عرض مشاركة واحدة
  #14  
قديم 10-28-2010, 10:25 AM
أم زيد أم زيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 5,264
افتراضي

الدِّماءُ في الحجِّ



يقول الله -تعالى- في بيان أثر ما يتقرَّب به إليه عِبادُه فيما يذبحونه مِن ذبائح له -سبحانَه-: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ}.
قال الإمام ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره" (10/70):
"يقول -تعالى-: إنما شرع لكم نَحر هذه الهدايا والضَّحايا؛ لتذكُروه عند ذبحها؛ فإنه الخالق الرازق؛ لأنه لا ينالُه شيء من لُحومِها ولا دمائها؛ فإنه -تعالى- هو الغني عما سواه.
وقد كانوا في جاهليَّتهم -إذا ذبحوها لآلهتِهم- وضعوا عليها من لحوم قرابينِهم، ونضحوا عليها مِن دمائها، فقال -تعالى-: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا}".

أقول:

والواردُ في دماء الحج خمسةُ أنواع:

1- دم التمتُّع والقِران:

قال -تعالى-: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}.
وقد تقدَّم بيان أحكامهما.


2- دم الفِدية:

قال شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمهُ الله- في "شرح العُمدة" (2/574): "الأصلُ في هذه الفِدية قولُه -سبحانه-: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}؛ فأباح الله -سبحانه- الحَلْق للمريض، ولمَن في رأسه قَمل يُؤذيه، وأوجبَ عليه الفِدية المذكورة.
وفسَّر مقدارَها رسول الله -صلى اللهُ عليهِ وسلَّم- كما في حديث كعبِ بن عُجْرة -وهو الأصل في هذا الباب-، فقال له: "فاحلِقْ، واذبَح، أو صُم ثلاثة أيَّام، أو تصدَّق بثلاثة آصُعٍ -جمع (صاع)- بين سِتَّة مساكين".
وقد أجمع المسلمون على مثل هذا.
وتقديرُه -صلى اللهُ عليهِ وسلَّم- لِما ذُكر في كتاب الله مِن صيام، أو صدقة، أو نُسُك: مثل تقديرِه لأعداد الصلاة وللركعات والأوقات وفرائض الصَّدقات ونُصُبِها، وأعداد الطَّواف والسَّعي والرَّمي وغير ذلك؛ إذْ كان هو المُبيِّن عن الله معاني كِتابِه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-".


3- دمُ الجزاء:

قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}.
وهذا في صيد البر -فقط-.
وأمَّا صيد البحر؛ فجائز -دون أي جزاء-.
ولا يجوز لمَن عليه دم الجزاء أن يأكل من ذبيحتِه؛ لما ورد من النهي عن ذلك في قول ابن عبَّاس -رضي الله عنهُما-.


4- دم الوطء:

وهو دمٌ واجبٌ على الحاج إذا جامع أهله أثناء إحرامِه.
وقد أجمع العلماء على إيجاب الهَدْي -بِبَدَنةٍ: إبل أو بقرة- على مَن هذا حالُه.
وقد نقل ذلك ابنُ المُنذِر في "الإجماع" (رقم144).
وقال الإمامُ ابنُ قُدامة في "المغني" (3/544): "وأما مَن أفسد حَجَّه بالجماع: فالواجب فيه بدَنَة -بقول الصحابة المنتشِر الذي لم يَظهر خلافُه-، فإن لم يجدْ: فصيامُ ثلاثة أيَّام في الحج، وسبعة إذا رجعَ -كصيام المُتعة-".


5- دم الإحصار:

وهو الدم الذي يجبُ على الحاج لانحِباسِه عن إتمامِ المناسِك -بعضًا، أو كُلًّا-، وعدم تمكُّنه من أدائِها؛ لمَرضٍ أو عدو -أو نحو ذلك-.
وهذا إذا لم يكنْ قد اشترط عند إحرامِه؛ بقوله: "اللهم مَحِلِّي حيث حبسْتَني".
قال الله -تعالى-: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}.
ومن العلماء من خصَّ (الإحصار) بسبب العدو!
والصواب العموم؛ فقد قال شيخ الإسلام ابنُ تيميَّة في "الاختيارات" (119): "والمُحْصَر -بمرضٍ أو ذهاب نفقةٍ- كالمُحصَر بعدُوٍّ".
وفي "صحيح البخاري" (1809) عن ابن عباس -رضيَ اللهُ عنهما- قال: أحصِرَ رسول الله -صلى اللهُ عليه وسلَّم-، فحلَق رأسَه، وجامع نساءَه، ونحر هدْيَه؛ حتى اعتمر عامًا قابلًا.
وقد بيَّن الشيخُ ابنُ عثيمين -رحمةُ اللهِ عليهِ- في "فتاويه" (23/437) أن على (المُحصَر) أن "يتحلَّل، ويذبح هدْيَه -إذا تيسَّر-، ويَحلق، وينتهي نُسكُه.
ثم عليه إعادة الحج -من جديد- في العام القادم إذا كان لم يُؤدِّ الفريضة؛ فإن كان قد أدَّى الفريضة: فالصَّحيح أنه لا يجبُ عليه الإعادة".
وفي "صحيح البخاري" (1701)، و"صحيح مسلم" (1321) عن عائشة، قالت: "أَهدَى النبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلم- مرَّةً غنمًا".
وموضِع ذبحِ هدْي الإحصار: هو المكان الذي فيه صاحبُه -دون تكلُّف-.

