عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 06-02-2012, 08:05 PM
أم زيد أم زيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 5,264
افتراضي الدرس السادس/الجزء الثاني

[الـدَّرس السَّـادس]

(الجزء الثَّاني)


14. وَضِـدُّهُ تَـزاحُـمُ الـمَــفَــاسِـــدِ ... يُـرْتَـكَـبُ الأَدْنَـى مِـنَ المَفَـاسِـدِ

15. قَــاعِـــدَةُ الشَّريعـــةِ التَّيسير ... فـِي كُـلِّ أَمْــرٍ نَـابَــهُ تَـعْـسِـيــرُ

16. وَلَـيْـسَ وَاجِــبٌ بِـلا اقْــتِــدَارِ ... وَلاَ مُـحَـــرَّمٌ مَــعَ اضْــطِـــرارِ


إن الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفسِنا ومِن سيئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يضللْ فلا هاديَ له. وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شَريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه.
أما بعد:
يقول الناظم:
16. وَلَـيْـسَ وَاجِــبٌ بِـلا اقْــتِــدَارِ ... وَلاَ مُـحَـــرَّمٌ مَــعَ اضْــطِـــرارِ
هذا البيت حوى قاعدتَين مهمَّتَين كُليَّتَين:
القاعدة الأولى: أن الوجوبَ يتعلقُ بالاستطاعة، فلا وُجوبَ مع العجز، وهذا من محاسن دينِنا، فالشرعُ لا يوجِبُ على العبدِ شيئًا لا يقدرُ عليه، الشرعُ لا يكلِّفُ العبدَ فوق طاقتِه.
والقاعدة الثانية: لا مُحرَّم مع الضرورة، وهي قاعدةٌ فقهيَّة يُعبَّر عنها بـ(الضرورات تُبيح المحظورات).
ولكلٍّ من هاتين القاعدتين اللتَين عبَّر عنهما الناظم بهذا البيت -البيت السادس عشر- أدلةٌ وتطبيقات كثيرة، وتفريعات عديدة، وهمُّنا الإجمال، مع شيءٍ من الإحاطة، فلا نشرحُ شرحًا طويلًا مُملًّا، ولا قصيرًا مُخِلًّا -إن شاء الله-.
أما القاعدةُ الأولى: الوجوبُ يتعلَّق بالاستطاعة، ولا وجوبَ مع العجز؛ فالأدلة كثيرة؛ منها: قول الله -عزَّ وجلَّ-: {لا يُكلِّفُ اللهُ نفسًا إلا وُسعَها}، ومنها قول الله -عزَّ وجلَّ-: {لا يُكلِّفُ الله نفسًا إلا ما آتاها}، ومنها قول الله -عزَّ وجلَّ-: {فاتَّقوا اللهَ ما استطعتُم}.
ومنها ما ثبت في «صحيح البخاري» أن النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- قال لعمران بن حُصين -وكان به النَّاسور-وهو أشد من الباسور-، قال له: «صلِّ قائمًا، فإن لم تستطِع؛ فصلِّ جالسًا، فإن لم تستطعْ؛ فصلِّ على جنب»؛ فالذي لا يستطيع القيام يصلي جالسًا، والذي لا يستطيع الجلوس يصلي على جنب، فقوله: «فإن لم تستطعْ» فيه إشارة إلى أن الوجوب مع عدم الاستطاعة؛ ساقط.
والأصرح من هذا الحديث: قوله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «إذا أمرتُكم بأمرٍ؛ فاتوا منه ما استطعتُم، وإذ نَهَيتُكم عن شيءٍ؛ فاجتنِبوه»، ولم يقلْ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنِبوا منه ما استطعتم، ولم يقل: إذا أمرتُكم بأمرٍ فافعلوه؛ وإنما قال: «إذا أمرتُكم بأمرٍ؛ فاتوا منه ما استطعتُم».
الله يعلم أننا نحب الجهاد في سبيل الله، ولا نستطيع أن نجاهدَ؛ فلا إثم علينا.
والنبي رَفع عنا الإثمَ بقوله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «مَن مات ولم يَغزُ ولم يُحدِّث نفسَه بالغزو؛ مات على شُعبة من شُعب النفاق».
