أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا

             
22569 151323

العودة   {منتديات كل السلفيين} > المنابر العامة > منبر الفقه وأصوله

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 06-01-2009, 06:46 PM
ابا حفص السني الوجدي ابا حفص السني الوجدي غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: May 2009
الدولة: المغرب
المشاركات: 35
Thumbs down وَفِّرُوا اللِّحَى وَأحْفُوا الشَّوَارب محمد احمد شريف

وَفِّرُوا اللِّحَى وَأحْفُوا الشَّوَارب

لفضيلة الدكتور محمد أحمد الشريف

الأستاذ المساعد بكلية الحديث بالجامعة




عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خالفوا المشركين وفِّروا اللحى وأحفوا الشوارب" وفي رواية عبيد الله بن عمر بن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انهكوا الشوارب وأعفوا اللحى"[1]،
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس"[2]،
وعنه رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الفطرة خمس: الاختتان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط"[3]،
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من الفطرة قص الشارب"[4].

الإسلام هو دين الله الذي ارتضاه للعالمين، وعليه فطر الخلق جميعا، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}، (الروم/30)
والمعنى والله أعلم أن هذا الدين القيم إنما هو دين يتفق مع الفطرة تماماً، ولو أن كل إنسان تُرك من وقت ولادته وما يؤديه إليه نظره لأداه إلى دين الحق بتوحيده وشعائره.

وقد فطر الله الناس قابلين للحق متهيئين لإدراكه مائلين منساقين إليه، إذا خلوا وأنفسهم، بعيدين عن الوساوس الشيطانية والأهواء البشرية، ومن هذه الأمور التي فطر الناس عليها قص الشارب وإعفاء اللحية، والسواك واستنشاق الماء، وقص الأظافر، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء، والمضمضة.. هذه الأمور ملائمة لفطرة الإنسان ملائمة تامة. ولقد أكد الشارع أمرها فحث عليها ليذكر الناس بأصل فطرتهم وليكونوا على أحسن الصفات وأكمل الهيئات: قال شيخ الإسلام ابن حجر: ويتعلق بهذه الخصال مصالح دينية ودنيوية تدرك بالتتبع منها: تحسبن الهيئة، وتنظيف البدن جملة وتفصيلا، والاحتياط للطهارتين، والإحسان إلى المخالط والمقارن بكف ما يتأدى به من رائحة كريهة، ومخالفة شعار الكفار من المجوس واليهود والنصارى وعباد الأوثان، وامتثال أمر الشارع والمحافظة على ما أشار إليه قوله تعالى {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} لما في المحافظة على هذه الخصال من مناسبة ذلك، وكأنه قيل قد حَسَّنتُ صوركم فلا تشوهوها بما يقبحها أو حافظوا على ما يستمر به حسنها، وفي المحافظة عليها محافظة على المروءة والتأليف المطلوب، لأن الإنسان إذا بدا في الهيئة الجميلة كان أدعى إلى انبساط النفس إليه، فيقبل قوله، ويحمد رأيه والعكس وبالعكس اهـ[5] ولقد أغوى الشيطان الكثير من الناس وأضلهم عن فطرتهم وصرفهم عما جبلوا عليه، وزين لهم ما لم يكن من شأنهم وهيأ لهم أن حسن الهيئة وزينتها في تغيير هذه الفطرة ورفضها، وسار على ذلك المشركون، وتبعهم عليه نفر من المسلمين. فتركوا شواربهم لم يقصوها، وأنهكوا لحاهم، وأعرضوا عن الاختتان، وتركوا شعور العانة والإبط، وأطالوا أظافرهم، وتركوا الاستنشاق بالماء، والمضمضة، والاستنجاء بالماء، وتركوا البراجم، وأعرضوا عن السواك الذي هو مطهرة للفم ومرضاة للرب، واتبعوا في ذلك أهواء الذين لا يعلمون قال تعالى {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} (الأعراف/3)، وسأقصر البحث هنا على أمر الشارب واللحية والله المستعان وعليه التكلان.

