أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا

             
28039 88813

العودة   {منتديات كل السلفيين} > المنابر العامة > المنبر الإسلامي العام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 11-10-2015, 08:10 PM
أبومعاذ الحضرمي الأثري أبومعاذ الحضرمي الأثري غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Mar 2009
الدولة: اليمن
المشاركات: 1,139
افتراضي العمل السياسي وأثره على الدعوة والدعاة للشيخ الفاضل فيصل الجاسم


العمل السياسي وأثره على الدعوة والدعاة

الشيخ فيصل بن قزاز الجاسم



الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه؛ أما بعد:

فكما هو معلن، حديثنا إن شاء الله في هذه الليلة المباركة يتعلق بـــــــ” العمل السياسي وأثره على الدعوة والدعاة، دراسة شرعية وتجربةٌ واقعية”.

والحقيقة أن هذه المسألة تحتاج إلى أن يُبيّن فيها الوجه الشرعي، وأن يبيّن فيها الواقع، والتجارب التي عاشها بعض الدعاء في مثل هذا المعترك السياسي.

وقبل أن نتكلم على هذه المسائل لابد أن نُصوّر المسألة التي يراد الكلام حولها، فإن صورة المسألة التي نريد أن نقرر فيها وجه الحق بحسب ما تدل عليه الأدلة ويشهد له الواقع، يتعلق بالعمل السياسي والمشاركة السياسية في الانتخابات والمجالس النيابية، وتكوين الأحزاب والتيارات السياسية، فحديثنا حول هذا الموضوع، لا نريد أن نتكلم عما يتعلق بالسياسية الشرعية في حق الوالي والخلفاء، ولكن سنتكلم عن الصورة التي ولج فيها بعض الدعاة، والتي هي مثار خلافٍ، كانت ولا تزال بين الكثير من الدعاة والجماعات والأحزاب والتيارات الإسلامية؛ فيما يتعلق بالمشاركة النيابية والمجالس وما شابه ذلك من هذه الأمور التي إذا أطلق وذكر العمل السياسي يراد به هذا.

تعريف السياسة، والفرق بين السياسة الشرعية والسياسة الوضعية:

السياسة أصلها في اللغة بمعنى التدبير، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم “إن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء”، يعني تدبر شئونهم وترعى أحوالهم بما أوحى الله -تبارك وتعالى-.

وأما في الاصطلاح فيعنى بالسياسة: رعاية شئون الدولة الداخلية والخارجية، وإذا أطلقت السياسية في الغالب يُقصد بها الخليفة أو الحاكم أو الأمير، فهذه الكلمة ترتبط غالبًا بسياسات الدول وأمور الحكومات.

وإن كانت كلمة سياسة أساسًا قد تستخدم للدلالة على تسيير أمور جماعة، أو أمور أُناس، أو يسوس الرجل أهل بيته، أو يسوس الداعية طلبته مثلاً، أو العالِم و ما شابه ذلك يسوسهم سياسيةً يراد بها تحقيق المصالح ودفع المفاسد.

أما عند الإطلاق فيراد بها ما يتعلق بسياسات الدول وأمور الحكومات ومن ذلك الأنظمة التي يعني تواردها أو وردت على المسلمين فيما يتعلق بالأنظمة الدستورية، والأنظمة السياسية لعموم الشعب في المجالس السياسية ونحو ذلك.

ومن المسائل المهمة التي ينبغي أن نبتدأ بها أيضًا هو أن نفرق بين السياسة الشرعية المستندة إلى النصوص وبين السياسية الوضعية.

ذكر ابن خلدون -رحمه الله- في ” المقدمة “ أن السياسة أنواع، أو ذكرها على نوعين:

سياسية شرعية ولقبها بالخلافة.
وسياسيةٌ وضعية.

وذكر أن الوضعية نوعان:

ملكٌ طبيعي.
وملكٌ سياسي.

ثم عرّف الملك الطبيعي فقال: هو حمل الكافة عموم الناس على مقتضى الغرض والشهوة، أي هذه السياسة يحمل الحاكم والوالي الناس على مقتضى شهوته وغرضه.

وهناك ملكٌ سياسي، يقول عنه: هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، أي لا على الشرع وإنما على مقتضى العقول والاجتهادات والأفكار.

بخلاف السياسة الشرعية التي لقّبها بالخلافة، قال عنها: هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، وعلى هذا فتُعرّف السياسة الشرعية بأنها: كل حكمٍ أو إجراء وتدبير يساس به الناس على مقتضى النظر الشرعي، فالسياسة الشرعية تعني سياسة الناس على مقتضى النصوص، على مقتضى أدلة الكتاب والسنة و ما جرى عليه سلف هذه الأمة، وكل حكم أو إجراء أو تدبير يندرج تحت هذه النصوص ويستنبط الحكم من هذه النصوص فهو داخلٌ تحت السياسة الشرعية.