فلو حدَّثت نفسك -وعلِم الله صدق نيَّتك- أنه لو قام الجهاد بشروطه الشرعية الثلاث تجاهد في سبيل الله؛ فأنت رُفع عنك النفاق.
والشروط الثلاثة للجهاد:
الشرطُ الأول: إعدادُ العدة {وأعدُّوا لهم ما استطعتُم من قوَّة}.
والشرط الثاني: الرايةُ المسلِمة، لا يجوزُ القتالُ تحت راياتٍ ليست شرعية، يقول النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «مَن قاتَل تحت رايةٍ عُمِّيَّة» راية في عماء، لا تعرف أصحابَها هل هم على هُدى أم لا «مَن قاتَل تحت رايةٍ عُمِّيَّة، فمات؛ فميتتُه جاهليَّة» ابق في بيتك لا تخرج للجهاد إذا كانت الرايةُ عُمِّية.
والشرط الثالث: ما ثبت في «الصحيحين»: من حديث أبي هريرة: قال النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «الإمامُ جُنَّة يُقاتَل من ورائه» لا بد من إذن الإمام، ما فيه إذن الإمام؛ فجهادُ الطلب متعطِّل، «يُقاتَل من ورائه»، الجهاد يحتاج إلى إعداد وتنسيق، وتنسيق في الطُّرقات، وأمن في طريق الذَّاهب للجهاد، مش هيزعة الجهاد؛ امش امش جاهِد!
في أزمة العراق اتصلت بي أخت، تسمع كلام المحمِّسين، تقول: أنا أرضع، أريد أترك ولدي، ولا أستأذن لا أبي ولا زوجي، والمشايخ يقولون لنا حرام حتى على المرأة!؟
هذا كلام مُراهَق، هذا كلام ما فيه فهم، ولا فيه علم، ولا عليه نور؛ إيش حرام تجلس.. الخبَّاز حرام يخبز، تتعطل الدُّنيا!
فالجهاد له أحكام..
أنت تطلق الكلام على العوام هكذا! كثير من الناس يُطلقون واجبات على الناس ومن أين دليلك على الوجوب؟ ما يعرف! بل كثير من الخَلق يطلقون واجبات على الناس هي فوق استطاعتهم!
واحد مات في هنغاريا كافر أنا مسؤول عنه؟! هل أنا يجب علي أن أتعلم اللغة الهنغارية ويجب علي أن أزور هنغاريا؟!... أنت تحسبني كل كافر في الأرض إذا ما بلغتُه الدعوة يجب علي أن أتعلَّم جميع اللغات، ويجب علي أن أزور كل البلاد!!؟ الله يقول: {فاتَّقوا الله ما استطعتُم}، الله يقول: { لا يُكلِّفُ الله نفسًا إلا وُسعَها}، {لا يُكلِّفُ الله نفسًا إلا ما آتاها}، «إذا أمرتُكم بأمرٍ؛ فاتوا منه ما استطعتُم»
طيب؛ «إذ نَهَيتُكم عن شيءٍ» إيش؟ فاجتنِبوا منه ما استطعتم؟
النهي فعل إيجاب ولا فعل عدم؟ النهي فعل عدم، هل العدم يحتاج لإرادة؟
المنهي الأصل فيه معدوم، الكذب معدوم، الزنا معدوم، السرقة معدوم.. صحيح؟ يعني لا يحتاج لإرادة، لا يحتاج لقُدرة، إيش الذي يحتاج لقدرة؟ أن ينتقل العمل من العدم إلى الإيجاد.
طيب؛ لو سألك سائل فقال: هل النهي يقتضي التكرار؟ إذا أمرك اللهُ بأمر يجب عليك أن تكرره؟ ولا أنا عملت مرة؛ خلاص؟ إذا فيه قرينة بالتكرار؛ كرَّرنا.
الله أمر بالصلاة، وعلَّقها بأوقات خمس، فبِتكرُّر الأوقات تتكرر الصلاة.
الله أمر بالصوم وعلَّقه برؤية هلال رمضان، كلما رأينا هلال رمضان؛ إيش عملنا؟ كرَّرنا.
