عرض مشاركة واحدة
  #7  
قديم 06-04-2012, 11:01 AM
حامد بن حسين بدر حامد بن حسين بدر غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 1,115
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أم زيد مشاهدة المشاركة
بسم الله الرحمن الرحيم

شـرح

«منظومة القواعد الفِقهيَّة»
-للإمام السَّعدي-
-رحمهُ الله-


[الـدَّرس السَّـابع]

(الجزء الأوَّل)


لفضيلة الشَّيخ

مشهور بن حسن آل سلمان
-حفظه الله-



15. قَــاعِـــدَةُ الشَّريعـــةِ التَّيْسِـيـرُ ... فـِي كُـلِّ أَمْــرٍ نَـابَــهُ تَـعْـسِـيــرُ
16. وَلَـيْـسَ وَاجِــبٌ بِـلا اقْــتِــدَارِ ... وَلاَ مُـحَـــرَّمٌ مَــعَ اضْــطِـــرارِ
17. وَكُـلُّ مَحْـظُــورٍ مَـعَ الضَّــرُورَهْ ... بِقَــدْرِ مَــا تَحْتَــاجُــهُ الضَّــرُورَهْ
18. وَتَرْجِــعُ الْأَحْـكـامُ لِـلْـيَـقِـيـنِ ... فَــلَا يُــزِيــلُ الشَّــكُّ لِلْيَـقِـيــنِ


إن الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفسِنا ومِن سيئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يضللْ فلا هاديَ له. وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شَريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه.

أما بعد:
اللهم لا تعذِّب لسانًا يُخبر عنك، ولا عينًا تنظر في عُلوم تدلُّ عليك، ولا قدمًا يمشي إلى خدمتك، ولا يدًا تكتب حديث رسولك -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-.
القواعد الفقهية الكُلية الكثيرة، ومن بينها أن المشقة تجلبُ التيسير، وذكرنا أنواع المشقة، وذكرنا أن العلماءَ يقولون: ضروريَّات وحاجيَّات وترفيهيَّات أو تحسينيَّات، وأن الحاجيات تلحق بالضروريات.
ومن محاسن شرعنا أن الله جل في علاه ما أنزل الشرعَ إلا لمصلحتِنا، فرفع عنا المشقَّات، ورفع عنا المؤاخَذات، ورفع عنا ما لم نُطِقه.
ولذا: ثبت في «صحيح مسلم» أن الإنسان لما يقرأ في أواخر «البقرة»: {ولا تُحَمِّلنا ما لا طاقةَ لنا به} فيقول الله تعالى: «قد فعلتُ»؛ فالله لا يحمِّلنا ما لا طاقة لنا به.
ولذا: متى اشتدت الضروريات أو الحاجيات؛ فحينئذ يجوز ارتكاب المحظورات، وفي حال الارتكاب مع وجود الضرورات أو الحاجيات؛ فلا يُسمى هذا الارتكاب حرامًا، وكل هذا فصَّلناه فيما مضى.
وآخر ما ذكرنا في الدرس الماضي: البيت السابع عشر، بعد أن ذكرنا:
16. وَلَـيْـسَ وَاجِــبٌ بِـلا اقْــتِــدَارِ ... وَلاَ مُـحَـــرَّمٌ مَــعَ اضْــطِـــرارِ
قلنا هذا البيت يتضمن قاعدتين: القاعدة الأولى؟ [..مداخلة..]
وَلَـيْـسَ وَاجِــبٌ بِـلا اقْــتِــدَارِ
إيش هذا البيت؟
الواجب الشرعي قدر الاستطاعة، ولا واجب مع عجز، متى وُجد العجز؛ فلا واجب، لا تكليف مع عجز، هذا ذكرناه في الشطر الأول من هذا البيت.
والشطر الثاني:
... وَلاَ مُـحَـــرَّمٌ مَــعَ اضْــطِـــرارِ
أن الضروريات تبيح المحظورات، وقلنا هذه قاعدة كُلية، وأن الحاجيات تلحق بالضروريات، وفصلنا معنى الضروريات ومعنى الحاجيات.
أي؛ نعم.
يأتي بعد ذلك أن الحاجيَّات تُبيح المحظورات، هذه القاعدة ليست على إطلاقها؛ وإنما تُقيَّد بقاعدة أخرى، ذكرها الناظم في البيت السابع عشر؛ فقال:
17. وَكُـلُّ مَحْـظُــورٍ مَـعَ الضَّــرُورَهْ ... بِقَــدْرِ مَــا تَحْتَــاجُــهُ الضَّــرُورَهْ
هذا البيت يتضمن قاعدة مهمَّة، مقيِّدة لقاعدة (الضروريَّات تُبيح المحظورات)، وهذه القاعدة تقول: (الضرورة تقدَّر بقدرها).
فليس للإنسان إن هجم على الحرام للضرورة، فليس له أن يسترسل، وليس له أن يأخذ منها دون ضوابط؛ وإنما الضابط أن الضروريات تُبيح المحظورات بمقدار الضرورة، فمتى سُدت هذه الضرورة؛ فلا يجوز أن نتعدَّاها، ولا يجوز أن نزيد عليها.
فمثلًا: الميتة.
الميتة لا يجوز للإنسان إذا اضطُر أن يأكل من الميتة وخاف الهلاك أن يأكل وأن يَحمل معه الميتة، ويضعها في الثلاجة، أو يأكلها في الطريق، هذا ممنوع، هو يأكل بمقدار ما يسدُّ الرمق، أو بِمقدار -على أرجح الأقوال-وهو اختيار إمام الحرمَين-كما ذكرنا- يأكل بمقدار ما يسعفه أن يصل إلى المكان الناجي الذي ينجِّيه، وإن زاد وأخطأ في التقدير، فإن الله لما أحلَّ أكلَ الميتة فوصف ذلك مِن غير بغيٍ ولا عدوان ثم قال: {إنَّ اللهَ غفورٌ رحيم}؛ لأن الإنسان قد لا يضبط ما يحتاج.
فالضرورة لا بد أن تكون بمقداره، حتى إن العلماء رحمهم الله تعالى لما ذكروا أكل الميتة؛ ذكروا ضوابط كثيرة، فذكروا الضابط الأول مثلًا قالوا: لا يجوز للمضطر أن يتناول طعام مضطر غيره، لو وُجد اثنان، ووُجد طعام لواحد؛ لا يجوز للواحد منهم أن يسرق طعام الثاني وإلا تعدى عليه؛ ولذا: أكل الميتة مقدَّم على السرقة، وحُل الجواب السابق الذي طُرح في المرة السابقة.
ولا يجوزُ له أن يَقتل الآدمي حتى يأكل لحمه، لو كانوا مجموعة نقول: نذبح فلانًا ونأكله! حياتك ليست مقدَّمة على غيرك!
وقد فصَّل في هذه المسألة تفصيلًا بديعًا الإمام الغزالي في كتابه «شفاء العليل»، واستهجن واستنكر استنكارًا كثيرًا من زعم -وهو قول شاذ عند الفقهاء- أنهم إذا كانوا مجموعة من الآدميِّين وجاز لهم أن يهجموا على الحرام؛ أن يذبحوا واحدا منهم وأن يأكلوه! هذا الكلام أبدًا غير مقبول، أصلا ما أُحلت أكل الميتة إلا من أجل الحفاظ على الآدمي، ولا نُحسن كيف نحافظ على هذا الآدمي، ولا يجوز أن نقتحم المهالك لقتل آدمي؛ بل هذه الميتة من أجل إحياء الآدمي.
وكذلك يذكرون أنه لا يُشترط تيقُّن الهلاك حتى يأكل المضطر من الميتة؛ وإنما يكفيه غلبةُ الظن، لا يَلزم أن يقع الهلاك المتحقِّق، فغلبةُ الظن في جواز أكل الميتة وتناوُل الميتة؛ يكفي إن شاء الله تعالى.
