أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا

             
99594 92655

العودة   {منتديات كل السلفيين} > المنابر العامة > منبر الحديث وعلومه

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 01-14-2020, 07:34 PM
ابوعبد المليك ابوعبد المليك غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Mar 2013
المشاركات: 4,441
افتراضي المعايير المنضبطة في تمييز الأحاديث والحكم عليها = الشيخ احمد الشحي

إن منزلة السنة النبوية في الإسلام معلومة، ومكانتها عند العلماء مشهودة، فهي الأصل الثاني من أصول التشريع، ولذا اهتم علماء الشريعة بها عناية كبرى، بحفظها في الصدور، وتدوينها في السطور، والرحلة في طلبها، حتى قال سعيد بن المسيب من كبار التابعين: “إني كنت لأسير الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد”، ووضعوا ضوابط علمية متينة لصيانتها، وتمييز صحيحها، وتمحيص رواتها، والتدقيق على ألفاظها، وشرح معانيها، واستنباط ما فيها من أحكام وآداب وقيم وأخلاق.

عناية العلماء الكبار المتخصصين بالسنة النبوية:

سخَّر الله تعالى لحفظ السنة النبوية أئمة حفاظا، وجهابذة نقادا، وعلماء متخصصين، أفنوا أعمارهم في طلبها وخدمتها ودراستها وتمحيصها، مثل شعبة بن الحجاج وسفيان الثوري ومالك بن أنس وعبد الله بن المبارك ويحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحيى بن معين وأبو زرعة الرازي وأبو حاتم الرازي والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي والعقيلي وابن عدي والدارقطني وغيرهم ممن جاء قبلهم وبعدهم من أساطين هذا الفن، الذين سهروا في خدمة السنة، ونقد الأحاديث، والتخصص في ذلك، كما يختص الصيرفي الحاذق بمعرفة النقود جيدها ورديئها، وخالصها ومشوبها، والجوهري الحاذق في معرفة الجوهر بانتقاد الجواهر.

العناية بدراسة رواة الأحاديث وتمحيص أحوالهم:

من ضرورات صيانة الحديث الشريف عند العلماء العناية بمعرفة أحوال رواته، وقد أدى ذلك إلى نشأة علم الجرح والتعديل والتراجم والتواريخ، لترجمة الرواة، وسبر أخبارهم، ومعرفة مواليدهم ووفياتهم، وبلدانهم وأحوالهم، وتمييز المقبول منهم والمتروك، وألَّف علماء الحديث المصنفات المطولة والمختصرة في الرواة وأقوال النُقَّاد فيهم، وتمييز الضعفاء والكذابين والمجاهيل من العدول الثقات المعروفين، فلا تكاد تجد في كتب الحديث اسم راو إلا ووجدت في كتب الرجال بيان حاله، فمنها كتب عامة في الثقات والضعفاء كالجرح والتعديل لابن أبي حاتم والكمال وتهذيبه وغيرها، ومنها كتب مفردة في بيان الرواة الثقات، وكتب في بيان الضعفاء، وكتب ﺧﺎﺻﺔ برواة ﺒﻌﺾ ﻛﺘﺐ اﻟﺤﺪﻳﺚ كالكتب الستة وغيرها من الموسوعات والمصنفات الكثيرة.

العناية الشاملة بدراسة الحديث سندا ومتنا:

لم تقتصر جهود العلماء في دراسة الحديث على تتبع رواته راويا راويا، ودراستهم، والنظر في مدى سلامتهم من الكذب والوهم والشذوذ والتدليس والاختلاط وغيره، بل اقترن ذلك بدراسة المرويات نفسها، وسبر ألفاظها ومعانيها، والتأكد من سلامتها من موانع الصحة كمناقضة العقل الصريح ونحوه مما سنذكره، وفق أدوات دقيقة للنقد العلمي، فلا بد للحديث كي يكون صحيحا من وجود شروط وانتفاء موانع، بأن يتوفر في رواته جميعا العدالة والضبط، وأن يكون متصل الإسناد، سالما من الشذوذ والعلة.

