أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا

             
8158 97777

العودة   {منتديات كل السلفيين} > المنابر العامة > منبر الفقه وأصوله > منبر الحج

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #31  
قديم 11-18-2009, 01:52 AM
يوسف الجزائري يوسف الجزائري غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 195
Post شـرح كتـاب الحـجّ (31)

شـرح كتـاب الحـجّ (31)


البـاب الثّــامــن:

7-(التّرغيب في العمل الصّالح في عشر ذي الحجّة وفضله ).


· شـرح التّبويــب:

ذكر المصنّف رحمه الله ثلاثة أحاديث تدلّ وترغّب في العمل الصّالح هذه الأيّام.

ولكن، لا بدّ قبل ذلك أن نبيّن فضل هذه الأيّام الّتي ما فُضِّل العمل الصّالح فيها إلاّ من أجلها، فمن فضائلها:

1) كونها من أيّام الحجّ، بل هي أوكد أيّام الحجّ، قال تعالى:{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحجّ: من الآية28]، قال ابن عبّاس

رضي الله عنه:" هي أيّام العشر ".


2) كونها أيّاما من الأشهر الحرم، الّتي أمر الله عزّ وجلّ بتعظيمها فقال:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحجّ: من الآية30].

3) كون تاسعها هو يوم عرفة، وسيأتي المصنّف بالأحاديث الدالّة على فضله في الباب التّالي.

4) كون عاشرها يوم النّحر، وهو أعظم يوم عند الله تعالى.

جاء في سنن أبي داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:

(( إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ )).


وهو يوم الحجّ الأكبر المقصود في سورة التّوبة، روى البخاري عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ:" وَقَفَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم يَوْمَ النَّحْرِ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ فِي

الْحَجَّةِ الَّتِي حَجَّ
، وَقَالَ: (( هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ))، فَطَفِقَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: (( اللَّهُمَّ اشْهَدْ )) وَوَدَّعَ النَّاسَ، فَقَالُوا هَذِهِ حَجَّةُ الْوَدَاعِ ".


5) وأنّ عاشرها عيد المسلمين، روى التّرمذي وأبو داود والنّسائي عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( إِنَّ يَوْمَ عَرَفَةَ

وَيَوْمَ النَّحْرِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ )).


6) وأنّ الله أقسم بها فقال:{وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)} [الفجر]. ذكر كثير من المفسّرين كالطّبري وابن كثير وغيرهما عن ابن عبّاس وابن الزّبير

رضي الله عنهم ومجاهد وغيرهم أنّهم قالوا: " هي عشر ذي الحجّة ".


(فائدة):

ظاهر الحديث أنّ أفضل الأيّام عند الله يوم النّحر، وهناك من قال إنّه يوم الجمعة، استدلالا بما رواه مسلم عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم:

(( خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ )).


ولكنّ العلماء قالوا: إنّ ذلك بالنّسبة إلى الأسبوع، ويوم النّحر فُضِّل باعتبار أيّام العام كلّه.

وهناك من قال: إنّ أفضل الأيّام يوم عرفة. والصّواب أنّ عرفة هي أفضل العشيّ، كما أنّ ليلة القدر هي أفضل اللّيالي.

وتظهر فائدة الخلاف فيمن نذر وعلّق عملا من الأعمال بأفضل الأيّام، كما لو قال: عليّ أن أنحر لله في أفضل الأيّام.

· الحديث الأوّل:


1148-عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ
عزّ وجلّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ. يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ )).

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ قَالَ:

(( وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ )).

رواه البخاري، والتّرمذي، وأبو داود، وابن ماجه.

وفي رواية للبيهقيّ قال:

(( مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ وَلَا أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ فِي عَشْرِ الْأَضْحَى )).

قِيلَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ قَالَ:

(( وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ )).

· الحديث الثّاني:

1149-وَعَنْ عَبْدِ اللهِ-يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْ أَيَّامِ العَشْرِ )).

قِيلَ: وَلاَ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ ؟ قَالَ:

(( وَلاَ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلاَّ مَنْ عَثَرَ جَوَادُهُ، وَأُهْرِيقَ دَمُهُ )).

[رواه الطّبراني بإسناد صحيح].

· الحديث الثّالث:


1150-وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا العَشْرُ - يَعْنِي: عَشْرَ ذِي الحِجَّةِ -)).

قِيلَ: وَلاَ مِثْلُهُنَّ فِي سَبِيلِ اللهِ ؟ قَالَ:

(( وَلاَ مِثْلُهُنَّ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلاَّ رَجُلٌ عَفَّرَ وَجْهَهُ بِالتُّرَابِ )) الحديث.

[رواه البزّار بإسناد حسن، وأبو يعلى بإسناد صحيح، ولفظه: قَالَ:

(( مَا مِنْ أَيَّامٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللهِ مِنْ أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ )).

قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ ! هُنَّ أَفْضَلُ أَمْ عِدَّتُهُنَّ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللهِ ؟ قَالَ:

(( هُنَّ أَفْضَلُ مِنْ عِدَّتِهِنَّ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلاَّ عَفِيرٌ يُعَفِّرُ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ )) الحديث.

[ورواه ابن حبّان في "صحيحه" ويأتي بتمامه إن شاء الله [في "الضّعيف" أوّل الباب التّالي].

· شـرح الأحاديث:

- قوله صلّى الله عليه وسلّم ثُمَّ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ ) أي: من خرج للجهاد ولم يرجع بشيء يكون أفضلَ من العامل في أيّام العشر، أو مساويا له.

قال ابن بطّال رحمه الله:" هذا اللّفظ يحتمل أمرين:

أن لا يرجع بشيء من ماله وإن رجع هو.

وأن لا يرجع هو ولا ماله، بأن يرزقه الله الشّهادة " اهـ.

وأكثر الرّوايات المذكورة في هذا الباب تؤيّد الثّاني، ففي لفظ – ذكره المصنّف–: (( إِلاَّ مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ، وَأُهْرِيقَ دَمُهُ )) وفي رواية: (( إِلاَّ مَنْ لاَ يَرْجِعُ بِنَفْسِهِ

وَلاَ مَالِهِ
)) وفي طريق: (( لاَ، إِلاَّ أَنْ لاَ يَرْجِعَ )) وفي حديث جابر: (( إِلاَّ مَنْ عَفَّرَ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ )) أي: مات.


- وفي الحديث تعظيم قدر الجهاد، فما وقع سؤالهم هذا إلاّ لما تقرّر لديهم أنّ الجهاد أفضل الأعمال.

- قوله صلّى الله عليه وسلّم: ( العَمَلُ الصَّالِحُ ): لفظ عامّ، تدخل فيه جميع الأعمال الصّالحة، كالإكثار من الصّلاة، والتّهليل، والتّحميد، والتّكبير، والتّسبيح،

والصّدقة، وغير ذلك، وهل يدخل فيها الصّيام ؟ قولان
:

أ) الأوّل: المنع، واستدلّوا بأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يقصد ذلك، روى مسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:

( مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم صَائِمًا فِي الْعَشْرِ قَطُّ ).

ب) الثّاني: الاستحباب، وهو مذهب الجمهور. واستدلّوا بأمرين:

أوّلا: أنّ الصّيام من العمل الصّالح، قال الحافظ ابن حجر:" واستُدِلّ به على فضل صيام عشر ذي الحجة لاندراج الصوم في العمل ".

وثانيا: أنّ عائشة حدّثت بما علمت، وغيرها أثبت الصّيام، ففي سنن أبي داود وأحمد عَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ امْرَأَتِهِ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم

وهي أمّ سلمة – قَالَتْ:" كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ، وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ: أَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنْ الشَّهْرِ وَالْخَمِيسَ"

[صحّحه النّوويّ والحافظ ابن حجر والألبانيّ، وبعضهم تكلّم فيه من أجل امرأة هنيدة بن خالد].

فإذا صحّ الحديث فإنّ المثبتَ مقدّم على النّافي.

ثمّ إنّه صلّى الله عليه وسلّم كان يترك العمل وهو يحبّ أن يعمله، خشية أن يُفرض على أمّته، كما في الصّحيحين من حديث عائشة نفسها رضي الله عنها.

- ( فائدة )

إنّ النّاظر في أحاديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، يجد أنّ الله تعالى شرع للعبد أعمالا يشابهُ بها حجّاج بيت الله الحرام، من ذلك:

1- أنّه شرع للمقيم أن يتقرّب إلى الله بالأضحية كما يتقرّب الحاجّ إلى الله بالنّسك.

2- نهى من أراد ونوى الأضحية أن يأخذ من أظفاره أو شعر بدنه شيئا، فقد روى مسلم عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:

(( إِذَا دَخَلَتْ الْعَشْرُ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا وَلاَ يَقْلِمَنَّ ظُفْراً )).


قال الإمام أحمد، وإسحاق، وداود، وأصحاب الشّافعيّ: يحرم على كلّ من أراد أن يُضحِّي أن يأخذ شيئا من شعره وظفره حتّى يُضحِّي، قالوا: والحكمة في ذلك أن

يتشبّه بالمحرم في بعض أحكامه.


3- الاجتماع في صلاة العيد كما يجتمع الحجّاج عند البيت المجيد.

4- الإكثار من ذكر الله تبارك وتعالى، لا سيما في أيّام التّشريق.

والله الموفّق لا ربّ سواه.



رد مع اقتباس
  #32  
قديم 11-18-2009, 01:55 AM
يوسف الجزائري يوسف الجزائري غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 195
Post شـرح كتـاب الحـجّ (32)

شـرح كتـاب الحـجّ (32)


البـاب التّــاسع:

9-( التَّرْغِيبُ فِي الوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَالمُزْدَلِفَةِ، وَفَضْلُ يَوْمِ عَرَفَةَ ).

· شـرح التّبويــب:

فيوم عرفة من الأيّام الفاضلة الّتي عظّمها الله تبارك وتعالى، وحريّ بالمؤمن أن يعظّم ما عظّمه الله تعالى، فهو القائل:{ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ

عِنْدَ رَبِّهِ
}، وقال:{ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ }.

وقولنا: ( يوم عرفة ) هذه الإضافة مكانيّة، أي يوم الوقوف بعرفة.

والوقوف بعرفة يُسمّى ( التّعريف ) و( المُعرَّف )، ومنه قول العرب:" عَرَّفَ القومُ " إذا وقفوا بعرفة.