وكذلك ذكرنا إن استبيحت المحرَّم من الميتة لا يجوز تخزينها ولا يجوز حملُها ولا يجوز التزود منها، يعني أن تأكل حتى تمتلئ؛ لا، ما يجوز هذا.
والعلماء يذكرون أيضا -من باب الاستطراد- أن هذا يجوز في الحضر والسفر وليس خاصا بالسفر، ويمثِّلون على هذا بمن غص بلُقمة فلم يجد ما يسلِّك هذه اللقمةَ إلا الخمر؛ فإنه يجوز له أن يتناول من الخمر بمقدار ما يُسلِّك هذه اللقمةَ، فهذا أمرٌ ليس خاصًّا بالسفر؛ وإنما هو الهجوم على الضرورة، أيضا هذا أمر عام في الحضر والسفر.
هنا تأتي -في الحقيقة- بعض الأشياء المهمة التي تحتاج إلى فطنة، وتحتاج إلى توفيق من الله سبحانه وتعالى، وأنا أرى أن الفقهاء في هذا الزمان، المتساهل منهم والمتشدِّد من لم يضبط القواعد العِلميَّة، أو قُل -بتعبير أدق-: التطبيقات على القواعد العلمية عند السابقين في موضوع ضبط الحاجية أو الأمر الترفيهي، فتجد في بعض الفتاوى تشدُّدًا، وتجد في بعضِها تساهلا، فما لم يُضبط هذا الباب بضوابط جيدة، وأن يكون الإنسان يُحسن كثرة النظر، وإدمان النظر في تفريعات الفقهاء وتطبيقاتهم على القواعد؛ فتخرج عندنا مسائل شاذة وشاذة على وجه كبير؛ لذا فيه -الحقيقة- جملة مسائل تحتاج لتدقيق في النظر في كثير من الأبواب الفقهية.
فمثلا يَذكرون من ضمن الضوابط، يقولون: (ما أُبيح سدًّا للذريعة جاز للضرورة).
ننظر مثلا في موضوع التصوير: هل التصوير محرَّم لذاته؟ أم أنه محرَّم سدًّا للذريعة؟
التصوير إن كان محرَّمًا سدًّا للذريعة؛ فينبني على ذلك آثار، وإن كان التصوير محرمًا لذاتِه؛ ينبني على ذلك آثار.
ولستُ بصدد الكلام في التصوير شديدًا، ولكن بلا شك ثبت في «صحيح مسلم» أن النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- نهى عن التصاوير والتماثيل، وثبت في «صحيح البخاري» أن النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- قال: «أشد النَّاس عذابًا المصوِّرون»، وجاء رجل لعبد الله بن عباس -والقصة في «صحيح البخاري»-، وكان يتأكل من التصوير، من الرسم والنحت، كان يتأكل منه، فسأل ابنَ عباس عن مهنته؛ فقال ابنُ عباس رضيَ اللهُ تعالى عنه: إني سمعتُ رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- يقول: «مَن صوَّر صورةً فيؤمَر يوم القيامةِ أن ينفخَ فيها روحًا وليس بِنافخ»، قال: فشهق الرجل شهقةً واصفرَّ لونُه، ثم قال له عبد الله بن عباس رضيَ اللهُ تعالى عنهما: يا ابن أخي! عليكَ برُسومِ ما ليس فيه روح كالأشجار. ما ليس فيه روح كالأشجار؛ فلا حرج.
فالتصاوير رخَّص فيها النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- بالرقم في الثوب، الشيء الذي يبقى في الثوب، وأن لا يكون صورة لها ظل، ولا تكون صورة شاخصة؛ وإنما تكون صورة برقم في الثوب، موجودة في الثوب.
وفي «موطأ مالك» -وأصل القصة في «صحيح مسلم»-: أن أبا طلحة الأنصاري رأى رجلًا جالسًا على بساط فيه تصاوير، وكان في هذه التصاوير رقم في الثوب، فأخذها من تحته، ونزع هذه الصورة، فقال له سهلُ بن حُنيف رضيَ اللهُ تعالى عنه: ألم ينهَ النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- عن التصاوير وقال: «إلا رقمًا في الثوب»؟ فقال أبو طلحة: بلى، ولكن هذا أطيبُ لنفسي.
فبما أن النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- رخَّص نوعًا من أنواع التماثيل وهي ألعاب الأطفال، وزُفت عائشة -كما في «سنن أبي داود»- وكان بأيديها ألعاب، ورخَّص النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- الرقم في الثوب؛ فدلَّ هذا الترخيص على أن المصوَّرات ليست محرَّمة لذاتِها؛ وإنما هي محرَّمة سدًّا للذريعة؛ خوفًا أن يتخذ النَّاس الأصنام، وهكذا بدأت -كما في «البخاري» عن ابن عباس- عبادة الأصنام، اتخذ النَّاس تصاوير لأناس صالحين، ثم أرادوا أن يُخلِّدوا ذكراهم -كما يقولون في عبارات اليوم-العبارات الدارجة- وبقيت هذه التماثيل، حتى أصبح النَّاس يقولون: {إنَّما نَعبدُهم ليقرِّبونا إلى الله زُلفى}، فنحن عُصاة ولا نستطيع أن نعبد الله مباشرة فلا بد أن نتخذ وسائط بيننا وبين الله!
هكذا بدأت الأصنام تُعبد.
وقد يقول قائل: نحن في عصر حضارة، وفي عصر عِلم، ولا يوجد أصنام!
النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- أخبرنا: أنه في آخر الزمان «لا تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دَوس على ذي الخَلصة» وذو الخلَصة:صنم، ونساء دَوس إليتهن تضطرب بالعبادة والتعظيم والانحناء لهذه الأصنام، وأن النَّاس في آخر الزمان سيعودون ويعبُدون الأصنام، والحديث في «الصحيح».
ولذا: التصاوير قال غيرُ واحد من أهل العلم: بما أن النَّبي رخَّص في نوعٍ منها؛ فدل ذلك على أن الأصل فيها ليست الحُرمة؛ إنما حُرمت سدٍّا للذريعة.
ولذا قالوا: ما حُرم سدٍّا للذريعة أُبيح للضرورة.
إيش الضرورة؟ لو أردنا التطبيقات العملية اليوم:
يعني الذكرى ضرورة؟ يعني أتخذ صورة قريبي أو حبيبي أو صديقي، وأجعله في ألبوم صور عندي، هذه ضرورة؟!! ليست بضرورة.
من أحب النَّاس إلينا؟ رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، صحيح؟ وأصحاب النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- بعده، صحيح؟ تجدون حبًّا في قلوبكم أشد من حب النَّبي وصحبه والأنبياء؟ لا والله لا نجد، وليست لهم صُور، ليس لهم صُوَر.
فالألبومات، وتعليق الصور على الجدران والحيطان، هذه ليست ضرورة، ولا حاجية.
طيب؛ أن تتخذ الدولة الصوَر، وتضبط رعاياها، وتضبط الدخول والخروج، ويعرف المجرِمون الذين يعتدون على أرواح الناس، ويُعرف -من خلال هذه الصُّوَر- المجرِمون يعتدون على أعراض وأموال النَّاس ونفوس الناس، هذه ضرورية ولا حاجية؟ حاجيَّة في أصلها، مع كثرتها تُصبح ضرورة، في أصلها كإجراء احتياط حاجية، لكن مع وجودها وكثرتها؛ قد تُصبح ضرورة، ويترتب على عدم وجودها: فقدان أمن، واعتداء على أرواح، أو على أبدان، أو على أعراض، أو اعتداء على أموال، والشريعة جاءت تحافظ على الأبدان، تحافظ على الأعراض، وتحافظ على العقول، وتحافظ على النَّسل، وتحافظ على المال، هذه مقاصد الشريعة الكُلية.