والشارب هو الشعر النابت على الشفة العليا للفم، قال في المصباح: هو الشعر الذي يسيل على الفم ويثنَّى باعتبار الطرفين اهـ. وقد يجمع وهو من الواحد الذي فرق، ويسمى كل جزء منه باسمه فقالوا لكل جانب منه شاربا، ثم جمع على شوارب، وأما طرفا الشارب وهما السبالان فقيل هما من الشارب ويشرع قصهما وقيل هما من اللحية. وجمهور العلماء على أن قصه أو إحفاءه سنة، وأمره صلى الله عليه وسلم بذلك محمول على الندب بقرينة أن الأمر بذلك للنظافة وتحسين الهيئة، والنفس تميل إلى ذلك وتدعو إليه، فلم تحتج إلى أمر إيجاب. والندب كاف في ذلك. وذهب يعض الحنفية وابن حزم والقاضي أبو بكر بن العربي إلى وجوب أخذ الشارب لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك ولأن في تركه تشويها للصورة الآدمية كما أن أخذه من الفطرة، والفطرة هي الدين وإذا أضيف قصه إلى الدين، فالظاهر أنه جزء من فرائض الدين لا من سننه وقد أمر إبراهيم عليه السلام بخصال الفطرة، وأمرنا باتباعه، وأمرُ الله يجب العمل به.. وقص الشارب من خصال الفطرة فهو واجب. والظاهر مع الجمهور فهو سنة الأنبياء جميعاً، والقصد به النظافة وتحسين الهيئة واتباع إبراهيم عليه السلام واجب. فإن كان الأمر واجباً عليه أو مندوباً كان حكم التابع كذلك ولا نعلم أن ذلك كان واجباً عليه فبقي الأمر على الندب.

وإنما كان ذلك سنة لأن الأنبياء عليهم السلام هم أكمل الخلق وشرعهم أقوم الشرائع، وقد أمرنا بالاقتداء بهم، وما شرع الله شيئا إلا وفيه الخير والمصلحة وإن خفى ذلك علينا. والصادق في إيمانه يستجيب لأمر الله لأن مقتضى الإيمان التصديق والطاعة والاستسلام والانقياد لأمر الله تعالى. وإن كانت معرفة الحكمة تزيده تصديقاً وثباتاً وانقياداً.. ويمكننا أن نفهم شيئا من الحكمة في الأخذ من الشارب، فالمشركون والمجوس الذين كفروا بالله وعبدوا غيره وأضلهم الشيطان عن فطرتهم كانوا يتركون شواربهم لا يأخذون منها شيئًا، وذلك أمارة على ما في أنفسهم من غلظة وتجبر وتعالٍ، ومن زهو وعجب واختيال، وشأن المؤمن التواضع والانكسار والتذلل لله عز وجل. ونحن مأمورون بمخالفة الكفار في هيئاتهم وأفعالهم غير المشروعة، فهم أعداء لله ولرسوله وللمؤمنين، ومن تشبه بقوم فهو منهم. ولذلك أمرنا بقصه أو حلقه، إذ في ذلك من النظافة ما لا يخفى، فإن الإنسان إذا أكل أو شرب وكان شاربه طويلا عاقه عن أكله وشربه إذ يدخل الشعر في فمه ويختلط بطعامه وشرابه وفي ذلك إيذاء للإنسان، وقد يؤدي به الامتناع عنهما مع حاجته إليهما لضيق الصدر وتألم النفس بدخوله في الفم، وقد يؤدي به ذلك إلى مضغه وبلعه دون قصد. وكثيراً ما يتعلق به شيء من الطعام والشراب وذلك أمر مستقذر مستهجن، وفيه إهانة وإزراء بالرجل، وفي حلقه أو قصه أمان من ذلك، وإذا كان الشارب طويلا ثم تمخط الإنسان تعلق به شيء منه وهو لا يشعر، وقد يُرى بين الناس وهو كذلك فيكون مُزدرى مَهيناً ينفر الناس منه، ولما كان تركه ليس من الفطرة فإن النفس تشعر معه بضيق وثقل وأذىً حتى تستريح بالأخذ منه. وفي تركه تقبيح للهيئة، وفي الأخذ منه إصلاح وتحسين لها. وفيه كذلك إحسان إلى الناس بكف الأذى عنهم، وإحسان إلى النفس بالمحافظة على المروءة، وبالدعوة إلى التآلف.. قال ابن العربي: إن الماء النازل من الأنف يتلبد به الشعر لما فيه من اللزوجة ويعسر تنقيته عند غسله وهو بإزاء حاسة شريفة وهي الشم، فشرع تخفيفه ليتم الجمال والمنفعة به اهـ[6].

