فائدة عزيزة قد لا تجدها في موضع آخر

[عبد الله السلفي الجزائري]

فائدة عزيزة قد لا تجدها في موضع آخر

تكلمت في كتابي "المفيد المختصر في بيان أحكام سجود السهو بالدليل والأثر" عن وجوب اتباع الدليل بدون غلو ولا جفاء : بالتسليم للوحي وترك الآراء ، فقلت:
" ويقول ابن القيم - رحمه الله- في "إعلام الموقعين..."(م2/ج1/41-42): "...وترى كثيرا من الناس إذا جاء الحديثُ يوافق قول من قلده وقد خالفه راويه يقول: الحجة فيما روى ، لا في قوله ، فإذا جاء قول الراوي موافقا لقول من قلده والحديث بخلافه قال: لم يكن الراوي يخالف ما رواه إلا وقد صح عنده نسخه وإلا كان قدحاً في عدالته، فيجمعون في كلامهم بين هذا وهذا، بل قد رأينا ذلك في الباب الواحد ، وهذا من أقبح التناقض. والذي نَدين الله به ولا يسعنا غيره وهو القصد في هذا الباب أن الحديث إذا صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وتَركُ كل ما خالفه ، ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائنا من كان لا راويه ولا غيره ؛ إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث أو لا يحضره وقت الفتيا، أو لا يتفطن لدلالته على تلك المسألة ، أو يتأول فيه تأويلا مرجوحا ، أو يقوم في ظنه ما يعارضه ولا يكون معارضا في نفس الأمر ، أو يقلد غيره في فتواه بخلافه لاعتقاده أنه أعلم منه وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه ، ولو قدر انتفاء ذلك كله ولا سبيل إلى العلم بانتفائه ولا ظنه ، لم يكن الراوي معصوما ، ولم توجب مخالفتُه لما رواه سقوط عدالتِهِ حتى تغلب سيئاته حسناته ، وبخلاف هذا الحديث الواحد لا يحصل له ذلك".
قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيم }[1].
ويقول:{ مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب }[2].
ويقول نبينا -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إذا حدثتكم حديثا فلا تزيدُنَّ عليَّ... »[3].
والنهي عن الزيادة يشمل اللفظ والرواية والمعنى والدراية ، وإذا نهى الشرع عن الزيادة فهو عن النقص ناهٍ من باب أولى.
ومثله الحديث المتواتر[4] لفظا ومعنى والذي فيه : «... من كذب علي معتمدا فليتبوأ مقعده من النار».
فالكذب لا يختص بالرواية بل الذي يزيد في المعنى أو ينقص أو يتركه إلى بدل أو إلى غير بدل يعتبر كاذبا على الله ورسوله والقيد المذكور يؤكد عموم هذا المعنى لهما معا تأكيدا واضحا جدا ؛ لأن عدم التعمد يرفع الجناح عن المجتهد المخطئ في الدراية وعن الذي يخطئ في الرواية ، ويؤكد هذا ويدفع شبهة قد ترد أنه قال في الحديث قبل ذلك : «بلغوا عني ولو آية» ، فدل على أنه يقصد الشرع كله حديثا وقرآنا.
وتأمل قوله تعالى:{ وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون}.
فالذي يرى الدليل دل على حكم ويتجاهله أو يزيد فيه أو يُنقِص منه هذا داخل في مدلول الآية ؛ لأنه قال بخلاف ما يعلمه.
والبعض يستدل بهذا اللفظ ونحوه على تحريم الفتوى بغير علم ، وعند التأمل نجد أن هذه العبارة البليغة تتناول أيضًا من أفتى بخلاف الدليل ممن يتصف بالعلم ، فلم يقل سبحانه: (ما تجهلون) ، ولكن قال كما هنا وضمن الآية (33) من سورة الأعراف -وهو يذكر أعظم المحرمات- :{...وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون}.
يشمل هذا الكلام بهذه الصيغة الجاهلَ المقتحم للفتوى كما يشمل عالم السوء الذي يخالف حكم الله مع (علمه) بأنه يقضي أو يفتي بخلاف الحق ، بل هو أولى هنا عند من تأمل الآية ، ولكننا لا تستوقفنا مثل هذه الأمور في كلام الله تعالى ولا في كلام رسوله - صلى الله عليه وسلم-".

----------------------------------------------
[1] الآية: 1 من سورة الحجرات.
[2] من الآية: 8 من سورة الحشر.
[3] انظر تخريجه وفقهه في"السلسلة الصحيحة"(1/680-682) ، وراجع "الدعوات الكبير" للبيهقي(1/205-206) بتحقيق البدر.
[4] انظر "نظم المتناثر من الحديث المتواتر" للكتاني (ص28-33).











.