أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا

             
74687 50017

العودة   {منتديات كل السلفيين} > منابر الأخوات - للنساء فقط > منبر العقيدة والمنهج - للنساء فقط

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 01-06-2011, 03:43 PM
أم زيد أم زيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 5,264
افتراضي ملف خاص بـ (شهر صفر)

بسم الله الرحمن الرحيم

شهر صفر *

المبحث الأول: الآثار الواردة فيه


1- عن أبي هريرة -رضيَ الله عنهُ- قال: إن رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- قال: " لا عَدْوَى(1)، ولا صَفَر(2)، ولا هامَة(3) "، فقال أعرابي: يا رسول الله! فما بال إِبِلي تكون في الرَّمل كأنها الظِّباء، فيأتي البعير الأجربُ فيدخل بينها يُجْربها؟ فقال: " فمَنْ أَعْدَى الأوَّل؟ " متفق عليه.

2- عن أبي هريرة -رضيَ الله عنهُ- عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- قال: " لا عَدْوَى، ولا طِيَرَة(4)، ولا هامَةَ، ولا صَفَر " متفق عليه.
وفي رواية لمسلم: قال رسولُ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: " لا عَدْوَى، ولا غُولَ(5)، ولا صَفَر ".

3- عن ابن مسعود - رضيَ الله عنهُ - قال: قام فينا رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- فقال: " لا يُعدِي شيءٌ شَيئًا "، فقال أعرابي: يا رسول الله! البعير أجرَب الحشفةِ(6) نُدْبِنُهُ(7) فيُجرِبُ الإبلَ كلَّها؟ فقال رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-:" فمَن أجرَبَ الأوَّل؟ لا عَدوَى، ولا صَفر، خلقَ اللهُ كلَّ نفس فكتب حياتَها ورِزقها ومصائبَها ".

4- عن ابن عباس-رضيَ الله عنهُما- قال: " كانوا يَرَون أن العمرة في أشهر الحج مِن أفجر الفجور في الأرض، ويَجعلون المحرَّم صفر، ويقولون: إذا بَرََأ الدَّبَر(8)، وعفَا الأثَر(9)، وانسلخ صفَر؛ حلَّت العمرة لمن اعتَمَر. قدم النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- وأصحابه صبيحة رابعة مُهِلِّين بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم، فقالوا: يا رسول الله! أيُّ الحِل؟ قال: " حِلٌّ كُلُّه ".

5- قال أبو داود: قُرئ على الحارث بن مسكين -وأنا شاهد-: أخبركم أشهب، قال سُئل مالك عن قولِه: " لا صَفَر " قال: إن أهل الجاهليَّة كانوا يُحلُّون صَفَر، يُحلونه عامًا ويُحرِّمونه عامًا، فقال النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: " لا صَفَر ".

6- قال البخاري في صحيحه: باب " لا صَفَر "، (وهو داء يأخذ البطن).


يتبع -إن شاء الله-


________________
* فصل من كتاب: "البدع الحَوليَّة"، تأليف: عبد الله التويجري، دار ابن حزم، الطبعة الأولى، 1421هـ-2000م، (121-134). نقلتُه من الشبكة، مع مراجعتِه على الكتاب، وتعديل ما فيه من أخطاء، وتكميل ما فيه من نقص، وضبط نصوصه -قدر المستطاع-، وإثبات حواشي المصنِّف في شرح بعض الألفاظ.
(1) " لا عَدْوى ": المُراد به نفي ما كانت الجاهليَّة، وتزعمه وتعتقده أنَّ المرضَ والعاهة تُعدي بطبعها لا بِفعل الله -تَعالى-. يُراجَع: شرح النووي على "صحيح مسلم" (14/213).
(2) " لا صَفر ": قيل: ا لمُراد تأخير تحريم المحرَّم إلى صفر، وهو النسيء، وقيل: دواب في البطن. يُراجع: شرح صحيح مسلم للنووي (14/214-215)، وقيل: التَّشاؤم بشهر صفر...
(3) الهامَة: قيل: طائر معروف من طَير الليل، وقيل: هي البومة، وقيل: إن رُوح الميت تنقلب هامةً تطير. يُراجع: شرح النووي على صحيح مسلم (14/215).
(4) الطِّيَرة: نوعٌ من السِّحر، قيل: هو ما تتحبَّب به المرأة إلى زوجها. والتَّطيُّر: التَّشاؤم، وأصله الشيء المكروه من قولٍ أو فِعل أو مرئي، وكانوا يتطيَّرون بالسَّوانح والبوارح، وفي الحديث: " الطِّيَرة شِرك ". يُراجع شرح صحيح مسلم للنووي (14/218-219).
(5) " ولا غُول ": كانت العربُ تزعم أن الغِيلان في الفَلوات، وهي جِنس من الشياطين، فتتراءى وتتغوَّل تغولًا؛ أي: تتلوَّن تلونًا، فتضلهم عن الطَّريق، فتهلكهم. يُراجع: شرح صحيح مسلم للنووي (14/216-217).
(6) الحشَفة: ما فوق الختان، وهي رأس الذَّكَر. يُراجع "لسان العرب" (9/47) مادة (حشف).
(7) نُدبِنُهُ: الدِّبْن: حظيرة الغنم إذا كانت من القصب. يُراجع "النهاية" لابن الأثير (2/99)، مادة (دبن). والمراد هنا: معاطن الإبل.
والمعنى: نُدخل البعير أجرب الحشفة في المعاطن فيُجرب الإبلَ كلها. يُراجع "تحفة الأحوذي" (6/354).
(8) الدَّبَر: أي ما كان يحصل بظهور الإبل من الحمْل عليها، ومشقَّة السَّفر، فإنه كان يبرأ بعد انصرافهم من الحج. يُراجع "فتح الباري" (3/426).
(9) أي: اندرس أثر الإبل وغيرها في سَيرها، ويحتمل أثر الدَّبَر المذكور. وفي "سُنن أبي داود" (2/503) كتاب المناسك، حديث رقم (1987): " وعفا الوَبَر ": أي كثر وبرُ الإبل الذي حُلق بالرِّحال. يُراجع "فتح الباري" (3/426).
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 01-07-2011, 10:39 AM
أم زيد أم زيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 5,264
افتراضي

المبحث الثاني: بدعة التَّشاؤم بـ(صَفر)


ورد في الحديث قوله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: " لا عَدْوَى، ولا طِيَرَة، ولا هامَةَ، ولا صَفَر ".

واختلف العلماء في قوله " لا عَدْوَى "، فهل المراد النهي أو النفي؟

قال ابن قيم الجوزية: (هذا يحتمل أن يكون نفيًا، أو يكون نهيًا، أي: لا تتطيَّروا، ولكن: قوله في الحديث: " لا عَدْوَى، ولا صَفَر، ولا هامَةَ " يدل على أن المرادَ النفي، وإبطال هذه الأمور التي كانت الجاهلية تعانيها، والنَّفي في هذا أبلغ من النَّهي؛ لأن النَّفي يدلُّ على بطلان ذلك، وعدم تأثيرِه، والنَّهي إنما يدل على المنع منه) اهـ.

وقال ابن رجب: ( اختلفوا في معنى قوله: " لا عَدْوَى "، وأظهرُ ما قيل في ذلك: أنَّه نفي لما كان يعتقدُه أهل الجاهلية مِن أن هذه الأمراض تُعدي بطبعها، مِن غير اعتقادِ تقدير الله لذلك، ويَدل على هذا قولُه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: " فمَنْ أَعْدَى الأوَّل؟ " يُشير إلى أنَّ الأوَّل إنما جَرِب بِقضاء الله وقَدَره، فكذلك الثَّاني وما بعده) اهـ.

قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا...}.

وأما قوله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: " ولا صَفَرفاختلف في تفسيرِه:

أولًا: قال ابنُ كثيرٍ -مِن المتقدِّمين-: (الصَّفَر) داء في البطن، يقال: أنه دُود فيه كبار كالحيَّات، وهو أعدى مِن الجرب عند العرب، فنفَى ذلك النبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، وممن قال بهذا من العلماء: ابنُ عيينة، والإمام أحمد، والإمام البخاري، والطبري.

وقيل: المراد بالصفَر: الحيَّة، لكن المراد بالنفي نفي ما كانوا يعتقدون أن مَن أصابه قتَلَه، فردَّ الشارعُ ذلك بأن الموت لا يكون إلا إذا فرغ الأجل.
وقد جاء هذا التَّفسير عن جابر وهو أحد رواة حديث: " ولا صَفَر ".

ثانيًا: وقالت طائفة: بل المراد بصفر هو (شهر صفر).

ثم اختلفوا في تفسيره على قولَين:

أ‌- أن المراد نفيُ ما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النَّسيء فكانوا يُحِلُّون المحرَّم، ويُحرِّمون صفر مكانَه،وهذا قول الإمام مالك.