وقد اختلفت الروايات في صفة الأخذ من الشارب، واختلفت تبعاً لذلك آراء العلماء. ففي بعض الروايات الأمر بإخفائه وإنهاكه وجزه. وفي المصباح أحفى الرجل شاربه بالغ في قصه. وقال ابن دريد: حفى شاربه حفوا إذا استأصل أخذ شعره. فالمعنى أزيلوا شعر الشارب إذا طال. والإنهاك هو المبالغة في الإزالة، والجزِّ قص الشعر والصوف إلى أن يبلغ الجلد. قال الهروي معناه: ألزقوا الجز بالبشرة. وقال الخطابي: هو بمعنى الاستقصاء. وفي المصباح: الجز القطع. وقد أخرج الطبري والبيهقي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم المجوس فقال: "إنهم يوفون سبالهم ويحلقون لحاهم فخالفوهم"، قال: فكان ابن عمر يستعرض سبلته فيجزها كما يجز الشاة أو البعير.

وأخرج رزين أن ابن عمر كان يحفي شاربه حتى ينظر إلى الجلد ويأخذ هذين –يعني ما بين الشارب واللحية- وفي رواية لغيره: "حتى يرى بياض الجلد"، وأخرج الطبري والبيهقي عن ابن عبد الله بن أبي رافع قال رأيت أبا سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وابن عمر ورافع بن خديج وأبا أسيد الأنصاري وسلمة بن الأكوع وأبا رافع ينهكون شواربهم كالحلق وأخرج الطبري من طرق عن عروة وسالم والقاسم وأبي سلمة أنهم كانوا يحلقون شواربهم. وذكر الطحاوي عن أبي سعيد وأبي أسيد ورافع بن خديج وسهل بن سعد وعبد الله بن عمر وجابر وأبي هريرة أنهم كانوا يحفون شواربهم. وقد اقتدى هؤلاء رضي الله عنهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخرج الطبراني بسند حسن عن أم عباس قالت: "كان صلى الله عليه وسلم يحفي شاربه".. وبهذا قال الإمام أحمد رضي الله عنه فقد سئل عن السنة في إحفاء الشارب فقال يحفى. كما قال صلى الله عليه وسلم: "احفوا الشوارب"، ولم يكن يرى ذلك لازماً وإنما كان يرى أنه أفضل وأولى من القص. سئل: ترى الرجل يأخذ شاربه أو يحفيه أم كيف يأخذه؟ فقال إن أحفاه فلا بأس وإن أخذه قصاً فلا بأس مخير، وقال الأثرم: كان أحمد يحفي شاربه إحفاءً شديداً، ونص على أنه أولى من القص كما ذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الإحفاء أفضل من التقصير. قال الطحاوي: ولما كان التقصير مسنوناً عند الجميع كان الحلق فيه أفضل قياساً على الرأس، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين واحدةً فجعل حلق الرأس أفضل من تقصيره، وكذلك الشارب اهـ[7]، ونقل أن الربيع والمزني يحفيان وقال: وما أخذا ذلك إلا عن الإمام الشافعي رضي الله عنه. ونقل ابن العربي عن الشافعي أنه يستحب حلق الشارب وفي حاشية العدوي: وأخذ أبو حنيفة والشافعي في قولهما: السنة جزه بخبر: "أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى".