الله أمرنا بالزكاة بشرطَين: النِّصاب، وحوَلان الحَول، ولم يجعل النِّصابَ واجبًا، يعني لو أنا كنت عندي أموال يأتي عليّ النصاب وزيادة، ولكن الأموال أنفقها، ما بلغت عندي النصاب، يجب علي الزكاة؟ ما تجب علي الزكاة.
طيب؛ الحج، إيش سبب الحج؟ وجود الكعبة المشرفة، هل وجود الكعبة يتكرر؟ فكم مرة يجب الحج في العمر؟ ليش؟ لأنه ما يتكرر السبب، حتى لما تُهدم الكعبة يجب الحج، ويجب الطواف حولها، لَمَّا يهدم ذو السُّويقتَين الكعبةَ، وينقض أحجارها حجرًا حجرًا، من يُدرك ذاك الزمان يقول لنا: إيش نعمل؟ نقول له: طف حول الكعبة بالتَّقدير، هنالك قواعد تقديريَّة عند العلماء ويأتينا التنويه والتنبيه على بعضها.
فالشرعُ ما أمر المكلَّفين إلا على وفق استطاعتهم.
طيب؛ النهي يقتضي التكرار؟ يعني: لو واحد ما زنى مرَّة، وما كذب مرة، وما سرق مرة، يقول: أنا استجبت؛ المرة الأولى ما كذبت، الثانية يجوز لي أن أكذب، المرة الأولى ما زينت، المرة الثانية يجوز لي أن أزني.. هذا الفهم صحيح؟ غير صحيح، فالأمر لا يقتضي التكرار إلا بِقرينة، والنهي يقتضي التكرار، ليش النهي يقتضي التكرار؟ لأن النهي عدمٌ، والأصل في النهي أن يبقى عدمًا، فمتى حوَّلت العدم إلى حضور؛ خالفتَ.
ولذا: النهي، إن نهى الشرعُ عن شيء ما قال نبينا -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: وإذا نهيتُكم عن شيء فاجتنِبوا منه ما استطعتم؛ وإنما قال: «فاجتنِبوه» وهذا الاجتناب يجب أن يبقى على الدوام، وهو يقتضي التكرار.
طيب؛ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: هل هو مناط بالمقدرة ولا بغير المقدرة؟ بالمقدرة «من رأى منكم مُنكرًا؛ فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع؛ فبِلسانه، فإن لم يستطع بقلبِه» إيش قلبه؟ يعني: تَقلِبه؟ ولا «فبقلبِك» فبِجنانك؟ قطعًا؛ بقلبك يعني بجنانك.
طيب؛ لما تبدأ تنهى عن المنكر أو تأمر بالمعروف من أين ينبغي يبدأ أول خطواته؟ من أين ينبغي أن يبدأ الإنكار؟ القلب، الذي يُنكر بيده قبل قلبه منافق؟ صحيح؟ وبعد القلب تُنكر بإيش؟ بالتعليم، باللسان، وبعد اللسان: باليد.
طيب؛ ليش النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- قال: «من رأى منكم مُنكرًا؛ فليغيِّره بيده»؟ يعني كان المُنكِر والمُنكَر عليه يعلمون هذا، النية حاصلة وصادقة، النبي يتكلم عن درجات القوَّة، ولا يتكلَّم عن آليَّةِ التَّغيير، آليةُ التَّغيير تبدأ بالقلب ثم اللسان ثم اليد، أما درجات القوَّة: تبدأ الأقوى فالأضعف، الأقوى: اليد، وبعد اليد: باللسان، وبعد اللسان: بالقلب.
المنكر على درجات، وليست كلُّ درجات المنكر واجبة:
- فإن غلب على ظنِّك إن أنكرتَ زال المُنكر، أو زال بعضُه؛ فالإنكار واجب.
- إن أنكرتَ فزال المنكرُ وحلَّ منكرٌ بقدره؛ فهذا موضع نظر، بعضُهم جوَّز وبعضهم منع.
- فإن أنكرتَ فترتَّب على إنكارِك المنكرَ منكرٌ أكبر منه؛ فإنكار المنكر في هذه الصورة؛ حرام.
هذا بناء على أي قاعدة؟ إذا ازدحمت المصالح؛ ارتَكبنا أعلاها، وإذا ازدحمت المفاسد؛ اجتنبنا أدناها.
