أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا

             
22205 85137

العودة   {منتديات كل السلفيين} > المنابر العامة > المنبر الإسلامي العام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 09-18-2009, 12:21 AM
ابن الوادي ابن الوادي غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 69
افتراضي في أطوار ومراحل الفكر الذي أفضى إلى التفجيرات والاغتيالات

في أطوار ومراحل الفكر الذي أفضى إلى التفجيرات والاغتيالات / للشيخ أبي الحسن حفظه الله


لا شك أن أي مشكلة تمر بعدة مراحل، حتى تصل إلى العُقْدَة التي يصعب حلها، والهوّة التي يعسر تجاوزها، ومشكلة التفجيرات والاغتيالات ثمرة فِكْرٍ قد مَرَّ بعدة مراحل، ولا يمكن علاج هذه المشكلة علاجًا نافعًا؛ إلا بمعرفة هذا الفكر في جميع مراحله، حتى تُعَالَج كلُّ مرحلة بما يناسبها شرعًا.

والحامل على كتابة هذا الفصل: أن بعض الذين لهم أفكار مخالفة لمنهج السلف في هذا الباب، والتي أَسْهَمَتْ بقوة في إيجاد هذه المشكلة التي تعاني الأمة اليوم من ويلاتها؛ أصبحوا الآن - بين عشية وضحاها!!- من جملة المنكرين على الشباب الذين قاموا بالتفجيرات والاغتيالات!! دون أن يدركوا القَدْر الذي شاركوا به في إيجاد هذه المشكلة، ومن ثَمَّ لم يعلنوا تراجعهم عن أفكارهم السابقة، التي أنجبت هذا المولود المشؤوم!!
وعلى ذلك؛ فلا نَأْمَن أن تعود المشكلة من جديد - وإن انتهت هذه المشكلة الآن - لأن أصل الداء لازال موجودًا، ولأن الشجرة التي أثمرت هذه الثمرة الحنظلية؛ لازال هناك من يتفقدها، ويمدها بما يُقَوِّي من شأنها!!

أقول هذا؛ وأنا أعلم أن هناك من يغضب من هذه الحقيقة الواضحة، ويحب الغمغمة والغموض في الأمر!! إلا أني أقول هذا لله - عز وجل - وبراءة للذمة، ونصحًا للمسلمين، وأُثبت ذلك بيانًا للتاريخ، أما رضا الناس فغاية لاتُدْرَك، ومن أرضى الناس بسخط الله؛ سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس، ومَنْ عمل لله؛ فلايضل ولايشقى، والله المستعان.
إن من وفقه الله - عز وجل - للتوبة؛ فهذا من أسباب الرحمة - إن شاء الله - في هذه الأمة، فإن الله يقبل التوبة من عباده، ويعفو عن السيئات، لكن الواجب عليه أن يُصلح ما أفسده، فالله تعالى يقول: ) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا ( ( ) وقد ذكر شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - كلامًا حول من تاب من متكلمة المسلمين، وعقَّب على ذلك بهذا الكلام، ثم قال: ((لكن بقاء كلامهم، وكتبهم، وآثارهم محنة عظيمة في الأمة، وفتنة لمن نظر فيها، ولا حول ولا قوة إلا بالله )) ( ).اهـ.

وعلى هذا: فلابد من البراءة مما يخالف منهج أهل السنة، مما سُوِّدت به صحف الكتب، والرسائل، والنشرات، وكذا ما سُجِّل في الأشرطة مما يؤزّ الشباب أزًّا تجاه هذه الهاوية، والله المستعان.

وإنني إذْ أَذْكُر هذه المراحل؛ لايهمني - في هذا المقام - إيقاع اللوم على من خالف، أو تعنيفه على ذلك، بقدر ما يهمني تبصيره بمقدار مشاركته في هذا الأمر، لمخالفته منهج السلف في التربية - وإن كان لا يُقِرُّ العنف الحاصل، ولا إثارة الفتن الدموية الموجودة اليوم - والعاقل يستفيد من التجارب، ويتعظ بما وقع لغيره، فكيف بما جرى على يديه؟!
كما أن العاقل إذا رأى لازم قوله، أو ما يؤول إليه كلامه، ورأى عِظم البلية على الإسلام وأهله بذلك؛ فإنه يسارع إلى التوبة، وإصلاح ما بقي، واستدراك ما فاته، والله عز وجل يحب التوابين، ويحب المتطهرين، ونعوذ بالله من أن نسن سنة سيئة؛ فيكون علينا وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.
والمراحل التي مر بها هذا الفكر كالآتي:

المرحلة الأولى: هناك أناس وضعوا البذرة الأولى لشجرة الغلو - في هذا الباب - فأثمرت ثمرة مُرة حنظلية، وهي التفجيرات والاغتيالات.
فالبذرة الأولى تتمثل في أمرين:
الأول: التهييج على الحكام، وذِكْر مثالبهم وعيوبهم، وإيغار صدور الناس عليهم، وتصويرهم أمام العوام وأشباههم من طلاب العلم بأنهم جميعًا - دون تفصيل - يكرهون الإسلام، وأنهم منافقون زنادقة، يبطنون الكفر، وإنما يُظهرون بعض المواقف الموافقة للإسلام لِذرِّ الرماد في العيون فقط!!