وإن سألت عن الفرق بين ( عرفة ) و( عرفات ) ؟

فمن العلماء من لم يفرّق بينهما.

ومنهم من قال: ( عرفة ) إذا أُضيف إليه الزّمان واليوم، و( عرفات ): إذا أضيف إليه المكان، لذلك قال تعالى:{ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ

الْحَرَامِ
}.


ولماذا سمِّي عرفة بذلك ؟ أقوالٌ كثيرة لا دليل على أحدٍ منها.

- فقيل: سمّي عرفة لأنّ النّاس يتعارفون به.

وليت شعري متى كان عرفة مكانا للتّعارف ؟

- وقيل: سمّي عرفة لأنّ جبريل عليه السّلام طاف بإبراهيم عليه السّلام، فكان يُرِيه المشاهد فيقول له: أعرفت ؟ أعرفت ؟ فيقول إبراهيم عليه السّلام: عرفت،

عرفت !


وكأنّ قائل ذلك نسِي أنّ إبراهيم عليه السّلام ما كان يتكلّم العربيّة.

- وقيل: لأنّ آدم عليه السّلام لمّا هبط من الجنّة، وكان من فراقه حواء ما كان، فلقيها في ذلك الموضع عرفها وعرفته !

ولا ندري من أين علموا أنّه حدث فراق بين الأبوين الكريمين وقد أهبطهما الله إلى الأرض معاً ؟!

والصّواب الإمساك عن الخوض في ذلك، فـ" العلم إمّا نقلٌ مصدَّق عن معصوم، وإمّا قول عليه دليل معلوم، وما سوى هذا فإمّا مزيَّف مردود، وإمّا موقوفٌ لا يُعلم

أنّه بهرج ولا منقود
" [مقدّمة في أصول التّفسير لابن تيمية].


أمّا فضائل يوم عرفة:

أ‌) أنّه يوم أكمل الله فيه لدّين.

ففي الصّحيحين عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ رضي اللهُ عنه عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي اللهُ عنه أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ! آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا

لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا. قَالَ: أَيُّ آيَةٍ ؟ قَالَ:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا} قَالَ عُمَرُ رضي

اللهُ عنه: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلّم وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ.


يشير عمر بذلك إلى أنّنا نتّخذها عيدا أسبوعيّا كلّ يوم جمعة، وعيدا سنويّا يوم عرفة، لذلك كان الفضل الثّاني:

ب‌) أنّه عيد لأهل الإسلام، فقد روى أهل السّنن عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي اللهُ عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( إِنَّ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَيَوْمَ النَّحْرِ، وَأَيَّامَ

التَّشْرِيقِ
، عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ )).


ت‌) أنّه يوم أقسم الله به، والعظيم لا يقسم إلاّ بعظيم.

روى التّرمذي وأحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي اللهُ عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلّم: (( الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالْيَوْمُ الْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالشَّاهِدُ

يَوْمُ الْجُمُعَةِ )).


ث‌) أنّ صيامه يكفّر ذنوب سنتين.

ففي صحيح مسلم عن أَبِي قَتَادَةَ رضي اللهُ عنه أنّ النّبِيَّ صلَّى الله عليه وسلّم سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ فَقَالَ: (( يكفِّرُ السَّنَةَ المَاضِيَةَ، وَالسَّنَةَ القَابِلَةَ )). وهذا

إنّما يُستحبّ لغير الحاجّ، أمّا الحاجّ فلا يُسنّ له صيامه.


ج‌) أنّه اليوم الّذي أخذ الله فيه الميثاق من بني آدم.

فقد روى أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنه عَنْ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلّم قَالَ:

(( أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ بِنَعْمَانَ - يَعْنِي عَرَفَةَفَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا، فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ كَالذَّرِّ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قِبَلًا، قَالَ:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى

شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ
}.
[صحّحه الشّيخ الألباني

في " المشكاة "، و" صحيح الجامع "، و" تخريج الطّحاويّة "].

ح‌) أنّ هذا اليوم هو الرّكن الأعظم في الحجّ.

فقد روى أهل السّنن عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ رضي اللهُ عنه أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلّم وَهُوَ بِعَرَفَةَ فَسَأَلُوهُ ؟ فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى:

(( الْحَجُّ عَرَفَةُ، مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ )).


قَالَ التّرمذي:" والعمل على حديث عبد الرّحمن بن يعمر عند أهل العلم من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم وغيرهم، أنّه من لم يقف بعرفات قبل طلوع الفجر،

فقد فاته الحجّ، ولا يجزئ عنه إن جاء بعد طلوع الفجر، ويجعلها عمرةً، وعليه الحجّ من قابل، وهو قول الثّوري، والشافعي، وأحمد، وإسحق ...وسمعت الجارود

يقول: سمعت وكيعا أنّه ذكر هذا الحديث فقال: هذا الحديث أمّ المناسك".


خ‌) أنّه يوم مغفرة وعتق من النّيران، وهذا ما سيذكر المصنّف الأحاديث الكثيرة فيه.

ومن السنّة للحاجّ ذلك اليوم:

- التوجّه إلى عرفات يوم التّاسع بعد طلوع الشّمس - مع التّكبير والتّهليل، والتّلبية - وينزل الحاجّ بنمرة - ويغتسل إن أمكنه ذلك - ويستحبّ له أن لا يدخل

عرفة إلاّ وقت الوقوف وذلك بعد الزّوال - وينتهي الوقوف مع طلوع فجر اليوم العاشر - وأنّه يكفي الوقوف في أيّ جزء من أجزاء اللّيل - كما يُستحب الوقوف

عند الصّخرات - ويُجزئ الوقوف في أيّ مكان من عرفة، روى مسلم عَنْ جَابِرٍ رضي اللهُ عنه فِي حَدِيثِهِ الطّويل أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلّم قَالَ:


(( نَحَرْتُ هَاهُنَا وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ وَوَقَفْتُ هَاهُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَوَقَفْتُ هَاهُنَا وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ )).

أمّا الصّعود إلى جبل الرّحمة واعتقاد أنّ الوقوف به أفضل فخطأ، وليس بسنّة.

- قوله رحمه الله: ( المزدلفة ):

الكلمة مأخوذة من ( زلف الشّيء ) أي: قرّبه إليه وجمعه، ومنه قوله تعالى:{وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ} [الشّعراء:64] أي: وقرّبنا فرعون وقومه من اليمّ بعدما كاد

ينصرف، وقال:{فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً} [الملك: من الآية27].


والمزدلفة: موضع بمكة، قيل: سمّيت بذلك لاقتراب النّاس إلى منى بعد الإفاضة من عرفات واجتماعهم فيها.

ولها اسمان آخران:

أ‌) الأوّل: ( جمع ): ومنه ما رواه البخاري عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: أخبرتني عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْحُمْسِ:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}

قَالَ: كَانُوا يُفِيضُونَ مِنْ جَمْعٍ فَدُفِعُوا إِلَى عَرَفَاتٍ.


ب‌) و( المشعر الحرام ): من باب إطلاق جزء الشّيء على كلّه، فإنّ المشعر الحرام من المزدلفة، ويطلق عليها، قال تعالى:{ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ

عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ
}
روى الطّبريّ عن ابن عمر قال: هو مزدلفة.

ومعنى المشعر: المعلم والمتعبَّد. فهو من المعالم التي ندب الله إليها وأمر بالقيام عليها، و( الحرام ) لأنّه من الحرم، كما أنّ عرفات تسمّى (المشعر الحلال) لأنّه

من الحِلّ.


والله تعالى أعلم وأعزّ وأكرم.

رد مع اقتباس
  #33  
قديم 11-18-2009, 01:57 AM
يوسف الجزائري يوسف الجزائري غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 195
Post شـرح كتـاب الحـجّ (33)

شـرح كتـاب الحـجّ (33)


تـابـع: البـاب التّــاسع:

9-( التَّرْغِيبُ فِي الوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَالمُزْدَلِفَةِ، وَفَضْلُ يَوْمِ عَرَفَةَ ).

· الحديث الأوّل:


1151- روى ابن المبارك عن سفيان الثّوري عنِ الزّبير بن عديّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ:

وَقَفَ النَبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَاتٍ، وَقَدْ كَادَتِ الشَّمْسُ أَنْ تَؤُوبَ، فَقَالَ:

(( يَا بِلاَلُ، أَنْصِتْ لِيَ النَّاسَ )).

فَقَامَ بِلاَلٌ فَقَالَ: أَنْصِتُوا لِرَسُولِ اللهِصَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْصَتَ النَّاسُ، فَقَالَ:

(( مَعَاشِرَ النَّاسِ، أَتَانِي جِبْرَائِيلُ عليه السّلام آنِفًا فَأَقْرَأَنِي مِنْ رَبِّي السَّلاَمَ، وَقَالَ: إِنَّ اللهَ عزّ وجلّ غَفَرَ لِأًهْلِ عَرَفَاتٍ وَأَهْلِ المَشْعَرِ، وَضَمِنَ عَنْهُمُ التَّبِعَاتِ )).

فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِرضي الله عنهفَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ! هَذَا لَنَا خَاصَّةً ؟ قَالَ:

(( هَذَا لَكُمْ، وَلِمَنْ أَتَى مِنْ بَعْدِكُمْ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ )).

فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه: كَثُرَ خَيْرُ اللهِ وَطَابَ.

· شـرح الحـديـث:

- قوله: ( كَادَتِ الشَّمْسُ أَنْ تَؤُوبَ ): تؤوب بمعنى ترجع، والمقصود غروبها.

وفي الحديث شاهدٌ لجواز دخول ( أنْ ) على خبر كاد، والأكثر تركها.

- قوله: ( أَنْصِتْ لِيَ النَّاسَ ): أي: اجعلهم يُنصِتون لما أقول.

- قوله: ( إِنَّ اللهَ عزّ وجلّ غَفَرَ لِأًهْلِ عَرَفَاتٍ وَأَهْلِ المَشْعَرِ ): والمشعر – كما سبق ذكره – هو المزدلفة.

وهذا هو الشّاهد من الحديث، إذ فيه فضل الوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة.