يقول الإمام ابن القيم في كتابه «إعلام الموقِّعين»: كنت أسير أنا وشيخي أبي العباس -من أبو العباس؟ ابن تيمية-، فكان يرى التتار يشربون الخمر، قال: فتفلَّتُ وأردتُ أن أذهب وأن أُنكر عليهم.. العصر عصر عافية، والأرض أرض فيه خير كثير، والناس يشربون الخمر على قارعة الطريق، شيء غير طبيعي، فكنت أرى التتار يشربون الخمر، وأمر عليهم أنا وشيخي أبي العباس ابن تيمية، فكنتُ أتفلت لأنكر عليهم شرب الخمر، قال: فكان شيخي يأخذ بيدي ويمشي سريعًا ويقول لي: اتركهم، فإن الذي هم فيه أحب إلى الله من صَحَيانهم!
هؤلاء إن صحوا قتَّلوا المسلمين، فليبقوا مخمورين! التَّتري إن صحا من الخمر حمل السيف وبدأ يقطع رقاب المسلمين، يهجم على العُزَّل والضعاف من الناس، اتركهم، الذي هم فيه -الذي هو الخمر- أحب إلى الله من صَحَيانهم.
فهذا المثل يفيدنا في ثلاث قواعد مضت؛ أن المنكر إن ترتَّب عليه منكر أكبر منه؛ يكون إنكاره إيش؟
واحد شاب متحمس اليوم راح على خَمَّارة وحرق الخمارة، إيش يترتب على حرق الخمارة؟ كل الخمارات في التأمين، ما بيصدق صاحب الخمارة.. يفرح، يجدد كل المحل بِدِيكوره وكل شيء، صحيح؟ وأضر بنفسه، صحيح؟ بل ربما بعض الناس يفعل فعلًا قبيحًا فيضرر كل المسلمين، فيُضرَّر أهل التقوى، وليست الفتن ببعيدة عنا -التي حصلت في حماة، والتي حصلت في الجزائر، والتي حصلت هنا وهناك-.
فهذا كله أمور حرام شرعًا، يترتب على إنكار المنكر منكر أكبر منه؛ فإنكاره حرام هذه قواعد أهل العلم، وإنكار المنكر منوط بالاستطاعة، إذا ما استطعت إنكار المنكر باليد فباللسان، إذا ما استطعتَ باللسان تُنكره بقلبك، تقول في نفسك: اللهم إن هذا منكر ولا أرتضيه ولا أحبه! وخلاص رفع عنك الإثم -إذا كنت لا تستطيع حتى أن تبين-.
يقول الإمام أبو العباس القرطبي -شيخ القرطبي المفسِّر- في شرحه «المُفهِم على صحيح مسلم»، يقول: في ذاك العصر لما النبي قال: «فلينكره بيده» قال: هذا في الوُلاة وأعوانهم، «فإن لم يستطع؛ فبِلسانه» قال: هذا في العلماء وأعوانهم، العلماء والخطباء والوعَّاظ والدعاة، ثم قال: «فإن لم يستطع فبِقلبه» قال: هذا للعوام، عوام المسلمين ما عندهم علم.
فالدرجة الأولى: للوُلاة وأعوان الولاة، من أعوان الوُلاة؟ القُضاة والمحتسِبون، كان فيه نظام اسمُه نظام (الاحتساب) وألَّف فيه العلماء كتبًا [...] على الخبَّازين فيه مُحتسِبون، وعلى السمَّاكين فيه مُحتسِبون، وعلى أصحاب الذين يبيعون الحلويات فيه مُحتسِبون، وهذه الكتب تفصِّل كيف عمل المحتسب وكيف يقع الغش في كل مهنة من هذه المهن قديمًا.
فكان المجتمع يجتمع في دين مع مصالح الدنيا، والناس كلهم يعملون ويخافون الله[...] فكان الخير في كل مكان، خير الأرض وخير السماء، كان مجتمِعًا بين الناس.
طيب؛ هذه القاعدة الأولى، التي أرادها الناظمُ بقوله:
16. وَلَـيْـسَ وَاجِــبٌ بِـلا اقْــتِــدَارِ
نأتي للقاعدة الثانية -وهي في تتمة البيت-، قال:
... وَلاَ مُـحَـــرَّمٌ مَــعَ اضْــطِـــرارِ
إذا اضطُررتَ لشيء؛ فهذا ليس بحرام.