وقد ألف العلماء وكتبوا كتبًا متعلقة بهذه السياسة، ومن أمثلها وأشهرها كتاب ” السياسة الشرعية “ لشيخ الإسلام ابن تيمية، وكان بعض العلماء يسميها بـــــ” الأحكام السلطانية “ كــأحكام السلطان للماوردي، والقاضي أبي يعلى وغيرهما من أهل العلم.

أما السياسة الوضعية وهي محل كلامنا في هذه المحاضرة، فالسياسة الوضعية: هي كل سياسة يُحمل فيها عموم الناس على غير مقتضى النصوص الشرعية، أي أن يساس الناس بغير النصوص الشرعية، إما أن يكون مستند هذه السياسة الشهوة والملك وهو الذي عبر عنه ابن خلدون بالملك، وإما أن يساس الناس بمقتضى النظر العقلي والاجتهادات كالقوانين التي يَسُنها الخبراء، أو أن تكون مستوردةً أيضًا من أنظمة أخرى أنظمة كافرة وما شابه ذلك.

فهذه إن أريد بها مصلحة الناس فهي تدخل ضمن السياسة الوضعية المتعلقة بالملك السياسي، وهي التي تستنبط فيها هذه الإجراءات وهذه الأحكام لا من النصوص الشرعية وإنما من الاجتهادات ومن الآراء من القوانين التي أكثرها مستوردٌ من دول الكفر.

النظام النيابي البرلماني الديمقراطي نظامٌ غربيٌ مستورد يخالف الإسلام:

وقبل بيان حكم العمل السياسي الذي نعني به المشاركة السياسية في هذه الأنظمة المستوردة من الخارج كالمجالس النيابية وغيرها، قبل بيان حكم الدساتير والقوانين الوضعية لابد من التنبيه على جملة أمور:

منها: لابد أن نعرف ابتداءً أن النظام النيابي الديمقراطي الذي ينتخب الناس من يمثلهم أنه نظامٌ يخالف الإسلام، وهو نظام غربيٌ مستورد.

وعلى هذا فهذا النظام داخلٌ تحت السياسة ا لوضعية المخالفة للشرعية وإلا فإن الشرع قد حكم وبيّن الطرق التي يُولّى بها الإمام، وحدّها العلماء بطرقٍ ثلاثة:

بالاستخلاف.
أو باختيار أهل الحل والعقد.
أو بأن تكون ولايته ولاية ضرورة، كأن يتغلب هذا على المسلمين ويستتب له الأمر، طالما أنه في دائرة الإسلام.

ثم تكلم العلماء عمن يُعيّن هذا الوالي، وتكلموا عن الشورى التي ذكرها الله عز وجل في كتاب، وأن أهل الشورى هم أهل الحل والعقد، أو قد يستشير الحاكم من ليس لهم حل الأمور وعقدها ولكن قد يستشير خبراء ونحو ذلك، ثم تكلم الفقهاء والعلماء هل الشورى ملزمة للإمام أم أنها معلمة؟.

والقول الذي لا شك فيه أنها ليست ملزمة، وليس هناك قط نص في الشرع يدل على أن أمر الشورى يُلزم به الإمام، هذا هو الأمر الأول.

الأمر الثاني: أن أهل الحل والعقد وهم الذين بيدهم زمام الأمور، وهم سادات الناس ووجهاؤهم الذين إذا عقدوا الولاية للإمام لم يخالفهم أحد، وإذا حلّوا ولايته لم يخالفهم أحد، فالناس لهم تبع.

ذكر العلماء مواصفات هؤلاء في كتب الفقه، كما أنهم ذكروا مواصفات الإمام، وذكروا من جملة المواصفات المشتركة بين الإمام وبين أهل الحل والعقد: الاجتهاد، ثم قيدوا الاجتهاد بأنه اجتهادٌ مطلق، أي لا يكون اجتهادًا مبنيًا على اتباع مذهبٍ معين، بل لابد أن يكون مجتهداً مطلقًا، و معلوم أن هذه الشروط التي يذكرها العلماء إنما تجب عند القدرة.

أما عند العجز، أو عند فقد هذه الشروط فإن الله -تبارك وتعالى- لا يكلف الناس إلا وسعهم.

الأمر الثالث: أن نقول: أن الأصل في الإسلام هو الشورى، هذا هو الأصل في الإسلام، وأما المجالس النيابية فليست من الإسلام، والعلماء تكلموا عليها وبيّنوا بأنها أمورٌ مستوردة مخالفة للإسلام.