- قوله: ( وَضَمِنَ عَنْهُمُ التَّبِعَاتِ ): التّبعات هي حقوق العباد، كالدّيون والودائع، فإنّ الله يضمنها عنهم، بمعنى أنّه تعالى ييسّر لهم أداؤها، أو يوفّق من يؤدّيها

عنهم. وذلك لأنّهم ضيوف أكرم الأكرمين، وأرحم الأرحمين.


- قوله: ( هَذَا لَكُمْ، وَلِمَنْ أَتَى مِنْ بَعْدِكُمْ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ ): يدلّ على أنّ العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب.

- ومن هدي السّلف في هذا اليوم أن يجمعوا بين الخوف والحياء، والرّغبة والرّجاء، والذّكر والدّعاء، فينبغي للحاجّ أن يحافظ على الأسباب الموجبة للغفران،

والعتق من النّيران:


· أمّا الخوف، فانظر إلى مطرّف بن عبد الله الخائف الحييّ وهو يقول في الموقف: اللّهمّ لا تردّ أهل الموقف من أجلي. وقال بكر بن عبد الله المُزَني: ما أشرفه من

موقف وأرجاه لأهله لولا أنّي فيهم
!


· أمّا جانب الرّجاء فقد قال عبد الله بن المبارك: جئت إلى سفيان الثّوري عشيّة عرفة وهو جاثٍ على ركبتيه، وعيناه تذرفان، فالتفَتَ إليّ، فقلت: من أسوأ هذا

الجمع حالا
؟ قال: الّذي يظنّ أنّ الله لا يغفر له.


· أمّا جانب الذّكر، فقد روى مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ رضِي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلّم فِي غَدَاةِ عَرَفَةَ، فَمِنَّا الْمُكَبِّرُ، وَمِنَّا الْمُهَلِّلُ.

وخير الذّكر والدّعاء، ما رواه التّرمذي عَنْ عبد اللهِ بنِ عَمْرِو رضِي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا

وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي
: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )) وسيأتي إن شاء الله شرحه في الأبواب الآتية.


· وليحذر المسلم من أن تزلّ قدمه في أوحال المعاصي، وعليه أن يُذكّر الغافل والعاصي، فإنّ المعصية تعظُم وتجِلّ في المواسم العِظام.

روى الإمام أحمد - وأصل الحديث في الصّحيح - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضِي الله عنه قَالَ: كَانَ فُلَانٌ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلّم يَوْمَ عَرَفَةَ، قَالَ: فَجَعَلَ الْفَتَى

يُلَاحِظُ النِّسَاءَ وَيَنْظُرُ إِلَيْهِنَّ
، قَالَ: وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلّم يَصْرِفُ وَجْهَهُ بِيَدِهِ مِنْ خَلْفِهِ مِرَارًا، قَالَ: وَجَعَلَ الْفَتَى يُلَاحِظُ إِلَيْهِنَّ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ

اللَّهِ
صلَّى الله عليه وسلّم: (( ابْنَ أَخِي ! إِنَّ هَذَا يَوْمٌ مَنْ مَلَكَ فِيهِ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَلِسَانَهُ غُفِرَ لَهُ )).


ويؤكّد ذلك:

· الحـديـث الثّـانـي:


1152-وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( إِنَّ اللَّهَ يُبَاهِي الْمَلَائِكَةَ بِأَهْلِ عَرَفَاتٍ أَهْلَ السَّمَاءِ، فَيَقُولُ لَهُمْ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي جَاءُونِي شُعْثًا غُبْرًا )).

[رواه أحمد، وابن حبّان في "صحيحه"، والحاكم، وقال: " صحيح على شرطهما "].

· الحـديـث الثّـالـث:


1153-وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ:

(( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي مَلَائِكَتَهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِأَهْلِ عَرَفَةَ، فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا )).

[رواه أحمد، والطّبراني في "الكبير"، و"الصّغير"، وإسناد أحمد لا بأس به].

· الحـديـث الرّابـع:

1154-وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبِيدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ ؟ )).

[رواه مسلم، والنّسائي، وابن ماجه].

وزاد رزين في "جامعه" فيه:

(( اِشْهَدُوا - مَلاَئِكَتِي - أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ )).

· شـرح الأحـاديـث:

في هذه الأحاديث فوائد:

1- دنوّ الله تعالى من خلقه عشيّة عرفة دنوّا حقيقيّا يليق بجلاله سبحانه، وذلك من باب الجزاء من جنس العمل، وهو القائل في الحديث القدسيّ: (( وَإِنْ تَقَرَّبَ

إِلَيَّ بِشِبْرٍ
، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْأَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً )).

دعـاهم فلبّـوه رضـا ومحبّـة *** فلمّا دعـوه كان أقـرب منـهم


2- السرّ في مباهاة الله تعالى ملائكته بأهل الموقف:

- تكريمهم ورفع منازلهم.

- تذكير للملائكة بأنّ هناك عبادا من الإنس أهلٌ للإكرام، يُتفضّل عليهم بالإنعام، فليسوا كما قالوا يوم قالوا: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ

نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ
}، أي: إنّ هناك من الإنس من يعمُر الأرض بالعبادة والذّكر والتّمجيد، والتّلبية والإهلال بالتّوحيد.

نسأل الله من فضله الكريم، وعطائه العميم.
رد مع اقتباس
  #34  
قديم 11-18-2009, 01:59 AM
يوسف الجزائري يوسف الجزائري غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 195
Post شـرح كتـاب الحـجّ (34)

شـرح كتـاب الحـجّ (34)


تـابـع: البـاب التّــاسع:

9-( التَّرْغِيبُ فِي الوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَالمُزْدَلِفَةِ، وَفَضْلُ يَوْمِ عَرَفَةَ ).


· الحديث الخـامس:


1155-وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ:

" جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ إِلَى النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ! كَلِمَاتٌ أَسْأَلُ عَنْهُنَّ. فَقَالَ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( اِجْلِسْ )).

وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ! كَلِمَاتٌ أَسْأَلُ عَنْهُنَّ. فَقَالَ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( سَبَقَكَ الأَنْصَارِيُّ )).

فَقَال
الأَنْصَارِيُّ: إِنَّهُ رَجُلٌ غَرِيبٌ، وَإِنَّ لِلْغَرِيبِ حَقًّا، فَابْدَأْ بِهِ. فَأَقْبَلَ عَلَى الثَّقَفِيِّ، فَقَالَ:

(( إِنْ شِئْتَ أَنْبَأْتُكَ عَمَّا كُنْتَ تَسْأَلُنِي عَنْهُ، وَإِنْ شِئْتَ تَسْأَلُنِي وَأُخْبِرُكَ ؟))

فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ! بَلْ أَجِبْنِي عَمَّا كُنْتُ أَسْأَلُكَ. قَالَ:

(( جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ )).

فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ مَا أَخْطَأْتَ مِمَّا كَانَ فِي نَفْسِي شَيْئًا. قَالَ:

(( فَإِذَا رَكَعْتَ فَضَعْ رَاحَتَيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ، ثُمَّ فَرِّجْ أَصَابِعَكَ، ثُمَّ اسْكُنْ حَتَّى يَأْخُذَ كُلُّ عُضْوٍ مَأْخَذَهُ، وَإِذَا سَجَدْتَ فَمَكِّنْ جَبْهَتَكَ وَلاَ تَنْقُرْ نَقْرًا،

وَصَلِّ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ
)).

فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ ! فَإِنْ أَنَا صَلَّيْتُ بَيْنَهُمَا ؟ قَالَ:

(( فَأَنْتَ إِذًا مُصَلٍّ. وَصُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاَثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ )).

فَقَامَ الثَّقَفِيُّ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الأَنْصَارِيِّ، فَقَالَ:

(( إِنْ شِئْتَ أَخْبَرْتُكَ عَمَّا جِئْتَ تَسْأَلُنِي، وَإِنْ شِئْتَ تَسْأَلُنِي وَأُخْبِرُكَ ؟)).

فَقَالَ: لاَ يَا نَبِيَّ اللهِ ! أَخْبِرْنِي بِمَا جِئْتُ أَسْأَلُكَ. قَالَ:

(( جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الحَاجِّ مَا لَهُ حِينَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ ؟ وَمَا لَهُ حِينَ يَقُومُ بِعَرَفَاتٍ ؟ وَمَا لَهُ حِينَ يَرْمِي الجِمَارَ ؟ وَمَا لَهُ حِينَ يَحْلِقُ رَأْسَهُ ؟ وَمَا لَهُ حِينَ يَقْضِي آخِرَ

طَوَافٍ بِالبَيْتِ
؟ )).

فَقَالَ: يَا نبِيَّ اللهِ ! وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ مَا أَخْطَأْتَ مِمَّا كَانَ فِي نَفْسِي شَيْئًا. قَالَ:

(( فَإِنَّ لَهُ حِينَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ أَنَّ رَاحِلَتَهُ لاَ تَخْطُو خَطْوَةً إِلاَّ كَتَبَ اللهُ بِهَا حَسَنَةً، أَوْ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً.

فَإِذَا وَقَفَ بِـ(عَرفَةَ) فَإِنَّ اللهَ عزّ وجلّ يَنْزِلُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: اُنْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا، اِشْهَدُوا أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ قَطْرِ السَّمَاءِ

وَرَمْلِ عَالِجٍ
.


وَإِذَا رَمَى الجِمَارَ لاَ يَدْرِي أَحَدٌ مَا لَهُ حَتَّى يَتَوَفَّاهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ.

وَإِذَا حَلَقَ رَأْسَهُ، فَلَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَقَطَتْ مِنْ رَأْسِهِ نُورٌ يَوْمَ القِيَامَةِ.

وَإِذَا قَضَى آخِرَ طَوَافٍ بِالبَيْتِ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ )).

[رواه البزار، والطّبراني، وابن حبّان في "صحيحه"، واللّفظ له].


· شــرح الحديـث:

-
سبق أن شرحنا مثل هذا الحديث، وأنّه ما من عمل من أعمال الحجّ إلاّ وفيه من الأجر العظيم، والخير العميم ما لا يُحصيه إلاّ الله تبارك وتعالى.

-
كما رأينا أنّ هذا الحديث من دلائل نبوّته صلّى الله عليه وسلّم، حيث أخبرهما بما جاءا يسألان عنه، وحرص صلّى الله عليه وسلّم على ذلك ليقذف الله اليقين في

قلوبهما، والطّمأنينة في صدورهما.


- قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( سَبَقَكَ الأَنْصَارِيُّ )) دليل على أنّ من سبق إلى شيء فهو أولى به، وأنّ من آدب العالم أن يقدّم من السّائلين الأسبق.

- قول الأنْصاريّ: ( إِنَّهُ رَجُلٌ غَرِيبٌ، وَإِنَّ لِلْغَرِيبِ حَقًّا، فَابْدَأْ بِهِ ): فيه حرص الصّحابة على مكارم الأخلاق، إذ لم يحمِلْه شغفه بالتعلّم على يد أعلم الخلق صلّى

الله عليه وسلّم
على أن ينسى حقّ الغريب، وأنّ الرّغبة في العلم ليست مسوِّغا للتّفريط في الآداب الشّرعيّة، والأخلاق المرعيّة.

- قوله: ( جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ ): إنّما سأل الثّقفيّ عن الصّلاة وأركانها والصّيام، وسأل الأنصاريّ عن الحجّ، لأنّ ثقيفا هم أهل

الطّائف، أسلموا العام الثّامن، فهو حديث عهدٍ بإسلام، فلا بدّ أن يسأل عن الأولى فالأولى.


- بيّن له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أمرين ثلاثة أمور مهمّة:

أ‌) الأوّل: الحِرص على الطّمأنينة في الصّلاة، وهي ركن من أركان الصّلاة، وضابط الطّمأنينة قوله صلّى الله عليه وسلّم له: (( حَتَّى يَأْخُذَ كُلُّ عُضْوٍ مَأْخَذَهُ )).

وإنّما فصّل له النبيّ
صلّى الله عليه وسلّم كيفية الرّكوع وأين يضع يديه وكيف يفرّج أصابعه قابضا على ركبتيه، لأنّ مِن شأن من يتعاهد نفسه في ذلك أن يطمئنّ

في صلاته
، ويأتي بالرّكوع على وجهه، لا كما يفعله كثيرٌ من العوامّ فتراه لا يُقِيم صلبه في الرّكوع من غير عذر.


وبعد ما أمره بالطّمأنينة في الرّكوع أمره بالطّمأنينة في السّجود أيضا، فقال: (( وَإِذَا سَجَدْتَ، فَمَكِّنْ جَبْهَتَكَ، وَلاَ تَنْقُرْ نَقْرًا )).

وتأمّل كيف يعلّم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم النّاس ما يحتاجون إليه، ممتثلا قول الله تعالى:{ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ

قال البخاري في " صحيحه ":

" قال ابن عبّاس رضي الله عنه:{ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ }:حُلماء فقهاء، ويقال: الرّباني الّذي يربّي النّاس بصغار العلم قبل كباره".

ب‌)
الأمر الثّاني الّذي بيّنه له: الإكثار من صلاة التطوّع.

لقوله صلّى الله عليه وسلّم: (( فَأَنْتَ إِذًا مُصَلٍّ )). وفي حديث: (( الصَّلاَةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ، فَمَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَسْتَكْثِرَ، فَلْيَسْتَكْثِرْ )).

وخصّه بصلاتين:


الأولى: صلاة أوّل النّهار، والمقصود بها صلاة الضّحى.

الثّانية: صلاة آخر النّهار، وهو قيام اللّيل.

ت‌) الأمر الثّالث الّذي أوصاه به: صيام أيّام البِيض: لقوله: (( وَصُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاَثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ )) [" صحيح التّرغيب والتّرهيب

" (390)].

وهذه وصيّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأبي ذرّ وأبي هريرة رضي الله عنهما، فكلاهما قال:

( أَوْصَانِي خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلَاثٍ: بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيْ الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَرْقُدَ)..

- وتتمّة الحديث سب.ق شرحه. بقي علينا أن نبيّن حكما مهمّا:

- أنّ المبيت بمزدلفة واجب على الصّحيح من أقوال أهل العلم، وهو مذهب أحمد.

إلا: الرّعاة، والسّقاة، وأهل الأعذار من الضّعفاء والمرضى، ومن يقوم عليهم فيحلّ لهم أن يفيضوا منها بعد نصف اللّيل.


وذهب الجمهور إلى أنّ الواجب هو الوقوف بها لا المبيت، بل قال الشّافعيّة يكفي المرور بها.

والأصل أنّ مناسك الحجّ واجبة لقوله
صلّى الله عليه وسلّم: (( خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ )) والمقرّر أنّ الفعل مفسِّرٌ للقول، وحكم الفعل حكم القول، إلاّ إذا ثبت الدّليل

على عدم الوجوب.


- ثمّ إذا تبيّن الفجر الثّاني صلّى الفجر مبكّرا، ويقف عند المشعر الحرام وهو جبل مزدلفة، يستقبل القبلة ويدعو الله تعالى ويكبّره ويهلّله ويوحّده، ويبقى على ذلك

حتّى يُسفِر جدّا. والحديث في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله
رضي الله عنه
رد مع اقتباس
  #35  
قديم 11-18-2009, 02:01 AM
يوسف الجزائري يوسف الجزائري غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 195
Post شـرح كتـاب الحـجّ (35)

شـرح كتـاب الحـجّ (35)


البـاب العــاشــر:

10-( التّرغـيـب في رَمْـي الـجِمَـار ).


شـرح التّبـويـب:

في هذا مباحث عدّة:

· المسألة الأولى: معنى الجمرات.

قولان في سبب تسميتها بالجمار، فقيل:

1-من الجمع، فالعرب يسمّون القبيلة المجتمعة على من نوأها جمرة، وهذه الأمكنة بمِنًى تجتمع فيها الحصى الّتي تُرمى بها، ومنه تجمّر القوم: إذا اجتمعوا، ومنه جمّرت المرأة

شعرها أي: جمعته، والضّفيرة تسمّى الجميرة.

2-عكس الجمع وهو الانفراد، فالجمرة: كلّ قوم لا يحالفون أحدا ولا ينضمّون إلى أحد، وفي الحديث عن عمر أنّه سأل الحطيئة عن عبْسٍ ومقاومتها قبائل قيس فقال: يا أمير

المؤمنين ! كنّا ألف فارس كأنّنا ذهبة حمراء لا نستجمر. أي: لا نحالف ولا نسأل غيرنا أن يجتمعوا إلينا.

قال في " لسان العرب ":" ومن هذا قيل لمواضع الجمار التي تُرمَى بمِنًى جمرات، لأنّ كلّ مجمع حصى منها جمرة ".

3-من الحجارة، فالجمرة: الحصاة، والتّجمير رمي الجمار، والاستجمار: الاستنجاء بالحجارة، وفي حديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِذَا تَوَضَّأْتَ فَانْثُرْ، وَإِذَا اسْتَجْمَرْتَ فَأَوْتِرْ

))، قال أبو زيد: الاستنجاء بالحجارة، وقيل: هو الاستنجاء. واستجمر استنجى، إذا تمسّح بالجمار، وهي الأحجار الصّغار، قال في "لسان العرب": " ومنه سمّيت جمار الحجّ

للحصى التي ترمى بها ".

ومنه الجمر: النّار المتّقدة، واحدته جمرة، فإذا برد فهو فحم، ذلك لأنّ النّار توقد بالحجارة. والمجمر والمِجمرة الّتي يوضع فيها الجمر، وقد اجتمر بها، واستجمر بالمِجمر: إذا

تبخّر بالعود، والّذي يتولّى ذلك مُجْمِرٌ.

وهذا الأقرب.

ثمّ نقول:

ما المقصود من قولنا: " رمي الجمار والجمرات " ؟ أهو المرمِيّ، أو المرمِيّ به ؟ أي: هل هي تلك الأعمدة الثّلاث من الحجارة الّتي تُرمى ؟ أو أنّ المقصود هو تلكم الحصيات

الّتي يرمى بها ؟

المقصود هو الأوّل، لأنّ غالب من يروي الأحاديث في ذلك فيه:" رَمَى الْجَمْرَةَ بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ "، فيجعلون الجمار تلك الأعمدة، والجمرات الّتي يُرمَى بها يطلقون عليها اسم

حصيات.

والجمرات كلّها بمِنى، وهي:

أ) جمرة العقبة، وهي الكبرى، تقع على يسار الدّاخل إلى منى من مزدلفة.

ب) وجمرة وسطى بعدها، وبينهما 77،116 مترا.

ج) وجمرة صغرى، وهي تلي مسجد الخيف، وبين الصّغرى والوسطى 4،156 أمتار.

· المسألة الثّانية: أصل مشروعيّته وحكمته.

روى ابن خزيمة وغيره عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه عن النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:

(( لَمَّا أَتَى إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللهِ عليه السّلام المَنَاسِكَ عَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ عِنْدَ جَمْرَةِ العَقَبَةِ، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، حَتَّى سَاخَ فِي الأَرْضِ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ عِنْدَ الجَمْرَةِ الثَّانِيَةِ، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ

حَصَيَاتٍ، حَتَّى سَاخَ فِي الأَرْضِ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ عِنْدَ الجَمْرَةِ الثَّالِثَةِ، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى سَاخَ فِي الأَرْضِ )). قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍرضي الله عنه: " الشَّيْطَانَ تَرْجُمُونَ، وَمِلَّةَ أَبِيكُمْ

إِبْرَاهِيمَ تَتَّبِعُونَ ".

[وسأتي معنا إن شاء الله في شرح الحديث رقم (1156)].

قال العلماء:" وأمّا رمي الجمار، فلْيَقصد الرّامي به الانقياد للأمر، وإظهارا للرقّ والعبوديّة، وانتهاضا لمجرّد الامتثال من غير حظّ للنّفس والعقل في ذلك. وليقصد التشبّه بإبراهيم

عليه السّلام، وفي ذلك إحياء لملّته. ومن خطر له وهو يرمي التّساؤل عن الحكمة في هذا الرّمي فليعلم أنّ الشّيطان يرميه بوساوسه، بل عليه أن يطرد عنه ذلك، إذ لا يحصل

إرغام أنف الشّيطان إلاّ بامتثال أمر الله ".

· المسألة الثّالثة: حكمه:

ذهب جمهور العلماء إلى أنّ رمي الجمرات واجب لا يحلّ تركه، ولو تركه الحاجّ لزمه دم.

وذهب قلّة منهم إلى أنّه ركن.

أمّا الدّليل على وجوبه فعموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ )).

ولأنّه به يقع التحلّل الأوّل.