فموضوع الصورة للحاجة والضرورة لا حرج فيها.
تبقى في بعض المسائل: مثل الصورة للتعليم، الصُّوَر التي تُنصب للتعليم، ليتعلم الطلبة، ويتعلم الصغار بعض الأشياء، فهذه الصُّور -ولا سيما مع الآلات الحديثة التي لا تُحفظ، ولا تبقى ثابتة-؛ فأمرها مع الضرورة يُتوسَّع فيها، لا تبقى ثابتة، الصوَر التي توجد في أجهزة الحاسوب، وفي شاشات العرض الموجودة اليوم؛ لا حرج في ذلك.
بل سمعتُ شيخَنا رحمهُ اللهُ تعالى يقول: لو وُجد إعلام صحيح هادف، يعلِّم النَّاس دينَهم؛ لعلِّي أفتي في يوم من الأيام بوجوب حضور التلفاز وما شابه، إذا ترتَّب على هذا تدريب النَّاس على فهمِ الدِّين .. وإلى آخره.
فالإنسان يفهم في الصورة ما لا يفهم في غيرها.
فلما كان تحريم التصوير سدًّا للذريعة؛ جاز للحاجة والضرورة، ولكن الضرورة تُقدَّر بقدرها، وأرجو الكاميرا التي أمامي تكون من باب القدر، أرجو الله أن يكون الأمر كذلك.
وإلا: الصُّورة من الفِتن التي عمَّت وانتشرت، وفي فهمي: أن النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- في «صحيح البخاري» لَما قال لبعض الأصحاب قال له: «اعدُد ستًّا بين يدي الساعة» وقال: «وفتنةٌ لا تَدَعُ بيتًا إلا دخلته» فلعل هذه الفتنة فتنة التصوير.
ما يلحق بهذا: ما حُرِّم سدًّا للذريعة أيضا في بعض صُوَر الغَرَر.
ففي «صحيح مسلم»: عن أبي هريرة: أن النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- نهى عن الغَرَر، والغرر ما جُهلت عاقبتُه، سلعة تشتريها ولا تَعرف مقدارها، لكن إذا كان الخلاف يسيرًا، وكانت العلاقة بين الطرفَين قائمة على مُسامحة لا مُشاحَّة؛ فمثل هذه الأشياء أيضا تدخل تحت الضرورة، أو يُتعامل معها معاملة الحاجيَّات.
والتطبيقات كثيرة في هذا الباب.
مثل مثلًا: أساس البيت ما يُرى، لكن يجوز أن أشتري البيت وأساسه غير ظاهر لي، صحيح؟ لأن الأصل في الأساسات أن تقوم على وفق قواعد هندسية صحيحة.
بيع الموصوف في الذمة الذي ألحقه الفقهاء بالسَّلَم، بيع المعدوم مرفوض شرعًا؛ غرَر؛ أن يبيع رجل آخرَ سمكًا في ماء، أو طيرًا في هواء قبل أن يحوزه وقبل أن يكون في ملكه؛ هذا مرفوض شرعًا، لكن أن أبيعك خزان ماء، أو أبيعك خزانة ملابس، غير موجودة صحيح؟ موجودة ولا غير موجودة؟ لما يتفق الحداد أو النجار على بيع خزانة، أو بيع خزان ماء، أو ما يلحق بهذا، الذي يسمونه التفصيل اليوم، هذا يلحق بإيش؟ يلحق ببيع السَّلَم، الشيء المفقود الموصوف في الذمة، فإذا وُصف وصفًا يقطع النِّزاع بين البائع والمشتري؛ فإن هذا الوصفَ الذي يقطع النزاعَ حينئذ يجعل السلعةَ كأنها موجودة.
ويلحق هذا بما يُسمى عند الفقهاء -كما قال مالك في «الموطأ»- ببيع الأنموذج، بيع البرادي والقماش ...، عنده نموذج، يعطيك نموذج من قماش، تنظر في الأنموذج وتشتري على الأنموذج الذي يسمونه اليوم الكتالوج -بتعبيرنا الدارج-، فبيع الكتالوج هذا يفصل النزاع.
ويلحق بهذا ما يقوم على المسامَحة لا المشاحَّة وإن لم تتحقق به الضرورة؛ لأن النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- لما نهى عما كان مجهول العاقبة، هذا معقول المعنى، ويلحق بهذا -في التطبيقات العصرية-اليوم-: البوفيه المفتوح.
البوفيه المفتوح: السلعة ستأخذها غير معروفة، السلعة التي راح تأكلها مش معروفة، قد يأكل اثنان، وأحدهما يأكل ثلاثة أضعاف الآخر، والمبلغ واحد، هو في الأصل غَرر، لكن طبيعة العلاقة بين الآكل وصاحب المطعم، العلاقة إيش طبيعتها قائمة على المسامحة ولا على المشاحة؟ المسامحة، من مروءات النَّاس أن الطعام قائم على المسامحة لا المشاحة، وبالتالي البوفيه المفتوح وإن فيه غَرر؛ لكن الغرر معفو عنه.
وكذلك كل معاملة يمكن أن تُضبط بأي ضابط، ولو كان الضابط عُرفيًّا.
مثل: واحد راكب باصا وأخذ التذكرة، نزل في ربع الطريق، وآخر نزل في نصف الطريق، وآخر نزل في آخر الطريق، والدفع واحد، لكن هذا أصبحت أعراف.
مثل: استهلاك الماء، واستهلاك الكهرباء، أنت ما تدري كم ستستهلك ولا لا؟ تعرف كم ستستهلك ماء أو كهرباء؟ ما تدري، لكن هذا ضُبط بإيش؟ ضُبط بالعدَّادات والأرقام، وهناك تسعيرات للعدَّادات؛ مثل ما اتفق علي رضيَ اللهُ تعالى عنه مع اليهودي لما كان فقيرًا أن يَنزع له من بئرٍ ذَنوبًا من ماء واتفق معه على كل دلوٍ تمرة، كلما ما نزع له دلوًا يأخذ تمرة، كلما ما نزع له دلوًا يأخذ تمرة، فمتى انتهت عدد الدِّلاء أخذ التمر، وهكذا في موضوع عدادات الماء، وعدادات الكهرباء؛ فهذه كلها تُنزَّل منزلة الحاجيات، أو توصَف بشيء معلوم، وبشيءٍ يقطع النِّزاع، ويكون هذا الوصف في الذمة يقوم مقام الأمر الحاضر، ليس الأمر الغائب أو الأمر المجهول.
التطبيقات على مسألة الضرورة تقدَّر بقدرها كثيرة وكثيرة جدا.
المرأة لما يموت زوجُها؛ الواجب عليها إيش؟ أن تعتدَّ، ومِن عدَّتها أن تبقى في بيتها ولا تخرج، وألا تتشوَّف للأزواج، يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}، فالواجب على المرأة أربعة أشهر وعشرا من وفاة زوجها تنتظر تبقى في بيتها، لكن هنالك ضروريات في الحياة، وإن لم تكن ضرورات هناك حاجيات.
امرأة زوجها فقير، مات، هي تعمل موظَّفة، تخرج للوظيفة لا حرج.
لكن الخروج بِمقدار الضرورة، يعني مجرد ما تنتهي دوامها.. وأنا أتكلم عن العمل الشرعي، لأن العمل غير الشرعي أصلا غير مشروع في حياة الزوج وبعد وفاة الزوج.