العناية بتتبع طرق الحديث وفحص العلل الخفية:

لم تقتصر جهود العلماء على الاكتفاء بالسلامة الظاهرة للحديث، بل انضاف إلى ذلك أيضا تتبع طرق الحديث، للتأكد من سلامته من العلل الخفية، والتأكد من اتفاق رواته جميعا، وضبطهم وإتقانهم، وعدم وجود مخالفةٍ من راوٍ لمن هو أوثق منه، وعدم وجود إرسال أو وقف أو دخول حديث في حديث وغير ذلك، ومن فوائد ذلك أيضا حسن فهم الحديث، برد الألفاظ بعضها إلى بعض، وتفسير الأحاديث بعضها ببعض، والجمع بينها، وقد اجتهد العلماء في ذلك غاية الاجتهاد، حتى قال بعض الحفاظ: “إن لم يكن للحديث عندي مائة طريق فأنا فيه يتيم”، وقال الإمام أبو حاتم الرازي: “لو لم نكتب الحديث من ستين وجها ما عقلناه”، وقال الإمام أحمد بن حنبل: “الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يُفسِّر بعضه بعضا”.

العناية بمعاني الأحاديث ونقد المتون:

من وجوه خدمة العلماء للسنة النبوية نقد المتون، للتأكد من عدم وجود اضطراب في ألفاظها أو شذوذ أو إعلال أو قلب أو إدراج أو غلط أو غير ذلك من العلل، وقالوا: إن العلة قد تكون في المتن كما تكون في السند، ومن صور الفحص والتمحيص في المتون:

1- سلامة المتن من مناقضة صريح القرآن الكريم.

فالحديث الصحيح لا يمكن أن يخالف صريح القرآن مخالفة لا يمكن معه الجمع، ولذلك قال الشاطبي: “على الناظر في الشريعة أن يوقن أنه لا تضاد بين آيات القرآن ولا بين الأخبار النبوية ولا بين أحدهما مع الآخر، بل الجميع جارٍ على مَهْيَعٍ واحد ومنتظمٌ إلى معنى واحد”.

ومن أمثلة الأحاديث المناقضة لصريح القرآن الكريم: حديث مقدار الدنيا: “وأنها سبعة آلاف سنة ونحن في الألف السابعة”.

قال ابن القيم: “هذا من أبين الكذب؛ لأنه لو كان صحيحا لكان كلُّ أحدٍ عالمًا أنه قد بقي للقيامة من وقتنا هذا (أي عام 749 هـ زمن تأليف ابن القيم للكتاب) مئتان وأحد وخمسون سنة، والله تعالى يقول: {يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله} وقال الله تعالى: {إن الله عنده علم الساعة} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله”.

وقال المناوي: “هذا الحديث ألفاظه مصنوعة ملفقة، وإسناده واه”.

2- سلامة المتن من مناقضة العقل الصريح.

النقل الصحيح لا يعارض العقل الصريح، ولذلك نص العلماء على طرح المرويات التي تناقض صريح العقل ولا يمكن الجمع بتأويل مقبول، كأن يشتمل الحديث على الجمع بين الضدين، وإنكار الخالق، ونحو ذلك، قال الخطيب البغدادي: “باب في وجوب اطراح المنكر والمستحيل من الأحاديث”، وقال العلامة المعلمي: “لا ريب أنَّ فيما يُنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الأخبار ما يَرُدُّه العقل الصريح، وقد جمع المحدثون ذلك في كتب الموضوعات”.

ومن أمثلة المخالف للعقل ما رُوي مرفوعا: “إن سفينة نوح طافت بالبيت سبعا وصلت عند المقام ركعتين”، فإن هذا مخالف لصريح المعقول، وآفة هذا الخبر عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، أجمع العلماء على ضعفه، وقالوا: روى عن أبيه أحاديث موضوعة.

ولذلك قال المعلمي: “لا تكاد تجد حديثا بيِّن البطلان إلا وجدت في سنده واحدا أو اثنين أو جماعة قد جرَّحهم الأئمة، والأئمة كثيرا ما يجرحون الراوي بخبر واحد جاء به، فضلا عن خبرين أو أكثر، ويقولون للخبر الذي تمتنع صحته أو تبعد: منكر أو باطل، وتجد ذلك كثيرا في تراجم الضعفاء وكتب العلل والموضوعات”.

3- سلامة المتن من مخالفة الحس والمشاهدة.

كأن يقول إنسان: إن مكة لا وجود لها في الخارج، فإن هذا الخبر مخالف للحس والمشاهدة.

ومن أمثلة ذلك ما رُوي من أنَّ: “الباذنجان لما أُكل له”، فهذا حديث باطل لا أصل له باتفاق العلماء، قال ابن القيم: “إن هذا لو قاله بعض جهلة الأطباء لسخر الناس منه، ولو أكله فقيرٌ لِيَستغني لم يُفده الغنى، أو أكله جاهل ليتعلم لم يُفده العلم”.