ففيها يُنتخب فيها من كان مؤهلاً ومن ليس مؤهلاً، فلو عمّ الفسق عند الناس، أو كثر أهل الفسق أو العصبيات ونحو ذلك فإنه يخرج من ليس أهلاً أن يُستشار في خصومة بين اثنين، فكيف يستشار في أمور الدولة، أو يكون له أمرٌ في زمام تقنين القوانين ونحو ذلك.

فلا يشك أحد في مخالفة هذا للنظام الإسلامي تمامًا، فإن الإسلام ينظر إلى المصلحة العامة المبنية على النصوص الشرعية، ويوكل الأمر لأهل العلم وأهل الخبرة وأهل الدراية والحل والعقد.

الدخول في العمل السياسي ليس طريقًا للحكم بالإسلام:

من الأمور التي ينبه عليها أيضًا أن لن يكون حلاً، أو لن يكون طريقًا للعمل بإسلام، ولن يكون طريقًا لتحقيق غايات الإسلام، ولن يكون طريقًا في تحكيم الشريعة.

ولذلك من ظن أن الولوج فيه لأجل أن تحكم الشريعة فهذا مخطأ، فإن الغاية لا تبرر الوسيلة، وهذه الوسيلة محرمة فلا يجوز سلوكها، هي لم ولن تكون طريقًا لذلك، ولذلك الذين أفتوا من أهل العلم بجواز دخول هذه المجالس لم يُفتوا لكونها طريقًا للحكم بالإسلام، وإنما أفتوا بها من باب الضرورة، ومن باب دفع الشر، ومن باب ارتكاب أدنى المفسدين لدفع أعلاهما، وتحقيق أعلى المصلحتين بترك أدناهما.

فعامة من أفتى بجواز ذلك، تدور فتاواهم حول أنه أمرٌ اضطررنا، وأمرٌ قد فرض على المسلمين، وأن تركه قد يتسبب في الضرر على المسلمين، فهو من باب درء المفاسد، لا من باب أنه وسيلة، وهذا على مقتضى الشرع أي على مقتضى طريق أهل السنة والجماعة.

بخلاف التيارات والأحزاب الإسلامية المخالفة للسنة فهم يرونه دينًا وقربةً ويسلكونه أساسًا على أساس أنه وسيلة مشروعة، ولو تمكنوا من الحكم ما غيروه، لأنهم يرضون بمثل هذه الأنظمة، ونحن إنما نتكلم هنا عن علماء أهل السنة والجماعة الذين يفتون وفق الدليل.

فعلى هذا فالدخول إن جاز عند من جوزه فإنما يكون من باب الضرورة.

ومن الأمور أيضًا التي ينبغي التنبيه عليها أنه لابد من التفريق بين دخول آحاد الناس لهذه المجالس وسلوك هذا العمل السياسي، سواءٌ كانوا متدينين أو كان من عموم الناس، لابد أن يُفرّق بين دخول آحاد الناس وبين إقحام الدعوة كدعوة في خضم العمل السياسي، بحيث يصير العمل السياسي جزءً من الدعوة، ويصير عملاً من عمل الدعاة.

هناك فرق، فقد يٌرخص الشيء، وقد يُسهل دخول آحاد الناس بخلاف إقحام الدعوة حتى يصير العمل السياسي جزءً من الدعوة، بحيث تُنفق عليه الأموال، وتبذل فيه الأوقات ونحو ذلك، لابد أن يُفرق بين الأمرين.

جمال الأفغاني أول من بدأ من الدعاة الدخول إلى العمل السياسي:

الآن لو أدرنا أن ننظر على التاريخ بأن نقول: متى بدأت أول بوادر دخول الدعاة كدعاة إلى العمل السياسي؟ ومتى بدأ اهتمام الدعاة سواءٌ كانوا دعاة على مذهب أهل السنة والجماعة المحضة أو كانوا على بدع وانحرافات؟ متى بدأ هذا؟.

الحقيقة أن الناظر يرى بأن أول المبادرات التي بدأت تُقحم العمل السياسي وتجعله جزءً من الدعوة وطريقًا يسلك الدعاء، يمكن أول من بدأ بذلك هو جمال الدين الأفغاني المتوفى سنة ألفٍ وثمانمائة وستٍ وتسعين للميلاد.

فكان هو على حسب المؤرخين هو أول من بدأ بما يسمى بالعمل السياسي، فقد صرف جُلّ همه فيما يتعلق بالكلام حول السياسية، وسياسات الدول والأحكام، وكانت له كتابات وسفرات وجهود في هذا الباب، على أنه لم يكن من أهل السنة والجماعة أساسًا، فلم يكن على الجادة.

تأثر محمد عبده بجمال الأفغاني:

لكنه يعد داعية إسلامياً في ذلك الوقت، وصاحَبَه في ذلك وتأثر به أيضًا محمد عبده، ومحمد عبده هو تلميذ جمال الدين الأفغاني وكذلك رفيق دربه.