وروي عن الشافعي غير ذلك. وهكذا نرى أن جمهور العلماء على إحفاء الشارب كله، وأما حديث "ليس منا من حلق"[8]، فليس في الشارب. ولقد جاءت أحاديث أخرى تفيد أن المطلوب قص الشارب منها حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من الفطرة حلق العانة وتقليم الأظافر وقص الشارب"[9]، وأخرج الترمذي عن ابن عباس وحسنه: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقص شاربه ويقول: إن إبراهيم خليل الرحمن يفعله"، وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: "ضفت النبي صلى الله عليه وسلم وكان شاربي وفيراً فقصه على سواك"[10]، والمعنى أنه وضع سواكاً عند الشفة تحت الشعر وأخذ يعضه بالمقص. وروى البزار عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر رجلا وشاربه طويل فقال: "إيتوني بمقص وسواك فجعل السواك على طرفه ثم أخذ ما جاوزه".. وعن أنس رضي الله عنه قال: "وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة أن لا تترك. أكثر من أربعين ليلة"[11].

وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عشر من الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحية" الحديث[12]،
وأخرج البيهقي والطبراني من طريق شرحبيل بن مسلم الخولاني قال رأيت خمسة من
أصحاب رسول الله صلى عليه وسلم يقصون شواربهم: أبو أمامة الباهلي والمقدام بن معد يكرب الكندي وعتبة بن عوف السلمي والحجاج بن عامر الثمالي وعبد الله بن بسر، قال ابن حجر: وأما القص فهو الذي في أكثر الأحاديث وجاءت رواية عند النسائي بلفظ: "تقصير الشارب" في خصال الفطرة وهو واضح المعنى[13]، قال ابن فارس: القاف والصاد أصل صحيح يدل على تتبع الشيء من ذلك قولهم اقتصصت الأثر إذا تتبعته وقال:

ومن الباب قصصت الشعر، وذلك أنك إذا قصصته فقد سويت بين كل شعرة وأختها فصارت الواحدة كأنها تابعة للأخرى مساوية لها في طريقها[14]، وفي المصباح: قصصته قصاً من باب قتل، قطعته[15]، قال ابن حجر: والمراد هنا قطع النابت على الشفة العليا غير استئصال، وكذا قص الظفر أخذ أعلام من غير استئصال[16]، وبقص الشارب قال طائفة من العلماء، قال الإمام مالك رضي الله عنه: "وتقصيره عندي أولى من حلقه"، وقال: "إحفاء الشارب عندي مُثْلَةٌ"، وسئل عمن يحف شاربه فقال: "أرى أن يوجع ضرباً"، وقال: "يؤدب من جز شاربه ويبالغ في عقوبته؛ لأن حلقه مُثْلَة، وهو فعل النصارى"، وحمل الجزّ والإحفاء والإنهاك على القص لا على الاستئصال. والمراد بالحديث عنده المبالغة في أخذ الشارب حتى يبدو حرف الشفتين. وقال ابن عبد البر يرجح قول مالك: إنما في هذا الباب أصلان أحدهما احفوا وهو لفظ يحتمل التأويل والثاني قص الشارب وهو مفسر والمفسر يقضي على المجمل وهو عمل أهل المدينة اهـ[17]، وقال: وقص الشارب أن يأخذ ما طال على الشفة بحيث لا يؤذي الآكل ولا يجتمع فيه الوسخ، وقال عمر بن عبد العزيز: "السنة في الشارب الإطار"، قال الإمام النووي: والمختار في الشارب ترك الاستئصال والاقتصار على ما يبدو به طرف الشفة والله أعلم" اهـ[18].