( فائدة ) اختلف العلماء في التحلّل الأوّل متى يحصل ؟

1- فالجمهور على أنّه يحصل بأمرين من ثلاثة:

- الرّمي عند الجمرة وحلق الشّعر أو تقصيره.

- أو طواف الإفاضة مع الحلق أو التّقصير.

- أو الرّمي مع طواف الإفاضة.

ولا يشترط التّرتيب بين هذه، إذ كان شعار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يومئذ (( اِفْعَلْ وَلاَ حَرَجَ )).

فإذا فعل الثّالث تحلّل التحلّل الثّاني، فيباح له كلّ شيء حتّى النّساء.

2- يحصل التحلّل الأوّل بمجرّد الرّمي، وهو الصّحيح إن شاء الله.

واختاره ابن حزم في "المحلّى" (7/139)، وقال:" وهو قول عائشة، وابن الزّبير، وطاوس، وعلقمة، وخارجة بن زيد بن ثابت ".

والدّليل على ذلك، ما رواه أحمد عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ: (( إِذَا رَمَيْتُمْ الجَمْرَةَ؛ فَقَدْ حَلَّ كُلُّ شَيْءٍ إِلاَّ النِّسَاءَ )) ["الصّحيحة" برقم (239)].

وروى أحمد والنّسائي وابن ماجه عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال: " إِذَا رَمَى الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ " قِيلَ: وَالطِّيبُ ؟ قَالَ: أَمَّا أَنَا فَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى

الله عليه وسلّم يَتَضَمَّخُ بِالْمِسْكِ، أَفَطِيبٌ هُوَ ؟.

وتتمّة مباحث الرّمي نراها لاحقا إن شاء الله.
رد مع اقتباس
  #36  
قديم 11-27-2009, 12:26 AM
يوسف الجزائري يوسف الجزائري غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 195
Post شـرح كتـاب الحـجّ (36)

شـرح كتـاب الحـجّ (36)


تـابع: البـاب العــاشــر:

10-( التّرغـيـب في رَمْـي الـجِمَـار ).


تـابع: شـرح التّبـويـب:

· المسألة الرّابعة: أحكام الرّمي.

1- مقدار الحصيات:

الواجب على المسلم أن يحمل من الحصى ما يكون مثل حصى الخذف، أي: ما يعدل حبّة الحمّص.

روى مسلم عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه عَنْ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ قَالَ فِي عَشِيَّةِ عَرَفَةَ وَغَدَاةِ جَمْعٍ لِلنَّاسِ حِينَ دَفَعُوا:

(( عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ ! عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ الَّذِي يُرْمَى بِهِ الْجَمْرَةُ )) وُيُشِيرُ بِيَدِهِ كَمَا يَخْذِفُ الْإِنْسَانُ.


وروى مسلم أيضا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ:" رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم رَمَى الْجَمْرَةَ بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ ".

وعند النسائي قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم غَدَاةَ الْعَقَبَةِ-وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ-: (( هَاتِ الْقُطْ لِي !)) فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ

هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ
، فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِي يَدِهِ قَالَ: (( بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ )).


2- والجمهور على أنّ هذا القدر مستحبّ لا واجب، فلو رمى بأكبر منهنّ أو أصغر أجزأه مع الكراهة، ويرى الإمام أحمد عدم الإجزاء. كيف لا وهو مخالف لأمره

صلّى الله عليه وسلّم، وسمّى الزّيادة غلوّا في الدّين؟

3- من أين تؤخذ الحصيات ؟

السنّة أن تؤخذ وتلتقط الحصيات من مِنًى لا قبلها، وحديث ابن عبّاس رضي الله عنه صريح في ذلك، لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إنّما أمرهم به حين هبط

مُحسراً، وهو من مِنى.


وكذلك قوله: ( غَداة العَـقَبة ) فإنه يعني غداة رمي جمرة العقبة الكبرى، وظاهره أن الأمر بالالتقاط كان في مِنى قريباً من الجمرة، فما يفعله الناس اليوم من التقاط

الحَصَيَات في المزدلفة تركٌ للأفضل
، لأنّه مخالف لهذين الحديثين.


4- عدد الحصيات: هي سبعون حصاةً، أو تسع وأربعون.

يرمي جمرة العقبة بسبع يوم النّحر.

ثمّ يرمي الجمرات الثّلاث سبعا لكلّ جمرة، في أيّام التّشريق الثّلاثة، ففي كلّ يوم إحدى وعشرون حصاة.

فتلك سبعون حصاةً، لمن تأخّر إلى اليوم الثّالث من أيّام التّشريق.

أمّا من تعجّل ونفر من مِنًى ولم يرمِ اليوم الثّالث، فيكون قد رمى تسعا وأربعين.

5- حكم من رمى بأقلّ من سبع أو أكثر:

روى أحمد والنّسائي عن مجاهد عن سَعْدِ بْنِ أبي وقّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: ( رَمَيْنَا الْجِمَارَ أَوْ الْجَمْرَةَ فِي حَجَّتِنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم ثُمَّ جَلَسْنَا

نَتَذَاكَرُ فَمِنَّا مَنْ قَالَ
: رَمَيْتُ بِسِتٍّ، وَمِنَّا مَنْ قَالَ: رَمَيْتُ بِسَبْعٍ، وَمِنَّا مَنْ قَالَ: رَمَيْتُ بِثَمَانٍ، وَمِنَّا مَنْ قَالَ: رَمَيْتُ بِتِسْعٍ، فَلَمْ يَرَوْا بِذَلِكَ بَأْسًا ).


وفي رواية للنّسائي قَالَ مُجَاهِدٌ: قَالَ سَعْدٌ رضي الله عنه: ( رَجَعْنَا فِي الْحَجَّةِ مَعَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم وَبَعْضُنَا يَقُولُ: رَمَيْتُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، وَبَعْضُنَا يَقُولُ:

رَمَيْتُ بِسِتٍّ
، فَلَمْ يَعِبْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ).


قال الإمام أحمد: إن رمى بستّ ناسيا فلا شيء عليه، ولا ينبغي أن يتعمدّ، فإن تعمدّه تصدّق بشيء.

6- وقت الرّمي: يختلف الرّمي يوم النّحر عن أيّام التّشريق.

أ‌) الرّمي يوم النّحر: وهو خاصّ برمي جمرة العقبة.

- والوقت المختار للرّمي هو الضّحى أي: بعد طلوع الشّمس، وذلك هو فعله صلّى الله عليه وسلّم كما في صحيح مسلم.

- ولا يحلّ لأحد أن يرمِي قبل ذلك، إلاّ أهل الأعذار، فيحلّ لهم أن يرموا قبل الفجر.

روى البخاري عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّهَا نَزَلَتْ لَيْلَةَ جَمْعٍ عِنْدَ الْمُزْدَلِفَةِ، فَقَامَتْ تُصَلِّي، فَصَلَّتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ:" يَا بُنَيَّ، هَلْ غَابَ الْقَمَرُ ؟ " قُلْتُ – القائل هو عبد الله مولاها

–: لَا. فَصَلَّتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ: يَا بُنَيَّ، هَلْ غَابَ الْقَمَرُ ؟ قُلْت: نَعَمْ. قَالَتْ: فَارْتَحِلُوا ! فَارْتَحَلْنَا، وَمَضَيْنَا، حَتَّى رَمَتْ الْجَمْرَةَ، ثُمَّ رَجَعَتْ فَصَلَّتْ الصُّبْحَ فِي مَنْزِلِهَا.

فَقُلْتُ لَهَا: يَا هَنْتَاهُ ! مَا أُرَانَا إِلَّا قَدْ غَلَّسْنَا ؟! قَالَتْ: يَا بُنَيَّ ! إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلّى الله عليه وسلّم أَذِنَ لِلظُّعْنِ. وفي رواية قالت: لَقَدْ فَعَلْنَا هَذَا مَعَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكُمْ.

- ويمتدّ إلى الغروب، قال ابن عبد البرّ رحمه الله:

" أجمع أهل العلم أن من رماها يوم النّحر قبل المغيب فقد رماها في وقت لها، وإن لم يكن ذلك مستحبّا ".

روى البخاري ومسلم عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ رَجُلٌ: رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أَمْسَيْتُ ؟ فَقَالَ: (( لَا حَرَجَ )).

- ولا يجوز الرّمي ليلا إلاّ لأهل الأعذار، كالضّعفة والمرضى.

ب‌) أمّا رمي الجمرات أيّام التّشريق:

- فوقتها من الزّوال، ولا يصحّ قبل ذلك.

فقد روى التّرمذي وابن ماجه وأحمد عن ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنه أنّ النبيَّ صلّى اللهعليه وسلّم رَمَى الجِمَارَ عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ.

وروى البيهقيّ عن ابن عمر رضي الله عنه قَالَ:" لاَ نَرْمِي فِي الأَيَّامِ الثَّلاَثَةِ حَتّى تَزُولَ الشَّمْسُ ".

- ويمتدّ إلى الغروب، فإن أخّر الرّمي إلى ما بعد الغروب كُرِهَ له ذلك. وهذا متّفق عليه بين المذاهب.

· المسألة الخامسة: الذّكر والّدعاء أثناء الرّمي.

- يستحبّ التّكبير مع كلّ حصاة.

- ثمّ الوقوف بعد الرّمي مستقبلا القبلة داعيا الله وحامدا له، ومستغفرا لنفسه وإخوانه المؤمنين، يفعل ذلك مع الجمرتين الأوليين، ولا يقف عند الثّالثة.

قال البخاري:" بَابُ الدُّعَاءِ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ "، ثمّ ساق الحديث عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى اللهعليه وسلّم:" كَانَ إِذَا رَمَى الْجَمْرَةَ الَّتِي تَلِي

مَسْجِدَ مِنًى يَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ
، يُكَبِّرُ كُلَّمَا رَمَى بِحَصَاةٍ، ثُمَّ تَقَدَّمَ أَمَامَهَا فَوَقَفَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ رَافِعًا يَدَيْهِ يَدْعُو، وَكَانَ يُطِيلُ الْوُقُوفَ، ثُمَّ يَأْتِي الْجَمْرَةَ الثَّانِيَةَ

فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ
، يُكَبِّرُ كُلَّمَا رَمَى بِحَصَاةٍ، فَيَقِفُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ رَافِعًا يَدَيْهِ يَدْعُو، ثُمَّ يَأْتِي الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الْعَقَبَةِ فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ عِنْدَ كُلِّ حَصَاةٍ،

ثُمَّ يَنْصَرِفُ وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا ".