هذا؛ وإن كان بعض الحكام قد قال بـبعض المذاهب، والعقائد، والمقالات الكفرية المصادمة للمعلوم من الدين بالضرورة - لكن إطلاق ذلك على جميع الحكام من الملوك، والرؤساء، والشيوخ، والأمراء، وفتح هذا الباب – ولو كان مقيَّدًا - لمن دبَّ ودرج؛ ظلم وجور، ولا يجوز الجور على رجلٍ من عَرْضِ المسلمين، فكيف إذا كان رأسًا من رؤوسهم؟!

كما أن إطلاق ذلك على من وقع منه الكفر الأكبر، وإشغال الناس بمقاومته ومنابذته - مع ضعفهم - وبدون الرجوع إلى كبار أهل العلم؛ كل ذلك يؤدي إلى الفتنة والفساد العريض، والله المستعان.
المهم: أن هذه الطائفة لهجت بسب الحكام جميعًا، ورميهم بالنفاق، والزندقة، والعمالة لأعداء الإسلام... إلى غير ذلك من عبارات أوغرت الصدور على ولاة الأمور، وزادت الوحشة بين الراعي والرعية، وأسقطت هيبة ولي الأمر أمام رعيته وغيرهم، وهذه البداية السيئة، هي التي أورثت هذه النهاية المرة.

وهذه الطائفة - وما كان على شاكلتها - يظنون أنك إذا لم تقف هذا الموقف حذو القُذَّة بالقُذَّة من الحكام؛ فيلزم من ذلك أنك راضٍ بعيوبهم، مدافع عن أخطائهم، مُتزلِّف إليهم، خائن لله، ولرسوله، وللمؤمنين!! وعلى أحسن الأحوال: فأنت جاهل لا تدري ما يدور حولك!! مع أن هذا ليس بلازم، فإنا نُشهد الله وملائكته ومن اطلع على هذا من الإنس والجن: أننا نبغض هذه المنكرات، ولا نُقرّهُم على منكرلم يُعذروا فيه شرعًا، علمًا بأن الكثير منا لا قيمة له عند الكثير من هؤلاء الحكام، بل نحن في عداد المجهولين عندهم، ونعوذ بالله من أن نجادل عن رجل لا يرجو لله وقارًا، أو نجادل - بباطل - عمن يختانون أنفسهم، أو عن خطأ من أخطأ!!

واعلموا - أيها القوم - أننا نرى ما ترون، ونعاني مما تعانون منه وزيادة، لكننا نلزم غرز السلف في التقويم بالتي هي أحسن، والصبر على الأذى - ونسأل الله العافية - هذا مع ما في قلوبنا مِنْ بُغْضٍ لهذه الأفاعيل المخالفة للبرهان والدليل، فإن الأمر دين، والمسلم - حاكمًا كان أو محكومًا - يُحَبُّ ويُبْغَض على حسب ما فيه من خير وشر، كما اتفق عليه أهل السنة، فليس هناك حُبٌّ خالص لشخص إلا للأنبياء، والصديقين، والأولياء الصالحين، وليس هناك بُغْضٌ خالص إلا للكفار والمنافقين، وأما من خلط هذا وذاك؛ كان له من الحب والبغض بقدْر ما عنده من خير وشر.
وقد كان السلف بخلاف ما عليه الكثير من الناس اليوم أمام الملوك والأمراء الذين قالوا بمقالات مصادمة للدين، فقد كانوا يرون أن السكوت وعدم إثارة الفتن أسلم لدينهم ودنياهم، وأبْقَى لبقايا الخير - وذلك بعد النصح إن أمكن - وحنانَيْك بعض الشر أهون من بعض، وقد أثبتت التجارب والحوادث صحة هذا الفهم، والله أعلم.
واعلم أن الناس تجاه منكرات الحكام طرفان ووسط؛ فمنهم من يجاري الحاكم على باطله، وهذا ممن باع دينه بدنيا غيره.
ومنهم من ينكر عليه إنكارًا غير شرعي، فيفسد أكثر مما يصلح.
والوسط طريقة السلف في النصح، والصبر على الأذى، والطاعة في المعروف، قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: ((... وكما أصاب كثيرًا من الناس مع الولاة الذين أحدثوا الظلم، فإنهم تارة يوافقونهم على بعض ظلمهم، فيعاونونهم على الإثم والعدوان، وتارة يقابلون ظلمهم بظلم آخر، فيخرجون عليهم، ويقاتلونهم بالسيف، وهو قتال الفتنة، فمن الناس من يوافق على الظلم، ولا يُقابل الظلم، مثل ما كان من أهل الشام - يعني والله أعلم من ادعى العصمة منهم لأمراء بني أمية - ومنهم من كان يقابله بالظلم والعدوان، ولا يوافق على حق، ولا على باطل، كالخوارج، ومنهم من كان تارة يوافق على الظلم، وتارة يدفع الظلم بالظلم، مثل حال كثير من أهل العراق ))( ) .اهـ.

هذا، وأما مذهب السلف: فهو كاللبن الذي يخرج من بين فرث ودم، ليس فيه رائحة الفرث، ولا لون الدم، والله أعلم.

وكذلك ظنت هذه الطائفة المبالِغة في ذكر عيوب الحكام: أنه لا تقوم للدين قائمة قط إلا بإسقاط الحاكم!! فمن ثَمَّ لهجوا بذلك، وربَّوْا أتباعهم على ذلك!! مع أن هذا مخالف للأدلة والواقع، فمن ذلك: أن الله - عز وجل - يقول: ) إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ( ( ) ولم يحصر الأمر في الحاكم فقط، فلم يقل: حتى يُغيروا ما بحكّامهم!! وقد قال النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم- : ((لتُنْقضَنَّ عُرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة؛ تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضًا الحكم، وآخرهن الصلاة )).