4- سلامة المتن من مخالفة الوقائع التاريخية المقطوع بصحتها.

قال سفيان الثوري: “لَمَّا استَعمل الرواةُ الكذب استعملنا لهم التاريخ”.

ومن أمثلة ذلك: ما رواه المُعلَّى بن عُرفان (أحد الضعفاء والمتروكين) فقال: حدثنا أبو وائل قال: خرج علينا ابن مسعود بصفين، فقال أبو نُعيم الفضل بن دُكين (أحد كبار المحدثين) منكرا على المعلى: أتراه بُعث بعد الموت؟!

وذلك لأن عبد الله بن مسعود توفي قبل انقضاء خلافة عثمان بثلاث سنين، وصفين كانت بعد ذلك في خلافة علي، قال الإمام البخاري: “هذا لا أصل له؛ لأن عبد الله بن مسعود مات قبل عثمان رضي الله عنه، وقبل صفين بسنين”.

إلى غير ذلك من وجوه نقد المتون التي اعتنى بها العلماء، حرصا منهم على سلامتها من الموانع التي تقدح فيها، كمخالفة صريح القرآن أو العقل أو الحس إلخ.

العناية بتوجيه الأحاديث التي ظاهرها التضاد:

من وجوه عناية العلماء بالسنة النبوية العناية بمختلف الحديث، وهو أن يوجد حديثان متضادان في المعنى في الظاهر فيُجمع بينهما بوجه من وجوه الجمع المعتبرة أو أن يُرجح أحدهما على الآخر بوجه من وجوه الترجيح التي ذكرها العلماء.

وقد بيَّن العلماء أن الأحاديث التي ظاهرها التضاد تنقسم إلى قسمين:

أحدهما: أن يمكن الجمع بين الحديثين، فيتعين حينئذ المصير إلى ذلك والقول بهما معا.

مثاله: حديث: «لا عدوى ولا طيرة »، مع حديث: «لا يُورِدَنَّ مُمرِضٌ على مُصِحٍّ »، وحديث: «فر من المجذوم فرارك من الأسد »، ووجه الجمع بينهما أن هذه الأمراض لا تُعدي بطبعها، ولكن الله تبارك وتعالى جعل مخالطة المريض بها للصحيح سببا لذلك.

القسم الثاني: أن يتضادا بحيث لا يمكن الجمع بينهما، وذلك على ضربين:

أحدهما: أن يظهر كون أحدهما ناسخا والآخر منسوخا، فيُعمل بالناسخ ويترك المنسوخ.

والثاني: أن لا تقوم دلالة على أنَّ الناسخ أيهما والمنسوخ أيهما، فيُصار حينئذ إلى الترجيح، ويُعمل بالأرجح منهما، كالترجيح بكثرة الرواة، أوبصفاتهم أو بغير ذلك من وجوه الترجيحات التي ذكرها العلماء.

نقد أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها للمرويات:

أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من أفقه الناس وأعلمهم، وروت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الصحابة يرجعون إليها فيما أشكل إليهم، قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: “ما أُشكل علينا حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علما”.

فنقد عائشة رضي الله عنها للمرويات نابع من مخالطتها للنبي صلى الله عليه وسلم وعلمها بالحديث الشريف، وفقهها في توجيه الأخبار والجمع بينها أو الترجيح.

ومن صور نقدها: ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عائشة أنه ذُكِر عندها ما يقطع الصلاة، فقالوا: يقطعها الكلب والحمار والمرأة، قالت: لقد جعلتمونا كلابا، «لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، وإني لبينه وبين القبلة، وأنا مضطجعة على السرير، فتكون لي الحاجة، فأكره أن أستقبله، فأنسل انسلالا»، بوَّب له الإمام البخاري بقوله: “باب من قال: لا يقطع الصلاة شيء”.

ووجه إنكار عائشة رضي الله عنها لحديث قطع الصلاة ما استدلت به من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، إذْ كان يصلي وهي مضطجعة بينه وبين القبلة فلم يقطع صلاته، فذهبت إلى الترجيح بين النصوص في مقام التعارض هنا، وهذا ترجيح بين الأخبار، وليس معارضة للمنقول بالمعقول.