امرأة مدرِّسة مات زوجها، والله أمرها أن تعتد أربعة أشهر وعشرا -بالهجري لا الميلادي- من وفاة زوجها، تقول: أنا ما أستطيع آخذ إجازة أربعة أشهر وعشرا، إيش أعمل؟ وما أستطيع أستغني عن الوظيف الأولاد يضيعون، إيش أعمل؟ نقول لها: اخرجي، واذهبي لعملي بمقدار الضرورة، متى انتهى العمل ترجعين للبيت، الضرورة تقدَّر بقدرها، الحاجية تقدَّر بقدرها، أصبح فيه ضرورة عند هذه المرأة المعتدَّة، هذه المرأة عندها حاجيَّة من الحاجيات، اخرجي بمقدار الحاجة هذه، ثم مجرد ما ينتهي الدوام ترجعين للبيت.
منع النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- -في «سنن النسائي»- المرأة المعتدة أن تلبس الزاهي من الثياب وأن تختضب وأن تكتحل وأن تتطيب، يعني منعها أن تتشوَّف للرجال، وأم السنابل رضيَ اللهُ تعالى عنها لما مات أبو السنابل خرجت للنبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، وخرجت تسأله عن عدتها، فأجابها النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- تعتد أربعة أشهر وعشرا، وقال لها -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «امكثي في بيتك» ولم يزجرها، ولم ينهها عن الخروج.
فإذا اضطرت المرأة أن تخرج للفتوى لنازلة تنزل بها؛ فلا حرج.
تحتاج المرأة أن تذهب للطبيب، تعود مريضا -أعني المعتدَّة- لحاجة؛ لا حرج، لكن تكون بمقدار الضرورة.
طيب؛ امرأة احتاجت أن تختضب أو أن تكتحل، وكانت معتدة، وكان الاختضاب والاكتحال تطبُّبًا لا تجملًا؟ تفعله من باب التطبُّب، ممنوع ولا مشروع؟ مشروع.
حاجية تقدَّر بقدرها.
وفي الحديث نفسه: لما انتهت عدة أم السنابل اكتحلت وخرجت، تتشوَّف الأزواج، وفي هذا فوائد.
ومن الفوائد الحسنة التي نبَّه عليها ابن الخطَّاب في كتابه العجيب «إحكام النظر بحاسة البصر» قال: أنه يجوز للمرأة المخطوبة أن تَظهر على خطيبها بشيء مِن زينة، يعني لو اكتحلت، لو خرجت بِلباس مُنمَّق، لا تُظهر عورة، تظهر الوجه والكفين فقط، لكن من غير أن يظهر لها عورة، لا تظهر شعرًا، ولا تُظهر شيئا من بشرتها، لكن المرأة لما تخرج على خطيبها في شرعنا ليست كما لو خرجت في الشارع على الأجانب، صحيح؟
أم السنابل اكتحلت وخرجت تتشوَّف للأزواج، هي طلبت، والمرأة ذات الأيتام تحتاج إلى زوج؛ بل كل امرأة في الدنيا تحتاج إلى زوج، فاكتحالها محمول على هذا الأمر.
وهذا أمر لا تُذم به النساء، بل يُحمد به النساء، أن تكون المرأة التي مات عنها زوجها تطلب الزوج أمرٌ محمود وليس بِمذموم، إلا إذا وُجد الكبت، ووُجد مصادمة الفطرة، ومُصادمة الطَّبع، ومُصادمة الغريزة، ومُصادمة الحاجة، وإدخال العَنت والمشقة، تحت ستار يسمى العيب والعُرف والعادة؛ فهذه أشياء مهترئة لا وزن لها في ديننا، وينبغي أن نزِن الأمور بما يَرفع عنا المشقة، ويرفع عنا أي حاجة، ويرفع عنا الآصار والأغلال، فالله جل في علاه رفع عنا الآصار والأغلال.
طيب؛ مَن أبيح له الفطر بعُذر، هل هذا الأمر على الإطلاق ولا بمقدار الضرورة؟
رجل مرض، فأفطر، فمتى رُفع عنه المرض وجب الصيام، فالمرض يكون بمقدار.. وكذلك استخدام الماء في التيمم يكون بمقدار الضرورة، {فإن لم تَجِدوا ماءً فتيمَّموا}.
طيب لو سألكم سائل فقال: المريض يجدُ الماء، فكيف يتيمَّم؟ الله يقول: {فإن لم تَجِدوا ماءً فتيمَّموا} والمريض يجد الماء، فكيف الجواب...؟ المريض الماء بجانبه، إن استخدمه أدخل استخدامُه عليه حرجًا، هل له أن يتيمَّم؟
طيب؛ أنا أريد الآن أتعنَّت الله يقول: {فإن لم تَجِدوا ماءً فتيمَّموا} وهذا واجد، فأريد منكم دليلا على جواز مثل هذا الأمر، الله يقول: {فإن لم تَجِدوا} وهذا المريض واجد الماء، فكيف تجيبون؟ وماذا تقولون؟
[مداخلة: الآية في سورة النساء: {ولا تقتُلوا أنفسَكم إنَّ الله كان بكُم رَحيمًا}..] يعني أنت استدللتَ بآية أخرى، الآية التي استدللت بها عامة، صحيح؟ حُرمة إلقاء النفس للهلاك وما ورد في هذا الباب من نصوص -آيات أو أحاديث-.
تفضل!
[مداخلة: ...] كان به شجة في رأسه، وإيش صار معه؟ فسأل الأصحاب ولم يكونوا فقهاء، فلم يجوِّزوا له إلا استخدام الماء، مثل مسألتنا هذه، فإيش عمل؟ اغتسل، فإيش قال لهم النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-؟ قال: «قتلوه قتلهم الله، إنما شِفاء العي السؤال»، جعل النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- الجهلَ مرضًا، قال: «إنما شفاء» إيش يقابل الشفاء؟ المرض.
المريض الجاهل إيش روشيتة الطبيب؟ السؤال، أقل شيء السؤال، أقل مقدار واجب في العلم السؤال «إنما شِفاء العي السؤال».
طيب؛ نرجع للآية، هل الحديث يوافق الآية، أم يخالف الآية، أم شيء زائد عن الآية؟ هم وجدوا الماء، النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- طلب منهم أن يُفتوه بالتيمُّم، طيب؛ هل طلب النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- أن يُفتوه بالتيمُّم شيء زائد عن الآية أم من معاني الآية؟
[مداخلة: من معاني الآية].
من معاني الآية وليس شيئًا زائدًا عن الآية، يعني النَّبي أفتاه بالآية، وإن لم يذكر الآية.
فيه شيء مُتعب يحيِّر كل طالب علم، ووجدتُ عبارة للشافعي، أظن لو أن علماءَ الأمة اجتمعوا في صعيدٍ واحد وأرادوا أن يُطبِّقوها؛ ما استطاعوا!
قرأتُ في «الموافقات» للشاطبي، يقول عن الشافعي: ما مِن حديث إلا وله صلة بالآية علِم من علِم، وجهل من جهل.
وهذا شيء عجيب، تطبيق هذا العموم شيء عجيب!!
طيب؛ كيف أن الحديث يوافق الآية، والأصل الموافَقة لا المخالَفة، كيف؟ على أي قاعدة اعتمدتَ؟ جوابك صحيح، لكن ما هو تأصيل هذا الاعتماد؟
[مداخلة: {فإن لم تجِدوا} نكرة..].
وين النكرة {فإن لم تجِدوا}؟
[مداخلة: الواو في (تجدوا)].
فاعل (تجد) إيش؟
[مداخلة: الواو].
تعود على أشخاص معيَّنين أم نكرات؟
[مداخلة: نكرات].
والنكرة في أي سياق؟ الشرط، {فإن لم تجِدوا ماءً} تفيد العموم.
[مداخلة: الفقدان المعنوي والحِسِّي].
أحسنت!
{فإن لم تجِدوا فتيمَّموا} (تجِدوا) هذه الواو هو الفاعل في (تجد) نكرة، وليست أناسا معلومين، وجاءت النكرة في سياق الشَّرط، والنكرة في سياق الشَّرط والنفي والنهي-كما سيأتينا في ضمن القواعد المتأخرة في هذه المنظومة- من ألفاظ العموم.