ب‌- أن المراد أن أهل الجاهليَّة كانوا يَستشئمون بصَفر ويقولون أنه شهر مَشؤوم؛ فأبطل النبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- ذلك. ورجَّح هذا القولَ ابن رجب الحنبلي.

ويجوز أن يكون المراد هو الدوابُّ التي في البطن، والتي هي أعدى من الجرَب -بزعمهم-، وأن يكون المراد تأخير المحرَّم إلى صفر وهو ما يسمى بـ(النَّسيء)، وأن الصَّفَرين -جميعًا- باطلان لا أصل لهما، ولا تصريح على واحد منهما.

وكذلك يجوز أن يكون المراد هو نفي التَّشاؤم بصفر ؛لأن التَّشاؤم بشهر صَفر مِن الطِّيَرة المنهيِّ عنها ؛ لقوله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: " لا طِيَرَة "، وقوله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: " الطِّيَرةُ شِركٌ، الطِّيَرةُ شِركٌ ". ويكون قوله: " وَلا صَفَر " مِن باب عطف الخاص على العام، وخصَّه بالذِّكر لاشتهاره.

فالنفيُّ- والله أعلم- يشمل جميع المعاني التي فسَّر العلماء بها قوله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- " لا صَفَر " والتي ذكرتها؛ لأنها -جميعًا- باطلة لا أصل لها، ولا تصريح على واحد منها.

فكثير من الجهال يتشاءم بصفر، وربما ينهى عن السَّفر فيه، وقد قال بعض هؤلاء الجُهَّال: ذكر بعض العارفين أنه ينزل في كلِّ سنةٍ ثلاثمائة وعشرون ألفًا مِن البليَّات، وكل ذلك في يوم الأربعاء الأخير مِن صَفر، فيكون ذلك اليوم أصعب أيَّام السَّنَة -كلِّها-، فمَن صلى في ذلك اليوم أربع ركعات، يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرَّة، وسورة الكوثر سبع عشرة مرَّة، والإخلاص خمس عشرة مرَّة، والمعوذتين مرَّة، ويدعو بعد السَّلام بهذا الدُّعاء؛ حفظه الله بِكرمِه مِن جميع البليَّات التي تنزل في ذلك اليوم، ولم تَحم حوله بليَّة في تلك السَّنة!

وهذا هو الدعاء:
( بعد البسملة... اللهم يا شديد القوة، ويا شديد المحال، يا عزيز، يا من ذلت لعِزتك جميع خلقك، اكفني مِن شر خلقك، يا محسن يا مجمل يا متفضل يا منعم يا متكرم، يا من لا إله إلا أنت، ارحمني برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم بسر الحسن وأخيه وجده وأبيه وأمه وبنيه، اكفني شر هذا اليوم وما ينزل فيه يا كافي المهمات ويا دافع البليات، فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين )!(1)

وكذلك ما يفعله بعضُ الناس في اجتِماعهم في آخر أربعاء من شهر صفر بين العشاءين في بعض المساجد، ويتحلَّقون إلى كاتب يَرقُم لهم على أوراقٍ آياتِ السَّلام السَّبعة على الأنبياء؛ كقوله -تَعالى-: {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ}، ثم يَضعونها في الأواني، ويَشربون مِن مائها، ويَعتقدون أن سرَّ كتابتها في هذا الوقت، ثم يتهادونها إلى البيوت.

ونظير هذا: تشاؤم بعض النَّاس في بعض الأقطار الإسلاميَّة مِن عيادة المريض يوم الأربعاء وتطيُّرهم منه.

ولا شكَّ أنَّ التَّشاؤم بصفر أو بيومٍ مِن أيَّامه هو مِن جنس الطِّيرة المنهي عنها: فقد قال -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: " لا عَدْوَى، ولا طِيَرَة، ولا هامَةَ، ولا صَفَر ".

وقال -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- " لا عَدْوَى، ولا طِيَرَة، ويُعجِبُني الفَأْل "، قالوا: وما الفأل؟ قال: " كَلمةٌ طيِّبة ".

وقال -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام-: " الطِّيَرةُ شِركٌ، الطِّيَرةُ شِركٌ ".

وقال -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: " مَن ردَّتهُ الطِّيَرةُ عن حاجتِه؛ فقد أشْرَكَ "، قالوا: فما كفَّارة ذلك؟ قال: " أن تقولَ: اللهمَّ لا خَيرَ إلا خَيرُك، ولا طَيرَ إلا طَيرُكَ، ولا إلهَ غَيرُك " . . إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في النَّهي عن الطِّيَرة.

وتخصيص الشُّؤم بزمان دون زمان -كشهر صفر وغيره- غير صحيح؛ لأنَّ الزَّمان -كلَّه- خلق الله -تَعالى-، وفيه تقع أفعال بني آدم، فكلُّ زمان شغله المؤمن بطاعة الله؛ فهو زمان مُبارك عليه، وكل زمان شغله العبد بمعصية اللهِ؛ فهو مشؤم(2) عليه.

فالشُّؤم -في الحقيقة- هو معصية الله -تَعالى-، واقتراف الذُّنوب، فإنَّها تُسخط الله -عزَّ وجلَّ-، فإذا سخط على عبدِه؛ شَقي في الدُّنيا والآخرة، كما أنه إذا رضي عن عبده؛ سعد في الدُّنيا والآخرة.

فالعاصي مشؤم(2) على نفسِه، وعلى غيره؛ فإنه لا يؤمن أن يَنزل عليه عذاب فيَعمَّ النَّاس، خصوصًا مَن لم يُنكر عليه عمله، فالبُعد عنه مُتعيِّن.

أما قوله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-:" لا عَدْوَى، ولا طِيَرَة، والشُّؤمُ في ثلاثٍ: المرأةِ، والدَّار، والدَّابَّة ".

فقد اختلف العلماء فيه:

أ‌- فرُوِي عن عائشة -رضيَ الله عنهُا- أنها أنكرت هذا الحديثَ أن يكون من كلام النبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، وقالت: (إنَّما قال: " كان أهل الجاهليَّة يقولون: الطِّيَرة في المرأةِ والدَّار والدَّابة "، ثم قرأت عائشة: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}).

وقال معمر: سمعت مَن يُفسر هذا الحديث يقول: (شُؤم المرأة: إذا كانت غيرَ وَلود، وشُؤم الفَرَس: إذا لم يغز عليه في سبيل الله، وشُؤم الدَّار: جارُ السوء).

ب‌- ومنهم من قال: قد روي عن النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- أنه قال:" لا شُؤمَ،وقد يكونُ اليُمنُ في الدَّار والمرأةِ والفَرَس ".

والتَّحقيق: أن يُقال -في إثبات الشُّؤم في هذه الثَّلاث- ما ورد في النَّهي عن إيراد المريض على الصَّحيح والفرار مِن المجذوم ومِن أرض الطاعون: أن هذه الثلاث أسباب يقدِّر اللهُ -تَعالى- بها الشُّؤم واليُمن ويقرنه.

والشُّؤم بهذه الثَّلاثة إنما يَلحق مَن تشاءم بها؛ فسيكون شُؤمُها عليه، ومَن توكَّل على الله ولم يتشاءم ولم يتطيَّر؛ لم تكنْ مشؤومةً عليه، ويدلُّ على ذلك حديث أنس -رضيَ الله عنهُ-: " الطِّيَرةُ على مَن تَطَيَّر ".

وقد يجعل الله -سُبحانه وتَعالى- تَطيُّر العبد وتشاؤمه سببًا لِحلول المكروه، كما يجعل الثِّقة به والتوكُّلَ عليه وإفرادَه بِالخوف والرَّجاء مِن أعظم الأسباب التي يدفع بها الشَّر المُتطيَّر به، وسِرُّ هذا: أن الطِّيَرة إنما تتضمَّن الشِّرك بالله -تَعالى-، والخوفَ مِن غيره، وعدم التَّوكُّل عليه والثِّقة به؛ فكان صاحبها غَرضًا لسِهام الشَّرِّ والبلاء؛ فيتسرَّع نفوذها؛ لأنّه لم يتدرَّع بالتوحيد والتَّوكل، والنَّفس لا بد أن تتطيَّر، ولكنَّ المؤمن القوي الإيمان يَدفع موجب تطيُّرِه بالتَّوكل على الله؛ فإنَّ مَن توكَّل على الله وحده كفاه من غيره، قال -تَعالى-: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ *إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}.