وإلى قول عائشة رضي الله عنها ذهب جماهير العلماء كالإمام مالك وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم، وقالوا: لا يقطع الصلاة الشيء مما يمر بين يدي المصلي، وأجابوا عن الحديث بأنه منسوخ، أو أن المراد منه قطع الخشوع والتسبب في انشغال المصلي، لا قطع أصل الصلاة، والجواب الأول ترجيح، والثاني جمع.

ومن صور نقد أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها للمرويات أيضا: ما رواه البخاري ومسلم أن عائشة رضي الله عنها لَمَّا أُخبرت بحديث: «إن الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه»، قالت: والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه»، ولكنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه»، وقالت: حسبكم القرآن: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام: 164].

فإنكار عائشة رضي الله عنها هنا هو بسبب التعارض بين النصوص والأخبار، وذهابها إلى ترجيح بعضها على بعضها، وليس من باب معارضة النص بالأذواق والمعقولات.

وقد اختلف العلماء في توجيه حديث تعذيب الميت ببكاء أهله مع دلالة الآية الكريمة على أن الله تعالى لا يعاقب الإنسان بذنب غيره، فمنهم من حمله على الميت إذا أوصى أهله بالبكاء عليه، وقيل: اذا كانت عادتهم ذلك ولم يُعلمهم بحرمته، وقيل: المراد بالميت المحتضر وبالعذاب تشويش خاطره، وقيل غير ذلك من وجوه الجمع والترجيح التي ذكرها العلماء.

التزام العلماء في نقد المرويات بالمنهج العلمي المنضبط:

إن الناظر في صنيع العلماء الجهابذة والحفاظ المتخصصين في دراسة الأحاديث وتمييزها يجد التزامهم بالمنهج العلمي المنضبط، والتطبيق الدقيق لشروط القبول والرد، فيشترطون لرد الحديث حال معارضته لدليل آخر أن تكون المعارضة لما هو صريح على وجه لا يمكن معه الجمع والتأويل المقبول، فهاهنا مقدمات عدة، منها: إثبات وجود التعارض أصلا، والثاني: إثبات الدليل الآخر وأنه صريح الدلالة في معارضته، والثالث: عدم إمكانية رفع التعارض بوجه من وجوه الجمع المعتبرة.

وذلك يقتضي من الباحث الذي يدرس الأحاديث النظر الدقيق، وعدم التسرع في الأحكام، والاستنارة بأقوال المتخصصين في هذا المجال، والعناية بتلك المقدمات فيما يَظُن فيه التعارض، فقد يظن للوهلة الأولى أن هذا الحديث أو ذاك يعارض كذا وكذا، وقد لا يكون الدليل المعارِض حجة، فقد يكون مدلولا عقليا قاصرا تعارضه مدلولات عقلية أخرى أرجح منها، وقد يكون ذوقا وطبعا شخصيا تعارضه أذواق وأطباع أخرى أرقى منه، وقد يكون محض أوهام وظنون وتصورات خاطئة انقدحت في عقله ولا حقيقة لها، وقد يكون الدليل المعارِض حجة ولكن ليس ثَمَّ أصلا تعارض بينه وبين الحديث، بل يكون الشخص قد فهم الحديث على غير وجهه الصحيح، فيكون التعارض هنا بين الفهم المغلوط والدليل المعارِض، لا بينه وبين الحديث الصحيح، وقد يكون هناك ما ظاهره التعارض ولكن الجمع ممكن، فيُصار إلى إعمال الأدلة جميعا لا طرح بعضها.

وإنَّ الاطراد في طرح الأخبار والمرويات الصحيحة لأدنى شبهة أو توهُّمِ تعارضٍ دون فحص وتمحيص وبذل الجهد والاجتهاد في المعالجة والجمع قد توقع الإنسان في دهاليز مظلمة، وتجره إلى مضائق عسرة، وتناقضات كبيرة.

فلو قيل لهذا الإنسان: ما تقول في قول الله تعالى: {فيومئذ لا يُسأل عن ذنبه إنسٌ ولا جان} مع قوله تعالى: {فوربك لنسألنهم أجمعين . عمَّا كانوا يعملون}، الآية الأولى تنفي السؤال يوم القيامة والثانية تثبتها، وما تقول في قوله تعالى: {لا تختصموا لديَّ وقد قدَّمت إليكم بالوعيد} مع قوله تعالى: {ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون}؟ وما تقول في قوله تعالى: {فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} مع قوله سبحانه: {فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون}؟ ونحو ذلك من الآيات، فلا مناص له من الجمع بين هذه الآيات الكريمة بوجه من وجوه الجمع التي ذكرها العلماء.