فدلَّ هذا الحديث على أن كثيرًا من شعائر الدين تبقَى بعد ذهاب الحكم، لأنه أول العرى نقضًا، والشيء لا يذهب كله بذهاب أوله!! فظهر بذلك أنه ليس الأمر كما يقولون: ذهاب الحكم؛ ذهاب الدين كله، وعلى ذلك فلا يهتم كثير منهم بكثير من واجبات الدين الأخرى، لاشتغالهم بما يسمونه بـ ((الحاكمية))، بل ربما جعل بعضهم الدعوة إلى سائر أبواب التوحيد والعقيدة؛ مما يثير البلبلة الفكرية، والفتن المذهبية، وعدَّ ذلك اشتغالًا بما لا ينفع، أو إضاعة للوقت!! وأن الأمر المهم الذي تُحْشد له الجهود والطاقات - في ظنه- هو: الإطاحة بالحاكم الفلاني، أو تولية الحاكم الفلاني، أو إشغال الأمة بسيرة الحاكم وطريقته!!
وقد أنكر شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - على من جعل وجود السلطان الجائر كعدمه، وعَدَّ ذلك كلام من لا يعقل ( )، وقد سبق نقله بتمامه، وجعل السلطان ظل الله في الأرض - وإن كان السلطان جائرًا - فقال: ((فإذا صلح ذو السلطان؛ صلحت أمور الناس، وإذا فسد؛ فسدت بحسب فساده، ولا تفسد من كل وجه، بل لا بد من مصالح، إذْ هو ظل الله، لكن الظل تارة يكون كاملا مانعًا من جميع الأذى، وتارة لا يمنع إلا بعض الأذى، وأما إذا عُدِم الظل؛ فسد الأمر ))( ).اهـ.

فهذا شيخ الإسلام لم يجعل مجرد الخلل في الحكم ذهابًا للدين كله، كما يدندن به هؤلاء الشباب!!

واعلم أنه ليس فيما سبق تسويغ للحكم بغير ما أنزل الله، تلك الجريمة النكراء - فمعاذ الله من الكفر والضلالة بعد الهدى - كما أنه ليس فيه تهوين من شأن هذا الأمر العظيم، وهو التحاكم للدين في كل كبيرة وصغيرة، ولكن المراد بذلك الرد على هذا الفهم الفاسد، الذي عطّل كثيرًا من الطاقات، وبعثر كثيرًا من الجهود، وضيَّع كثيرًا من الأعمار وراء ذاك السراب، وشغل الكثير من الشباب عما كانوا يستطيعون القيام به من علم، وتعليم، ودعوة!! فلا العلم حَصّلوه، ولا الحاكم بدّلوه، ولا الداعية على منهج السلف تركوه، فالله المستعان، وإليه المشتكى!!

وأيضًا؛ فالواقع يشهد بأن كثيرًا من الشعوب - مع أنهم لا يُحْكَمون بما أنزل الله، ومع مافي ذلك من فساد وشر - إلا أن كثيرًا منهم يحافظ على مباني الإسلام: من صلاة، وصوم، وزكاة، وحج، ويحافظ على توحيده، وإنكاره المنكرات، ومن ذلك إنكاره الحكم بغير ما أنزل الله، وكذلك ترى كثيرًا من الناس محافظًا على صلة الأرحام، والصدق، والعفاف، والفضيلة، والمكارم، وفعل الخيرات، ونحو ذلك.
فالحق: أن المخالفين في هذا الباب قد هوّلوا، وأعطوا مسألة الحكم والحكام أكبر من حقها في سُلَّم الأولويات في الدعوة إلى الله تعالى، وخالفوا بذلك منهج السلف في هذا الباب، وقابلهم من يهوِّنون من شأن الحكم بغير ما أنزل الله، وكِلا طرفيْ قصد الأمور ذميم!!

علمًا بأن الكثير من تلك الطائفة تنطلق من عاطفة جيَّاشة، وحماس متدفق فقط!! فليس عندهم قواعد علمية تجعلهم يدافعون عن مذهبهم هذا، وذلك لأنهم لا يهتمون بالعلم - إلا من رحم ربي-.
وإنما لهم توجُّه ثوري حماسي، ولذا فمنابرهم لا تزال ساخنة بذِكْرِ خيانات الحكام، وتَتَبُّعِ خطواتهم وأعمالهم الظاهرة والباطنة، والله أعلم بصدق كل ما يُقال - وإن كان من الظاهر البيّن من أعمال كثير من الحكام ما لا تقرّ به عين، ولا ينشرح له صدر!! - لكن ليس معنا إلا الصبر واللجوء إلى الله - عز وجل - هكذا أمرتنا السنة، وعلى هذا نصَّ سلفنا في مصنفات معتقدهم، وهم القوم الذين لا يشقى من لزم غرزهم في الحق - إن شاء الله تعالى -.
وإذا جالست أحدًا من كبار هذه الطائفة أوصغارهم؛ فما عند كل منهما إلا هذه العبارات: الحاكم الفلاني منافق، أو كافر، أو زنديق، أو فاجر، أو مُدْبر، أو عدو الله، أو كلهم كفار، أو عملاء اليهود والنصارى... الخ، وليس وراء هذه الأحكام كثير علم ولا تأصيل، بل هناك عاطفة وحماس مع التجرد من الدليل، فإذا ناقشتهم، وذكرتَ لهم خطأهم، وبُعْدَهم في ذلك عن منهج السلف في هذه الإطلاقات، أو في هذا التشهير والتهييج؛لم يقتنعوا بما تقول - إلا من رحم الله - مع عجزهم عن الرد عليك، وإثبات صحة ما هم عليه، إلا من خلال الجرايد، والصحف، والمجلات، والكتب الثقافية، التي كتبها من كان على شاكلتهم، أو من خلال الأنباء التي تنشرها الإذاعات والفضائيات!!