فالمعنى: إن لم تجدوا سواء كان عدم الوجود وجودًا ماديًّا كأن تفقد الماء حسًّا، أو أن يحول بينك وبين الوصول إليه مُخاطرة -مثل سبُع، أو قتل-، فالماء موجود لكن أنا لا أستطيع أن أصل إليه، أو الثمن المرتَفع.
وستأتينا من مضمون القواعد القريبة ذكرها إن شاء الله تعالى -ولعلها تكون من نصيب الدرس القادم- أن من لم يجد ماء، ولا تصح له صلاة إلا بطلب الماء، فإن وجده بسِعر مثله، بسِعره المعتاد، أو زيادة طفيفة عليه؛ وجب عليه شراؤه، لكن لو كان الماء غير موجود، أو موجود ولا تستطيع أن تصل إليه بأضعاف أضعاف الثمن، أو بوجود مانع يحول دونك ودون وصوله؛ هذا فقدان حسي.
والفقدان الآخر: فقدان معنوي، إيش الفقدان المعنوي؟ أن تجد عَين الماء، ولكنك لا تستطيع أن تستخدمه لتأخير برء، أو لحصول داء.
إن استخدمته تأخر بُرؤك، أو إن استخدمته؛ حصل لك داء..
فهذه الصُّوَر كلها يشملها قول الله تعالى: {فإن لم تجِدوا ماءً فتيمَّموا}، فالوجود عام يشمل الوجود المادي، ويشمل الوجود المعنوي.
طيب؛ نأتي مثلا لقول الله تعالى: {فإنْ أطَعْنَكم} يعني: النساء {فلا تَبغُوا عليهِنَّ سبيلًا} فالأصل الطلاق الحظر والمنع، والطلاق الكسر، وإذا جاز لك أن تعظ المرأة أو أن تهجرها في المضطجع أو أن تضربها إن نشزت ولم تُطع؛ فهذا الضربُ هل هو على إطلاقه؟ ليس على إطلاقه؛ وإنما هو يُستخدم بمقدار الضرورة، إيش مقدار الضرورة؟ متى رجعت للطاعة؛ حرُم عليك أن تبغي عليها السبيل، حرُم عليك الضرب، حرُم عليك الإيذاء، حرم عليك الطلاق، حرم عليك أي شيء، أن تؤذيها {فإنْ أطَعْنَكم فلا تَبغُوا عليهِنَّ سبيلًا}.
وذكرنا مثلا: تأمين السيارات في هذا الزمان، وقلنا: التأمين على السيارات، أصبحت السيارات اليوم ضرورة ولا حاجيَّة؟ حاجيَّة وليست ضرورة، الضرورة قلنا يترتب على تعطُّل أو عدم وجود الضرورة هلاك أو موت أو بتر عضو من الأعضاء، هذا الضرورة، والحاجية يترتب على عدم تحققها مشقة زائدة، وتكاد تتعطَّل مصالح العبد في حياته.
فاليوم السيارات من الحاجيَّات في حق كثير من الناس، أو في حق أغلب النَّاس السيارات من الحاجيَّات، فلا يجوز لواحد يقول لنا: حرام اقتناء السيارة، ليش حرام اقتناء السيارة؟ قال: حرام اقتناء السيارة لأنه إذا اقتنيتَ السيارة أنت تؤمِّن على السيارة، والتأمين على السيارة حرام.
طيب؛ التأمين على السيارة حرام، الآن إذا حرَّمنا اقتناء السيارة إيش يترتب على هذا؟ مشقة، والشرع جاء برفع المشقة، والمشقة تجلب التيسير.
ولذا: جاءت قاعدة (الحاجيَّات تُنزَّل منزلة الضروريات) وقاعدة (الضروريات تبيح المحظورات).
لكن: الضرورة بقدرها، إيش يعني الضرورة بقدرها؟ لو سُئلتَ يا طالب العلم: أنا أمامي نوعين من التأمين -تأمين شامل وتأمين ضد الغير- إيش لازم تؤمِّن؟ ضد الغير، ليش؟ لأننا جاوزنا الضرورة بمقدار الحاجة، وتندفع الضرورة التي تترتب عليها اقتناء السيارة بالتأمين ضد الغير، فيحرُم التوسُّع فيها.
أما تحريم اقتناء السيارة من أجل التأمين؛ فهذا ما لا يضبط محاسن الشريعة، فالشريعة كلها محاسن، والشريعة جاءت لتحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد، وليست الشريعة فقط تأتي بدرء المفاسد، وحال من يُفتي بتحريم السيارة كحال الذي يحرِّم الذهاب للمسجد مخافة النظر إلى امرأة متبرجة! قال إذا ذهبتُ إلى الجماعة أنظر إلى امرأة متبرجة، وإذا ذهبت إلى صلاة الجمعة أنظر إلى امرأة في الطريق متبرجة وهذه تغريني في ديني!
هذه مفسدة مغمورة، وأنت تخرج ليس في بالك هذا، وإن وقع هذا في الطريق، فهذا وسيلة أنت مضطر إليها، لكن المصلحة المعتبرة هي القائمة.
مثل إنسان يأتي على الدرس، يركب الباص، ويسمع في الباص الغناء، وأنت ليس في بالك غناء ولا تسمع الغناء، ولا شيء، لكن أنتَ سُمِّعت الغناء، فهذه مفسدة مغمورة لا وزن له.
فينبغي أن تُضبط هذه الأمور.
وأعجبني كلامًا وظَّفه الإمام الشاطبي في «موافقاته» عن الإمام ابن العربي المالكي، ابن العربي يذكر حُرمة دخول الحمامات العامة التي كان يغتسل النَّاس بها قديمًا من غير مئزر، ثم يذكر أنه في زمنه اشتهرتْ كشف العورات في الحمامات، صار كل من يدخل الحمام يرى الرجال، يرى تهتُّكًا وتساهلا، ويرى عورات للرجال في هذه الحمامات.
فيقول ابن العربي -وينقل عنه الشاطبي في كتابه «عارضة الأحوذي شرح جامع الترمذي»- ينقل: أنه هل يجوز الآن دخول الحمامات أم لا؟
فابن العربي يقول: لا حرج، لأن العادة بهذا التهتُّك لا تقع مفسدة في حق الرجال، الرجل لا يُغري الرجل، والمخالفات شاعت وذاعت، والواجب على من يدخل أن يغض بصره، وأن ينصح ويأمر وينهى بالمقدار اللازم، ويترتب على الحرمة تعطيل بعض [المصالح] المعتبرة.
الشاطبي ينقد كلامه، ثم يقول -بتعليق بديع جدًّا في كتابه «الموافقات»-طبعا أن أتكلم بمفاد كلامه ومعناه-، يقول: أخشى أن يأتي يوم على المسلمين تكون مجتمعاتهم بأسرها مثل حمامات ابن العربي!!
هؤلاء مِمَّن وفقهم الله، ومِمَّن سبقوا زمانَهم، ومِمَّن أصَّلوا وقعَّدوا -أمثال الشَّاطبي، وأمثال ابن تيمية، وأمثال ابن القيِّم-، واللهِ يتكلَّم بكلام تعجب منه، يتكلم عن كلام يسبق زمانه بعُقود، وأحيانًا بمئات السنين، هذه البصيرة التي ينظر فيها المؤمن، والتأصيل العلمي، وبركة التأصيل العلمي، وبركة أن تكون النفس شبعانة من النصوص الشرعية، فكلما كان الإنسان شبعان بالنصوص وتطبيقات العلماء؛ كلما فتح الله بصيرتَه وكلما سبق زمانَه!
ولذا: نحن نجد عبارات عند علمائنا السابقين من أعجب ما يكون!
مشكلة اليوم: اختلاف المطالِع، وواحد يذهب من بلد لبلد ويجدهم صيام، وهناك إفطار، وقصص وحكايات.
