عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 04-28-2018, 04:40 AM
أم عبدالله نجلاء الصالح أم عبدالله نجلاء الصالح غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: عمّـــان الأردن
المشاركات: 2,647
افتراضي طول الأمل - تتمــــَّــــــة

وحذَّرهم من الاغترار بذلك والوقوف معه، وأمرهم بالاجتزاء من الدُّنيا بالبلاغ، والجدِّ والاجتهاد في طلب الآخرة والاستعداد لها، فوجدُوا ما وعدهم به كلَّه حقاً، فلما فُتِحتْ عليهم الدُّنيا - كما وعدهم - اشتغل أكثرُ الناسِ بجمعها واكتنازها والمنافسة فيها، ورَضُوا بالإقامة فيها والتمتُّع بشهواتها، وتركوا الاستعداد للآخرة التي أمرهم بالجدِّ والاجتهاد في طلبها.

وقَبِلَ قليلٌ من الناس وصيَّته في الجدِّ في طلب الآخرةِ والاستعداد لها، فهذه الطائفةُ القليلة نجت ولحقت نبيَّها ﷺ في الآخرة حيث سلكت طريقه في الدُّنيا، وقبلت وصيتهُ وامتثلت ما أمر به، وأما أكثر الناس فلم يزالوا في سكرة الدنيا والتكاثر فيها، فشغلهم ذلك عن الآخرة حتّى فاجأهم الموتُ بغتةً، فهلكوا وأصبحوا ما بين أسير وقتيل [4].

ومن أبلغ الأمثلة للحياة الدنيا ما ضربه رسول الله -ﷺ كما في الحديث عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله ﷺ قام على المنبر فقال: (إِنَّمَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ).
ثُمَّ ذَكَرَ زَهْرَةَ الدُّنْيَا فَبَدَأَ بِإِحْدَاهُمَا وَثَنَّى بِالْأُخْرَى، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ أَوَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ ؟ فَسَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ ﷺ قُلْنَا يُوحَى إِلَيْهِ، وَسَكَتَ النَّاسُ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِمْ الطَّيْرَ ثُمَّ إِنَّهُ مَسَحَ عَنْ وَجْهِهِ الرُّحَضَاءَ فَقَالَ: (أَيْنَ السَّائِلُ آنِفًا أَوَخَيْرٌ هُوَ ؟ - ثَلَاثًا - إِنَّ الْخَيْرَ لَا يَأْتِي إِلَّا بِالْخَيْرِ، وَإِنَّهُ كُلَّمَا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ، إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ كُلَّمَا أَكَلَتْ، حَتَّى إِذَا امْتَلَأَتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ الشَّمْسَ فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ ثُمَّ رَتَعَتْ. وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، وَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ لِمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ فَجَعَلَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وَمَنْ لَمْ يَأْخُذْهُ بِحَقِّهِ فَهُوَ كَالْآكِلِ الَّذِي لَا يَشْبَعُ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [5].

إنَّ الدنيا لا تذم لذاتها وإنما يُذَمُّ فعل العبد فيها، فالدنيا قنطرة ومعبرة إلى الجنة أو إلى النار، فهي مزرعة الآخرة ومنها زاد الجنة، وخير عيش ناله أهل الجنة إنما كان بسبب ما زرعوه في الدنيا، قال تعالى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [سورة الحاقة: 24].
إنَّ الذم والوعيد إنما ورد في حق من آثر الدنيا على الآخرة فصارت الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه، قال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى ۞ وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ۞ فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات: 37 - 39].
فالمطلوب من العبد الاعتدال في العمل للدنيا والآخرة؛ لا يشتعل بالدنيا ويترك الآخرة، ولا يتخلى عن الدنيا ويتركها بالكلية فيضر بنفسه وبمن يعول، أو يصبح عالة على غيره.

اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.

________________

[4] انظر جامع العلوم والحكم لابن رجب ص (358 - 359).
[5] رواه البخاري (2842)، ومسلم (1052).
__________________
يقول الله - تعالى - : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون} [سورة الأعراف :96].

قال العلامة السعدي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية الكريمة : [... {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا} بقلوبهم إيمانًاً صادقاً صدقته الأعمال، واستعملوا تقوى الله - تعالى - ظاهرًا وباطنًا بترك جميع ما حرَّم الله؛ لفتح عليهم بركات من السماء والارض، فأرسل السماء عليهم مدرارا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم في أخصب عيشٍ وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كدٍّ ولا نصب ... ] اهـ.
رد مع اقتباس