ومحمد عبده توفي في سنة ألف وتسعمائة وخمسة للهجرة، ومحمد عبده في الحقيقة تأثر بجمال الدين الأفغاني وأنشأ مجلة“العروة الوثقى”، وكان يتكلم عن السياسية، ودخل في نقد كثير من سياسات الحكومات، والدول وغير ذلك من هذه الأمور، وأفنى جزءً كبيرًا من وقته وعمره فيما يتعلق بالسياسة.

فكان الإصلاح السياسي الذي سلكه محمد عبده هو في الحقيقة على الطريقة التي سلكها جمال الدين الأفغاني، ولذلك كانت له مشاركات في الثورات، وكان يدعمها، بل كان محمد عبده وغيره من كبراء زعماء هذه بعض هذه الثورات.

تأثر رشيد رضا بأستاذه محمد عبده:

ولذلك حصل بينه وبين الخديوي في مصر أمور كثيرة، وكانت له في الحقيقة عدة مشاركات في هذا الباب حتى اشتهر بذلك، وتأثر به أيضًا تلميذه محمد رشيد رضا، إلا أن محمد رشيد رضا كان في الجملة من أهل السنة والجماعة ممن تبنى الدعوة إلى التوحيد، ونبذ الشرك، على مذهب أهل السنة، على أنه بقيت عنده بقايا مما أخذه من شيخه محمد عبده.

تراجع محمد عبده بعد تجربة مريرة في العمل السياسي:

الحقيقة أن محمد عبده بعد تجربة مريرة عاشها في ظل العمل السياسي بكونه داعية ومع ذلك أقحم العمل السياسي في الدعوة، غيَّر خطه في آخر حياته لأنه رأى -بعد فترة وخبرةٍ وتجربة- رأى بأن أنفع شيء للمسلمين، وأنفع شيء يقاوم به الاستعمار، ويقاوم به استبداد الحكام وغير ذلك هو الإصلاح التعليمي التربوي، ولذلك ندم في آخر عمره على قضاء جزءٍ كبيرٍ من حياته في العمل السياسي، وقال كلمته المشهورة التي تدل على نقمة عظيمة على إقحام العمل السياسي في عمل الدعاة، قال -رحمه الله-: “أعوذ بالله من السياسية، ومن لفظ السياسة، ومن معنى السياسية، ومن كل حرفٍ يلفظٍ من كلمة السياسية، ومن كل خيالٍ يخطر في بالي من السياسية، ومن كل أرضٍ تذكر فيها السياسية، ومن كل شيخٍ يتكلم أو يتعلم السياسية، أو يحب أو يعقل في السياسية، ومن ساس ويسوس وسائس ومسوس”.

وهذا يدل على نقمة شديدة على العمل السياسي، وهذه قالها بعد تجربة طويلة في العمل السياسي.

رشيد رضا أراد أن يطور العمل السياسي كون أول حزبٍ سياسي إسلامي في مصر:

على الرغم من عزوف محمد عبده في آخر حياته عن السياسة فإن محمد رشيد رضا لم يوافق شيخه تمامًا على هذا الأمر، لكنه تلقف هذا الفكر وأراد أن يطور العمل السياسي ولذلك خاض محمد رشيد رضا العمل السياسي مقرونًا بالدعوة إلى السنة والدعوة إلى العقيدة ونبذ الشرك، وتقرير مذهب أهل السنة والجماعة، وكان محمد رشيد رضا -رحمه الله- يقول في عبارة جامعة: “لا بقاء مع ظلم وفساد، ولا عدل مع استبداد، ولا هلاك مع إصلاح، ولا إصلاح للدولة إلا بصلاح الأمة، ولا صلاح لأمة إلا إذا كان فيها بقية من أولي الرأي والعزم، يأمرون بالصلاح وينهون عن الفساد في الأرض، ولا تأثير للأمر والنهي إلا بإجماع الأمر وإحكام الرأي، ولا يفيد الإحكام والإجماع مع مراعاة سنن الاجتماع لاختلاف استعداد الأقوام باختلاف أحوال الزمان والمكان، وزماننا هذا هو زمان الجماعات العلمية والأدبية والسياسية، والشركات الزراعية والصناعية والتجارية، ومتى ملكت الأمة بالجمعيات أمورها المعنوية وبالشركات أمورها المادية كانت جديرة بأن تقوم أمر حكومتها وتقيمها على صراط شريعتها” إلى آخر ما ذكر.

الشاهد أن محمد رشيد رضا انخرط في العمل السياسي، و كوّن أول حزبٍ سياسي إسلامي، كونه محمد رشد رضا في مصر وأسماه “حزب الاتحاد الشوري”، وكوّن مع ذلك يسمى بــــــ“حزب الإصلاح”.