· المسألة السّادسة: النّيابة في الرّمي.

من كان لديه عذرٌ يمنعه من مباشرة الرّمي كمرض ونحوه، استناب من يرمي عنه، أخذا بأصل من أصول هذا الدّين، أنّه لا يكلّف الله نفسا إلاّ وسعها. وعلى هذا

فتاوى أهل العلم قديما وحديثا، كما بسطه الشّنقيطي في "أضواء البيان" (5/308).


أمّا ما رواه التّرمذي وابن ماجه عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: " حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم وَمَعَنَا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ فَلَبَّيْنَا عَنْ الصِّبْيَانِ وَرَمَيْنَا

عَنْهُمْ ". فإنّه ضعيف.


· المسألة السّابعة: فضله وثوابه:

وهذا ما ساق له المصنّف عددا من الأحاديث، وسنراه لاحقا إن شاء الله.
رد مع اقتباس
  #37  
قديم 11-27-2009, 12:27 AM
يوسف الجزائري يوسف الجزائري غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 195
Post شـرح كتـاب الحـجّ (37)

شـرح كتـاب الحـجّ (37)


تـابـع
: البـاب العــاشــر:

10-( التّرغـيـب في رَمْـي الـجِمَـار ).


· الحديـث الأوّل:


قال الحافظ: " تقدّم في الباب قبله في حديث ابن عمر رضي الله عنه الصّحيح ":

(( وَإِذَا رَمَى الجِمَارَ لاَ يَدْرِي أَحَدٌ مَا لَهُ حَتَّى يُوَفَّاهُ يَوْمَ القِيَامَةِ )).

لفظ ابن حبّان، ولفظ البزّار:

(( وَأَمَّا رَمْيُكَ الجِمَارَ فَلَكَ بِكُلِّ حَصَاةٍ رَمَيْتَهَا تَكْفِيرُ كَبِيرَةٍ مِنَ المُوبِقَاتِ )).

· الشّـرح:

كما
قال الحافظ – وهو الإمام المنذريّ رحمه الله – فقد سبق بيان بعض فضائل رمي الجمار في شرح الأحاديث السّابقة، ومجموع ما ثبت من الفضائل:

1- أنّ الله ادّخر له من الأجر العظيم، والخير العميم، ما لا يمكن إحصاؤه، ولا يُستطاع استقصاؤه، فقال صلّى الله عليه وسلّم: (( وَإِذَا رَمَى الجِمَارَ لاَ يَدْرِي أَحَدٌ

مَا لَهُ
))، وفي رواية قال: (( وَأَمَّا رَمْيُكَ الجِمَارَ، فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ:{ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } )).

2- أنّه من مكفّرات الذّنوب حتّى الكبائر: حيث قال صلّى الله عليه وسلّم: (( فَلَكَ بِكُلِّ حَصَاةٍ رَمَيْتَهَا تَكْفِيرُ كَبِيرَةٍ مِنَ المُوبِقَاتِ )).

من أجل ذلك كان الأفضل والأكمل والأكثر أجرا هو أن يبقى الحاجّ أيّام التّشريق كلّها بمنًى، حتّى يكون مجموع ما رماه في حجّه سبعين حصاةً كاملة، أمّا لو تعجّل

فلم يبقَ بها إلاّ يومين فإنّه لا يرمِي إلاّ تسعا وأربعين.


3- أنّه إحياءٌ لسنّة خليل الرّحمن، وإمام الحنفاء إبراهيم عليه السّلام، وفي ذلك ساق الحديث التّالي.

· الحديث الثّاني:


1156-وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( لَمَّا أَتَى إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللهِ
عليه السّلام المَنَاسِكَ عَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ عِنْدَ جَمْرَةِ العَقَبَةِ، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، حَتَّى سَاخَ فِي الأَرْضِ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ عِنْدَ الجَمْرَةِ

الثَّانِيَةِ
، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، حَتَّى سَاخَ فِي الأَرْضِ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ عِنْدَ الجَمْرَةِ الثَّالِثَةِ، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى سَاخَ فِي الأَرْضِ
)).

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: " الشَّيْطَانَ تَرْجُمُونَ، وَمِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ تَتَّبِعُونَ ".

[رواه ابن خزيمة في "صحيحه"، والحاكم واللّفظ له، وقال: "صحيح على شرطهما"].

· الشّــرح:

فإنّ رمي الجمار من شعائر الحجّ العِظام الّتي شرعها الله على يد نبيّه وخليله إبراهيم عليه السّلام، وهي تدخل في قوله تعالى عن بيته المعظّم: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ

مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ
}، فبعض العلماء ذهب إلى أنّ ( مقام إبراهيم ) جنس يدخل فيه جميع شعائر إبراهيم عليه السّلام، ولم يخصّه بالمقام المعروف.

- فيخبرالنبيّ
صلّى الله عليه وسلّمأنّ إبراهيم عليه السّلام لمّا أتى على جميع تلك المقامات، (عَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ )، أي: بدا له، وذلك لأنّه يغتاظ من إظهار شعائر

الله تبارك وتعالى.


وإذا كان الشّيطان (( إِذَا سَمِعَ النِّداءَ للصّلاةِ أدبَرَ ولَهُ ضُراطٌ حَتَّى لا يسمَع التَّأذين ))، فكيف بأيّام عبيرها الدّعاء والتّوحيد، ونسيمهاالتّلبيةوالتّمجيد ؟!

لذلك عرض إبليس لإبراهيم عليه السّلام ثلاث مرّات عند كلّ جمرة، فكان إبراهيم عليه السّلام يرميه بسبع حصيات.

- قال النبيّ
صلّى اللهعليه وسلّم: (( حَتَّى سَاخَ فِي الأَرْضِ )): ساخ بمعنى غاص في الأرض، لذلك قال العلماء: ( ساخ في الأرض ) هو مثل الغرق في الماء،

وتقول العرب:
ساخت بهم الأرض، إذا خسف بهم.

- قول ابن عبّاس: " الشَّيْطَانَ تَرْجُمُونَ، وَمِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ تَتَّبِعُونَ ": يريد من ذلك بيان الحكمة من تشريع رمي الجمار، وأنّ الغاية منه إظهار شعائر الأنبياء،

وتذكير النّاس بأنّ الله يدحر الشّيطان في تلك المقامات
.

ومن فضائل رمي الجمار:

3- أنّه نور يوم القيامة، وهذا ما يدلّ عليه الحديث التّالي:

· الحديث الثّالث:


1157-وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( إِذَا رَمَيْتَ الجِمَارَ كَانَ لَكَ نُورًا يَوْمَ القِيَامَةِ )).

[رواه البزار من رواية صالح مولى التوأمة].

· الشّــرح:

- قوله: ((كَانَ لَكَ نُورًا )) أي سببا للنّور.

- قوله: ((يَوْمَ القِيَامَةِ )): أي: في عرصاتها ومواقفها:

أ‌) بدءاً من الحشر، فإنّ الغرّة والتّحجيل يكونان من أثر الوضوء، ويزيدهم الله نورا بالأعمال الصّالحة، ومنها الشّيب الّذي يكون على وجه المسلم ورأسه، ومنها

رمي الجمرات.

ب‌) على الصّراط: قال تعالى:{ يَوْمَ تَرَى المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمْ اليَوْمَ جَنَّات تَجْرِي مِن تَحْتهَا الأنْهَار خَالِدِينَ فِيهَا ذلكَ

هُو الفَوْز العَظِيم
} [الحديد:12] .

فـ( عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ يَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ، مِنْهُمْ مَنْ نُورُهُ مِثْلُ الجَبَلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ نُورُهُ مِثْلُ النَّخْلَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ نُورُهُمِثْلُ الرَّجُلِ القَائِمِ، وَأَدْنَاهُمْ نُوراً مَنْ نُورُهُ فِي

إِبْهَامِهِ
، يَتَّقِدُ مَرَّةً وَيَطْفَأُ مَرَّةً )
[رواه الطّبريّ عن ابن مسعود رضي الله عنه].

وقال الضحاك رحمه الله:

" ليس أحد إلاّ يُعطى نوراً يوم القيامة، فإذا انتهوا إلى الصّراط طَفِئ نور المنافقين، فلمَّا رأى ذلك المؤمنون أشفقوا أن يطفأ نورهم كما طفئَ نور المنافقين،

فقالوا: {
رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا}.

وقال الحسن { يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } يعني: على الصراط.

فمن أراد أن يُتِمّ الله له نوره، فعليه أن يحرِص على إتمام رمي الجمار على سنّة النبيّ
صلّى الله عليه وسلّم، مجتنبا طرفَي الإفراط والتّفريط، نسأل الله تعالى من

فضله العظيم، وخيره العميم.
رد مع اقتباس
  #38  
قديم 11-27-2009, 12:28 AM
يوسف الجزائري يوسف الجزائري غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 195
Post شـرح كتـاب الحـجّ (38)

شـرح كتـاب الحـجّ (38)



البـاب الحــادي عـشـر:

11-( التّرغـيـب فـي حـلق الرّأس بمـنـى ).


· شـرح التّبـويـب:

- حلق الرّأس: هو إزالة شعر الرّأس، وحذف المضاف – وهو " شعر " – للعلم به، كما يقال: يحرم نتف الوجه وحلق اللّحية، أي: نتف شعر الوجه،

وحلق شعر اللّحية.

- حكمه: والحلق من واجبات الحجّ عند أكثر العلماء، وذهب الشّافعيّة إلى أنّه ركن. والدّليل:

أ‌) قوله تعالى:{
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: من الآية 27]، ووجه

الدّلالة أنّ الله كنّى عن العمرة هنا بالحلق والتّقصير ممّا يدلّ على وجوبهما،
فتسمية الشّيء ببعضه دليل على وجوبه، كما سمّى الله الفاتحة صلاةً.

ب‌) عموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَُمْ ))، فهو للوجوب، وأفعاله بيان لأقواله.

ت‌) أنّه أحد الأمور الثّلاثة الّتي يتمّ بها التحلّل.

- اختصاص الحلق بالرّجال:

ذلك لما رواه أبو داود أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ حَلْقٌ إِنَّمَا عَلَى النِّسَاءِ التَّقْصِيرُ )).

