وقال الإمام الدارمي في نقضه على بشر المريسي الجهمي:
[ احتجاج الْمعَارض فِي رد الْآثَار وكراهية طلبَهَا:
وَاحْتَجَجْتَ فِي رَدِّ آثَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَرَاهِيَةِ طَلَبِهَا، وَالِاشْتِغَالِ بِجَمْعِهَا، بِحِكَايَةٍ حَكَيْتَهَا عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: " لَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ عِدَدِ الْمَوْتِ" [1].
وَبِقَوْلِ شُعْبَةَ "إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَصُدُّكُمْ عَنْ ذِكْرِ الله وَعَن الصَّلَاة، فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ؟ "
وَبِقَوْلِ ابْنِ الْمُبَارَكِ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي رِحْلَتِي فِي الْحَدِيثِ".
فَتَوَهَّمْتَ أَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا طَعْنٌ فِي الْآثَارِ وَكَرَاهِيَةٌ مِنْهُم لجمعها وَاسْتِعْمَالِهَا، وَقَدْ أَخْطَأْتَ الطَّرِيقَ وَغَلِطْتَ فِي التَّأْوِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَعُدُّوا هَذِهِ الْآثَارَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا طَلَبَهُ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ وَلَكِنْ خَافُوا أَنْ يَكُونَ قَدْ خَالَطَ ذَلِكَ بَعْضُ الرِّيَاءِ وَالْعُجْبِ وَالِاسْتِطَالَةِ بِهِ عَلَى مَنْ دُونَهُمْ فِيهِ،
أَوْ أَنَّهُمْ إِذَا جَمَعُوهَا وَكَتَبُوهَا لَمْ يَقُومُوا بِالْعَمَلِ بِهَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِمْ، وَيَصِيرُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، فَإِنَّمَا أَزْرَوْا [أَي: عابوها] فِيمَا حَكَيْتَ عَنْهُمْ بِأَنْفِسِهِمْ لَا بِالْعِلْمِ وَالْأَحَادِيثِ. كَمَا تَفْعُلُهُ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ.
وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ عَنْهُمْ مِنْ سَيِّئِ الْأَعْمَالِ -كَمَا ادَّعيت عَلَيْهِمْ- مَا صَنَّفُوهَا وَنَقَلُوهَا إِلَى الْأَنَامِ، وَلَا دَعَوْهُمْ إِلَى اسْتِعْمَالِهَا وَالْأَخْذِ بِهَا، فَيُشْرِكُوهُمْ فِي إِثْم مَا وَقَعُوا فِيهِ، وَمَنْ يَظُنُّ بِهِمْ ذَلِكَ إِلَّا جَاهِلٌ مِثْلُكَ بَعْدَ الَّذِي رَوَوْا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "حدِّثوا عَنِّي وَلَا حَرَجَ"، وَقَالَ: "نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَبَلَّغَهَا غَيْرَهُ" ، وَقَوْلَهُ: "لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُم الْغَائِب"، وَقَوْلَهُ: "طَلْبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ" ، وَقَوْلَهُ: "مَا سَلَكَ رجلٌ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهَا عِلْمًا إِلَّا سهَّل اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ" ، وَقَوْلَهُ: "إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ".
وَهِيَ هَذِهِ الْآثَارُ، وَهِيَ أُصُولُ الدِّينِ وَفُرُوعُهُ بَعْدَ الْقُرْآنِ، فَمَنْ سَمِعَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي حضَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَلَبِهَا وَإِبْلَاغِهَا وَأَدَائِهَا إِلَى مَنْ يَسْمَعُهَا عَلِمَ يَقِينًا أَنَّ مَا حكيت عَن سُفْيَانَ وَشُعْبَةَ وَابْنِ الْمُبَارَكِ عَلَى خِلَافِ مَا تَأَوَّلْتَهُ.
وَيْحَكَ! إِنَّمَا قَالَ الْقَوْمُ هَذَا تَخَوُّفًا عَلَى أَنْفِسِهِمْ أَنْ يَكُونُوا قَدْ أُوتُوا مِنْهُ الْكَثِيرَ فَلَمْ يُوَفَّقُوا لِاتِّبَاعِهِ كَمَا يَجِبُ، وَلَمْ يَتَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ الْعُلَمَاءِ الصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ؛ مِنَ السَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ وَالْوَرَعِ وَالْعِبَادَةِ، وَلَمْ يَتَأَدَّبُوا بِأَحْسَنِ آدَابِهِمْ.