وكان من آثار السياسية السيئة أنها تذيب الفوارق بين السنة والبدعة بعد مضي الزمن.

دعوة رشيد رضا السياسية اضطرته إلى الدعوة إلى التوفيق بين السنة والشيعة:

ولذلك كان من دعوة محمد رشيد رضا السياسية أنه اضطر إلى الدعوة إلى التوفيق بين السنة والشيعة، وكان يعمل بهذه القاعدة “أن نتعاون على ما نتفق عليه ويعذر بعضنا بعضًا فيما نختلف فيه”.

وكان يخاطب الشيعة والسنة يقول: “إذا كنا لسنا في حاجة إلى الانتقام، وإذا كنا قد ذقنا فعرفنا جناية سل الحسام، وإذا كنا مهددين في كل أرض لأن ديننا الإسلام، وإذا كنا -كما نعلم- على خطر لا ينجي منه إلا الاتحاد والالتئام، وإذا كان هذا الاتحاد متعذرا من جهة وحدة السلطة والأحكام، أفلا يجب علينا أن نتلمسه من جهة الوحدة الدينية في العقائد المتفق عليها، والأخلاق التي لا خلاف فيها، والأخوة التي دعانا القرآن إليها، أفلا ينبغي أن نأخذ هذه المواسم مذكرات بأفضل ما كان من سلفنا، وأنفع ما كان من أئمتنا، ونجتهد في أن نجعل شعورنا واحدا” إلى آخر ما ذكر.

الشاهد أنه -رحمه الله- كان يقول: ينبغي أن نترك الخلافات جانبًا وأن نتعاون على أمرٍ يقود إلى حكم الإسلام عامةً.

رشيد رضا بعد تجربة طويلة في العمل السياسي ما حصل شيئًا وأضاع جهدًا كبيرًا من وقته:

الشاهد أن محمد رشيد رضا في الحقيقة بعد تجربة أيضًا طويلة ما حصّل شيئًا من جهة السياسة، إلا أن الله عز وجل نفع به نفعًا عظيمًا فيما يتعلق بالجانب الذي سلكه في تطهير عقائد المسلمين والعناية بالعلم والتعليم ونشر مذهب أهل السنة والجماعة، وكان دوره عظيمًا -رحمه الله- في مجلة “المنار”، لكنه أضاع جهدًا كبيرًا من وقته فيما يتعلق بالسياسية وكانت له جولات كثيرة.

ظهور جماعة الإخوان المسلمين وتبنيها العمل السياسي:

هذا كان تقريبًا هو بدايات العمل السياسي، ثم بعد ذلك جاءت الجماعات الإسلامية كــ“جماعة الإخوان المسلمين” وتبنت ما يُسمى بالعمل السياسي، بل جعلته جزءً أساسيًا من عقيدتهم ومذهبهم الذي لا يقوم على كتاب ولا على سنة ولا على اتباع.

وإنما كانت دعوتهم دعوةً سياسية بالدرجة الأولى، يريدون سلوك سبيلٍ يوصلهم إلى الخلافة، ثم بعد ذلك تأثرت بهم بعض الجماعات التي جاءت بعد ذلك كـــ“حزب التحرير” وانخرطوا أيضًا في العمل السياسي.

من هذا يُفهم بأن أصل هذه المشاركة لم يؤخذ من طريق السلف، ولا من طريق الأئمة، وإنما منشأ المشاركة السياسة ومنشأ إقحام العمل السياسي في مجالات الدعوة مأخوذٌ من أفكارٍ جديدة، إما من قِبَل أُناسٍ وأفرادٍ نُسبوا إلى العلم لكنهم أخطئوا، وإما من قِبَل الجماعات السياسية الإسلامية المخالفة للسنة.

فليس منشأ العمل السياسي الدعوي من أهل العلم ولا من أهل الفقه والدراية، ولا من مذهب السلف، بل هذه الأفكار تلقفها بعض من كان ينتسب إلى السنة، ثم أخذ ينشرها حزب “الإخوان المسلمين” فكان جزء من سياستهم بشقّيهم:

الشق البنّاوي.
والشق السروري أو القطبي.

كلا الشقين كان يدعوان إلى العمل السياسي، على فروقٍ بينهم في الفكر، فالشق القطبي شق يدعو إلى المواجهة وتكفير الحكام.

والآخر يدعو إلى سلوك طريق المجالس النيابية ونحو ذلك، فهذا سلميٌ نوعًا ما، وذاك يسلك سبيل العنف نوعًا ما.