وأما:

الدَّم لتَركِ نُسُك
-ما لم يكن رُكنًا-، أو لارتِكاب محظور -فيما لا نصَّ فيه-:


فقد روى الإمام مالكٍ في "الموطَّأ" (1035) بسند صحيح: عن ابن عباس -رضيَ اللهُ عنها- قولَه: "مَن نسيَ مِن نسُكه شيئًا -أو ترَكه-؛ فليُهرِقْ دمًا".
وقال الحافظ ابنُ الملقِّن في "البدر المُنير" (6/92):
"(أو) ليست للشكِّ؛ بل للتقسيم، و المراد: يُريق دمًا -سواء ترَكه عمدًا، أم سهوًا-".
قلتُ: ينفي قولَه: "سهوًا" -ومثله الجاهل- ما رواه البخاري (1536) ومسلم (1180): عن يَعلَى بن مُنيَة، أنه قال لعمر -رضيَ الله عنه-: أرِني النبيَّ -صلَّى الله عليه وسلم- حين يُوحَى إليه، قال: فبينما النبيُّ -صلى الله عليهِ وسلَّم- بالجعْرانة -ومعه نفر من أصحابه- جاءه رجل، فقال: يا رسول الله؛ كيف ترى في رجلٍ أحرمَ بعُمرة وهو متضمِّخ بطيب؟
فسكت النبيُّ -صلَّى الله عليه وسلم- ساعةً، فجاءهُ الوحي، فأشار عمر -رضيَ الله عنه- إلى يَعلى، فجاء يَعلَى -وعلى رسول الله-صلى اللهُ عليه وسلم- ثوبٌ قد أُظِلَّ به- فأدخل رأسَه، فإذا رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- مُحمَرُّ الوجه -وهو يَغِطُّ-، ثم سُرِّي عنه، فقال: "أين الذي سأل عن العُمرة؟"، فأتى الرجل، فقال: "اغسِل الطيبَ الذي بكَ ثلاث مرات، وانزِع عنك الجُبَّة، واصنعْ في عمرتك كما تصنعُ في حجَّتِك".
قلتُ لعطاء: أراد الإنقاء حين أمره أن يغسل ثلاث مرات؟ قال: نعم.
وقد قال الحافظ ابن حجرٍ في "فتح الباري" (3/395):
"واستُدل به على أن مَن أصابه طِيبٌ في إحرامِه -ناسيًا، أو جاهِلًا-، ثم علِم، فبادر إلى إزالته؛ فلا كفارة عليه".
قلتُ: ومثله -لزومًا- لُبس ثوبِه، و عدم لُبسه لباس الإحرام -من إزارٍ ورداء-كما هو وارد في لفظ الحديث نفسه-.



(الخلاصة):


فحُكم الوجوب -إذًا- لاحقٌ المتعمِّدَ -حسبُ-.
أما الناسي والجاهل: فليس عليه في ذلك إثم، ولا كفَّارة -إن شاء الله-تعالى-.
وبِذا؛ لا نضرب النُّصوص بعضَها ببعض؛ وإنما نجمعُها، ونوالف بينها.
والله الموفِّق -لا ربَّ سواه-.


qqqqq

الخاتِمـة
-نسأل الله حُسنَها-

هذا آخر ما تيسَّر لي ذِكرُه من أحكام (حج التمتُّع) في هذا الكتاب؛ سائلًا الله -سبحانه وتعالى- أن يَتقبَّل منا -جميعًا- العمل الصالح، ويرزقنا العلم النافع.
وصلى اللهُ وسلَّم على نبينا محمد الهادي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين.



qqqqq



وكتبَه......................
علي بن حسن بن علي بن عبد الحميد......
الحلبي الأثري...................
الأردن الزرقاء................
ضحى يوم الجمعة، غُرة ذي القعدة سنة1425هـ



______________
في الكتاب -قبل الخاتمة- (ملحق صور) لمناسك الحج للتسهيل، فليراجع.
رد مع اقتباس