قال ابن قيِّم الجوزية: (فإخبارُه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- بالشُّؤم أنَّه يكون في هذه الثَّلاثة، ليس فيه إثباتُ الطِّيرة التي نفاها؛ وإنما غايته أن الله -سُبحانه-، قد يخلق منها أعيانًا [مشؤومة] على مَن قاربَها وسكنها وأعيانًا مُباركة لا يَلحق مَن قاربها منها شُؤم ولا شرٌّ، وهذا كما يعطي -سُبحانَه- الوالدَين ولدًا مباركًا يَرَيان الخير على وجهه، ويُعطي غيرَهما ولدًا، فكذلك الدَّار والمرأة والفرس. والله -سُبحانه- خالق الخير والشَّر، والسُّعود والنُّحوس، فيخلُق بعض هذه الأعيانَ سُعودًا مُباركةً، ويقضي سعادةَ من قارنَها، وحصول اليُمن له والبركة، ويَخلق بعض ذلك نحوسًا يتنحس بها مَن قارنها، وكل ذلك بِقضائه وقدَره، كما خلَق سائرَ الأسباب، وربطها بِمُسبباتها المتضادَّة والمختلفة، فكما خلق المسك وغيره مِن حامل الأرواح الطيِّبة، ولذَّذ بها مَن قارنها من الناس، وخلق ضدَّها وجعلها سببًا لإيذاء مَن قارنها مِن النَّاس، والفرق بين هذين النَّوعَين يُدرَك بالحس، فكذلك في الدِّيار والنِّساء والخيل. فهذا لون، والطِّيَرة الشِّركيَّة لون آخر).

ولهذا يُشرع لمن استفاد زوجة، أو أمَة، أو دابَّة: أن يسأل الله -تَعالَى- مِن خيرها، وخير ما جُبِلت عليه، ويستعيذ به من شرِّها وشرِّ ما جبلت عليه -كما ورد ذلك عن النبي-صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، وكذلك ينبغي لمن سكن دارًا أن يفعل ذلك، وقد أمر -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- قومًا سكنوا دارًا فقلَّ عددُهم، وقلَّ مالُهم أن يَتركوها ذميمة.

فتَرْك ما لا يجد الإنسان فيه بركة -مِن دارٍ، أو زوجة، أو دابَّة- منهي عنه، وكذلك مَن اتّجر في شيء فلم يربح فيه؛ لقوله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: " إِذا كان لأحَدِكُم رِزقٌ في شَيء فَلا يَدَعْه حتَّى يَتغَيَّر له أو يتنَكَّر له ".

فالتَّطيُّر والتَّشاؤم بوقت، أو شخص، أو دار، أو غير ذلك؛ مِن الشِّرك -كما ثبت ذلك عن النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-في الأحاديث السابق ذكرها-.

والتَّشاؤم مِن الاعتقادات الجاهليَّة التي انتشرت -وللأسف الشَّديد- بين كثير من جهال المسلمين، نتيجة جهلهم بالدِّين -عمومًا-، وضعف عقيدة التَّوحيد فيهم -خصوصًا-، وسبب ذلك: الجهل، ونقص التَّوحيد، وضعف الإيمان، [و]عدم انتشار الوَعي الصَّحيح فيهم، ومُخالطة أهل البِدع والضَّلال، وقلة مَن يُرشدهم ويُبيِّن لهم الطَّريق المستقيم، وما يجب اعتقادُه، وما لا يجوز اعتقاده، وما هو شِرك أكبر يُخرج المسلم عن الملة الإسلامية، وما هو شِرك أصغر، وما هو ذريعة إلى الشِّرك ينافي كمال التَّوحيد ويوصل الفاعل -في النِّهاية- إلى الشِّرك الأكبر الذي لا يَغفر اللهُ لصاحبه إن مات ولم يَتُب، ويكون مخلَّدًا في النار، وتحبط جميع أعماله الصالحة، كما قال -تَعالى-: {... إنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}. وقال الله -تَعالى-:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا}.

ومع ذلك: لا زال كثيرٌ مِن النَّاس يتشاءمون مِن شهر صفر، ومِن السَّفر فيه، فلا يُقيمون فيه مناسبة ولا فرحًا، فإذا جاء في نهاية الشَّهر؛ احتفلوا في الأربعاء الأخير احتفالًا كبيرًا! فأقاموا الولائم والأطعمة المخصوصة والحلوى -خارج القُرى والمدن-، وجعلوا يمشون على الأعشاب للشفاء من الأمراض!!

وهذا -لا شكَّ- أنَّه مِن الجهل الموقع في الشِّرك -والعياذُ بالله- ومِن البدع الشِّركية، ويتوقف -بالدَّرجة الأولى- على سلامة العقيدة، فهذه الأمور لا تصدر إلا ممن يشوب اعتقادَه بعضُ الأمور الشِّركيَّة، التي يَجر بعضها بعضًا كالتَّوسُّلات الشِّركية، والتبرُّك بالمخلوقين، والاستغاثة بهم.

أما مَن أنعم الله عليه بسلامة العقيدة، وصحَّتها؛ فإنه -دائمًا- متوكِّل على الله، معتمدٌ عليه، موقنٌ بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبَه، وأنَّ التَّشاؤم والطِّيَرة، واعتقاد النفع أو الضر في غير الله، ونحو ذلك كله مِن الشِّرك الذي هو من أشد الظلم، قال -تَعالى-: {... إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.

والتَّشاؤم مما ينافي تحقيق التوحيد.

وتحقيق التَّوحيد: منه ما يكون واجبًا، ومنه ما يكون مندوبًا.

فالواجب: تخليصُه وتصفيته عن شوائب الشِّرك والبدع والمعاصي، فالشِّرك يُنافيه بالكلية، والبدع تنافي كمالَه الواجب، والمعاصي تَقدح فيه وتنقص ثوابه، فلا يكون العبد محقِّقًا التَّوحيد حتى يَسلم من الشِّرك -بنوعَيه-، ويَسلَم مِن البدع والمعاصي.

والمندوب: تحقيق المقرَّبين؛ وهو انجذاب الرُّوح إلى الله محبةً وخوفًا، وإنابة وتوكلًا، ودعاءً وإخلاصًا وإجلالًا وهَيبة، وتعظيمًا وعبادةً، فلا يكون في قلبه شيء لغير الله، ولا إرادة لما حرَّم الله، ولا كراهة لما أمر الله، وذلك هو حقيقة (لا إله إلا الله).

قال الشَّيخ محمد بن عبد الوهاب في "كتاب التَّوحيد" (باب: مَن حقَّق التوحيد دخل الجنَّة بغير حساب)، وذكر فيه حديث ابن عباس -رضيَ الله عنهُما- عن النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- قال: " عُرضت عليَّ الأمم، فأخذ النَّبي يَمر معه الأمَّة، والنَّبي يمر معه النَّفر، و النبيُّ يَمُر معه العَشرة، و النَّبي يَمُر معه الخمسة، والنَّبي يَمُرُّ وحدَهُ، فنَظرتُ فإذا سَوادٌ كثير، قُلت: يا جِبريلُ! هَؤلاءِ أمَّتي؟ قال: لا، ولكن انظُرْ إِلى الأُفُق، فنَظَرتُ فإذا سَوادٌ كثير، قال: هؤلاء أمَّتك، وهؤلاء سَبعون ألفًا قدَّامهم لا حِسابَ عليهم ولا عَذابَ، قُلتُ: ولِمَ؟ قال: كانُوا لا يَكتَوُون(3)، ولا يَستَرْقُون(4)، ولا يتطيِّرون، وعلى ربِّهم يتوكَّلون... " الحديث.

فذَكَر الرسول -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- من صفات الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب: الذين لا يتطيَّرون، وعلى ربهم يتوكَّلون، والتَّوكل على الله هو الأصل الجامع الذي تفرَّعت عنه هذه الأفعال.

فخلاصة الكلام: أن التَّشاؤم بصفر وغيره من الأزمنة ونحو ذلك؛ مِن البدع الشِّركية، التي يجب تركُها والابتعاد عنها؛ لما ورد في ذلك مِن التَّرغيب والتَّرهيب. والله أعلم.


_____________
(1) قال في الحاشية: ( وهل يتقرَّب إلى الله بهذه الألفاظِ والتَّوسُّلات الشِّركيَّة؟!! وإنما هذا دليلٌ واضحٌ على بِدعيَّة وضلالة هذه الأدعية التي هي مِن وضعِ بعضِ الجُهال من الصُّوفيَّة وأضرابِهم ) اهـ.
(2) كذا، ولعلها: شؤم.
(3) أي: لا يسألون غيرَهم أن يكويَهم بالنَّار؛ استسلامًا للقضاء، وتلذذًا بالبلاء، مع أن الكي -في نفسِه- جائز. يُراجع: حاشية ابن القاسم على كتاب التوحيد، (ص45، 86).
(4) أي: لا يَطلبون مَن يرقيهم؛ استسلامًا للقضاء، وتلذذًا بالبلاء. والرُّقية: قراءة القرآن على المريض ونحوه. يُراجع: حاشية ابن القاسم على كتاب التوحيد، (ص45، 86).
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 01-11-2011, 09:31 AM
أم زيد أم زيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 5,264
افتراضي

محاضرة " شهر صفر " لفضيلة الشيخ علي الحلبي -حفظه الله-
صوتيَّة
مفرَّغة
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 01-29-2011, 03:14 AM
أم عبدالله نجلاء الصالح أم عبدالله نجلاء الصالح غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: عمّـــان الأردن
المشاركات: 2,647
افتراضي

جزاك الله خير الجزاء ابنتي الغالية " أم زيد " على ما تثرين به منتدانا الغالي، وبارك الله فيك وفي جهودك، وفي علمك، وزادك الله من فضله، ونفع بك.