دور عبد الرحمن عبد الخالق في إقناع الدعاة بضرورة العمل السياسي:

تلقّف بعض من ينتسب إلى السنّة هذه الأفكار، وبدأ يُدخل هذه الأفكار وهذه الرؤى، وهذه التوجهات إلى الدعوة السلفية، وكان من أشهر هؤلاء، ربما في الكويت الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، فقد كان متبنيًا لهذه القضية تبنيًا تامًا، وقد لا نخطئ إن قلنا: بأن الذي حمل بعض الدعاة السلفيين على الدخول لهذا المعترك وإقناعهم بضرورة العمل السياسي هو الشيخ عبد الرحمن، وكان له دور كبير جدًا في الكويت وفي خارج الكويت في إقحام الدعاة السلفيين في العمل السياسي، وعنه أُخِذ هذا الأمر، واستمر الحال حتى تأثرت كثير من البلاد بهذه الفكرة وتبنوا الدعوة إلى العمل السياسي، وجعلوه جزءً من الدعوة تُبذل فيه أشياء كثيرة من الأوقات والأموال.

ما حكم المشاركة السياسية في المجالس النيابية؟

نحن لا ننكر أن من العلماء من أجاز دخول المجالس النيابية، فالعلماء المعاصرون اختلفوا ما بين مبيحٍ ومانع، فمنهم من أباح المشاركة، من أمثال الشيخ ابن باز -رحمه الله-، والشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-، بل كان بعضهم يوجب ذلك، كما هو موجود في بعض عبارات الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-، وهناك من العلماء من منع من ذلك.

والذين أباحوا السياسية، أباحوها من باب دفع المفسدة، ومن باب ألا يُترك المجال لأهل الفساد بدخول هذه المجالس، لأنها مجالس تشرع وتقنن، فإذا وصل إليها أهل الفساد، ربما قننوا ما يضر الناس، ولذلك أجازوا ذلك من باب مزاحمة أهل الشر، ومن باب تقليل الشر، لا من باب أنه وسيلة كما ذكرنا للحكم بالإسلام، لكن لابد من التنبيه إلى أمور:

لابد أن نتنبه بأن أكثر المبيحين لم يشهدوا واقعًا مماثلاً، ولا رأوا تجربةً عايشوها، فأكثر من أجاز ذلك إنما حكموا بناءً على التصور العام، لا أنهم مرّوا بتجربة مثل هذه التجربة.

وأما المانعون ومن أشهر هؤلاء الشيخ الألباني -رحمه الله-، فإنه بنى حكمه على أمرين:

أولًا: دلالات عامة من نصوص والسلف تدل على أنهم تركوا هذا الأمر ولم يسلكوه.

الأمر الثاني: بناءً على الواقع الذي عايشه وعاينه من آثار هذه التجربة على الدعوة والدعاة.

فهذا الأمر عايشه الشيخ -رحمه الله- ورأى آثاره، ولذلك حكم بناءً على ما يراه من آثار ونتائج، علاوة على ما عنده من عمومات ما يُفهم من مذهب السلف ومن طريق السلف -رحمهم الله-.

كلام الإمام الألباني حول المشاركة في العمل السياسي وعاقبتها:

ونحن في الحقيقة لا نريد أن ننقل كلام بعض المجيزين، فإن كلامهم مشهور معروف من فتاوى العلماء، لكن أحب أن أنقل لكم بعض كلام الشيخ ناصر -رحمه الله-، وبعض كلام العلماء الذين عايشوا مثل هذه الأجواء، من أمثال الشيخ ناصر وغيره ممن سنذكرهم.

من كلام الشيخ ناصر -رحمه الله- وهو كلام نفيس يقول -رحمه الله-: “لا ننصح إخواننا السلفيين في أرض الواسعة في كل بلدٍ إسلامي أن يعملوا عملاً سياسيًا، ولو كان هذا العمل نابعًا من أنفسهم، فضلاً عن أن يكونوا في العمل تبعًا لغيرهم، لا ننصح بهذا أبدًا، ذلك لأن العمل السياسي يحتاج في الحقيقة إلى مقدماتٍ كثيرة واتخاذ أسبابٍ جمة، ليتمكن هؤلاء الذين تأسسوا وتربوا على هذا المنهج أن يقوموا بالسياسة الشرعية.

وفيما نعلم كل الأجواء في البلاد الإسلامية اليوم لا يوجد فيها جماعةٌ، ولنقلها لفظةً قرآنية “أمة” تكتلت وتجمعت على منهج الإسلام الصحيح، ولم يبق لديهم ما ينقصهم من القيام بالواجبات الشرعية إلا العمل السياسي.