والقدر الّذي تأخذ منه المرأة من شعرها هو مقدار الأنملة، لما رواه ابن أبي شيبة وغيره عن ابن عمر رضي الله عنه قال:" المرأة إذا أرادت أن تقصر جمعت

شعرها إلى مقدّم رأسها ثمّ أخذت منه أنملة
".

أمّا الأصلع من الرّجال، فذهب جمهور العلماء إلى أنّه يستحبّ له أن يُمِرّ الموسى على رأسه، وقال أبو حنيفة بالوجوب.

- مستحبّاته:

أ‌) يستحبّ أن يكون بعد رمْيِ جمرة العقبة:

لأنّ مراعاة التّرتيب أولى وأفضل، لفعله صلّى الله عليه وسلّم، فقد روى مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم أَتَى مِنًى،

فَأَتَى الْجَمْرَةَ فَرَمَاهَا، ثُمَّ أَتَى مَنْزِلَهُ بِمِنًى وَنَحَرَ ثُمَّ قَالَ لِلْحَلَّاقِ: (( خُـذْ )).

ب‌) كما يستحبّ لمن كان عليه هديٌ أن يكون حلقه بعد النّحر للحديث السّابق.

وأيضالما رواه البخاري عَنْ الْمِسْوَرِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ.

ت‌) ومن السّنة أن يبدأ بالشقّ الأيمن، ثمّ الأيسر، لما رواه مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِأَتَى مِنًى، فَأَتَى الْجَمْرَةَ

فَرَمَاهَا
، ثُمَّ أَتَى مَنْزِلَهُ بِمِنًى وَنَحَرَ، ثُمَّ قَالَ لِلْحَلَّاقِ: (( خُذْ ))، وَأَشَارَ إِلَى جَانِبِهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ الْأَيْسَرِ، ثُمَّ جَعَلَ يُعْطِيهِ النَّاسَ.

والدّليل على أنّ التّرتيب لا يُشترط، هو ما رواه الشّيخان عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه
صلّى الله عليه وسلّم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم وَقَفَ فِي حَجَّةِ

الْوَدَاعِ بِمِنًى
لِلنَّاسِ يَسْأَلُونَهُ، فَجَاءَهُ رَجُلٌفَقَالَ: " لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ ؟" فَقَالَ: (( اذْبَـحْ وَلَا حَـرَجَ )) فَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ ؟

قَالَ: (( ارْمِ وَلَا حَـرَجَ )) قَالَ: فَمَاسُئِلَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَوَلَا أُخِّرَ إِلَّاقَالَ: (( افْـعَـلْ وَلَا حَـرَجَ )).

ث‌) ويستحبّ للمعتمر أن يكون تقصيره أو حلقه في المروة، والحاجّ في منى جمعا بين الآثار.

أمّا حلق الحاجّ بمنى: فقد دلّ عليه الأحاديث السّابقة.

أمّا حلق المعتمر أو تقصيره بالمروة: فدلّ على ذلك ما رواه مسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي مُعَاوِيَةُ رضي الله عنه:
أَعَلِمْتَ أَنِّي قَصَّرْتُ مِنْ

رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ
صلّى الله عليه وسلّم عِنْدَ الْمَرْوَةِ بِمِشْقَصٍ ؟

[والمِشقص: سهم بطرف حادّ عريض].

قال النّووي رحمه الله:

"
وفيه جواز أن يكون تقصير المعتمر أو حلقه عند المروة، لأنّها موضع تحلّله، كما يستحبّ للحاجّ أن يكون حلقه أو تقصيرهفي منى لأنّها موضع تحلّله، وحيث

حلقا أو قصرا من الحرم كلّه جاز
".

( تـنـبـيـه )

وهذا الحديث يجب حمله على أنّه قصّر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في عمرة ( الجعرانة )، وليس في حجّته، ولا في عمرة القضاء، كيف ذلك ؟

لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في حجّة الوداع كان قارنا، فلا يمكنه أن يحلق في المروة.

ولا يصحّ حمله أيضا على عمرة القضاء الواقعة سنة سبع من الهجرة، لأنّ معاوية رضي الله عنه لم يكن يومئذٍ مسلما، إنّما أسلم يوم الفتح سنة ثمان.

ولا يصحّ قول من حمله على حجّة الوداع وزعم أنّه صلّى الله عليه وسلّم كان متمتّعا، لأنّ هذا غلط فاحش.

والله أعلم
رد مع اقتباس
  #39  
قديم 11-27-2009, 12:29 AM
يوسف الجزائري يوسف الجزائري غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 195
Post شـرح كتـاب الحـجّ (39)

شـرح كتـاب الحـجّ (39)


تــابـع: البـاب الحــادي عـشـر:

11-( التّرغـيـب فـي حـلق الرّأس بمـنـى ).


· الحـديـث الأوّل:


1158-عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ )).

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ ! وَلِلْمُقَصِّرِينَ ؟ قَالَ:

(( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ )).

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ ! وَلِلْمُقَصِّرِينَ ؟ قَالَ:

(( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ )).

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ ! وَلِلْمُقَصِّرِينَ ؟ قَالَ:

(( وَلِلْمُقَصِّرِينَ )).

[رواه البخاري ومسلم وغيرهما].

· الحـديـث الثّـاني:


1159-وَعَنْ أُمِّ الحُصَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا سَمِعَتْ النَّبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ:

(( دَعَا لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلَاثًا، وَلِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً وَاحِدَةً )).

[رواه مسلم].

· الحـديـث الثّـالث:


1160-وَعَنْ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ:

(( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِين،َ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ ))

قَالَ: يَقُولُ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: وَالْمُقَصِّرِينَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ فِي الرَّابِعَةِ:

(( وَلِلْمُقَصِّرِينَ )).

ثُمَّ قَالَ: وَأَنَا يَوْمَئِذٍ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، فَمَا يَسُرُّنِي بِحَلْقِ رَأْسِي حُمْرَ النَّعَمِ.

[رواه أحمد، والطّبراني في "الأوسط" بإسناد حسن].

(قال الحافظ): وتقدّم في حديث ابن عمر رضي الله عنه الصّحيح أنّ النَّبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْأَنْصَارِيِّ:

(( وَأَمَّا حِلاَقُكَ رَأْسَكَ فَلَكَ بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَلَقْتَهَا حَسَنَةٌ، وَتُمْحَى عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةٌ )).

وتقدّم أيضا في حديث عبادة بن الصّامت:

(( وَأَمَّا حَلْقُكَ رَأْسَكَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَعْرِكَ شَعْرَةٌ تَقَعُ فِي الأَرْضِ إِلاَّ كَانَتْ لَكَ نُورًا يَوْمَ القِيَامَةِ )).

· شـرح الغريـب:

- قوله: ( فَمَا يَسُرُّنِي بِحَلْقِ رَأْسِي حُمْرَ النَّعَمِ ): الباء هنا هي باء البدليّة أو الثّمنية، وضابطها أن تعوّض بكلمة (بَدَلَ)، فتقول:ما يسرّني بدل

الحلق حمر النّعم.

- ( حُمْر النّعم ): بتسكين الميم: جمع حمراء، أمّا ضمّها فهو جمع حمار.

والنّاقة الحمراء أي: الصّهباء الّتي يكون لونها بنّيا ذاهبا إلى الأحمر، وهي من أنفس أموال العرب.

· الفـوائــد:

- الفائدة الأولى: اتّفق الأئمّة على أنّ الحلق أفضل من التّقصير.

وذلك من أوجه خمسة:

أ‌) أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دعا لمن يحلق رأسه بالمغفرة ثلاثا، ولمن قصّر مرّة واحدة.

ب‌) أنّ الله قدّم الحلق في الذّكر على التّقصير، فقال:{ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ }.

ت‌) أنّه بقدر ما يسقط منه من شعر رأس الحاجّ، بقدر ما تُكتب له الأجور والحسنات، وتكفّر عنه الخطايا والسيّئات، كما في حديث ابن عمر الّذي ذكره

المصنّف، ففيه: (( فَلَكَ بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَلَقْتَهَا حَسَنَةٌ، وَتُمْحَى عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةٌ )).

ث‌) وكذلك من يحلق يكون أكثر نورا يوم القيامة من المقصِّر، بدلالة حديث عبادة بن الصّامت رضي الله عنه ، ففيه: (( فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَعْرِكَ شَعْرَةٌ

تَقَعُ فِي الأَرْضِ إِلاَّ كَانَتْ لَكَ نُورًا يَوْمَ القِيَامَةِ
)).

ج‌) قال كثير من أهل العلم: ووجه تفضيل الحلق على التّقصير أنّه أبلغ في العبادة، وأبين للخضوع والذلّة. أمّا الّذي يقصّر فإنّه يُبقِي على نفسه شيئا

ممّا يتزيّن به، بخلاف الحالق، فإنّه يُشعِر بأنّه ترك ذلك لله تعالى.

- الفائدة الثّانية:

أحاديث الباب نصّ في أنّ التّقصير يجزئ عن الحلق، وهو مجمعٌ عليه، إلاّ ما يُروَى عن الحسن البصريّ والنّخعي أنّ الحلق يتعيّن في أوّل حجّة.

وفي حكاية الوجوب عنهما نظر، وذلك، لأمور:

أوّلا: لأنّ من حكاه – وهو الإمام ابن المنذر – إنّما حكاه بصيغة التّمريض.

ثانيا: أنّه قد ثبت عن الحسن خلافه، فقد قال ابن أبي شيبة: حدّثنا عبد الأعلى، عن هشام، عن الحسن قال في الّذي لم يحجّ قط:" إن شاء حلق، وإن شاء

قصّر
".

ثالثا: غاية ما اعتمده من نسب ذلك إلى إبراهيم النّخعيّ، هو ما رواه ابن أبي شيبة عن إبراهيم النّخعي قال:" إذا حجّ الرجل أوّل حجّة حلق، فإن حج

أخرى فإن شاء حلق وإن شاء قصر
". ثمّ روي عنه أنه قال:" كانوا يحبّون أن يحلقوا في أوّل حجّة وأوّل عمرة " اهـ.

وهذا يدلّ على الاستحباب لا للّزوم كما لا يخفى.

- الفائدة الثّالثة:

حاول بعض أهل العلم أن يبيّن السّبب في حرص الصّحابة على التّقصير، والأولى ما قاله الخطّابي وغيره:" إنّ عادة العرب أنّها كانت تحبّ

توفير الشّعر والتزيّن به، وكان الحلق فيهم قليلا
".