السيوطي له رسالة مطبوعة في «الحاوي للفتاوي» سماها «تنوير الفلك في تطوُّر الملَك» -أو شيء بالمعنى-، يقول: لو أن رجلًا وليًّا طار من بلد إلى بلد وكان البلد الذي فيه صيام، ثم ذهب إلى بلد فطار فيه فكان إفطار، إيش يعمل؟! وبدأ يتكلم بكلام كثير يلزم أحكام الطائرات في هذا الأيام!
فالشاهد أن شريعتنا غنية ولكن نحن إن شاء الله تعالى نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكشف عن بصيرتنا، ويرفع الران والجهل عن قلوبنا وعقولنا، وأن يرزقنا إن شاء الله تعالى العلم النافع، وأن يجعلنا ممن ينفع الله بهم البلاد والعباد وأن يرزقنا إن شاء الله تعالى حتى ينفع بنا الأجيال القادمة.
البيت الثامن عشر:
18. وَتَرْجِــعُ الْأَحْـكـامُ لِـلْـيَـقِـيـنِ ... فَــلَا يُــزِيــلُ الشَّــكُّ لِلْيَـقِـيــنِ
(وَتَرْجِــعُ الْأَحْـكـامُ لِـلْـيَـقِـيـنِ)
الأحكام: حُكم، أحكام، إيش الأحكام هذه؟ جمع التكسير، الفعل يكون مذكَّر ولا مؤنث؟ التأنيث أقوى (وَتَرْجِــعُ)، {قالتْ رُسُلُهم أفي اللهِ شك} الرُّسل جمع تكسير، والله إيش قال عنها؟ {قالت} تأنيث ولا تذكير؟ جمع التكسير يكون الفعل فيه للتأنيث؛ ولذا: (وَتَرْجِــعُ) أحسن.
(وَتَرْجِــعُ الْأَحْـكـامُ لِـلْـيَـقِـيـنِ ... فَــلَا يُــزِيــلُ الشَّــكُّ لِلْيَـقِـيــنِ)
هذه قاعدة مهمة وجميلة، ولها تطبيقات كثيرة، واردة في بعض الأحاديث النبوية عن رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-.
القاعدة تقول: (لا يزولُ الشكُّ باليقين).
(اليقين) معناه في العربية: يَقَن الماءُ؛ أي: استقر، واليقين الشيء المستقر الثابت الذي لا يقبل الزحزحة ولا الزعزعة من النفس، يعني -بتعبير سهل-: اليقين مائة بالمائة، يعني درجة اليقين مائة بالمائة.
ويبقى عندنا (شك)، ويبقى عندنا (ظن)؛ إيش (الشك)؟
(الشَّك): التردد بين الوقوع وعدم الوقوع، يعني الشك خمسين بالمائة، الظن: ستين، سبعين بالمائة، غلبة الظن: ثمانين، تسعين بالمائة.
لذا الفقهاء يقولون في الأحكام الفقهية: يكفي في الأحكام الفقهية غلبة الظن، لا يلزم اليقين في الأحكام الفقهية.
شو (اليقين) يعني؟ الشيء الثابت المستقر في النفس، لا يزول بالشك، شو (الشك)؟ الشيء المتردَّد فيه.
طيب؛ اليقين لا يزول بالشك.
أضرب لكم مثالَين -بين يدي التفصيل في القاعدة، حتى تتصوروا القاعدة ثم نبني على الكلام ونذكر بعض الأشياء-: الظن مرفوض في الشرع {إن الظَّنَّ لا يُغني من الحقِّ شيئًا}، فالأصل يكون عندنا يقين أو يكون عندنا غلبة ظن.
وقد يأتي الظن بمعنى اليقين {إنِّي ظننتُ أنِّي مُلاقٍ حسابِيَه}، إيش يعني {إنِّي ظننتُ أنِّي مُلاقٍ حسابِيَه}؟ أنا متيقِّن، يأتي بمعنى اليقين.
وأما قول الله تعالى عن يونس: {فظنَّ أن لن نَقدِرَ عليه} المراد: أن لن نُضيِّق عليه في رزقه، أن لن نضيق عليه في أَمنِه، وليس ظنَّ أن الله لن يَقدِر عليه من القُدرة، فالأنبياء مُنزَّهون عن مثل هذا {يَبسُط اللهُ الرِّزقَ لِمن يشاءُ ويَقْدِر} فـ(يقدِر) عكس (يبسط)، (يبسُط) يوسِّع، و(يَقدِر) يضيِّق أو يُمسك.
أذكر لكم صورتَين:
صورة: أنت تيقَّنت أنك متوضئ، أنا متيقِّن واقف على المَجلى، أو واقف على المغسلة، أو واقف في مكان متوضئ بيقين، ماني شاكك في أني ما توضيت، ثم طرأ في قلبك أو على عقلك صورة: أنا انتقضتُ وضوئي ولا ما انتقضتُ وضوئي؟ انتقضتُ وضوئي ولا ما انتقضتُ وضوئي؟ بقيت في شك من أمرك، انتقض الوضوء ولا ما انتقض الوضوء، وأنت متيقن أنك توضأت، إيش الآن نقول عنك؟ أنت تصلي ولا لا تصلي؟ [تصلي] أنت متوضئ ولا غير متوضئ؟ [متوضئ] ليش متوضئ؟ لأن اليقين لا يزول بالشك.
طيب؛ نعكس، نأخذ صورة بالعكس:
أنا متيقن -أجلكم الله- أني دخلت الحمام وقضيت الحاجة، أنا متيقن أني دخلت الحمام وقضيت حاجة، أو أني أحدثت، لكني أنا شاك: هل توضأتُ أم لم أتوضأ، أنا شككتُ هل بعد ناقض الوضوء الذي وقع مني هل أنا بعد هذا توضأتُ أم لم أتوضأ، إيش نقول؟ توضأ، ليش نقول له توضأ؟ لأن اليقين لا يزول بالشك.
اليقين الأول كان وضوءًا، واليقين الثاني كان حدَثًا، ووقع شكٌّ بالحدَث في الصورة الأولى، ووقع شك في الوضوء في الصورة الثانية؛ فاستصحبنا في الصورة الأولى الوضوء، واستصحبنا في الصورة الثانية الحدَث، فلم نوجِب في الصورة الأولى على صحابها أن يتوضأ، وأوجبنا في الصورة الثانية على صاحبها الوضوء.
فاليقين لا يزول بالشك، إيش أنت متيقن عليه، إيش مستقر في قلبك في عقلك بجزمٍ من غير تردد تبقى عليه، حتى يثبت عندك خلافُه.
إن كنتَ مترددًا، ثم زال التردُّد فوقع يقين آخر.
يعني: أنا الآن متوضئ، ومتيقن أني متوضئ، وشككتُ هل أحدثتُ أم لا، ثم بعد حين، بعد تأمُّل وتقليب نظر وقع في قلبك يقينٌ أنك أحدثتَ.. أنا بعد ما توضيت، أنا متيقن دخلت الحمام بعد الوضوء؛ فاليقين يزول باليقين، صحيح؟ لكن اليقين لا يزول بالشك.
طيب؛ لو غلب على ظنك يعني تسعين بالمائة أنا أحدثتُ؟ تتوضأ؛ لأن اليقين لا يزول بالشك، ولا نقول لا يزول بالظن، أو بغلبة الظن؛ فالأحكام تُبنى على غلبة الظن.