لا نعلم طائفةً ولا جماعةً أو أمةً توجد اليوم على وجه الأرض لا ينقصها إلا العمل السياسي، العمل السياسي في اعتقادي إنما يأتي بعد زمنٍ واستعداداتٍ جمة تقوم بها الطائفة المنصورة التي جاء ذكرها في الحديث المشهور المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم قال: لذلك فالاشتغال بالعمل السياسي قبل أن تصل الأمة أو الجماعة إلى مرحلة هذا العلم السياسي ستكون عاقبة أمره أن تنهار الدعوة، وأن ترجع القهقرى، ورُب أُناسٍ لا يقتنعون بهذه النظرية من الناحية العلمية، فحسبهم أن يلقوا نظرةً سريعة في بعض البلاد الإسلامية التي وقعت فيها بعض الأعمال السياسية فكان عاقبة أمرهم أن لم يكن ذلك رشدًا، ولم يكن توفيقًا، بل كان عاقبة أمرهم القهقرى، والرجوع إلى الوراء في الدعوة، فقد كانوا ماضين في دعوتهم كما يأمر الشرع وإذا بهم بسبب النهوض المفاجئ في العمل السياسي تكون عاقبة أمرهم وعاقبة نهضتهم أن رجعوا القهقرى.

ولذلك إن من بعض الحكم التي تُذكر عن بعضهم قولهم: من استعجل شيئًا قبل أوانه عوقب بحرمانه، و هذا أمرٌ طبيعيٌ جدًا قبل أن يكون أمرًا شرعيًا”.

وقال أيضًا -رحمه الله- في كلامٍ له آخر: “الاشتغال اليوم بالسياسة اشتغالٌ يصرف القائمين على الدعوة عن هاتين الركيزتين ألا وهما:

التصفية والتربية، -يعني بالتصفية: تصفية الدين مما علق به من الشركيات والبدع حتى يكون الدين صافيا ثم يربى الناس على الدين الصحيح الصافي-.

قال: فالاشتغال يصرف القائمين على هذه الدعوة مقرونةً بهذه التصفية والتربية، عما هم في صدده، الدعوة السلفية في الكويت مش يمرون بدور تحزب، لا، دخلوا وانتهى الأمر من يوم أجازوا لأنفسهم كالإخوان المسلمين دائمًا وأبدًا، وكحزب التحرير في بعض أدوارهم حينما سوغوا لأنفسهم باسم الإصلاح أن يدخلوا في البرلمان القائمة على ما نقول على الكفر بالله ورسوله جملةً وتفصيلاً، وإنما على الأقل نقول: هذه البرلمانات القائمة على مخالفة الشريعة في جوانب كثيرة وكثيرة جدًا.

فحينما أباحوا لإخوانهم أن ينتخبوا وأن يدخلوا في البرلمان هذا الذي لا يحكم بما أنزل الله حتى صار منهم من كان وزيرًا، لهذا نحن نقول إن الدعوة السلفية -هنا يقصد الكويت- أخذت طورًا سياسيًا آخر، فنحن ماضون على الدعوة على هذه الأساس، التصفية بناءً على الكتاب والسنة الصحيحة وتربية الناس على هذا الأساس” ا.هـ.

وقال في موضعٍ آخر:”إنني في الواقع أرى أن التكتل الحماسي في تكتيل جماعة السلفيين في الكويت خاصة أنهم يسيرون على خطى الإخوان قديمًا وحديثًا، وهو تكتيل الشباب المسلم وتجمعيه دون العناية بتثقيفهم الثقافة الإسلامية الصحيحة القائمة على الكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح كما هي دعوة كل المسلمين المنتمين لهذا المنهج الإسلامي.

ولذلك فإني أخشى ما أخشى أن ترجع الدعوة السلفية في الكويت وفي بلادٍ أخرى قد تتأثر بهذا التكتل أو التحزب الجديد وترجع القهقرى، ويتمثلون في دعوتهم خطى جماعة الإخوان المسلمين ذاتها التي أشرت إليها آنفًا وهي قائمة على قول بعضهم ” كتل ثم ثقف” ثم لا شيء بعد ذلك إلا التكتل والتحزب، وأكبر دليل على ذلك أنه قد مضى على جماعة الإخوان المسلمين ستون عامًا ولم نشاهد من أثر دعوتهم فيهم أنها أنتجت عالمًا واحدًا بين صفوفهم”.

إلى أن قال: “فنحن نريد إخواننا السلفيون في الكويت وفي كل بلاد الإسلام يعنون بالتثقيف وليس بالتكتيل” إلى آخر ما ذكر.

مؤسسو جمعية علماء المسلمين بالجزائر اجتنبوا الميدان السياسي وابتعدوا عن الحزبيات:

وممن أدرك مثل هذه الأنظمة السياسية “جمعية علماء المسلمين” في الجزائر، فقد بدأت هذه الأنظمة تدخل حينها في الجزائر، ولا يخفى أن “جمعية علماء المسلمين” أسسها ابن باديس -رحمه الله- والبشير الإبراهيمي، وكان هؤلاء من علماء أهل السنة والجماعة في أوائل القرن الميلادي المنصرم.