وجزى الله الشيخين الفاضلين أبو الحارث " على الحلبي " و عبد الله التويجري" خير الجزاء وبارك فيهما وفي علمهما، وزادهما الله من فضله، ونفع بهما.
__________________
يقول الله - تعالى - : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون} [سورة الأعراف :96].

قال العلامة السعدي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية الكريمة : [... {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا} بقلوبهم إيمانًاً صادقاً صدقته الأعمال، واستعملوا تقوى الله - تعالى - ظاهرًا وباطنًا بترك جميع ما حرَّم الله؛ لفتح عليهم بركات من السماء والارض، فأرسل السماء عليهم مدرارا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم في أخصب عيشٍ وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كدٍّ ولا نصب ... ] اهـ.
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 01-29-2011, 03:59 AM
أم عبدالله نجلاء الصالح أم عبدالله نجلاء الصالح غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: عمّـــان الأردن
المشاركات: 2,647
افتراضي

ذكر فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله - تعالى - في بدع ما قبل الإسلام :

1 - الإمساك عن السفر في شهر صفر وترك ابتداء الأعمال فيه من النكاح والدخول وغيره.

وقال : [ وحديث " من بشرني بخروج صفر بشرته بالجنة " موضوع كما في " الفتاوى الهندية " ( 5 / 330 ) وكتب الموضوعات .

انظر : [ كتاب حجة النبي – صلى الله عليه وسلم - ص 104 ] و [ كتاب مناسك الحج والعمرة ص 47].
__________________
يقول الله - تعالى - : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون} [سورة الأعراف :96].

قال العلامة السعدي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية الكريمة : [... {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا} بقلوبهم إيمانًاً صادقاً صدقته الأعمال، واستعملوا تقوى الله - تعالى - ظاهرًا وباطنًا بترك جميع ما حرَّم الله؛ لفتح عليهم بركات من السماء والارض، فأرسل السماء عليهم مدرارا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم في أخصب عيشٍ وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كدٍّ ولا نصب ... ] اهـ.
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 01-09-2012, 04:28 AM
أم زيد أم زيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 5,264
افتراضي

جاء في "صحيح البخاري" -كتاب الطِّب، باب: (لا صَفَرَ، وهو داءٌ يأخذُ البَطن)-:
حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدَّثنا إبراهيم بن سعد، عن صالِح، عن ابنِ شِهابٍ قال: أخبرني أبو سلمةَ بنُ عبد الرحمن -وغيرُه-: أنَّ أبا هريرةَ -رضي الله عنهُ- قال: إن رسول الله -صلى اللهُ عليه وسلم- قال: "لا عَدوَى، ولا صَفَر، ولا هامةَ"، فقال أعرابيٌّ: يا رسول الله! فما بال إِبِلي تكون في الرَّمل كأنَّها الظِّباءُ، فيأتي البعيرُ الأجربُ فيَدخلُ بينها فيُجرِبُها؟ فقال: "فمَنْ أَعدَى الأوَّلَ؟".
قال الحافظ ابن حجر -رحمهُ الله-:
( قولُه : (باب: لا صفَرَ، وهو داءٌ يأخذ البطنَ) كذا جزَم بتفسيرِ الصَّفر، وهو بِفَتحَتَين.
وقد نقل أبو عبيدةَ مَعمَرُ بنُ المثنَّى في "غريبِ الحديث" -له- عن يونسَ بنِ عُبيدٍ الجَرميِّ أنَّه سأل رُؤبةَ بنَ العجَّاج، فقال: هي حيَّةٌ تكون في البطنِ تُصيبُ الماشيةَ والنَّاس، وهي أعدى مِن الجَرَب عند العرب.
فعلى هذا: فالمرادُ بِنفيِ الصَّفَر ما كانوا يعتقدونه فيه مِن العدوى.
ورجَّح عند البخاري هذا القولَ؛ لكونِه قُرِن في الحديث بالعدوى.
وكذا رجَّح الطبريُّ هذا القولَ واستشهد له بقول الأعشى:

ولا يَعَضُّ على شُرسُوفِهِ الصَّفرُ
والشُّرسوف -بضمِّ المُعجمة وسُكون الرَّاء ثم مُهملة ثم فاء-: الضِّلع، والصَّفر دُودٌ يكون في الجَوفِ، فربَّما عضَّ الضلعَ أو الكبدَ فقتلَ صاحبَه.
وقيل: المرادُ بالصَّفَر الحيَّةُ؛ لكنَّ المرادَ بالنَّفيِ نفيُ ما كانوا يعتقدونه أنَّ مَن أصابه قتَلَه؛ فردَّ ذلك الشَّارعُ بأنَّ الموتَ لا يكون إلا إذا فرغ الأجلُ.
وقد جاء هذا التَّفسير عن جابرٍ -وهو أحد رُواة حديث: "لا صَفرَ"-، قاله الطَّبري.
وقيل في الصَّفر قول آخر: وهو أنَّ المراد به شهرُ صفر؛ وذلك أنَّ العرب كانت تُحرِّمُ صفر وتستحلُّ الحُرُم -كما تقدَّم في كتاب الحج-؛ فجاء الإسلامُ بِردِّ ما كانوا يفعلونه مِن ذلك؛ فلذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا صَفَر".
قال ابن بطال: وهذا القولُ مَرويٌّ عن مالك، والصَّفر -أيضًا- وجع في البطنِ يأخذُ مِن الجوع ومِن اجتماع الماء الذي يكون منه الاستسقاء، ومِن الأوَّل حديث: "صَفَرةٌ في سبيل الله خيرٌ مِن حُمْر النَّعَم"؛ أي: جَوعة، ويقولون: صَفَر الإناءُ؛ إذا خلا عن الطَّعام، ومِن الثَّاني: ما سبق في الأشربة في حديث ابن مسعودٍ: أنَّ رجلًا أصابه الصَّفَر؛ فنُعتَ له السَّكَرُ؛ أي: حصل له الاستسقاءُ فوُصف له النَّبيذُ، وحَمل الحديث على هذا لا يتَّجه -بخلاف ما سبق- ).
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 12-21-2012, 02:36 PM
أم زيد أم زيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 5,264
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم


«شَهـرُ صَفَـر»

محاضَرةٌ (مفرَّغة)

لفضيلة الشَّيخ
علـيِّ بن حسَـن الحلبـيِّ
-حفِظهُ اللهُ-
إِنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالنَّا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

أمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كَلَامُ اللهِ، وَخَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُها، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

وبَعْدُ:

فمُراعاةً منا لأصلٍ شرعيٍّ ينبغي إحياؤُه، وينبغي استمرارُه، وهو: قولُ النبيِّ -صلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم-: «الدِّينُ النَّصيحَةُ»؛ فأحببتُ -ونحنُ-اليومَ-في اليوم الثَّاني من الشَّهر الثَّاني مِن السَّنَة الهجريَّة الجديدة-وهو شهرُ صَفر- أن أُنبِّه على أمورٍ متعلِّقةٍ بهذا الشَّهر الكريم ورِثها كثيرٌ من النَّاس عن الجاهليَّة الأولى، ولم يُقيموا لها قَدْرَها، غيرَ مُراعين لِأصولِ الشَّريعةِ الغرَّاء، وقواعدِها العصماء؛ فوقعوا في كثيرٍ من البِدعِ والمحدَثات بغيرِ درايةٍ ولا انتِباه!

واللهُ -تَبارَك وتَعالَى- وصف الفِئة المؤمنَةَ الناجيةَ من الخُسران المُبين بقولِه -تَبارَك وتَعالَى-: {وَتواصَوا بِالحَقِّ وتَواصَوْا بِالصَّبْرِ}.

فانطِلاقًا مِن هذا الأصل، وصُدورًا عن هذا الأساس: نُذكِّر أنفسَنا، ويُذكِّر بعضُنا بعضًا في قضايا كثيرةٍ قد يُخطئ فيها النَّاسُ -كثيرُهم أو قليلُهم، كبيرُهم أو صغيرُهم- وقد يكونُ هذا الخطأ مِن غيرِ انتِباهٍ، ومِن دون تعمُّدٍ، ولكنَّ التعمُّد لا يعني أن يكونَ البيانُ مقصورًا عليه، فحتَّى عند الخطأ غيرِ المتعمَّد؛ فإن البيانَ واجبٌ.