ومن بديع ما قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري شرح صحيح البخاري» (1/338) يقول: (ما أُبيحَ للضرورة لا يُسمَّى وقتَ التناوُل محرَّمًا).
يعني: إنسان غص بلُقمة، ولم يجد سائلًا يُسلِّك فيه اللقمة لا ماء ولا عصيرًا إلا خمرًا، وإن لم يسلِّك اللقمة يموت، فعند شُربه للخمر لا يكونُ شُربه للخمر محرَّمًا.
إنسان كاد أن يهلك، فلم يجد إلا ميتةً، فأكل من الميتة، فأكلُ الميتة عند تناوُل الميتة في وقت الضرورة؛ فلا يُسمى تناوُلُه محرَّمًا.
يقول الله -عزَّ وجلَّ-: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}؛ {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ}: لا يريد هذا، {وَلَا عَادٍ} لا يتعدَّى مقدار الأكل، قال الله -عزَّ وجلَّ-: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}، وختم الآية بقوله سبحانه: {إنَّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ} ليش؟ لأن المضطر لا يعرف المقدار الذي يدفعُ الضرورةَ، فقد يتعدَّى، هو لا يريد التعدِّي، لكن هو أيضا ما يستطيع أن يتناول المقدار الذي يستطيع أن يصل إلى الطعام الحلال، فقد يزيد، فإن زاد في مثل هذا الأمر وهو لا يبغي، وهو مضطرٌّ، ولا يتقصَّد، ولكنه وقعت الزيادة؛ فناسب أن تُختم الآية بقوله: {إنَّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ} فهذا أمر معفوٌّ عنه مغفور في حقه.
جماهير العلماء قالوا: الأكل يكون بمقدار كسر سَوْرة الجوع، الجائع لما يجوع لما يأكل قليلا سَوْرة الجوع تنكسر، جماهير أهل العلم فسَّروا {وَلَا عَادٍ}؛ يعني: يأكل بالمقدار، قالوا: يكسر سَوْرة الجوع، سَوَران الجوع حدته يكسره ويقف، ليس له أن يأكل حتى يشبع.
أبو حنيفة قال: لا، يأكل ما يسد الرمق.
يعني: لو كسر حدَّة الجوع وأكل شيئًا زائدًا حتى يغلب على ظنه أنه يصل، والذي أخذه ينجِّيه بسبب تقدير المسافة -أو ما شابه-؛ فحينئذٍ: لا حرج عليه.
وأنا الذي أراه -والله أعلم- صوابًا -وهذا تفصيل إمام الحرمين- التفصيل: المكان الذي ستصل إليه قريب وإلا بعيد؟ يحتاج يسقط سَورة الجوع؟ وإلا يحتاج أنه يأخذ شيئًا زائدًا عن سَورة الجوع؟ على حسب الحال الذي هو فيه، وهذا يدخل تحت عموم قول الله: {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} فالغير باغ ولا عاد يختلف باختلاف الأماكن، وباختلاف الأشخاص، والقُرب والبُعد عن وجود الطعام، أو عن وجود مخايل وجود الطعام، الإرهاصات التي تجعلني أرجِّح أني أجد طعاما، فهذه المسافات تختلف.
مما ينبغي أن يُعرف أن في الشرع: ضروريات وحاجيَّات وتحسينيَّات، وينبغي أن نفرِّق بينها؛ لأن الناس يخلطون [...].
يترتب على عدم الضرورة هلاك، وفاة، أو انعدام عضو، هذه ضرورة.
ويجوز لك أن تهجم على الحرام بسبب هذه الضرورة من غير عدوان ولا بأس، ... والله يعلم أنك إيش؟ واحد يأكل فيتمثل أنه قد غص حتى يَشرب الخمر! هذا باغٍ! والعادي أنه شرب ونزلت اللقمة وبقي يشرب، أصبح إيش هذا الآن؟ أصبح عاد، المطلوب أن تشرب غير باغٍ ولا عاد.
الضرورة إن تعطلت ماذا يترتب عليها؟ هلاك.
والحاجية إن تعطلت إيش يترتب عليها؟ ضرر، حرج، شِدة.
