عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 12-26-2013, 08:14 AM
أبو زيد العتيبي أبو زيد العتيبي غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Aug 2009
المشاركات: 1,602
افتراضي


لعلك في هذه المقالة تجد بغيتك اقرأها بتأن وبوركت .


اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو زيد العتيبي مشاهدة المشاركة

سلسلة : وقال ابن القيم – رحمه الله – (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

قال ابن القيم - رحمه الله - : " طائر الطبع يرى الحبة وعين العقل ترى الشرك غير أن عين الهوى عمياء " ( الفوائد : 49 ) .

الشرح :

إن الله – تعالى – قد جبل العباد على مقتضى الشهوة ، فنفوسهم تجري في ميدانها ، وأنزل إليهم الشرع حتى يهذب شهواتهم ، وجعل العقل حاكما فيما يأتونه من الشهوات التي تقيم حياتهم ، وفيما يتركونه منها مما يوجب ضررهم في الدنيا والآخرة .

فالأصل وفق هذه الحقيقة أن الطباع متعلقة بالشهوات وهذه جبلة خلقوا عليها لا يمكن تغييرها إلا أن يكونوا خلقاً آخر، ولهذا قال ابن القيم – رحمه الله - : " طائر الطبع يرى الحبة " .

فشبه الطبع بالطائر، وشبه الشهوات بالحبة . فكما أن الطائر مجبول على أكل الحب ونفسه متعلقة به ، فكذلك طبع ابن آدم متعلق بالشهوات ونفسه تميل إليها .

وقد أنزل الله – تبارك وتعالى – شرعه الحكيم على أنبيائه – عليهم الصلاة والسلام – ليهذبوا تلك الشهوات ، فتكون عوناً لهم في (بقائهم)، (ودوامهم)، (وكمالهم) .

إلا أن غلبة الطباع تتملك نفوس كثير منهم ، فجعل الله – تعالى – فيهم عقولاً لا تخضع لحكم الطباع ، وتنظر إلى المآلات والنهايات ، ولا تستميلها الملذات والمغريات .

فلهذا لا تحجبها أستار الشهوات عن مشاهدة الواقع الذي عليه الشيء في نفس الأمر ، ولأجل ذلك قال : " وعين العقل ترى الشرك " .

فجعل العقل مدركاً للواقع الذي فيه تلف الطائر ، وهذه إشارة إلى أن كل من يقدم على معصية يتنازع فيه عسكران : عساكر النفس والطبع ، وعساكر العقل والشرع .

فإذا كان في القلب تعظيم للشرع الذي هذب الشهوات ورسم حدودها وبين النافع منها من غيره ، فالنصر حليف العقل ، وهؤلاء هم أولوا الألباب .

وأما إن كان المتمكن في القلب (الهوى) ، وهو حب النفس ، وكانت نفسه قد هويت هذه الشهوة ، فعندها يكون هلاك العبد وتلفه ، لأن الهوى كالغشاوة التي تجلل عين العقل حتى تظلم طريقه بحجبه عن شمس الرسالة ، فيصبح نظره تابعاً لنظر عين الهوى .

وعين الهوى عمياء ، فلا يبقى للأعمى قائد إلا طبعه المعلق بالشهوات ، فلا تسل بعد ذلك عن غيه وفساده وفجوره وغفلته وبعده عن الله – تعالى - .

ولهذا قال : " غير أن عين الهوى عمياء " .

قطاة غرها شرك فباتت ... تجاذبه وقد علق الجناح
فلا في الليل نالت ما تمنت ... ولا في الصبح كان لها سراح


ومن هذه الحقيقة نكشف سر انزلاق كثير من بني آدم في أوحال الشهوات ، وهم يعرفون أحكامها الشرعية ، بل وقد يخطبون بها ، ويدرسونها ، ويعظون الناس بها ، ويأمرونهم وينهونهم – ترغيباً وترهيباً - .

فنشأ بسبب ذلك ظاهرة عمت شرائح من بني آدم ، نزل في حقهم قرآن يحذرهم من خطورة هذا الداء وهو العمى القلبي وانطماس نور العقل الذي جعل حفظهم للوحي في قلوبهم كعدمه ، كما قال – تعالى - :{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }[البقرة : 44] .

فهم يأمرون الناس وذلك دليل علمهم ، ويتلون الكتاب وهذا دليل بصيرتهم ، لكن حالهم مدعاة للتعجب ، لعملهم بخلاف العلم ، فقال :{ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }؛ فدل ذلك على أن عقولهم مسلوبة القرار ، فليست أعمالهم خارجة من معين العقل .

لأن العاقل إذا علم أن تلفه في طريق فإنه لا يسلكه إلا أن يُغلب على عقله بسلطان الهوى ، الذي يضع غشاوة سكره على بصيرة القلب فينطمس نوره .

ويشبه قول الحارث بن خالد بن العاص:
هويتك إذ عيني عليها غشاوة *** فلما انجلت قطعت نفسي ألومها

والمقصود : أن العاقل الذي ينهمك في المعاصي والموبقات ويجري في ميدان المخالفة والمعصية مع علمه بذلك – جهالة منه – هو الذي تملك الهوى زمام قيادته .

وخروج العاقل من هذه الورطة المهلكة ، والنجاة من هذا الداء العضال يكون بقلع الهوى من القلب ، وذلك بالصبر ؛ لأن داء هذا المريض ليس بسبب الجهل الذي هو عدم العلم . بل بسبب الجهالة وهي عدم مقتضى العلم ، فهو يخالف علمه لقوة الصارف عنه ، والمعارض له وهو الهوى ، فيحتاج هذا المريض إلى دواء الصبر على العلم حتى لا يعمل بخلافه .

ومما يعينه على لزوم العلم والقيام بمقتضاه ، ويقوي صبره اسلام قلبه لربه وإعادة الصلة به – تعالى - ؛ لأن محبة الله نار تحرق كل من سواه ، ولما كان سبب الداء تعلق قلبه بغير ربه ، كان دواءه بضد ذلك حتى يكون الله – تعالى – معبوده الذي يحبه ويعظمه .

ومحبة الله تسقى بماء ذكره وصلته ، وذلك بالقيام بالصلاة – خشوعاً - ، فبهذين الدوائين يوفق العبد للنجاة من دائه، ويسلم من علته ، كما قال – تعالى - :{ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ } [البقرة : 45] .



رد مع اقتباس