الأمر الثاني الذي بذرته هذه الطائفة: هو ذم كبار أهل العلم المخالفين لهم، وتنقصهم،ووصفهم بأنهم علماء سلطة فقط، أو على الأقل: أنهم سطحيون، جهلة بالواقع، وأنهم لُعْبَة في أيدي الحكام من حيث لا يشعرون!!
إن هذه الطائفة التي لهجت بهذين الأمرين؛ هي التي وضعت أول لبنة - شعرتْ أو لم تشعرْ - في بناء هذا المنهج المخالف لمنهج السلف، والذي انتهى به الأمر إلى التفجيرات والاغتيالات، فهذه الطائفة اعتقدت، ولم تُحْسِن الاستدلال على اعتقادها هذا!!

المرحلة الثانية: ثم جاءت طائفة أخرى: وضعت لذاك التهييج والحماس الثوري قواعد وأصولًا، عندما رأوا إنكار العلماء وطلاب العلم على الطائفة الأولى، ورأوا عَجْز تِلْكُم الطائفة عن الرد على مخالفيهم؛ فاعتقد بعض هؤلاء التكفير لجميع الحكام - متأثرين في ذلك بالطائفة الأولى - ثم راحوا يبحثون عما يُقَوِّي صحة اعتقادهم، فاعتقدوا ثم استدلوا، وهذا معيب عند أهل العلم.

الخلاصة: أن هذه الطائفة استدلت على تكفير جميع الحكام بقواعد مستمدة - في نظرهم القاصر - من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة، كأحمد بن حنبل، وابن تيمية، وابن القيم، والشاطبي، وغيرهم.
ومن تأمل تِلْكُمُ القواعد: علم أنه لا يسْلَم من التكفير بسببها حاكم على وجه الأرض، بل كثير من المحكومين لا يسْلَمون من التكفير بهذه القواعد أيضًا!! وظهر له أن هذه الطائفة وضعت كثيرًا من أقوال هؤلاء الأئمة وغيرهم في غير موضعه!!

فمن ذلك قولهم: ((من نظَّم المعصية؛ فهو مستحل لها، ويكون كافرًا بالاستحلال))!!

ويمثِّلُون لذلك بمن يسمح في بلده بوجود بنك يُتَعامل فيه بالربا، قالوا: فهذه معصية، وهي أكل الربا، والربا في نفسه معصية فقط، لكن البنك له لوائح، وإرشادات، وتعليمات، وهيكل وظيفي، وأساليب في الإيداع والسحب والتعامل... الخ، فكل هذا يدل على أنهم مستحلون للربا، وإن قالوا بألسنتهم: الربا حرام؛ فهم كفار مع ذلك للاستحلال!!

فمن ذا الذي سَيَسْلم من الكفر إذًا بسبب هذه القاعدة الجائرة ؟! لأنه يلزمهم على ذلك أن يُكَفِّروا أكثر أمراء بني أمية والعباس وغيرهم، فإن جورهم - ومن ذلك أخذ المال، وقتل النفوس - كان بتخطيط وتنظيم ومجاهرة ليبقى لهم ملكهم، بل قتلوا المئات أو الألوف في سبيل ذلك، ومع ذلك لم يكفِّرْهم السلف، ولم يخلعوا يدًا من طاعة، فأين البنك الربوي من حال هؤلاء الأمراء، ومنهم الحجاج، وما أدراك ما الحجاج ؟!

فهل كانت معصية الحجاج ارتجالية عشوائية غير مدبَّرة بليل أو نهار ؟ هل كان الحجاج وأمراء الجور يقيمون ملكهم وأمرهم على أمور جاءت اتفاقًا لا قصدًا، وتنظيمًا، وإعدادًا، وتحدِّيًا للمخالف ؟!
وكذلك يلزمهم أن يُكَفِّروا قُطَّاع الطريق إذا نظموا أنفسهم في عصابة، لنهْب الأموال، وقطْع السُّبُل، وجعلوا لكل مجموعة منهم مهمة معينة، ووضعوا نظامًا في قسمة ما حصلوه نهبًا من أموال المسلمين!!
وكذا يلزمهم تكفير المرأة المتبرجة التي تحرص على أن تكون بهيئة معينة - مع مخالفتها للشرع، ومع إقرارها بحرمة ما خالف الشرع - ومع ذلك فإنها تبذل وقتًا ومالًا وجهدًا حتى تظهر بهذه الصورة القبيحة!!
وكذا المشتغلون بالغناء ونحوه، وأصحاب المحلات التي يبيعون فيها بعض ما نهى عنه الشرع، ولهم طرق في استيراد، وتحصيل، ورقابة هذه الأمور، وكذا ما يجري في الجيوش، والمدارس، والجامعات من بعض الأنظمة المخالفة للشرع!! وقِسْ على هذا كثيرًا من الذنوب التي لا يكفِّر أهلُ السنة أصحابها، إلا أن هذه القاعدة المحْدَثة تُكَفِّرهم!!