يعني اليوم: نمط حياة الناس أصبحت السيارات من الحاجِيات ولا من الضروريات؟ من الحاجيات، مش من الضرورة، غلط تقول من الضرورة، يترتب على عدم الضرورة وفاة أو هلاك، لو ما عندك سيارة لا تهلك ولا تموت، لكن يترتب على عدم وجود السيارة إيش اليوم؟ يترتَّب حرج.
ولذا: العلماء يقولون في قواعدهم: (الحاجيات تَلحق بالضروريات)، فكما يُقال: (الضروريات تُبيح المحظورات)؛ يقال: الحاجيَّات تُبيح المحظورات بِمقدار الضَّرر.
يعني: ما من رجل اليوم يشتري سيارة إلا وعليه تأمين، ممكن واحد يشتري سيارة ما يؤمن؟ التأمين ممنوع، طيب؛ إيش الآن حُكم شراء السيارة؟ لو سألك سائل: إيش حُكم شراء السيارة؟ حلال ولا حرام؟ حلال. ليش حلال؟ لأن الحاجيَّات تُنزَّل منزلة الضروريات، فكما أن الضروريَّات تُبيح المحظورات؛ فإن الحاجيات تبيح المحظورات.
طيب؛ نجيب شيئًا آخر: السكن، من الحاجيات أم من الضروريات؟ من الحاجيات. هل يجوز أخذ قرض ربوي للسكن؟ تقول: الحاجيات تنزَّل منزلة الضروريات، والضروريات تُبيح المحظورات؟ قلنا: نعم نحن نقولها؛ لكن نقول: القاعدة التي بعدها: أن الضرورة تقدَّر بقدرها.
هل يلزم للإنسان حتى يدفعَ حاجة ستر العورة والإيواء في بيت؛ هل يلزم ذلك أن يكون مالكًا للبيت؟ مُمكن تُستر العورة ويَسكن الإنسان بالإيجار؟ فالضرورة تقدَّر بقدرها، أجِّر، لا يلزمك أن تسكن البيت، ولذا: الذي يُفتي بجواز أخذ القرض الربوي من أجل بناء البيت وأعمَلَ قاعدة: (الحاجيات تُنزَّل منزلة الضروريات)، ونحن نوافق على أن السكن حاجة، وأن الحاجة تُنزَّل منزلة الضرورة؛ لكن توسَّع، كان باغيًا، وبغى هذا الأمرَ أصالةً واعتدى.
لذا الناظم في البيت الذي بعده قال:
17. وَكُـلُّ مَحْـظُــورٍ مَـعَ الضَّــرُورَهْ ... بِقَــدْرِ مَــا تَحْتَــاجُــهُ الضَّــرُورَهْ
إيش يعني: (بِقَــدْرِ مَــا تَحْتَــاجُــهُ الضَّــرُورَهْ)؟ يعني: امرأة احتاجت أن تتطبَّب، وإيلامها في أسفل قدمها، المرأة لما تتطبَّب تحتاج أن تذهب إلى أين؟ تذهب إلى من؟ طبيبة مسلمة، إن لم تجد الطبيبة المسلمة ذهبت إلى الطبيبة الكتابية، إن لم تجد الطبيبة الكِتابية تذهب للطبيب المسلم، إن لم تجد الطبيب المسلم تذهب للطبيب الكتابي.
كم من امرأة تذهب للطبيب الكتابي النصراني أو الكافر لأول مرة، تجاوزت ثلاث مراحل، والرجل يجد في نفسه، إخواننا الأطباء الثقات أصحاب الديانة الملتحِين يسألون يقولون: يا شيخ نحن نفحص البنات نجد في أنفسنا، الله يؤاخذنا؟ الطبيب آلة وليس برجل؟! الطبيب يجد في نفسه كما يجد الرجال، الطبيب واحد من الناس، فواجب عليه أحكام، والواجب على من تذهب إليه أحكام من النساء أحكام، فيَحرُم على الطبيب إلا الضرورة، والمرأة كذلك يحرُم عليها طبيب إلا الضرورة.