فاليقين لا يزول بالشك، لكن بالظن وغلبة الظن يزول إلا بقرائن تجعلنا نقول: لا يزول، وهذه تحتاج لتفصيل طويل، لكن يكفيني الآن أن أضبط تصوُّر القاعدة حتى أنطلق لذكر الأدلة الشرعية على ما ذكرت وهو حديث في «الصحيحين» عن رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- وسأذكر لفظ مسلم في «صحيحه»:
قال النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «إذا وجد أحدُكم في بطنه شيئًا فأشكل عليه: أَخَرَجَ منه شيءٌ أم لا» يقول النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «فلا يَخرُجنَّ من المسجد حتى يسمع صوتًا أو يجد رِيحًا» يعني: إذا بقيت في شك إيش تعمل؟ لا تخرج من الصلاة حتى تسمع صوتًا، سمع الصوت يسمى ضراط، أو تجد ريحًا ويسمى فساء، هذا هو الفرق بين الفساء والضراط، الضراط له صوت والفساء رائحة بلا صوت.
يقول النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «فلا يَخرُجنَّ من المسجد حتى يسمع صوتًا أو يجد رِيحًا».
يقول أبو محمد البغوي في «شرح السنة» يقول: هذا في حق الأصحَّاء، وفي حق السليمي الحواسّ، قال: أما في حق الأطرش والذي لا يشم، فهذا الحديث لا ينطبق، هذا الحديث في حق من كان سليم الحواس، في حق من كان سليمًا؛ فحينئذ ما يلتفت.
لذا ورد في «مسند أحمد»: أن الشيطان يأتي لأحدكم فينزع شعرة من دبره حتى يُخرجه من صلاته.
فالشيطان يُدخل الوساوس، والشيطان أكثر من يلعب بالنساء، والنبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- سمى الاستحاضة الذي يسمونه دم عرق، ويسميه النساء فيما بينهم بالنزيف، النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- سماه قال: «ركضة من ركضات الشيطان» يعني دفعة من دفعات الشيطان.
فالشيطان يشوِّش، فالمرأة حتى يشوَّش عليها في الصلاة والصيام، فيبدأ الشيطان يلعب بهذه العروق، وهذا دليل صريح لأهل السنة -خلافًا للمعتزلة- الذين يقولون بالصرع، وأن الجن يصرع الإنسان، والصرع حقيقي وليس الصرع أمرًا معنويا، هذه وغيرها أدلة كثيرة كما هو مذكور عند العلماء.
طيب: الآن الإسلام والتكفير.
لو وقعنا في شك: رجل مسلم، متيقنون أنه مسلم، عاش لأبوين مسلمَين، وعاش في بلاد الإسلام، ونراه في المسجد، ونسمع منه الشهادتَين، وطرأ طارئ يجعل بعض النَّاس يُكفِّرونه، وبَقينا في شك: هل هو مسلم أم كافر؟ إيش نقول؟ [مسلم] اليقين يزول بالشك ولا لا يزول بالشك؟ لا يزول بالشك، إيش يعني نبقيه على إيش؟ على إسلامه. ولو حكم بغير ما أنزل الله؟ ولو حكم بغير ما أنزل الله.
النجاشي مات ولم يحكم [بما] أنزل الله، في «صحيح مسلم» النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- صلى عليه صلاة الغائب، وما حكم [بما] أنزل الله، لأنه استجاب له، استجاب للإسلام.
أنا ما أعرف الذين يكفِّرون الحكام هذه الأيام كيف [سيردون على حادثة] النجاشي، واضحة جدا حادثة النجاشي، النجاشي ما حكم لا بكتاب ولا بسُنة، وكل الشرع كان مغيَّر في زمنه، ومات والنبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- صلى عليه صلاة الغائب، إلا إذا قيل أن النَّبي صلى على الكافر! هل ممكن أن النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- على الكافر؟ ما يصلي النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- على الكافر صلاة الجنازة! فصلى عليه صلاة الغائب.
لو شككنا في إسلام رجل من عدمه؟ نبقى على اليقين، شو اليقين؟ نحكم بإسلامه.
لذا: قال العلماء: لو أن الرجل قال قولًا أو فعل فِعلا يحتمل مائة وجه، تسع وتسعون منها -من الأقوال والأعمال- محمولة على الكفر وواحد محمول على الإسلام؛ حمَلناه على الإسلام.
نحن نحتاج نكثِّر سواد المسلمين، ولا نقلِّل سواد المسلمين؟
أيهما أفضل للإسلام والمسلمين: نكثِّر سوادهم ولا نقلل سوادهم؟ نكثر سوادهم.
حتى عند اختلاف -وسيأتينا هذا في بعض الفروع وبعض الاستطرادات- عند اختلاف الأصل والظاهر.
يعني: لو ظهر عندنا رجل كافر أصلي، كافر جاء في معركة يحاربنا، وكافر أصلي، ورأينا أنه ما أسلم في ظاهر أمره من قلبه، ولكنه أسلم من لسانه، تحت القوة، نحكم بإسلامه أم بعدم إسلامه؟ نحكم بإسلامه.
فالإسلام في كل الحالات غالب، وهو الأصل.
لذا: أسامة بن زيد لما رفع السيف على ذاك الكافر، فالكافر يعلمُ قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، أسامة بن زيد استصحب الأصل، وقدَّم الأصل على الظاهر، قال هذا ظاهره أنه أسلم تحت السيف، وهو أصله كافر، فأنا أحكم بكُفره، فقطع رأسه لتقديمه الأصل على الظاهر، فلما بلغَ النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- غضب النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- غضبًا شديدا، أسامة كان الحِب ابن الحِب، كان يسمَّى: الحِب ابن الحب، كان أحب النَّاس للنبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، كان النَّبي يحبه، فلامه النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، حتى قال أسامة: «وددتُ لو أني أسلمتُ بعدها»! يا الله! وكان النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- يقول له: «أشققتَ عن قلبه؟» خلاص قال لا إله إلا الله، إيش تريد منه؟ نترك النَّاس على إسلامهم.
إذا فيه حكم في الشرع يمضي إسلامه في الدنيا ولا يمضي إسلامه في الآخرة، وهو حكم من؟ المنافقين، المنافق كيف يعامَل في الدنيا؟ مسلم، وعند الله؟ أشد من الكفار {إن المنافقين في الدَّرْك الأسفل من النَّار} عند الله أشد من الكافر، لكن كيف نعامله نحن في الدنيا؟ نعامله معاملة المسلم.
فالشاهد أن الأصل والظاهر متى ظهر من رجلٍ إسلام؛ فيجب علينا أن نَقبَله، ولا يجوز لنا أن نتشكَّك فيه، ولا يجوز لنا بأي حال من الأحوال أن نُشكِّك فيه.
طيب؛ اليقين لا يزول بالشك.
رجل شكَّ هل طلَّق زوجته أم لا؟ إيش الأصل في الطلاق؟
بعض النَّاس مجرد ما يشك يُطلق ...!
جاء رجل لمحمد بن حسن فقال: أنا شككتُ أني طلقت زوجتي فطلقتُها قلت: أنت طالق!؟ قال: حالك كحال من شك هل وقعت على ثوبي نجاسة أم لا؛ فبال على الثوب!
أنت الآن الأصل أن العقد عقد الزواج الأصل فيه أنه قائم وصحيح؟ أم الأصل فيه عدم الصحة؟ صحيح.
لذا: تأملوا -إخواني- النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- لما كان الرجل يسلم، فيمهل زوجته، فإن أسلمتْ بعده ولو بمدَّة ما كان النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- يُجدد العقدَ بينهما، يبقى الحال على العقد الأول، أي عقد أول؟ الذي أُبرم في الجاهلية، وهذا مأخوذ من القرآن، من أين من القرآن؟ من قوله: {وامرأتُه حمَّالة الحطب} الله قال عن أبي جهل: {وامرأتُه}، فالعقد في الجاهلية صحيح.
فإذا الإنسان وقع في شك: هل زوجتي طالق أو غير طالق، إيش الحكم؟ اليقين لا يزول بالشك، إيش يعني؟ تبقى زوجة.