وقد صرح في المهذب بأن هذا هو مذهب الشافعية.. وقوله صلى الله عليه وسلم: "احفوا الشوارب" يراد به إحفاء ما طال عن الشفة لا إحفاؤه كله. قال ابن حجر في أحاديث الإحفاء: كل ذلك محتمل لأن يراد استئصال جميع الشعر النابت على الشفة العليا، ومحتمل لأن يراد استئصال ما يلاقي حمرة الشفة من أعلاها، ولا يستوعب بقيتها، نظراً إلى المعنى في مشروعية ذلك، وهو مخالفة المجوس والأمْنُ من التشويش على الآكل، وبقاء زهومة المأكول فيه، وكل ذلك يحصل بما ذكرنا، وهو الذي يجمع متفرق الأخبار الواردة في ذلك وبذلك جزم الداودي في شرح أثر ابن عمر، ومقتضى تصرف البخاري لأنه أورد بعده حديث أبي هريرة في قص الشارب، فكأنه أشار إلى أن ذلك هو المراد من الحديث. وعن الشعبي أنه كان يقص شاربه حتى يظهر حرف الشفة العليا وما قاربه من أعلاه ويأخذ ما يزيد مما فوق ذلك، وينزع ما قارب الشفة من جانبي الفم ولا يزيد على ذلك. قال ابن حجر: "وهذا أعدل ما وقفت عليه من الآثار" اهـ[19]، وقد رجح بعض العلماء قول الأكثرين وقال: الإحفاء الاستئصال، ورواية القص لا تنافيه لأنه قد يكون على جهة الإحفاء وقد لا يكون، ورواية الإحفاء معنية للمراد وحديث: "من لم يأخذ من شاربه فليس منا"[20]، لا يعارض من حديث الإحفاء لأن فيه زيادة صحيحة يجب الأخذ بها.

والحق أن الأحاديث وردت بالأمرين، بالقص على أنه من الفطرة، وبالإحفاء على أنه أمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يشمل القص وزيادة. وكلا الأمرين صحيح والقص سنة، والإحفاء سنة، والمكلف مخير، والأمر واسع فيقص أحياناً ويحفي أحياناً ليعمل بكل الأدلة. قال الطبري: دلت السنة على الأمرين، ولا تعارض، فإن القص يدل على أخذ البعض، والإحفاء يدل على أخذ الكل وكلاهما ثابت فيتميز فيما شاء اهـ.

وأما اللحى: فهي جمع لحية بكسر اللام، وهي اسم لما نبت من الشعر على الخدين والذقن[21]، والذقن مجتمع اللحيين، واللحى عظم الحنك وهو الذي عليه الأسنان، ولقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوفيرها فقال صلى الله عليه وسلم: "خالفوا المشركين ووفروا اللحى وأحفوا الشوارب"[22]، كما أمر بإعفائها فقل صلى الله عليه وسلم: "أنهكوا الشوارب وأعفوا اللحى"[23]. كما أمر بإيفائها فقال صلى الله عليه وسلم: "خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى"[24]، كما أمر بإرخائها فقال: "جزُّوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس"[25]، وذكر القاضي عياض أن بعضهم قال: "وأرجوا" بالجيم بدل الخاء.. ومعنى: "وفروا" اتركوها وافرة كاملة لا تنقصوا منها شيئاً ومعنى: "واعفوا" اتركوها على حالها حتى تعظم وتكثر ولا تتعرضوا لها بشيء فهي بمعنى وفروا أو أكثروا. ولا يقصد بذلك إباحة معالجتها حتى تغزر بقرينة سياق الحديث: "احفوا الشوارب"، وكذا بقية الألفاظ الدالة على مجرد الترك، ومعنى: "أوفوا" اتركوها وافية تامة لا تنقصوا منها شيئاً ومعنى: "أرخوا" أطيلوها وأطلقوها ولا تتعرضوا لها حتى تكثر وتنمو. ومعنى: "أرجوا" أخروها واتركوها على حالها، وأصلها: "أرجئوا" فحذفت الهمزة من الفعل تخفيفاً وكل هذه الروايات تفيد معنى متقارباً، وهو تركها على حالها وافية وافرة كاملة. عدم التعرض لها بشيء.

وفي كل هذه الروايات أمر من الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد حمله القاضي عياض والنووي والرافعي على الندب لأنه أمر يرجع إلى تحسين الهيئة وتجميلها ولا +-يحتاج إلى الوجوب كما أنه قرن بإحفاء الشارب، والجمهور على أنه سنة إلا من شذ كما أن توفير اللحية من خصال الفطرة كالختان، والاستحداد، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، والسواك، والإستنشاق، وغسل البراجم، والمضمضة، وانتقاص الماء، وظاهر كونها من الفطرة أنها سنة. وقد اختلف في وجوب بعضها. واللحية من زينة العرب التي امتازوا بها عن غيرهم وقد فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وجد قومه عليها. ولذلك قال هؤلاء العلماء بكراهة حلق اللحية وقصها. وأما الأئمة الأربعة رضي الله عنهم وجمهور الفقهاء والمحدثين فقد ذهبوا إلى أن الأمر بإعفائها وتوفيرها للوجوب لا للندب وقالوا بحرمة حلقها. واحتجوا بما يأتي:-