طيب؛ أسفل قدمها يؤلمها، لماذا يرى غير أسفل القدم؟
طيب؛ المرأة التي تحتاج لتشخيص، فحص داخلي يسمونه اليوم في الطب، ليش ما تكون عنده ممرضة، الممرضة تعمل الفحص الداخلي، ويدربها إيش تريد، فيَحرم على الرجل أن ينظر، والضرورة تقدَّر بقدرها، ويمكن غيرُه يسد مسدَّه فيها.
امرأة ذهبت عند كبير من الطبيبات ما استفادت ما بقي إلا الطبيب.
فإذا الضرورة تُدفع بالنظر للمرأة يُدرب امرأة مثلا؛ فهذا واجب، والضرورات فقط تقدَّر بقدرها، هذه تأتينا في المرة القادمة، نفصل فيها ونذكر الحالات.
لكن: الذي أريد أن أقرِّره الآن: أن الشرعَ من حيث الأهمية جعل هنالك:
الضرورات، وجعل هنالك رقم2 إيش؟ الحاجيات، وجعل رقم3 إيش؟ التحسينيات.
شو التحسينيات؟ يعني: إدخال السرور، التنعُّم في الدنيا.
طيب؛ هل إدخال السرور على النفس والتنعُّم في الدنيا واتخاذ المَصيَف والمَشتى واتخاذ العمارة والقصر، هذا ممنوع في الشرع ولا مذموم؟ ليس ممنوعًا في الشرع، «إن الله يحب أن يرى أثرَ نعمتِه على عبده»، وسليمان عليه السلام كان متنعِّمًا.
لكن: أن تجعل هذه الأشياء هي التي تشغل قلبك، وهي التي تملأ وقتك، وتصرفك عن العبادة وعن الخير؛ فهذا المذموم.
هذه الأشياء من مظنة أن تصرف الإنسان عن الخير.
لذا: أتعبَ العلماءَ مسألة: أيهما أفضل الغني الشاكر أم الفقير الصابر؟ من أحسن؟ إيش رايكم؟
طيب؛ أنا أذكر لكم شيئًا: صاحب المال، رجل عنده أموال كثيرة، هل تجب عليه الزكاة أم لا تجب؟
طيب؛ الفقير هل يجب عليه أن يأخذ؟ طيب؛ من أحسن الفقير ولا الغني؟
الفقير مش واجب عليه يأخذ.. خذ يا حبيبنا، أرجوك، هذه زكاة المال.. يأثم؟
طيب؛ الغني الذي لم يدفع؟ يأثم.
في الحديث الصحيح: أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمئة سَنة، خمسمئة سَنة حساب على الأموال.
فبعض العلماء قال: لهذين السببين -وغيرهما- أن الفقير أفضل، الفقير الصابر خير من الغني، لكن النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- إيش قال؟ قال: «نِعم المال الصالح للرجل الصالح».
والفصلُ في المسألة يختلف باختلاف حال الناس، والعبرةُ في الحالتين: أن يكون الإنسان رجَّاعًا إلى الله، فلما ذكر الله في «سورة ص» قصة أيوب -وهو رمز للفقير الصابر المُبتلَى-، ولما ذكر قصة سليمان -وهو رمز لمن آتاه الله المالَ والمُلك والسلطان-؛ فقال الله عن كل واحد منهما: {نِعمَ العبدُ إنَّه أوَّاب}، فالعبرة أن تكونَ أوَّابًا لله.
اللهم إن كان صلاحُنا في الغنى؛ فأغنِنا، وإن كان صلاحُنا في الفقر؛ فأفقِرنا.
إيش رايكم بالدعاء؟ ما تخافون الفقر؛ الله يعطي المالَ لمن يُحب ولمن لا يحب.
والكفار مِن بغيِهم لَما يدخلون النار يلتفت بعضُهم إلى بعض ويقولون: {ما لنا لا نرى رجالًا كُنا نعدُّهم من الأشرار} وين الفقراء المسلمين؟ يظنون -مساكين- أن موازين الآخرة موازين الدنيا! {ولِئن رُجِعتُ إلى ربِّي إنَّ لي عندهُ لَلحُسنى} هكذا الكافر يقول، ما دام أن الله أعطاني هذه الأموال، وأعطاني في هذه الدنيا، معناها إذا رجعت عند الله في الآخرة فلي عنده كما أعطاني في الدنيا!!