فَقَدْ سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ يَحْيَى يَقُولُ: قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: "طَلَبْنَا الْعِلْمَ فَأَصَبْنَا مِنْهُ شَيْئًا، فَطَلَبْنَا الْأَدَبَ فَإِذَا أَهْلُهُ قَدْ مَاتُوا" وَكَمَا قَالَ الشَّعْبِيُّ: "زَيَّنَ الْعِلْمَ حِلْمُ أَهْلِهِ"، وَكَمَا قَالَ ابْن سِيرِين: "ذهب الْعِلْمُ وَبَقِيَ مِنْهُ غُبْرَاتٌ فِي أَوْعِيَةِ سُوءٍ". وَكَانَ تَخَوُّفُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْحِكَايَاتِ الَّتِي حَكَيْتَهَا عَنْهُمْ، عَسَى أَنْ لَمْ يُرْزَقُوا هَذِهِ الْآدَابَوَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْعِلْمُ، حَتَّى يَخْلُصَ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ إِعْظَامًا لِلْعِلْمِ وَإِجْلَالًا لَهُ، لَا اسْتِخْفَافًا بِهِ وَتَعْرِيضًا لِإِبْطَالِهِ، كَمَا فَعَلْتَ أَنْتَ.
وَسَمِعْتُ الطَّيَالِيسِيَّ أَبَا الْوَلِيدِ أَنَّهُ سمع ابْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: "طَلَبْتُ هَذَا الْعِلْمَ يَوْمَ طَلَبْتُهُ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَأَعْقَبَنِي مَا تَرَوْنَ".
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ [هو الدارمي]: "لَمْ أَعْرِفْ لِنَفْسِي يَوْمَ طَلَبْتُهُ تِلْكَ النِّيَّةَ الْخَالِصَةَ، فَأَعْقَبَنِي مِنْهُ أَنِّي اشغلت بِتَحْدِيثِ النَّاسِ بِهِ لَا بِالْعَمَلِ بِهِ، وَالزَّهَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْعِبَادَةِ".
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: "وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَسْأَلْ عَنْ شَيْءٍ" أَيْ لَمَّا أَنَّ الَّذِي سَأَلْتُ عَنْهُ صَارَ عَلَيَّ حُجَّةً.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ أَيْضًا: "إِنَّا لسنا بفقهاء، وَلَكنَّا رُوَاة الْحَدِيثِ" وَكَمَا قَالَ الْحَسَنُ: "هَلْ رَأَيْت فقهيًا قَطُّ؟ إِنَّمَا الْفَقِيهُ الزَّاهِدُ فِي الدُّنْيَا، الرَّاغِبُ فِي الْآخِرَةِ، لَا يُدَارِي وَلَا يُمَارِي، بِنَشْرِ حُكْمِ اللَّهِ فَإِنْ قُبِلَتْ مِنْهُ حَمِدَ اللَّهَ، وَإِنْ رُدَّتْ حَمِدَ اللَّهَ".
فَتَخَوَّفَ الْقَوْمُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِهِ، وَقَدْ كَانُوا أَهْلَهُ، وَمَا زَادَهُمْ تَخَوُّفُهُمْ مِنْ هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا حُبًّا وعِظمًا، وَلِلْعِلْمِ تَوْقِيرًا وَإِجْلَالًا؛ إِذْ خَافُوا أَنْ لَا يَكُونُوا من صالحي أوعيته.
وَرَوَى الْمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: "مَا رَأَيْتُ فِيمَا مضى وفيا بَقِي مُؤمنا ازْدَادَ إحساناً إِلَّا ازْدَادَ شَفَقَةً، وَلَا مَضَى مُنَافِقٌ وَلَا بَقِيَ ازْدَادَ إِسَاءَةً إِلَّا ازْدَادَ بِاللَّهِ غِرَّةً".
حَدَّثَنَا سَعْدَوَيْه عَن الْمُبَارك بن فاضلة عَنِ الْحَسَنِ ]. اهـ
===============================
[1] قَالَ الذَّهَبِيّ في التذكرة: قلت: صدق وَالله، إِن طلب الحَدِيث شَيْء غير الحَدِيث، فَطلب الحَدِيث اسْم عرفي لأمور زَائِدَة على تَحْصِيل مَاهِيَّة الحَدِيث، وَكثير مِنْهَا مراق إِلَى الْعلم، وأكثرها أُمُور يشغف بهَا الْمُحدث من تَحْصِيل النّسخ المليحة وتطلب العالي وتكثير الشُّيُوخ والفرح بِالْأَلْقَابِ وَالثنَاء، وتمني الْعُمر الطَّوِيل ليروي، وَحب التفرد، إِلَى أُمُور عديدة لَازِمَة للأغراض النفسانية لَا الْأَعْمَال الربانية ... إِلَخ.
|