أولاً: لقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بها وقد وضعت صيغة الأمر للوجوب ما لم يصرفها عن ذلك صارف بقرينة تدل عليه، ولا قرينة هنا حتى تصرف هذا الأمر عن ظاهره ومقتضاه. وجمهور أهل الأصول والحديث على أنه إذا أمر بشيء كان ذلك الأمر نهياً عن ضده سواء كان ذلك الضد واحداً أو متعدداً. والأمر بإعفاء اللحية نهيٌ عن حلقها أو قصها أو تقصيرها. وقد قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر/7)، وإعفاء اللحية ثابت من هديه صلى الله عليه وسلم، ونحن مأمورون بالإقتداء به. فهو صلى الله عليه وسلم قد أعفاها وأمرنا بذلك. ولا شك أن أكرم العادات وأشرفها هي عاداته صلى الله عليه وسلم. وإعفاء اللحية وإن كان شأن العرب وخاصيتهم إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمره به قد نقله من كونه عرفاً وعادةً إلى كونه عبادة مأموراً بها مثاباً على فعلها معاقباً على تركها.

ثانياً: أضف إلى ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قد أمر بمخالفة المشركين والمجوس ثم أمر بإعفاء اللحية وإحفاء الشارب تدل على أن في ذلك الأمر مخالفة لهم، وقد دلت الأحاديث الصحيحة على أن حلق اللحية وقصها وترك الشارب، من هيئات الكفار الخاصة بهم، فأمر المسلمون بمخالفتهم في فعلهم تماماً. وقد كان بعض الأعاجم يوفرون الشوارب واللحى معاً فأمرنا بمخالفتهم في صنعهم هذا بأن نأخذ من الشوارب ونترك اللحى، قال أبو شامة: وقد حدث قوم يحلقون لحاهم وهو أشد مما نقل عن المجوس أنهم كانوا يقصونها[26]، وقد روى البيهقي أنه ذكر لرسول الله المجوس فقال: "إنهم يوفون سبالهم ويحلقون لحاهم فخالفوهم"، وعن أبي أمامة رضي الله عنه أنه قيل يا رسول الله: إن أهل الكتاب لا ينتعلون فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فتخففوا وانتعلوا وخالفوا أهل الكتاب"، قال فقلت يا رسول الله إن أهل الكتاب يقصون عثانينهم ويوفرون سبالهم، قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قصوا سبالكم ووفروا عثانينكم[27] وخالفوا أهل الكتاب"[28]، ومخالفة المشركين واجبة وقصد التشبه بهم حرام، قال صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم"[29]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "خالفوا المشركين"، "خالفوا المجوس" غاية في الزجر عن التشبه بهم فيما يختصون به من ملبس أو هيئة، ولقد ظهر في المسلمين حلق اللحية وتوفير الشوارب من مخالطة المشركين واستحسان عوائدهم والميل إلى اتباعهم وتقليدهم، وقد نرى بعض الكافرين الآن يوفر لحيته. وذلك لا يغير من حكم اللحية في شريعة الإسلام ومع هذا فإنهم لا يفعلون ما هو مشروع لنا فإنهم يتركون اللحى والشوارب معاً ونحن مأمورون بمخالفة ذلك كما هو صريح الأحاديث. وبعضهم يترك شعرات أسفل الفم ليست هذه هي اللحية الشرعية، ولو سلمنا جدلاً أنهم يصنعون مثلنا تماماً فليس هذا مبرراً لأن نخالف هذا القليل بزعم إبليس، ونخالف هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الواجب اتباعه في كل حال. ولقد كان من الحكمة في الأمر بإعفائها مخالفة المشركين، ثم بقي الأمر على عمومه واستقر عليه. ولا نعلم ما يخالف ذلك.