وقد قال شيخ الإسلام ( ) عند كلامه على حديث: (( أول دينكم النبوة... ثم ملك عضوض، يُسْتحل فيه الحر والحرير...)) قال: ((لم يُرِدْ بالاستحلال مجرد الفعل؛ فإن هذا لم يزل موجودًا في الناس، ثم لفظ الاستحلال: إنما يستعمل في الأصل فيمن اعتقد الشيء حلالًا)).اهـ.

وقال:((فإن المستحل للشيء: هو الذي يأخذه معتقدًا حِلَّه)).اهـ.

ولشيخ الإسلام كلام واضح في أن الاستحلال المكَفِّر لا يثبت بفعل المعصية، مع قول الشخص: أنا أعتقد أن هذا حرام، وعدَّ التكفير بذلك تكفيرًا بغير موجب، وتكفيرًا بأمر محتمل. ( )
فلا يزال العصاة يُنَظِّمون أمرهم في المعصية، ويسيرون في سبيل تحقيق رغباتهم على مراحل معينة، ومع ذلك لم يكفِّرهم السلف بذلك، ولم يعدُّوهم مستحلين لذلك، بخلاف هذه القاعدة المبتكرة، والله أعلم.
ومن ذلك قولهم: ((من جاهر بمعصية؛ فهو مستحل لها، يكفر، كالذي عَرَّس بامرأة أبيه،كما في حديث البراء ))!! وقد رددت على ذلك الاستدلال في كتابي: ((كشف الغطاء بتحقيق أحاديث وآثار الداء والدواء)) يسّر الله النفع به في الدارين، وذكرتُ أن من أهل العلم من صرح بأن الرجل خُمِّس ماله؛ لأنه كان مستحلًا، لا بمجرد المعصية، وعلى كل حال: فهل سيسلم من هذه القاعدة حاكم، بل هل سيسلم منها أكثر المحكومين ؟!

فإن المجاهرة بالمعاصي في هذا الزمان؛ أمر لا يخفى على العميان، فهل سنكَفِّر هؤلاء جميعًا حكامًا ومحكومين، بسبب مجاهرتهم بالمعاصي والكبائر ؟!

فإذا قالوا: نكفِّر الحاكم دون المحكوم؛ تناقضوا، فإن القواعد تشمل كل من انطبقت عليه، والتفرقة بلا دليل تَحَكُّمٌ، والله أعلم.

ومَنْ سَلِمَ مِنَ التكفير بهذه القاعدة؛ فلن يَسْلَم عندهم من التكفير بقاعدة أو قواعد أخرى!! إذًا، فما الفرق بين هذه القواعد، وبين تكفير الخوارج لأصحاب الكبائر ؟!
إن حقيقة هذا المذهب تؤول إلى مذهب الخوارج، إلا أنهم وضعوا فروقًا - نظرية - فظن الناس أنهم ليسوا على طريقة الخوارج يسيرون - وإن جهل كثير من المخالفين هذه الحقيقة - ومن عرف الحقيقة؛ فإنه لا يغتر بهذه القيود النظرية!!
فأحَذِّرك - أخي الكريم - أن تغتر بقولٍ هذا حاله ومآله، وأنصحك أن تكون حذرًا يقظًا في قضايا التكفير، والتبديع، والتفسيق، والتضليل، فقد ضل بسبب ذلك طوائف في الزمان الأول: زمن انتشار العلم وفيوض العدالة، فما ظنك بهذا الزمان الذي رُفِع فيه العلم، وظَهر الجهل ؟!
ولقد أحسن من قال:

فلا يخدعنَّك عن دين الهدى نَفَرٌ لم يُرْزَقُوا في التماس الحق تأييدا
ومن قال:
لا يستزلَّك أقوامٌ بأقوال مُلفَّقاتٍ حَرِيَّاتٍ بإبطالِ

وأيضًا، فمن ذلك قولهم: ((من اعترف بمجلس الأمن، والأمم المتحدة، والأنظمة العالمية؛ كَفَر))!!.
هكذا دون تحديد منهم لمعنى الاعتراف المكفِّر، ودون مراعاتهم قوة المسلمين ووهنهم، وقوة شوكة غير المسلمين أوضعفها، ودون النظر في المصالح والمفاسد، وهذا كله لا تسلم من التكفير به دولة من الدول!! لأن الدول المسلمة - صالحها وطالحها - مشاركة في هذه الأنظمة، ومنهم من له اعتبارات شرعية في كثير من ذلك، ومنهم من لا يلتفت إلى موافقة الشرع أو مخالفته، ومثل هذا وذاك لا يخفى على كثير من العقلاء!!