عندما جاء ذلك الرَّجلُ إلى رسولِ الله -صلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم- قائلًا: ما شاء اللهُ وشئتَ -يا رسولَ الله-؛ لم يكنْ جواب النَّبي -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- صمتًا ولا سُكوتًا؛ وإنَّما قال لهُ -باستِفهامٍ إنكاريٍّ صريحٍ وقويٍّ-صَلواتُ ربِّي وسلامُهُ عليهِ- قال: «أجعلتَني للهِ نِدًّا ؟ قُلْ: ما شاء اللهُ وحدَهُ». وفي روايةٍ: «ما شاء اللهُ ثمَّ شاءَ محمَّدٌ».

فالخللُ له صورتان:
- صورةُ التعمُّد.
-وصورةُ الخطأ.

وكما يقولُ أهلُ العلم: (المُراد لا يَدفعُ الإيراد)؛ المُراد: أي المقصود. والإيراد: أي الاستِدراك.

فمقصودُك إذا كان حسَنًا؛ فإنَّ هذا المقصودَ الحسَن لا يَنفي أن يُستدرَك عليكَ إذا أخطأتَ الصَّواب -بالقولِ، أو الفِعل-؛ لأن شُروط قَبول أيِّ عمل -مهما كانَ- مِن أعمالِ الإسلامِ التي يتقرَّب بها العباد إلى ربِّنا الملِك العلَّام شرطان:
- الشَّرط الأوَّل: الإخلاصُ لله.
- والشَّرط الثَّاني: الموافقةُ لسُنَّة رسولِ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وآلِه وسلَّم-.

ونحن في كلِّ مجلسٍ من مجالسِنا -تقريبًا- نبتدئُ بخُطبة الحاجةِ النَّبويَّة، والتي فيها التَّذكيرُ بأهميَّة السُّنَّة وخطرِ البدعةِ -معًا-؛ وذلك: قولُ النبيِّ -صلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم-والذي نَذكُره ونُكَرِّره، ونُذكِّر به ونتذاكَرُه-: «أمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كَلَامُ اللهِ، وَخَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُها، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ»؛ خمسَ مرَّاتٍ للتَّوكيد على هذا الأصل -فضلًا عن تَكرار هذه المرَّات الخمس في كلِّ مقامٍ-مِن خُطبة جمُعة، أو مجلس علم، أو مَقام تعليم، أو غير ذلك-في غالبِ أمرِه-صَلواتُ ربِّي وسلامُه عليه-.

وما أجملَ -أيُّها الإخوةُ- ما قالهُ التَّابعيُّ الجليلُ حسَّان بنُ عطيَّة -رحمَهُ اللهُ-: (ما أحدَثَ قومٌ في دِينِهم بدعةً؛ إلا رفعَ اللهُ مكانَها سُنَّة؛ حتَّى تحيا البِدعُ وتموتَ السُّنن).

فيا لهُ من خطر عظيم يتهاون فيه الكثيرون، ولا يتنبَّه إليه الأكثرون، وهم يَحسبون أنَّهم للخير يصنعون، وهم -في ذلكَ كلِّه- غالِطون مخطِئون.

بعضُ النَّاس إذا سمعنا نُذكِّر بالسُّنَّة، أو ننهى ونُحذِّر من البدعة؛ قال: هذه قُشور؛ اهتمُّوا باللُّباب، هذه صغائر؛ اهتمُّوا بالكبائر!! -يعني: الأمور الكبيرة-؛ وهذا خللٌ وزللٌ؛ فلا فرقَ في دِين الله بين صغيرٍ وكبير، ما دامَ أنَّه دِين، فما تَحسبُه هيِّنًا؛ قد يكونُ عند الله عظيمًا.

وأَذكُر في ذلك نصَّين:

- أما النَّصُّ الأوَّل: فهو قولُ النَّبي -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: «ما حسدتْكُم اليهودُ على شيءٍ كمِثلِ ما حَسَدَتْكُمْ عَلى (آمينَ) في الصَّلاة».

اليهود قومُ حسَدٍ -فوق خُبثِهم، وكُفرِهم، وضلالِهم، وغضبِ الله عليهم-؛ يقول النَّبي -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: «ما حسدتْكُم اليهودُ على شيءٍ كَمِثلِ ما حَسَدَتْكُمْ عَلى (آمينَ) في الصَّلاة»؛ {يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ}.

نحن -الآن- لا نُقدِّر هذه الكلمةَ -التي هي عندهم ذاتُ مكانةٍ عُظمى، ومنزلةٍ كُبرى-.

قد يقولُ قائلٌ، أو يسألُ سائل: ولماذا هذا التعظيمُ لكلمةِ (آمين)؟

اسمعوا ماذا يقولُ النَّبي -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: «إنَّ الإمامَ يقولُ (آمينَ)، وإنَّ الملائكةَ تقولُ (آمينَ)، فمَن وافقَ تأمينُه تأمينَ الملائكةِ؛ غُفِر له ما تقدَّم مِن ذنبِه».

كلمة واحدة: خفيفةٌ على اللِّسان، ثقيلةٌ في الميزان، حبيبةٌ إلى الرَّحمن -جلَّ في عُلاهُ، وعَظُم في عالي سَماه- لا يتنبَّه إليها النَّاس، ولا يَنتظرون ثوانيَ معدودةً لنَيْلِ هذا الأجر، والحظوةِ بهذا الصَّواب والثَّواب على وجهِ الحقِّ والصَّواب.

كثيرٌ مِن النَّاس -وللأسفِ- لا يَكادُ ينتهي الإمامُ مِن (آمينَ) -بل حتَّى قبل أن ينتَهي-؛ فإذا بهِ يسبِقونَه: (آمين)!! وهذا خطأ!!

إذا سمعتَ الإمامَ يقولُ: {ولا الضَّالِّين}، سمعتَ النونَ بسُكونِها مِن {وَلا الضَّالِّين}؛ فإنَّ هذا أوانُ بدئِه بالتَّأمين وبدئِك معه، لا تَسبقْه، واحرصْ على أن لا تتأخَّر عنه.

إذًا: سُنَّة قد يظنُّها بعضُ النَّاس شيئًا يسيرًا؛ لكنَّها عند الله -فعلًا، وأثرًا- شيءٌ كبير جدًّا.

واسمعُوا -أيضًا- الحديثُ الآخَر:

النبيُّ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- جالسٌ في المسجد مع أصحابِه -وبينهم عُمَر-، فإذا برجلٍ -بعد الصَّلاةِ- يُصلِّي صلاةً أخرى مِن غيرِ تمهُّل؛ فقال عُمرُ -رضِيَ اللهُ-تَعالَى-عَنهُ-: (إنَّ أهلَ الكِتاب ما ضلُّوا إلا لأنَّهم لم يَجعلوا بين صلاتِهم فَصْلًا).

كم مِن النَّاس -اليومَ- يُخالِفون هذه السُّنَّة؟! ما أن ينتهيَ الإمام من صلاةِ الفريضة: (السَّلام عَليكُم ورحمةُ اللهِ.. السَّلام عَليكُم ورحمةُ اللهِ)؛ إذا بهم -كأنَّهم على جمرٍ مِن النَّار- لا ينتظِرون، وليس لهم قرارٌ، يقومون -كأنَّما أصابهم المسُّ!!- مباشرةً ليُصلُّوا السُّنَّة؛ وهذا خلافُ السُّنَّة.

الأصل: أن يكونَ -ثمَّةَ- فصلٌ؛ إمَّا بكلامٍ، أو بِحركةٍ؛ أمَّا: (السَّلام عَليكُم ورحمةُ اللهِ.. السَّلام عَليكُم ورحمةُ اللهِ.. اللهُ أكبر)!! كما يفعلُ كثيرون مِن النَّاس -وبخاصَّة في هكذا مساجد في الأسواقِ-؛ حتى يُدرِك دُكانَه، أو مكتبَه، أو شركتَه، ولو أنَّه جلس دقيقةً -أو دقيقتَين-؛ لم يُخطئ؛ بل لهُ أجرُه، وله ثوابُه.

قال عمرُ: (إنَّ أهلَ الكِتاب ما ضلُّوا إلا لأنَّهم لم يَجعلوا بين صلاتِهم فَصْلًا).

النبي -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- جالس؛ ماذا قال له؟ «أصابَ اللهُ بكَ -يا ابن الخطَّاب-»؛ فصار قولُ عمرَ كأنَّه حديثٌ لرسولِ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وآلِه وسَلَّم-.

هذه مقدِّمات أكثرُ إخواننا يعرِفونها؛ لكنَّ الذِّكرى تنفع المؤمنين.

شهرُ صفَر: شهرٌ من الشُّهور الهجريَّة التي ذكرَها الله -تَبارَك وتَعالَى- على وجهِ الجُملة في كتابِه: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ..} إلى آخرِ الآياتِ الكريمات.

