن شاء الله تعالى
__________________
يقول الله - تعالى - : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون} [سورة الأعراف :96].

قال العلامة السعدي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية الكريمة : [... {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا} بقلوبهم إيمانًاً صادقاً صدقته الأعمال، واستعملوا تقوى الله - تعالى - ظاهرًا وباطنًا بترك جميع ما حرَّم الله؛ لفتح عليهم بركات من السماء والارض، فأرسل السماء عليهم مدرارا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم في أخصب عيشٍ وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كدٍّ ولا نصب ... ] اهـ.
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:55 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.