ومن ذلك قولهم: (( مَن أَمَرَ غيره بمعصية، وعاقبه على ترْكها؛ فهو مستحل لها كافر))!! ومع ذلك فلهم نَظْرَتُهُم - الخاصة بهم - في الحكم على الشيء بكونه معصية، دون مراعاة للحامل على هذه المعصية: هل هو العجز أو الخوف، أو مراعاة مصالح عامة، أو درء مفاسد أكبر من فعل المعصية - وإن وقع خطأ في تقدير ذلك - وكذا هل الحامل على المعصية الشبهة، أم الشهوة والجرأة على حدود الله، أم لا ؟ أو الجهل أو العناد، ونحو ذلك؟

على أنه لا يلزم من ذلك أن جميع الحكام ينطلقون في تصرفاتهم من هذه النظرة الشرعية، بل بعضهم يفعل ذلك عن هوى وشهوة، دون مراعاة للقيود الشرعية!! ومع ذلك لا يلزم من ذلك التكفير لمعيَّن إلا بشروط وضوابط معروفة عند أهل العلم، وإن سلمنا بكفر المعيَّن؛ فلا يلزم من ذلك منابذته بالسيف، وإثارة الخاصة والعامة عليه، فإن في ذلك من الشر - الذي شهدت به التجارب - ما الله به عليم.
وعلى كل حال: فلا يَسْلَم - بناء على ما سبق من قواعد محدثة –حاكم، بل لا يكاد يسلم من ذلك كثير من أفراد الشعوب، ومديري المدارس، والجامعات، والمؤسسات الحكومية، وغيرهم!!
وهل كفَّر السلف أكثر أمراء الأمويين والعباسيين، وقد كانوا يقتلون من خالف أَمْرَهم - ولو كان أَمْرُهم في معصية - ؟! وأي عقوبة أشد من القتل ؟!
ومن ذلك قولهم: ((من حيَّا العلَم؛ كفر، وإذا حيَّا الجنديُّ قائده؛ كفر، وكأنه سجد لغير الله، أو هذه السجدة الصغرى ))... إلى غير ذلك من قواعد وفتاوى أَصَّلَت تكفير الحكام ومعاونيهم في جميع المجالات عند كثير من الشباب، بل تكفير كثير من المسلمين - من حيث يشعر أهل هذه القواعد أولا يشعرون -!!

ولهم على ذلك أدلة يستدلون بها، وكثير منها وضعوه في غير موضعه، وكثير منها حمَّلوه مالا يحتمل، ولهم بعض مقالات أصابوا فيها الحق من الناحية العلمية - ويجب الاعتراف لهم بذلك - لكنهم رتَّبوا عليها أمورًا مفسِدة، وأطلقوا لظنونهم العنان، وأغرقوا في الأخذ بلوازم الأمور، مع أن لازم القول ليس بقول في كثير من الحالات!!

وقد حدثني بعض الدعاة إلى الله تعالى بمدينة الرياض - حرسها الله وجميعَ بلاد المسلمين -: أن مِنْ هؤلاء الشباب مَنْ يُكَفِّر الإمام من أئمة الحرم، لأنه يقول في دعائه: ((اللهم اصلح ولاة أمور المسلمين)) مستدلًا هذا المُكَفِّر على ذلك بقوله: ((إن هذا يدل على أنه يُقرُّ بأنهم ولاة أمور المسلمين، وهذا يدل على عدم تكفيره إياهم، كما يدل على عدم كفره بالطواغيت، ومن لم يَكْفر بالطاغوت؛ فلم يؤمن بالله عز وجل))!! بل يتعدى بهذا الغالي الحال إلى أن يكفِّر كلَّ من أمَّن وراءه على هذا الدعاء من المصلين، للشبهة السابقة، ولقاعدة من لم يكفِّر الكافر؛ فهو كافر!!
ولا شك أن تكفيرهم من لم يكفِّر من كفَّروه - وإن سلمنا بخطأ مخالفيهم في عدم التكفير - تكفير بمجرد الخلاف في المسائل الاجتهادية، وهذا أشد من التكفير بالكبيرة، كما لا يخفى على من له معرفة بالعلم والعلماء!!
وأما قاعدة: ((من لم يكفِّر الكافر...)) فهي مقيدة بمن لم يكفِّر الكافر الذي كفَّره بعينه القرآن أو السنة، كفرعون، وأبي لهب، ونحوهما من الكفار الأصليين، أو لم يُكَفِّر من أبى واستكبر عن الدخول في الإسلام، أما من اختلف العلماء في تكفيره، كتارك الصلاة - مثلًا(1) -؛ فلا يُكفَّر من لم يكفِّره، ومن كفَّره لذلك؛ فهو مخالف للأدلة وطريق الأئمة، وقائل بما هو أشد من قول الخوارج في التكفير بالكبيرة!!
وإذا لم يقع الفرد في الكفر بعينه؛ فإنه يكفر- بناءً على قواعد القوم!!- بحجة أنه لم يكْفر بالطاغوت، ولم يعلن البراءة ممن كفَّرهُمْ هؤلاء الشباب!!

فقل لي بربك: مَنْ سَيَسْلَم من المسلمين إذًا من انضمامه إلى ركْب الكافرين المرتدين بناءً على هذا الفهم ؟!

المهم: أن هذا الحال يدل على أمر خطير، فاحذر منه يا طالب النجاة والهداية، ولا تغتر بكون الدعاة إلى هذا الفكر ما أرادوا إلا خيرًا؛ فإن هذا وحده لا يكفي، وكم من مريد خير لا يبلغه، والقصد الحسن وحده لم يبرئ ساحة الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - ومن والاه.

فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: ((وكانت البدع الأولى - مثل بدعة الخوارج - إنما هي من سوء فهمهم للقرآن، ولم يقصدوا معارضته، لكن فهموا منه مالم يدل عليه، فظنوا أنه يوجب تكفير أرباب الذنوب؛ إذْ كان المؤمن هو البر التقي، قالوا: فمن لم يكن برًا تقيًا؛ فهو كافر، وهو مخلد في النار، ثم قالوا: وعثمان وعلي ومن والاهما ليسوا بمؤمنين، لأنهم حكموا بغير ما أنزل الله، فكانت بدعتهم لها مقدمتان: الواحدة: أن من خالف القرآن بعمل أو برأي - أخطأ فيه - فهو كافر!!

والثانية: أن عثمان وعليًّا ومن والاهما كانوا كذلك؛ ولهذا يجب الاحتراز من تكفير المسلمين بالذنوب والخطايا، فإنه أول بدعة ظهرت في الإسلام، فكفَّر أهلها المسلمين، واستحلوا دماءهم وأموالهم... وهم مع هذا الذم إنما قصدوا اتباع القرآن، فكيف بمن تكون بدعته معارضة للقرآن والإعراض عنه، وهو مع ذلك يكفر المسلمين...))( ) .اهـ. كلامه - رحمه الله تعالى -.
وعلى كل حال: فعندما أَدْلَتْ هذه الطائفة بدلْوها، وقعَّدت قواعد كثيرة لذلك، وأفرزت عددًا لا يكاد يُحصر من الكتب، والمجلات، والنشرات، والمطويات، والرسائل، والمقالات، والأبحاث، سواء منها المطبوعة أو المسموعة، أو التي في ((الإنترنت))أو في الفضائيات أو غير ذلك، فعندما أفرزوا هذه الكتب والأشرطة وغيرها، ووُزِّعت مجانًا - في كثير من الأحيان - عَمَّق هذا الصنيع تكفير جميع الحكام في نفوس الشباب والعوام، بل تعدَّى ذلك إلى الطعن - وربما التكفير - في العلماء!!

وكلما كان أحد الحكام مظهرًا لأمرٍ مُكَفِّر؛ قَلَّ كلامهم فيه، بحجة ظهور أمره عند الناس!! وكلما كان أحدهم أكثر خيرًا؛ زاد الكلام فيه وفحُش، بحجة أن أمر تكفيره مُلْتَبِسٌ على الناس، وأنهم يحسنون به الظن، ولا يعرفون حقيقته؛ فلا بد من تقرير كُفْره بجلاء، نصحًا للأمة!! واشتعلت المجالس بذلك، وذُمَّ كبار العلماء الذين لا يرون رأيهم، ورُمُوا بما رمتهم به الطائفة الأولى وزيادة!!
ولاشك أن هذه القواعد إذا خيَّمت على أذهان الشباب، وسيطرت على أفهامهم، مع ما انضم إلى ذلك من إسقاط هيبة كبار أهل العلم المخالفين لهم، والتعبئة الخاطئة في أمر الجهاد والشهادة؛ فإن هذه الأمور جديرة بإحداث انفجارات مُدَوِّية، وأهوال مُرْدية، تُفْضِي إلى شرٍّ عظيم، ومفاسد لا خطام لها ولا زمام!!

المرحلة الثالثة: فلما اقتنع كثير من الشباب المحبين للدين - مع قلة البصيرة - بتلكم القواعد والأصول؛ ضحَّوْا بأنفسهم خدمة للدين - في ظنهم - فلبسوا الأحزمة الناسفة، وقادوا السيارات التي تحمل أطنان المتفجرات،ولسان حال أحدهم يقول - وهو قادم على قتل نفسه وغيره من المسلمين وغيرهم -: الله أكبر، فُزْتُ وربِّ الكعبة، غدًا نلقى الأحبة، محمدًا وصحبه!!
فيا سبحان الله، كم تعمل التأويلات الفاسدة في أهلها وغيرهم!!

وإن هذا ليذكرِّني بحال عبدالرحمن بن مُلجم قاتل علي - رضي الله عنه- الذي تقرب إلى الله بقتل رجل أمير للمؤمنين، ومبشر بالجنة، وثبت في حقه فضائل ومناقب لا تخفى، وابن عم رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ووالد سبطيه الحسن والحسين، وزوج فاطمة التي هي بضعة من رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم و رضي الله عنها - ثم مع هذا كله فابن ملجم يوصي من أراد قتله، أن يقتله شيئًا فشيئًا، ويقطِّع أعضاءه عضوًا عضوًا، دون قتْله بضربة واحدة؛ حتى يُكثر من ذِكْر الله - عز وجل -!!
هذا؛ وقد يكون غير هؤلاء الشباب هو الذي يقوم في بعض البلدان ببعض هذه التفجيرات - تحريشًا للحكام عليهم، وزجًّا بالشباب في أُتُّونٍ مستعر مع حكامهم، وقلقلة لأمن البلاد - ثم تُنسب هذه الرزايا إلى الشباب!! لكن الشباب هم الذين وضعوا أنفسهم موضع الشبهة، فقد اشتهر عنهم أنهم قاموا ببعض هذه الأمور، وقرّرها بعضهم في كتبه ومقالاته، ودافع عنها، واتهم مخالفه في ذلك – وإنْ كان مخالفه من العلم والفضل بمكان - ومدح هذه الفتنة آخرون من المخالفين، وفرحوا بها، بل يُنقل عنهم أنهم يعلنون مسؤوليتهم عن تلكم الأوابد والفواقر، وينشرون على الملأ – بالصوت والصورة - خطوات تنفيذ هذه العمليات، فإنا لله وإنا إليه راجعون!!