ولذا من بديع مؤلفات الإمام السلفي الدمشقي الشيخ جمال الدين القاسمي له كتاب بديع سماه: «الاستئناس بصحَّة أنكحة الناس» لأن بعض النَّاس يشكك في الأنكحة، وهذا من الخطأ الكبير.
اللام للتمليك، وليست للوسيلة، (الأحكام لليقين) فاللام هذه لام الاختصاص، الأحكام الشرعية يخصُّها اليقين؛ الأصل في الأحكام اليقين وعدم الشك، وهذا لا يكون إلا في حق العلماء، أما غلبة الظن فعند المقلِّدة وعند الطلبة وليس عند العلماء.
جميل، إذا أردنا أن نشرح هذا الشرح يطول، وإلا كنا جميل نقف عند كل شيء.
فإذن: اليقين لا يزول بالشك، وله فروع كثيرة، ومن أهم فروعه مسألة الذي يشك في الصلاة في عدد الركعات، فالواجب على من يشك في عدد الركعات في الصلاة فريضة أم نافلة، أو في عدد التكبيرات في صلاة الجنازة، الواجب عليه أن يبني على الأقل؛ لأن اليقين لا يزول بالشك.
يعني: إنسان شكَّ هل صلى ركعتين أم ثلاثة، يبني على ماذا؟ يبني على الركعتَين.
شك: هل صلى ثلاثا أم أربعا؟ يبني على ثلاث.
شك في الجنازة أو في تكبيرات العيد، هل كبَّر خمسًا أم سبعًا، أو في الجنازة هل كبَّر ثلاثًا أم أربعًا -سواء يصلي إماما أو يصلي مسبوقًا- فوقع في شك في عدد الركعات أو في عدد التكبيرات؛ فالواجب عليه أن يبني على اليقين.
ولذا في الحديث: «لا صَرورةَ في الصلاة»، والحديث يدور بين التحسين والتضعيف، حسن لغيره أو ضعيف، و(الصَّرورة) أي لا يجوز لك أن تخرج من الصلاة وأنت في أي صُورة من صُوَرها في شكٍّ منها، والواجب عليك أن تخرج من الصلاة وأنت مطمئن وأنت متيقن في الصلاة.
تبقى مسألة مهمة: المسبوق الذي يأتي مسبوقًا للصلاة، وشكَّ هل أدرك مع الإمام التسبيح أم لم يُدرك.
رجل جاء والإمام راكع.. أبو بَكرة -كما في «الطبراني الكبير»- لما رأى النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- راكعًا في صلاته، فركع ودبَّ راكعًا، مشى وهو راكع، فسمع به النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، وكان النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- من خواصه الثابتة عن النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- في قوله أنه يرى مَن خلفَه في الصلاة كما أنهم بين يديه، وهذه خاصة بالنبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- في صلاته فقط، فرآه، فالنبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- ما أمره أن يعيد الركعة، وهذا أقوى دليل لجماهير العلماء في أن قول النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- في حديث عبادة بن الصامت في «الصحيحين»: «لا صلاةَ لمن لم يقرأ بأم الكتاب» عام مخصوص، ومعنى أنه (عام مخصوص) أي: أن القراءة واجبة إلا في صورة من أدرك الركوع مع الإمام؛ لأن النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- لم يأمر أبا بكرةَ بأن يُعيد الركعة، ولكنه تعجل، فقال له النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- بعد الصلاة: «زادك الله حرصًا، ولا تَعْدُ» أو قال: «ولا تَعُد»، «لا تَعْدُ» أي لا تركض، أنت ركعتَ وددبتَ راكعًا بركض وعجلة «فلا تَعْدُ»، أما «ولا تَعُد» لا حرج من أن تركع خارج الصف وأن تدبَّ فيه؛ لكن: لا تتعجَّل، لا تُسرع، والعلماء مختلفون على قولَين في ضبطِ قولِه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-.
الذي يهمني من هذا: رجل ركع مع الإمام وهو مسبوق، فشكَّ هل أدرك تكبيرةً أم لا، كيف يتعامل مع هذه الصورة بناء على قاعدة: (اليقين لا يزول بالشك)، فالمسبوق له ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يتيقَّن أنه ما سبَّح مع الإمام، كأن ينظر أو يتحول بصرُه وهو راكع، وهو هاوٍ للركوع، فيجد الإمام صاعدًا فيتيقَّن أنه ركع ولم يدرك مع الإمام ولا تسبيحة؛ فهذا لم يُدرك الركوع مع الإمام، وهذا لا يجعل ركوعه ركعة، لا يحسب ركوعَه ركعة، يُلغي الركوع، لم يُدرك مع الإمام أي تسبيحة من تسبيحات الركوع.
الصورة الثانية: أن يتيقَّن أنه أدرك مع الإمام تسبيحةً فأكثر، كأن يجد الإمام في أول ركوعه، فقد ركع وأدرك تسبيحةً مع الإمام فأكثر؛ فهذا يحسبُها ركعة.
تبقى الصورة الثالثة وعليها تتنزَّل القاعدة، وهي قاعدة (اليقين لا يزول بالشك)، وهذه [الصورة]: أن يبقى في شك هل أدرك مع الإمام أم لم يُدرك، هل أدرك تسبيحةً مع الإمام أم لم يُدرك، فتارة يقول: أدركتُ، وتارة يرى أن المدَّة التي ركعها مع الإمام قصيرةً لا تُسعفُه بأن يُدركَ تسبيحةً مع الإمام، فيبقى في شكٍّ بين الأمرَين، فماذا يفعل؟ (اليقين لا يزول بالشك) إيش (اليقين لا يزول بالشك)؟ يعني: لا يحسبها ركعة، ويسجد للسهو، حاله كحال من شكَّ في ركعتَين أو ثلاث ركعات.
قال ابن العطار جامع وتلميذ الإمام النووي في «الفتاوى» قال -على لسان شيخه الإمام محيي الدين النووي-رحمهُ اللهُ-يحيى بن زكريا- قال: «هذه مسألة أحبُّها وأحبُّ أن أُعلِّمها».
فإذا كان الإنسان في شك هل أدرك أم لم يُدرك التسبيحة؛ فإن اليقين لا يزول بالشك، وعليه حينئذ أن يُعاملَ هذا الحال كمعاملة من شكَّ في الركعتين أم الثلاثة.
وقلَّ من النَّاس مَن يضبط هذه المسألة الثالثة بطريقة فقهيَّة شرعيَّة صحيحة، فالناس إما يتعجَّلون فيحسبونها ركعة، وإما أنهم يُلغونها من غير اعتبار لسجود السهو، وقد أمر النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- من شكَّ في هل أدرك ركعتين أم ثلاث أن يبني على الأقل وأن يسجد للسهو.
بقيت بقيَّة، ثم نتكلم في فرعٍ من فروع قاعدة (اليقين لا يزول بالشك) بعد صلاة العشاء.
والله الموفق.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

انتهى (الجزء الأول) ويتبع (الجزء الثاني).

تفريغ : أم زيد

من هنـا تجميع روابط الدروس المفرَّغة

الجز السابع............
__________________
قال العلامة صالح آل الشيخ: " لو كان الفقه مراجعة الكتب لسهل الأمر من قديم، لكن الفقه ملكة تكون بطول ملازمة العلم، بطول ملازمة الفقه"
وقال: "ممكن أن تورد ما شئت من الأقوال، الموجودة في بطون الكتب، لكن الكلام في فقهها، وكيف تصوب الصواب وترد الخطأ"
"واعلم أن التبديع والتفسيق والتكفير حكم شرعي يقوم به الراسخون من أهل العلم والفتوى ، وتنزيله على الأعيان ليس لآحاد من عرف السنة ، إذ لا بد فيه من تحقق الشروط وانتفاء الموانع، حتى لا يصبح الأمر خبط عشواء ،والله المستعان"
رد مع اقتباس