إن الإنسان إذا ضعفت شخصيته ورق دينه وشغل بالدنيا مال إلى ما يميل إليه أهل الغواية والضلال والمشركون، وقد حلقوا لحاهم وتركوا شواربهم فإذا رأى بعض المسلمين منهم ذلك استحسنوا هيئاتهم وزيهم وعادتهم، وزين لهم الشيطان حب اتباعهم، وجعلهم ينسون محاسن دينهم ومآثر نبيهم الكريم، فتشبهوا بهم، وشاع ذلك الأمر وانتشر، وأصبح أمر اللحية أمراً شاذاً عند الكثيرين ولم ينته الأمر عند هذا الحد من انقلاب المعروف إلى منكر، بل صار بعض من لا خلاق لهم يهزأ بأصحاب اللحى ويسخر بهم وهم الذين يتبعون هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتبعون السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان، والخير كله في الاقتداء بهؤلاء الكرام، والشر كله في التشبه بالكفرة اللئام.

ثالثا: لقد زين الله الرجال باللحى وهي لذلك تضفي على الرجل كمالاً وجلالاً وهيبة ووقاراً. كما أنها تدعوه إلى الكمال في دينه وتصونه من المنكرات، وتبعث فيه الهمة والعزيمة والتحمل والصبر، وتجعله معروفاً بالفضل والدين والكمال، ويقدم من أجلها على غيره في كثير من المواقف الهامة.

وزينة المرأة في خلو وجهها من شعر اللحية. وفي حلق الرجل للحيته تشبه بالمرأة في تخلية الوجه من الشعر. والتشبه بالنساء حرام, وهو شبيه بحلقها لشعر رأسها وإزالة شعر عينها، ومروءة الرجل تنأى به عن ذلك. ولقد حسن الله صورتنا فعار علينا أن نشوهها بما يقبحها وبما يذهب حسنها وجمالها.

رابعاً: إن اللحية أمر فطري خلق عليه الرجال يتلاءم وما خلقوا له وما أمروا به. فعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء". قال زكريا قال مصعب، ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة[30]، وفي حلق اللحية اعتداء على هذه الفطرة وتغيير لما خلق الله عز وجل وذلك من الكبائر. وهو مثلة في حق الرجل حقه أن يزجر وأن يؤدب لئلا يعود إليها. ولقد تغير الناس وصار المعروف لديهم حلق اللحى وإعفاء الشوارب، فصار المعروف منكراً والمنكر معروفاً ولقد وصل الأمر إلى أن نعتبر ظهور شعر اللحية في الوجه أمراً غير محمود ولا كريم فيبادر البعض إلى إحفائه وإزالته طوعاً أو كرهاً طلباً لحسن المظهر في زعمه أو خوفاً من الاستهزاء أو الاستنكار وما يزال مفروضاً على شبابنا المسلم في القوات المسلحة بالدول الإسلامية أن يحلقوا لحاهم، وهذا أمر لا يليق ولا ينبغي فكيف يأمرون بأمر حرمه الله ورسوله والمؤمنون؟ وكيف يتأتى هذا في دولة دينها الرسمي الإسلام؟ وإعفاء اللحية من الواجبات الإسلامية ومن الشعارات المميزة للمسلمين؟ والمفروض من الجندي أن يكون رجلا بكل مظاهر الرجولة حتى يعطيه ذلك قوة وصلابة وبراً ويقيناً، ولقد كان ذلك بأمر المستعمرين حتى يبعدوا الشباب عن دينهم، أما وقد رحل المستعمر فحتم أن ترحل معه مبادئه المخالفة لشرعنا وشعائرنا. ولقد صارت اللحية الآن علامة على التدين والصلاح، ولقد مل الكثير من شبابنا المبادئ والأفكار المستوردة التي لا تتفق وديننا الحنيف وعرفنا الصحيح وبدءوا العودة إلى الدين كله، فعادت لهم الصورة الكريمة المهيبة الموقرة. وحق علينا أن نوفر السبل لهؤلاء ليتحقق لهم القدر الضروري من الفقه في الدين، حتى يلتزموا الصراط المستقيم ويسلكوا الطريق الوسط، بعيداً عن المبالغة والتغالي والإفراط. وحق علينا أن نتعهدهم وأن نرعاهم وأن نحسن إلى المحسن ونقدره ونكافئه، وأن نبصر المسيء بالحق والخير حتى يعود إلى الجادة، ولا خوف على الأمة إذا عاد شبابها إلى حظيرة الإيمان والعمل الصالح والعلم النافع، بل إن الرقي الحقيقي والسعادة الغامرة والفلاح والتوفيق في العودة إلى الإسلام خلقاً وسلوكاً وعبادة ومعاملة ومظهراً وشعاراً، أما الخوف الحقيقي على الأمة فإنما يكون بانسلاخ الشباب من ثياب الإيمان والعمل الصالح والعلم النافع إلى الفوضى والإلحاد والشك والفسق والجهل وما أخطر المسؤولية التي أنيطت بأعناق العلماء والدعاة. ولأجهزة الإعلام دورها الكبير الذي يجب أن تقوم به بعد طول غياب، ومسؤولية الأمراء والولاة والأئمة أن ييسروا السبيل وأن يشعروا الناس بالأمن والطمأنينة والسكينة بعد خوف قد طال.