فإذا أنكرنا على الطائفة الثالثة فقط، دون علاج الأمر من الأساس؛ فذلك كالحرث في الماء، وكخبط عشواء، في أرض بيداء، في ليلة ظلماء!!

والحاصل: أن حال الطوائف الثلاث يُمثِّل عُقاب ( ) الغلو، الذي له جناحان وجسد، فالطائفة الأولى: بَطْنُ هذا الطائر وأصله.
والطائفة الثانية: الجناح العلمي له، ورأسه المفكرة المنظِّرة، وعيناه الناظرتان .
والطائفة الثالثة: الجناح العسكري له، ومنقاره، ومخالبه!!


إذن فعندنا ثلاث مراحل:
أـــ مرحلة العاطفة في التهييج على الحكام، والغمز في العلماء المخالفين لهذا الرأي، والطعن فيهم، وإن كان ذلك قد صدر عن عاطفة ارتجالية، وصرخات عشوائية!!

بـــ مرحلة التقعيد والتأصيل لهذا الفكر، حتى انتقل هذا الفهم الفاسد من حَيِّز العاطفة التي يسهل تغييرها، إلي حَيِّز العقيدة التي تتسم بالرسوخ والثبات، وقد أُخِذَتْ الاحتياطات اللازمة من بعض دعاتهم لإبقاء هذه العقيدة راسخة؛ عندما صُدَّ الشباب عن الرجوع إلى العلماء الكبار، بحجة أنهم ليسوا موثوقًا بهم!!‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍

جـــ مرحلة التنفيذ، المتمثلة في الاغتيالات للحكام وأعوانهم، بل لبعض العلماء المخالفين لهذا الفكر، وكذا التفجيرات التي طارت فيها أشلاء الشيوخ والنساء والصبيان، وانهدمت بها البيوت على سكانها، وسواء كان ذلك في شهر حرام، أم لا!! أو كان ذلك في شهر رمضان، الذي تُصَفَّدُ فيه مردة الجن، أم لا!! أو كان ذلك في ليالي العشر، والمسلمون عاكفون في المساجد، أم لا!! أو كان ذلك في الحرمين الشريفين أو غيرهما، أم لا!! وما سلمت بعض المساجد في اليمن وغيره من هذه التفجيرات، كما جرى في صنعاء وعدن، والله المستعان.

والحقُّ يُقَال: إن هذه المراحل لايلزم أن تجتمع في جميع أفراد هذه الطوائف المشار إليها سابقًا، بل قد يكون هناك أشخاص تنقَّلوا بين هذه الطوائف مع هذه المراحل، وأشخاص بذروا البذور فقط، وآخرون قاموا بسقيها ورعايتها فقط، مع ظنهم أن الأمر لا يصل إلى ما وصل إليه، وآخرون قطفوا ثمارها، وأدخلوها الأسواق، فَصِيْحَ بهم من كل جانب، وظُنَّ أنهم الجُناة - فقط - على هذه الأمة، ودينها، زأمنها، واستقرارها!!

وقد تُحذِّر الطائفتان الأوليان الطائفةَ الأخيرةَ من الإقدام على هذا الفساد - لاعتبارات عندهم، سواء كانت صحيحة أم فاسدة - وقد تحصل استجابة من بعض أتباع الطائفة الثالثة، إلا أن الكثير منهم مضَوْا في هذا الطريق، وهكذا فالفكر يتطور، ولا حَدَّ له، ومن بذر بذرة؛ فلا يستطيع أن يتحكم في نوع شجرتها ونباتها، ولا في لون أو طعم أو رائحة ثمرتها، لأن كل ثمرة تنبت من شجرتها ولابد - إلا أن يشاء الله شيئًا - وإن العنب لا ينبت من الشوك، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

ومما ينبغي أن يُنَبَّه عليه هنا: أن دعاة وأفراد هذه الطوائف ليسوا سواء، فمنهم من أتى بالقواعد السابقة، ومنهم من سكت ولم يُعقِّب، ومنهم من لا يرضى بذلك، لكن لم يظهر إنكاره، ومنهم غير المستبصر بهذا الفكر، المحبّ للخير دون معرفة بالطريق إليه، وغُرِّرَ به بسبب التعبئة الخاطئة، وهؤلاء يُخشى عليهم في المستقبل - إن لم يلطف الله عز وجل بهم - ولا شك أن لكلٍّ من هؤلاء حُكْمًا، ومن الظلم إطلاق حكم البعض على الكل، وقد قال تعالى: ) قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا.

والكلام هنا عن فِكْر ابتُليتْ به الدعوة والأمة، لا مجرد إثبات أن فلانًا يقول بهذا القول أم لا ؟! فإن لهذا مقامًا آخر.

كما أن المراد التحذير من هذا الفكر، والتنفير عن اتِّبَاع دعاته والاغترار بهم، لا مجرد إصدار الأحكام على المخالف دون مناقشته بالحجة والبرهان، وتذكيره بما مرَّ من التجارب التاريخية والمعاصرة، فإن السعي في إصلاح هذا الفكر من الواجبات الشرعية، والطبيب يقرر نوع الداء بدقة، وأمانة، ووضوح لا خفاء فيه، ثم يتلطف ما أمكن في علاج مريضه، ويأتي البيت من بابه، فإن نفع الله بذلك؛ وإلا فما على المحسنين من سبيل، ويُعامَل كل امرئ بما يستحقه شرعًا، والله أعلم.
رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 07:02 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.