فقيل في نفي السؤال وثبوته: لا يُسألون سؤال استعلام واستكشاف، لأن الله أعلم بأفعالهم منهم أنفسهم، وإنما يُسألون سؤال محاسبة وتقريع وتوبيخ، وقيل: إن في القيامة مواقف متعددة؛ ففي موقف يُسألون، وفي موقف لا يُسألون.

وقيل في نفي الخصام وثبوته: إن ذلك لتعدد المواقف يوم القيامة، وقيل: إنهم يختصمون في المظالم التي كانت بينهم في الدنيا، فإذا وقع القصاص وثبت الحكم للمظلومين على الظالمين قيل لهم: لا تختصموا، فليس ينفعكم ذلك بعد ثبوت الحكم، فالتخاصم عند الحساب.

وأما ثبوت التساؤل ونفيه فقيل: لتعدد مواقف القيامة، ففي بعضها لا يتساءلون لانشغال كلٍّ بنفسه، وفى بعضها يتساءلون، وقيل: لا يتساءلون أولا بسبب ما أصابهم من الدهشة والأهوال، ثم يتساءلون، وقيل: لا يتساءلون عن أنسابهم ومعارفهم، لاشتغال كل واحد بنفسه، ولكنهم يتساءلون عن أحوالهم وما هم فيه من البلاء، وغير ذلك من أوجه الجمع المعروفة عند العلماء.

وهكذا هو الحال في التعامل مع النصوص والأخبار الصحيحة؛ التأليف بينها، وتفسير بعضها ببعض، والجمع بينها بوجوه الجمع المعتبرة، على وجه تستقيم به المعاني، وتنتظم جميعا كالعقد الواحد.

كما بيَّن العلماء أن سلامة الحديث من المعارضات لا تقتضي بمجردها صحته، بل يُشترط لذلك ثبوته من جهة السند أيضا، والسلامة من الشذوذ والعلل جميعا كما أسلفنا.

قال العلامة المعلمي: “إنَّ انتفاء الموانع الظاهرة كمناقضة العقل الصريح ونحوه إنما يفيد إمكان الصحة، ثم يحتاج بعد ذلك إلى النظر في السند، فإن كان مُوثَّق الرجال ظاهرَ الاتصال قيل: صحيح الإسناد، ثم يبقى احتمال العلة القادحة بما فيه من الشذوذ الضار، والتفرد الذي لا يحتمل، والنظر في ذلك لا يقوم به إلا من كان له فهم ثاقب وحفظ واسع، ومعرفة تامة بالأسانيد والمتون وأحوال الرواة”.

ذلك الذي يبيِّن بجلاء ما تحلى به العلماء الأجلاء من المعايير الدقيقة والموازين المنضبطة المحكمة في دراسة الأحاديث، والاحتياط الكبير عند النظر فيها والحكم عليها، خدمة للسنة النبوية الشريفة.

هذا ما تيسر لنا في هذا المقام، نسأل الله تعالى أن يُنيلنا شفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، وأن يجعلنا تحت لوائه المعقود، ويسقينا من حوضه المورود، بفضله وكرمه إنه خير مأمول وأكرم مسؤول، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________________
أموت ويبقى ما كتبته ** فيا ليت من قرا دعاليا
عسى الإله أن يعفو عني ** ويغفر لي سوء فعاليا

قال ابن عون:
"ذكر الناس داء،وذكر الله دواء"

قال الإمام الذهبي:"إي والله،فالعجب منَّا ومن جهلنا كيف ندع الدواء ونقتحم الداءقال تعالى :
(الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب)
ولكن لا يتهيأ ذلك إلا بتوفيق الله ومن أدمن الدعاءولازم قَرْع الباب فتح له"

السير6 /369

قال العلامة السعدي:"وليحذرمن الاشتغال بالناس والتفتيش عن أحوالهم والعيب لهم
فإن ذلك إثم حاضر والمعصية من أهل العلم أعظم منها من غيرهم
ولأن غيرهم يقتدي بهم. ولأن الاشتغال بالناس يضيع المصالح النافعة
والوقت النفيس ويذهب بهجة العلم ونوره"

الفتاوى السعدية 461

https://twitter.com/mourad_22_
قناتي على اليوتيوب
https://www.youtube.com/channel/UCoNyEnUkCvtnk10j1ElI4Lg
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:29 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.