- الفائدة الرّابعة: يستحبّ للمتمتّع أن يجمع بين الحلق والتّقصير.

ربّما توهّم متوهّم أنّ القول باستحباب الحلق يعارض أمره صلّى الله عليه وسلّم للصّحابة في حجّتهم بالتّقصير، فقد روى البخاري ومسلم عن ابن عمر

رضي الله عنه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لهم: (( وَلْيُقَصِّرْ ولْيَحْلِلْ )).

والصّواب أنّه لا تعارض، فقد قال الحافظ في " الفتح " (3/449):

" يستحبّ في حقّ المتمتّع أن يقصر في العمرة، ويحلق في الحجّ، إذا كان ما بين النّسكين متقاربا ".اهـ

قال الشّيخ الألباني رحمه الله في " الإرواء " (3/283): " وهذه فائدة يغفل عنها كثير من المتمتّعين فيحلق بدل التّقصير ".

والله أعلم وأعزّ وأكرم

رد مع اقتباس
  #40  
قديم 11-27-2009, 12:30 AM
يوسف الجزائري يوسف الجزائري غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 195
Post شـرح كتـاب الحـجّ (40)

شـرح كتـاب الحـجّ (40)


البـاب الثّــاني عـشـر:

12-( التّرغـيـب في شُـرب مـاء زمزم، وما جـاء في فضـلِه ).


· شرح التّبويب:

فقبل بيان فضل ماء زمزم لا بدّ أن نعلم المراحل الّتي مرّت بها هذه العينُ المباركة:

· البداية:


فأوّل ما أظهر الله هذه العين يوم ترك إبراهيم عليه السّلام هاجر وابنها إسماعيل عليه السّلام، كما في الصّحيحين، فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ ! أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا

الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ
؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا. فَقَالَتْ لَهُ:

أَاللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا.

ثُمَّ رَجَعَتْ، فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُ اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتَ، ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ:{رَبِّ إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ

غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ
} [إبراهيم: من الآية37].

وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ، وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى-أَوْ قَالَ يَتَلَبَّطُ- فَانْطَلَقَتْ

كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ.

فَوَجَدَتْ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الْأَرْضِ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْ الْوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا، فَلَمْ تَرَ أَحَدًا.

فَهَبَطَتْ مِنْ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْوَادِيَ، رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا، ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الْإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ، حَتَّى جَاوَزَتْ الْوَادِيَ.

ثُمَّ أَتَتْ الْمَرْوَةَ، فَقَامَتْ عَلَيْهَا، وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا )).

فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا، فَقَالَتْ:

صَهٍ ! تُرِيدُ نَفْسَهَا. ثُمَّ تَسَمَّعَتْ فَسَمِعَتْ أَيْضًا، فَقَالَتْ: قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ.

فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ [في رواية: فإذا جبريل عليه السّلام] عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ، حَتَّى ظَهَرَ الْمَاءُ.

فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ، وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا، وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنْ الْمَاءِ فِي سِقَائِهَا وَهُوَ يَفُورُ بَعْدَ مَا تَغْرِفُ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم:

(( يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنْ الْمَاءِ لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا )).

قَالَ: فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا، فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ:

(( لَا تَخَافُوا الضَّيْعَةَ، فَإِنَّ هَا هُنَا بَيْتَ اللَّهِ يَبْنِي هَذَا الْغُلَامُ وَأَبُوهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَهْلَهُ )).

قال ابن الجوزي رحمه الله:

" كان ظهور زمزم نعمةً من الله محضةً بغير عمل عامل، فلمّا خالطها تحويطُ هاجر، داخلها كسبُ البشر فقصرت ".

· ثمّ كيف اختفى أثر هذه العين ؟


يُكمل ابن عبّاس رضي الله عنه قائلا:

" .. حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ مِنْ جُرْهُمَ .. فَنَزَلُوا فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ، فَرَأَوْا طَائِرًا عَائِفًا [ وهو الّذي يحوم على الماء].

فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الطَّائِرَ لَيَدُورُ عَلَى مَاءٍ !! لَعَهْدُنَا بِهَذَا الْوَادِي وَمَا فِيهِ مَاءٌ. فَأَرْسَلُوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ [أي رسولا]، فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ !! فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ

فَأَقْبَلُوا، وَأُمُّ إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ الْمَاءِ، فَقَالُوا: أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ. فَقَالَتْ: نَعَمْ وَلَكِنْ لَا حَقَّ لَكُمْ فِي الْمَاءِ.

وعاشت هاجر مع ولدها إسماعيل عليه السّلام، وتزوّج منهم، ومرّت القرون، حتّى رحلت جرهم من تلك البقعة المباركة، فقام عمرو بن الحارث بن مضاض

الجرهميّ
ورَدَمَ عينَ زمزم، فما عاد العرب يعرفون عنها إلاّ اسمها، تعظّمونها لأنّها من شعائر دين إبراهيم الخليل عليه السّلام.

· عودٌ على بدء:


ثمّ أراد الله عزّ وجلّ أن يجعل حفرَ بئر زمزم على يد عبد المطّلب جدّ النبيّ r، وذلك ليُشير إلى أنّ ملّة إبراهيم ستُقام وتحيا من جديد على يد واحد من سلالة

بني هاشم.

روى ابن إسحاق والبيهقي في " دلائل النبوّة " عن عليّ بن أبي طالب t حدّث حديثَ زمزم حين أُمِر عبد المطّلب بحفرها قال:

قال عبد المطلب:

( إنّي لنائم في الحِجْر، إذ أتاني آت فقال:

احفر طَيْبة ! قال: قلت: وما طيبة ؟

ثمّ ذهب عنّي، فلمّا كان الغد، رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني، فقال:

احفر برّة ! قال: فقلت: وما برّة ؟

ثمّ ذهب عنّي، فلمّا كان الغد، رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني، فقال:

احفر المضنونة [ أي: الغالية، يطلق على زمزم لنفاسته] قال: فقلت: وما المضنونة ؟

ثمّ ذهب عنّي، فلمّا كان الغد، رجعت إلى مضجعي، فنمت فيه فجاءني فقال: احفر زمزم !

قال: قلت: وما زمزم ؟ قال: لا تَنْزِف أبدا ولا تُذَمّ، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدمّ، عند نقرة الغراب الأعصم، عند قرية النّمل.

فلمّا بيّن له شأنها ودُلّ على موضعها، وعرف أنّه قد صُدِق، غدا بمِعولِه، ومعه ابنه الحارث بن عبد المطّلب، ليس له يومئذ ولد غيره، فحفر فيها.

فلمّا بدا لعبد المطّلب الطيَّ كـبّـر !!.

فعرفت قريش أنّه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه، فقالوا:

يا عبد المطّلب ! إنّها بئر أبينا إسماعيل، وإنّ لنا فيها حقّا، فأشركنا معك فيها !

قال: ما أنا بفاعل، إنّ هذا الأمر قد خُصصت به دونكم، وأعطيته من بينكم.

فقالوا له: فأنصِفْنا، فإنّا غير تاركيك حتّى نخاصمَك فيها !

قال: فأجملوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه.

قالوا: كاهنة بني سعد بن هذيم.

قال: نعم !

وكانت بأشراف الشّام، فركب عبد المطّلب ومعه نفر من بني أبيه من بني عبد مناف، وركب من كلّ قبيلة من قريش نفرٌ.

والأرض إذ ذاك مفاوز، فخرجوا حتّى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز والشّام فَنِيَ ماء عبد المطّلب وأصحابه، فظمِئوا، حتّى أيقنوا بالهلكة ... فاستسقوا

من معهم من قبائل قريش، فأبوا عليهم ! وقالوا:

إنّا بمفازة، ونحن نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم.

فلمّا رأى عبد المطّلب ما صنع القوم، وما يتخوّف على نفسه وأصحابه، قال: ما ترون ؟

قالوا: ما رأيُنا إلاّ تبعٌ لرأيك، فمُرنا بما شئت.

قال: فإنّي أرى أن يحفر كلّ رجل منكم حفرته لنفسه بما بكم الآن من القوّة، فكلّما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته، ثمّ واروه حتّى يكون آخركم رجلا واحدا

فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعا
.[ يقصد بذلك: أنّه إذا أكلت السّباع والطّير جسم واحد منّا، خير من أن تأكل وتضيع جميع أجسامنا].

قالوا: نعم ! ما أمرت به.

فقام كلّ واحد منهم فحفر حفرته، ثمّ قعدوا ينتظرون الموت عطشا، ثمّ إنّ عبد المطلب قال لأصحابه:

والله إنّ إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضرب في الأرض ولا نبتغي لأنفسنا لعجزٌ، فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد، ارتحلوا !

فارتحلوا، حتّى إذا فرغوا - ومن معهم من قبائل قريش ينظرون إليهم ما هم فاعلون ؟!-، تقدّم عبد المطلب إلى راحلته، فركبها، فلمّا انبعثت به، انفجرت من

تحت خفّها عين ماء عذب
، فكبّر عبد المطّلب، وكبّر أصحابه، ثمّ نزل فشرب، وشرب أصحابه، واستقوا حتّى ملأوا أسقيتهم.

ثمّ دعا القبائل من قريش، فقال: هلمّ إلى الماء، فقد سقانا الله، فاشربوا واستقوا !

ثمّ قالوا: قد- والله - قضى لك علينا يا عبد المطّلب ! والله لا نخاصمك في زمزم أبدا ! إنّ الّذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الّذي سقاك زمزم، فارجع إلى

سقايتك راشدا
.

فرجع ورجعوا معه، ولم يصلوا إلى الكاهنة، وخلّوا بينه وبينها ).

وهذا الحدث فيه بيانٌ لفضل هذه العين المباركة، فإنّها كانت من الأمور الّتي جعلت العرب تَلفِت وجوهها إلى بيت عبد المطّلب، حتّى إذا بُعِث النبيّ صلّى الله

عليه وسلّم، كان الشّيء من معدِنِه لا يُستغرب. لذلك رواها البيهقيّ وغيره في " دلائل النبوّة ".

وقد ذكر المصنّف فضائل أخرى في هذا الباب نراها في شرح الأحاديث إن شاء الله.
رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:58 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.