سُمِّي شهرُ صفَر بهذه التَّسميةِ -كما يقولُ ابنُ منظور في «لسانِ [العرب]»- لأنَّه سببٌ في إصفارِ أهلِ مكَّة منها -أي: إخلائِها-؛ فسُمِّي صفرًا مِن هذه الحيثيَّة.

وقيل -كذلك-: لأنَّ العربَ في الجاهليَّة كانوا يغزو بعضُهم بعضًا فيجعلون مَن لقَوْهُم مِن الذين غُزُوا يجعلونهم صِفرًا؛ يعني: فارغين؛ ينهبونَهم، ويأخذونهم، وكان ذلك في هذا الشَّهر؛ سُمِّي بذلك.

أيضًا: يكثرُ التَّشاؤُم من شهرِ صفر -للأسفِ الشَّديد-، ولا يزالُ لذلك بقيَّة -وإن كان بصُورةٍ خفيَّة-، والنبي -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- يقولُ: «لا عدوَى، ولا طِيَرةَ، ولا هامَةَ، ولا صفرَ، وفِرَّ مِن المجذومِ فِرارَك مِن الأسَد».

ومُرادُنا من الحديث -وهو في «الصَّحيحَين»- قولهُ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: «لا صفَر»؛ أي: لا اعتقادَ فيه فسادٌ في شهرِ صفر.

«لا صفَر»: هذا نفيٌ للاعتقاداتِ الفاسدة مِن عقائد الجاهليَّة.

ولا نُريد أن نتطرَّق -هذه السَّاعة- إلى شرح الحديث، وما قد يَرِد على الأذهانِ فيه -وإن كُنَّا قد شرحناه مِرارًا، وبخاصَّة قولَ النَّبي -صلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم-: «لا عدوَى، ولا طِيَرةَ»، وبيَّنَّا وجهَ توجيه أهل العلم في ذلك-.

هُنا فتوى لأستاذِنا الشَّيخ محمَّد بن صالح العُثيمين -رحمَهُ اللهُ- يقول:
(و«صَفَر»: فُسِّر بتفاسيرَ)؛ يعني في الحديث: «لا صَفر» (الأوَّل: أنَّه شَهر صَفَر المعروف، والعرب يتشاءَمون منه. والثَّاني: أنَّه داءٌ في البطن يُصيب البعير، وينتقل مِن بعيرٍ إلى آخرَ؛ فيكونُ عطفُه على العدوى من باب عطف الخاصِّ على العام) قال: «لا عدوَى، ولا طِيَرةَ.. ولا صفرَ».

لكن: هذا ليس هو القول الرَّاجح.

القولُ الرَّاجح: أنَّه المُراد به: شهرُ صفرٍ -نفسُه-؛ فقد كانوا -أي العرب- في الجاهليَّة يُؤخِّرون تحريم شهر المحرَّم إلى صَفر! {إنَّما النَّسيءُ زِيادَةٌ في الكُفرِ}؛ النَّسيءُ: التَّأخير؛ لماذا؟ لأن عندهم عقيدة فاسدة في صفر؛ حتى وردَ عن ابنِ عبَّاس -رضِيَ اللهُ عنه- في «صحيح البخاري» و«مسلم» قال: (كانوا -أي: في الجاهليَّة- يَرَون أن العمرةَ في أشهرِ الحج مِن أفجرِ الفُجور في الأرض، ويجعلون المحرَّم صفرًا)! كل ذلك تلاعب! يُغيِّرون ما خلق الله، وما جعله بين النَّاس قواعد عامَّة، وأصولًا هامَّة.
قال: ([وأرجَحُها] أن المُرادَ شهر صَفَر؛ حيثُ [كانوا] يتشاءَمون به في الجاهليَّة).

يقول الشَّيخ ابنُ عثيمين -رحمَهُ اللهُ-تَعالَى-: (والأزمنةُ لا دَخْل لها في التَّأثير، وفي تقدير الله -عزَّ وجَلَّ-؛ فهو كغيرِه) أي: شهر صفر (مِن الأزمنة؛ يُقدَّر فيه الخير والشِّر).

لذلك: ماذا قال النبي -صلَّى اللهُ عَليهِ وعلى آلِه وصحبِه أجمعين-؟ قال: «لا تَسُبُّوا الدَّهرَ؛ فإن اللهَ هو الدَّهْر» وفي رواية: «فإنِّي أَنا الدَّهر أُقلِّب الليلَ والنَّهارَ كيفما أشاء».

يعني: لو أن أحدًا مِن النَّاس سبَّ الدَّهر، هو لا يسبُّ الدَّهر الذي هو شيءٌ اعتِباري؛ لكنْ: يَسبُّ الوقائعَ التي حصلت في هذا الدَّهر مما آذتْه، أو أثَّرتْ عليه؛ أو مسَّته، أو أصابتْهُ؛ فجعلته يَسبُّ؛ إذًا: وقع سَبُّه على ماذا؟ على ما قدَّره اللهُ عليه -وإن كان سبُّه-في اللَّفظ-للزَّمن، أو للدَّهر-؛ لكنَّ اللهَ هو الذي يُقلِّب الدَّهر، ويقدِّر فيه الخير والشرَّ.
قال: (وبعض النَّاس إذا انتهى مِن عملٍ معيَّن) مثلًا (في اليومِ الخامس والعشرين... من شهرِ صفر...؛ قال: انتهى الخامسِ والعشرين من شهرِ صَفر الخير)، قال: (فهذا من باب مُداواة البدعةِ بالبدعة)؛ يعني: أهلُ الجاهليَّة يقولون: (شهر صفر شَرٌّ)؛ فيأتي [مِن] أهل الإسلام مَن يقول: (شهر صفر الخير).

يقول الشَّيخُ ابن عُثيمين: (فهو ليس شهرَ خيرٍ ولا شرٍّ)؛ هو كباقي الشهور، كباقي الأيام؛ قد يقعُ فيه خير، وقد يقع فيه شرُّ -بحسب التَّقادير الإلهيَّة-؛ أمَّا أن نُعالج الخطأ بخطأ، والبدعةَ بالبدعة؛ فهذا ليس من الهُدى في شيءٍ.

لذلك قال: (ولهذا أنكرَ بعضُ السَّلف على مَن إذا سمع البومةَ تنعِق قال: خيرًا إن شاء الله؛ فلا يُقال خيرٌ، ولا شرٌّ؛ بل هي تنعَق كبقيَّة الطُّيور).
الآن: كثير من النَّاس يقول: فلان كالبوم لا يأتي إلا بالخراب! وهذا خطأ وخطرٌ عقائدي؛ البومُ خلْق من خلْقِ الله، ليس علامةَ شرٍّ، ولا علامةً على غيرِ ذلك؛ إنَّما هو له صوته -هكذا خلَق اللهُ صوتَه-، إنَّ أَنْكَرَ الأَصواتِ صَوتُ الحَميرِ؛ هل هذا يعني أن فيها خيرًا أو شرًّا؟ وكذلك البُوم.

فاعتقادات بعضِ النَّاس في البُوم أنَّه دليلُ خرابٍ، أو علامة شُؤم؛ هذا -أيضًا- مِن بقايا الجاهليَّة.

وهنالك بعضُ البِدع والاعتقاداتِ الفاسدة التي وقع فيها بعضُ النَّاس -أيضًا- سئلتْ عنها اللجنةُ الدَّائمة للإفتاء في بلادِ الحرَمين الشَّريفَين؛ فقال السَّائل:

(إن بعضَ العلماءِ في بلادِنا يَزعمون أنَّ في دِين الإسلام نافلةً تُصلَّى يوم الأربعاء آخرَ شهر صفَر، وقت صلاةِ الضُّحى، أربع ركعاتٍ بتسليمةٍ واحدةٍ، تَقرأ في كلِّ ركعةٍ فاتحةَ الكِتابِ وسورةَ الكوثر سبع عشرةَ مرَّة، وسورةَ الإخلاصِ خمسين مرةً، والمعوِّذتين مرةً مرةً، تفعل ذلك في كلِّ ركعة وتسلِّم، وحين تُسلِّم..) القضية لسَّة طويلة شوي!! (وحين تُسلِّم تَشرع في قراءةِ قولهِ-تَعالَى-: {اللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} ثلاثمائة وستين مرَّة)!! هذا حديث مركَّب على أصولِه؛ حتى مَن قرأهُ، أو فعلهُ؛ لا يَرجع إليه!!!

قال: (و"جَوهر الكمالِ" ثلاث مرَّات)؛ هذا دليل على أن هذه من أفاعيل الصُّوفيَّة والمخرِّفة.. (واختتِم بـ{سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عمَّا يَصِفُونَ - وسلامٌ عَلى المُرسَلينَ - والحمدُ للهِ ربِّ العالَمين}، وتصدَّق بشيءٍ من الخبز إلى الفقراء)!