لقد ثبت الأمر بتوفير اللحى لما فيه من خير كثير ولكن ذلك الأمر قد خفى على الكثيرين لما رأوا اختفاء اللحى وشذوذ وجودها خوفاً من الإيذاء، أما وقد أمن الناس بعد خوف فعليهم أن يعلموا وأن يعملوا بما علموا والعلماء والدعاة مسئولون عن ذلك أمام الله عز وجل ولقد خفي هذا الأمر على بعض العلماء لشغلهم بواجبات أخرى، كما أنه يشق على بعضهم العثور عليه في بطون الكتب. ولقد اتضح هذا الأمر أمام جهابذة العلماء ووضعوا فيه رسائل وبحوث مستفيضة، وكتب السنة الصحيحة وفقهاء الإسلام فصلت هذا الموضوع بإيضاح.



ما يكره في اللحية!

يكره خضابها بالسواد لإظهار الشباب لا لغرض إرهاب العدو في الجهاد، ويكره خضابها بالصفرة رئاء الناس في ظهروه بمظهر الصالحين، وأما خضبها بالصفره اقتداء بالسنة فَحَسَنٌ ويكره تبيضيها بالكبريت ونحوه تعجلاً للشيب، ويكره نتف ما شاب منها، ويكره إهمالها حتى تصير مشعثة غير نظيفة ويكره قصها إلا للنسك، فيستحب عند الشافعي تقصيرها ويكره أخذ شيء من طولها أو عرضها لغير ما حاجة وتكره الشهرة في تعظيمها وتطويلها، ويكره عقدها.





------------------------------------------------------------

[1] البخاري ج 4 ص 27.

[2] مسلم ج 3 ص 147.

[3] البخاري ج 4 ص 27، مسلم ج 3 ص 147.

[4] البخاري ج 4 ص 36.

[5] فتح الباري ج 10 ص 262.

[6] فتح الباري ج 10 ص 271.

[7] زاد المعاد ج 1ص 46.

[8] أبو داود والنسائي.

[9] البخاري ج 4 ص 27.

[10] أبو داود.

[11] مسلم ج 3 ص 146.

[12] مسلم ج 3 ص147.

[13] فتح الباري ج10 ص 258.

[14] مقاييس اللغة ج5 ص11.

[15] المصباح المنير.

[16] فتح الباري ج10 ص 258.

[17] القرطبي ج1 ص 491.

[18] شرح مسلم ج3 ص 151.

[19] فتح الباري ج10 ص 269.

[20] أحمد والنسائي والترمذي وصححه.

[21] فتح الباري ج10 ص272.

[22] تقدم.

[23] تقدم.

[24] مسلم ج3 ص147.

[25] تقدم.

[26] فتح الباري ج10 ص273.

[27] جمع عثنون وهو اللحية.

[28] أحمد بسند حسن.

[29] أبو داود وابن حبان.

[30] مسلم ج3 ص147.
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:09 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.