والنبي كسر هذا الأمرَ، النبي قال: «لو كانت الدنيا عند الله تُعادل جناحَ بعوضة؛ ما سقى منها كافرًا شربة ماء».
الدنيا هيَّنة، ومِن هوان الدنيا على الله يقول الله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ . وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ . وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ}؛ لولا أن المسلمين يصبحون كافرين؛ لجعلت الكفار في الدنيا لبيوتهم سقفا من فضة، ومعارج من فضة، وأبوابا من فضة، لكن الله -عزَّ وجلَّ- جبر كسر قلوب المؤمنين، الناس حينئذ قد يميلون للكفار، يصبح الناس كلهم كفار، {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}.. {وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} ختم الآيات.
فالدنيا الله يعطيها للكفَّار، فوجود مال عندك، وجود أولاد عندك، وجود جاه عندك، وجود [سلطان] عندك؛ لا يدل على أنك مرضي عند الله!
قد يكون فقير مدفوع بالأبواب، أشعث أغبر لا يلتفت إليه أحد يملأ مثل الدنيا من هذا الإنسان اللي ما شاء الله..!
فالتحسينيَّات شرعُنا جاءنا به، ومن ذم غيرَه بسبب التَّحسينيَّات المأذون بها في الشرع باعثُه في الذم: الحسد لك.
يعني يقول فلان: الشيخ الفلاني [...]! ليش؟ والله ساكن في قصر! طيب إيش مشكلة؟ هذا شيء حلال، أنس بن مالك كان عنده قصر.. إنسان يركب سيارة مثلا نوعها فاخر، إيش المشكلة؟
لكن إذا طغى هذا على الدِّين، واحتل هذا محل القلب، وبدأ الإنسان يضيِّع هذا المذموم!
أما السعادة فكما قال -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: السعادة في أربعة: المركب الهنيء، والبيت الفسيح، الزوجة الصالحة، والجار الصالح، هذه السعادة في الشرع.
والشقاوة في أربعة عكس الأمور الأربعة.
والله امتنَّ على قريش بقوله سبحانه: {رحلةَ الشِّتاءِ والصَّيفِ} قال الإمام القرطبي في «تفسيره»: «وفي هذه الآية دلالة على جواز أن يتخذ الرجل مَصيفًا ومشتى» يكون له قصر في مصيف وقصر آخر في مشتى؛ «لأن الله لا يمتن على أحد إلا بحلال، الله ما يمتن على قريش بشيء حرام، قال لهم رحلة شتاء، ورحلة صيف، لو كان عندك تصيِّف فيه، وآخر تشتِّي فيه؛ إيش مشكلة؟!...
فهنالك ضروريات وحاجيات وتحسينيات.
فالذي يُبيح المحرَّمات: الضروريات والحاجيات.
فلان أخذ قرضا من بنك؟ ليش؟ يغير أثاث بيته، [...] هذا حرام! في أي باب هذا؟ هذا في باب التحسينيات.
فالحرام يُهجم عليه بالضرورةِ والحاجةِ، وهذا الهجوم ليس على الإطلاق، حتى أكل الميتة.
يعني مثلا: ما وجدنا إلا مقدار من الميتة مقدار واحد، واثنان مضطران، واحد يأكل حتى يسد مقدار ...، لا يجوز للآخر أن يعتدي عليه، حتى في أكل الميتة؛ لأن الله يقول: {غير باغٍ ولا عادٍ}، إذا ما فيه غير مقدار واحد وهم اثنان؛ فيَحرُم على الآخر الذي لم يَسبق للميتة أن يعتدي على من يأكل الميتة.
فيه ضوابط أخرى تأتينا في درسنا القادم إن شاء الله تعالى.
فلما نقول: الضرورات تُبيح المحظورات نحتاج نقيِّدها، ننبذ التحسينيات أصلا، ونُقيِّد الضروريات والحاجيَّات التي تُحلِّل المحرَّمات بالمقدار دون الاعتداء، نأخذ المقدار دون الاعتداء.
والله أعلم.
وصلى الله وسلَّم وبارَك على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

انتهى (الجزء الثاني).

تفريغ : أم زيد


من هنـا تجميع روابط الدروس المفرَّغة
رد مع اقتباس