قال: (وخاصيَّة هذا: دفعُ البلاء الذي يَنزل في الأربعاء الأخير من شَهر صفر)!

قال: (وقولُهم: إنه يَنزلُ في كلِّ سَنةٍ ثلاثمائة وعشرون ألفًا من البليَّات، وكل ذلك يوم الأربعاء الأخير من شهر صفر؛ فيكون ذلك اليومُ أصعبَ الأيَّام في السَّنة كلِّها، فمَن صلَّى هذه الصَّلاة بالكيفيَّة المذكورة؛ حفظهُ اللهُ -بكرمِه- مِن جميعِ البلايا التي تَنزِلُ في ذلك اليوم، ولم يَمسَّه شيءٌ مِن الشَّرِّ ..) إلى آخرِه!

فأجابَ عُلماء اللَّجنة الدائمة.. قال:

(هذه النَّافلةُ المذكورةُ في السُّؤال: لا نعلم لها أصلًا -لا مِن الكتاب، ولا من السُّنَّة-، ولم يَثبتْ لدينا أن أحدًا مِن سلف هذه الأمَّة وصالحي خلَفِها عمل بهذه النَّافلة؛ بل هي: بدعةٌ مُنكرَةٌ).

نقولُ: وكلُّ بدعةٍ مُنكرة؛ النَّبي -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- يقول: «كل بدعةٍ ضلالةٌ، وكل ضلالةٍ في النَّار».

قال: (وقد ثبتَ عن رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم- أنَّه قال: «مَن عملَ عملًا ليسَ عليهِ أمرُنا؛ فهو ردٌّ»، وقال -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- : «مَن أحدثَ في أمرِنا هذا ما ليسَ منه؛ فهو ردٌّ») روايتان، والرِّوايتان في «الصَّحيحين» -البخاري ومسلم-.

قال: (ومَن نَسب هذه الصَّلاةَ وما ذُكر معها إلى النبيِّ -صلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم-، أو إلى أحدٍ من الصَّحابة -رضِيَ اللهُ عنهم؛ فقد أعظمَ الفِريَةَ، وعليه مِن الله ما يستحقُّ مِن عقوبةِ الكذَّابين).

اسمعوا ماذا يقولُ النبيُّ الكريم -صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحبهِ أجمعين-: «إنَّ كذِبًا عليَّ؛ ليس ككَذِبٍ على أحدٍ، ومَن كذَب عليَّ متعمِّدًا؛ فلْيتبوَّأ مقعدَه مِن النَّار»، ويقول -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: «مَن حدَّث عنِّي بحديثٍ يُرى..»؛ «يُرى» أي: يُظن. (يَرى): يعتقد. «يُرى»: يُظنُّ، تقولُ: إنِّي أرى هذا الشيءَ كذا وكذا؛ أي: أعتقد. إنِّي أُرى هذا الشيءَ كذا وكذا؛ أي: أظن.

«مَن حدَّث عنِّي بحديثٍ يُرى؛ فهو أحدُ الكاذِبِين»، وفي لفظ: «فهو أحدُ الكاذِبَين»؛ الكاذب الأوَّل: مفتَريه، والكاذِب الثَّاني: ناقلُه.

فكذلك الذي يَرويه دون هذا التثبُّت؛ فهو كاذِب.

يقولُ الإمامُ ابنُ حبَّان: (إنَّ الشَّاكَّ بما يَروِي؛ كالكاذِب على رسول الله -صلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم-).

بعض النَّاس -وللأسفِ- قد يخطبُ الخطبةَ الكاملةَ، أو يُدرِّس الدرسَ الكامل؛ بناءً على ورقةِ الرُّوزنامة التي تُعلَّق في المساجد! يقرأ الرُّوزنامة: (قال رسول الله)؛ فيُقيم خطبتَه، أو دَرسَه، أو مجلسَه عليه!! وقد يكونُ الحديثُ من المكذوبات، والمفترَيات، والباطِلات، والنُّصوص التي لا أصل لها في الدَّفاتر، ولا في كُتب علماء الإسلام -الغابرات، والحاضِرات-!

وهل نقصتْ علومُ أهل السُّنة وكتبُهم ومؤلَّفاتهم حتى لا يكونَ لهذا مِن مصدرٍ إلا من الجريدةِ أو مِن الرُّوزنامةِ وما أشبه؟!! هذا خللٌ عظيمٌ -وعظيم جدًّا-.

ومِن الطَّريف: أنَّه قد حدث في هذا الشَّهر -وهو كما قُلنا-ونُكرِّر-: لا نقولُ شهرَ خير، ولا نقول شهر شرٍّ، لا نتشاءمُ منه، ولا نتفاءل به- حدثتْ فيه أمورٌ -كما حدثتْ في عددٍ من الشُّهور الأخرى- مع النَّبي الكريمِ -صلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم-.

فالرَّسولُ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- غزا غزوةَ الأبواءِ -وهي أوَّل غزوةٍ غزاها بنفسِه- في شهرِ صفر على رأس اثني عشرَ شهرًا بعد الهجرة. هذا حصل في شهر صفر.

وأيضًا: كانت وقعةُ بئرِ مَعونة في شهر صفر من السَّنَة الرَّابعة -أيضًا-، وهي مِن معالِم الإسلام ومعارِكه العُظمى.

وأيضًا: خروج النَّبي -صلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم- إلى خَيبر كان في أواخِر المحرَّم، وفتحُها كان في صَفر.

إذًا: هنالك أمورٌ حصلتْ في هذا الشَّهر، كما حصلت أمور أخرى عظيمة ومُباركة وجليلة في شُهورٍ أخرى في واقعِ النَّبي وحياتِه الشَّريفة -صلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم-.

وكذلك: نُشير إلى أنَّه قد وردتْ أحاديثُ مكذوبةٌ في شهر صَفَر -ليس-فقط-هذا الحديث الذي هُو كما يُقال: (حديثُ خُرافةٍ يا أمَّ عمرو)!!-..

ومِن علامات الأحاديثِ الباطلة والموضوعة: طولُها.

لذلك: الأحاديثُ الطوال محدودةٌ ومعدودةٌ، وأهل العلم ألَّفوا فيها كتُبًا خاصَّة:

ألَّف الإمامُ أبو موسى المَديني كتاب: «الأحاديث الطوال»، وألَّف الطَّبراني كتابًا -أيضًا- في الأحاديث الطوال.

جُلُّ -إن لم يكن: كلُّ- الأحاديثِ الخارجة عن هذَين الكتابَين؛ تكون باطلةً ولا أصلَ لها.

حتى هذان الكتابان وقعت فيهما بعضُ الأحاديث التي لا تَصحُّ ولا تَثبتُ عن النَّبي -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-؛ منها: الحديث المشهور بحديث الصُّور، وهو مِن الأحاديث الطَّويلة التي تتكلَّم عن أعمال يومِ القيامة ومُجرياتِها، ولم يَرِد لفظُ أن إسرافيل هو الموكَّل بالصُّور؛ إلا في هذا الحديث الضَّعيف -على كثرةِ، وشُهرة، وتردُّد ما يقع على ألسنةِ أهلِ العلم وفي كتُبهم: أنَّ الملَك الموكَّل بالصُّور هو: إسرافيل-؛ وهذا لم يصحَّ -قطُّ- عن النبي -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-، ولم يَرِد إلا في حديث الصُّور -الذي هو حديث ضعيف-؛ بل وَرد في حديثٍ آخر -وهو حديثٌ صحيح-: أن إسرافيل هو الملَك الموكَّل في الجيشِ، والنُّصرةِ للجيشِ، والقيامِ بمُعاداة الأعداء للمسلمين -أو كما ورد عن النبي -صلَّى اللهُ عَليهِ وآلِه وسَلَّم-.

إذًا: قاعدة عامَّة: أنَّك إذا رأيتَ حديثًا طويلًا؛ فيجب أن تتثبتَ منه أكثر مما تتثبتَ من الأحاديث العاديَّة، أو القصيرة، أو المتوسِّطة؛ لأن أكثر ما وَرد مِن ذلك؛ مما لا يَصحُّ، ولا يَثبت عن النبي -صلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم-.

حديث: «من بشَّرني بخروجِ صفر بشَّرتُه بالجنَّة»؛ حديث مكذوبٌ، وحديثٌ موضوع، ذكرهُ الإمامُ الشَّوكاني في كتابِه «الفوائد المجموعة»، والعلامة علي القاري في كتابه «الأسرار المرفوعة في الأخبارِ الموضوعة».

وكذلك ورد -في هذه المصادر-: أنَّهم يَنسِبون إلى النبي -صلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم- أنَّه قال: «يكونُ في صفرٍ صوتٌ، ثُم تتنازعُ القبائلُ في شهرِ ربيعٍ، ثم العَجَبُ كلُّ العجب بين جمادَى ورجبٍ» وهذا حديثٌ منه العجَب!! فهو حديث -أيضًا- باطلٌ، ما أنزلَ اللهُ به مِن سلطان.

وقد ألَّف الحافظُ ابنُ حجرٍ العسقلاني كتابًا -طُبع قديمًا-، وهو كتاب صغير بعنوان «تبيينُ العجَب فيما ورد في فَضلِ رجب»؛ أيضًا: عامَّة النَّاس تتعلَّق كثيرًا بفضائل موهومة لم تصحَّ ولم تَثبت في فضلِ شهر رجب -على ما ورد عن النبي -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-في أشياء يسيرةٍ من السُّنَّة في فضله-.

الإمامُ ابن القيِّم له كلمةٌ جميلة جدًّا في كتابه «المنار المُنيف»، يقول -مُبيِّنًا علاماتِ الحديث الموضوع-..

الحديث الموضوع عند أهلِ العلم: له علاماتٌ وإشاراتٌ يَعرفُها هؤلاء العُلماء؛ نتيجة تمكُّنهم وخِبرتِهم في معرفةِ ألفاظِ النُّبوَّة، وفي إدراكِ مقاصد الأحاديثِ الشَّريفة وتمييزِها..

يقول: (ومنها) أي: مِن هذه العلامات (أن يكونَ في الحديثِ تاريخُ كذا وكذا؛ مثل ما يُنسب إلى النبي -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- أنَّه قال: إذا كانت سَنَة كذا وكذا وقعَ كَيت وكَيت، وإذا كان شهرُ كذا وكذا وقع كيْت وكيت).

قال: (وكقولِ الكذَّاب الأشِر)؛ يعني: الوضَّاع الذي يضعُ الأحاديث، ويَفتريها، ويَنسبُها إلى النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم- (إذا انكسف القمرُ في المحرَّم؛ كان الغلاءُ والقِتال وشُغل السُّلطان وإن انكسفَ في صَفر؛ كان كذا وكذا)!

الحمد للهِ أنَّنا أوردنا الحديثَ بعد كُسوفِ الشَّمس؛ وإلا لاستدلَّ به بعضُ الجَهلة على ذلك، وقد يقولُ: القمر والشَّمس سيَّان؛ فيجعل ما في الليلِ في النَّهار؛ كما كان أهلُ الجاهِليَّة يجعلون المحرَّم في صفر، وهكذا أهل الأهواءِ والبِدع، وأهلُ الجهلِ والفُجور يفعَلون ما يَحلو لهم -مِن غيرِ بيِّنةٍ، ولا هُدًى، ولا كِتابٍ مُنير-.

قال: (وكذلك استمرَّ هذا الكذَّاب في الشُّهور كلِّها)!! يعني: لم يكتفِ -فقط- بشَهر المحرَّم وشهرِ صَفر؛ بل أتَى بقصَّة وحِكايةً وتنبُّؤ مُفتَرًى في كلِّ شهرٍ من الشُّهور الهجريَّة الاثني عشر!!

قال: (وأحاديثُ هذا البابِ كلُّها كذِب مُفترى)؛ يعني: الأحاديث التي فيها تقدير الشُّهور وذِكر الوقائع فيها؛لم يصح في ذلك شيءٌ من سُنَّة النبي -صلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم-.

ونذكِّر إخوانَنا بما ذكرهُ الإمامُ الذَّهبي في كِتابِه «سِيَر أعلامِ النُّبلاء» عن الإمامِ عبد اللهِ بن المبارك أنَّه قال: (في الحديثِ الصَّحيح غُنيةٌ عن الحديثِ الضَّعيف).

بعضُ النَّاس تراهُم كأنَّما يَبحثونَ في خُطبِهم ومواعظِهم في «موضوعاتِ» ابن الجوزي! أو في «سلسلة الأحاديث الضَّعيفة»!! ويتركون «الصَّحيحَين»، ويَتركون كُتب الصِّحاح الثَّابتة المُنقَّاة المصفَّاة عن أئمَّة الإسلام

(في الصَّحيح غُنيةٌ عن الحديثِ الضَّعيف).

واللهِ؛ لو عشتَ دهركَ كلَّه تُدرِّس وتَدرُس، وتُعلِّم وتتعلَّم من الأحاديثِ الصَّحيحة.. سواء منها ما كان في «الصَّحيحَين»، أو «السُّنن الأربعة»، أو «المُسنَد» -ولا نُريد أن نزيد-، مع أنَّها ليستْ كلُّ السُّنة الصَّحيحة -فقط- مِن هذه الكتب؛ لكن: هي أكثرها.. أنا أكاد أجزم: أنَّ هذه الكتب حوَت أكثر من ثمانين في المئة مِن الأحاديثِ الصَّحيحة عن النبي -صلَّى اللهُ عَليهِ وآلِه وسَلَّم-.

تراهُ يأتي بأحاديثَ ضعيفة، وأحاديث لا أصلَ لها، وأحاديثَ باطلة؛ كلُّ ذلك بسببِ الجهل، وبسببِ الهوى!!

يقول لك: واللهِ هذا الحديث يُؤثِّر في قلوب الناس!!!

تؤثِّر في قلوب النَّاس بالكذب؟!

تؤثِّر في قلوب النَّاس بالافتِراء، والدَّجل على النَّبي -صلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم-؟!

لو هذا الإنسان الذي علَّمتَه، أو ذكَّرتَه، أو وعظتَه بهذا الحديث، ثم حصل أن تعلَّم العِلمَ، وتفهَّم؛ ماذا سيقولُ عنك؟ سيقول عنك: إنَّك مخادِع! سيقولُ عنكَ: إنَّكَ مُفترٍ! لأنك تَنسبُ إلى رسولِ الله -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- مالم يعلم.

كنتُ -مرَّة- في أحد المساجد: فإذا برجلٍ يتكلَّم هكذا؛ كحالِ -للأسفِ- كثير من وُعاظ هذا الزَّمان؛ فأورد حديثًا باطلًا، لا أصلَ له، فبعدَ أن انتهى -مِن باب الأدبِ في الإنكار- نصحتُه وقلتُ له: (يا أخي! هذا الحديثُ الذي ذكرتَه باطل، لا أصلَ له)؛ فإذا به يُجيب فيقول -واعجَبوا مما يقول-: (يجوزُ الاستدلال بالأحاديث الضَّعيفة في فضائل الأعمال)! وأنا أقول له: (باطلٌ، لا أصلَ له)، ويقول: (يجوزُ الاستدلال بالضعيف في فضائل الأعمال)!!

حتى أهل العلم -الذين ذكَروا هذه القاعدةَ- ذكرُوا لها شُروطًا؛ مِن أهمِّ شروطِها: أن لا يكونَ الحديث المُستدلُّ به شديد الضَّعف.

وأنا أكاد أجزم: أنَّه ليس في بلاد المُسلمين ممَّن يستطيعون تمييز الأحاديث الضَّعيفة -بعضها عن بعض-: (هذا ضعيف.. هذا شديد الضَّعف.. هذا موضوع.. هذا لا أصلَ له..)؛ إلا أفراد قليلون لا يكادون يتجاوزُون عددَ أصابع اليَد، وإن شئتَ؛ فإنَّ هذا قد يكونُ أكثر بقليلٍ وقليلٍ جدًّا.

وكما يُقال: (والجاهِلون لأهلِ العلم أعداءُ)، و(الجاهِل عدُوُّ نفسِه).
هذا لو أنَّه أدرك قيمةَ السُّنَّة وعظَمَتها ومكانتَها ومنزلتَها في الإسلام؛ لما تجرَّأ هذه الجُرأة، ولا يَشفع له حُسنُ نيَّتِه.. كما قلنا: لا بُدَّ من الإخلاصِ لله والموافقة لسُنَّة رسولِ الله -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-.

بعضُ النَّاس -إذا أنكرتَ عليه- يقول: يا شيخ! إنما الأعمال بالنِّيَّات! وجهل قولَ أهل العلم -شرحًا لهذا الحديث-: (إنَّما الأعمال الصَّالحة بالنِّيَّات الصَّالحة)؛ أمَّا أعمال فاسدة بنيَّات صالِحة؛ هذان ضدَّان لا يجتمعان!
واجتماع ضدَّين معًا في حالِ
مِن أقبحِ ما يأتي من المُحال

ونسأل الله -سُبحانَهُ وتَعالَى- أن يُعلِّمنا ما يَنفعُنا، وأن يزيدَنا علمًا، وأن يرزقَنا العلمَ النَّافع والعمل الصالح؛ إنَّه -سُبحانَه- وليُّ ذلك والقادِر عليه.

وصلى الله وسلم وباركَ على نبيِّنا محمد وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين.


-تمَّ بحمد الله-

[تفريغ / أم زيد]


من هنا للاستماع للمحاضرة
اقتباسًا من هنـا
رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 08:28 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.