وقد شاهدوا هذه البرلمانات، وخبروا حالها وعاينوا آثارها، يقول ابن باديس -رحمه الله- في وصيةٍ له: “اتقوا الله وارحموا عباد الله، اخدموا العلم بتعلمه ونشره، تحملوا كل بلاءٍ ومشقة في سبيله، وليهن عليكم كل عزيز، ولتهن عليكم أرواحكم من أجله”.

إلى أن قال: “وأما الأمور الحكومية وما يتصل بها فدعوها لأهلها، وإياكم وأن تتعرضوا لها بشيء، … ولو أردنا أن ندخل الميدان السياسي لدخلناه جهرًا، ولضربنا في المثل بما عرف عنا من ثباتنا وتضحياتنا، ولَقُدنا الأمة كلها للمطالبة بحقوقها، ولكن أسهل شيءٍ علينا أن نسير بها على ما نرسمه لها، وأن نبلغ من نفوسها إلى أقصى غايات التأثير عليها، فإن مما نعلمه ولا يخفى على غيرنا أن القائد الذي يقول لأمة إنك مظلومةٌ في حقوقك وإنني أريد إيصالك إليها، يجد منها ما لا يجد من يقول لها: إنك ضالة عن أصول دينك وإنني أريد هدايتك، فذلك تلبيه كلها، وهذا يقاومه معظمُها أو شطرُها، وهذا كله نعلمه، ولكنّنا اخترنا ما اخترنا لما ذكرنا وبيَّنا، وإنّنا فيما اخترناه بإذن الله لَمَاضون، وعليه متوكِّلون” ا.هـ [جريدة الصراط السَّوي (15/4) رمضان ـ 1352هـ].

وقال أيضًا -رحمه الله- لمّا زار مدينة أم البواقي، وقد شارك بعض الدعاة في العمل السياسي آنذاك قال -رحمه الله-: “قد رأيت في عدة بلدان سوء أثر الانتخابات بالفرقة التي تركتها بين المسلمين، ولكن أقبح مظهر رأيته منها هو مظهر هاته البلدة، فهي على حزبين متعاديين متقاطعين، وقد شملت هذه الفرقة طلبة العلم الذين ينتظر منهم إزالتها، فكانوا من صلاتها! ويقول هؤلاء الطلبة أنهم لو سعوا في الصلح واظهروا تسامحاً مع العدو لنبذهم قومهم وربما آذوهم، وهم لا يستطيعون تحمل الأذى في سبيل الله” ا.هـ[ انظر الآثار(2/302)]

ويقول صاحبه ورفيق دربه البشير الإبراهيمي -رحمه الله- فيما يتعلق بالتحزب يقول: “أوصيكم بالابتعاد عن هذه الحزبيات التي نَجَمَ بالشّر ناجمها، وهجم ليفتك بالخير والعلم هاجمها، وسَجَم على الوطن بالملح الأُجاج ساجِمُها، إنّ هذه الأحزاب كالميزاب، جمع الماء كَدَراً وفرّقه هَدَراً، فلا الزُّلال جمع، ولا الأرض نفع” ا.هـ. [ عيون البصائر (2/292)]

وقال أيضا: “إنّنا نعدّ من ضعف النتائج من أعمال الأحزاب في هذا الشرق كله آتيا من غفلتهم عن هذه الأصول، ومن إهمالهم لتربية الجماهير وتصحيح مقوِّماتها حتى تصبح أمّة وقوة ورأيا عاما” ا.هـ. [البصائر: العدد:4/13ـ شوال 1366هـ]

ويقول أيضًا صاحبهم ورفيقهم من “جمعية علماء المسلمين” الطيب العقبي -رحمه الله-: “وإنَّ دعوتنا الإصلاحيَّة -قبل كلِّ شيءٍ وبعده- هي دعوةٌ دينيَّةٌ محضةٌ، لا دَخْلَ لها في السياسة البتَّةَ، نريد منها تثقيف أمَّتنا وتهذيب مجتمعنا بتعاليم دين الإسلام الصحيحة، وهي تتلخَّص في كلمتين: أن لا نعبد إلاَّ الله وحده، وأن لا تكون عبادتنا له إلاَّ بما شرعه وجاء من عند” ا.هـ. [جريدة السنّة العدد:2 .]

مؤسسو أنصار السُنة بمصر اجتنبوا المشاركة في الأعمال السياسية واشتغلوا بالعلم:

هذا كلام بعض العلماء الذين عايشوا هذه التجارب، ولو نظرنا أيضًا إلى العلماء في مصر كمحمد حامد الفقي ومحمد بن عبد الوهاب البنّا ومن كان معهما من علماء جماعة “أنصار السنّة” التي تأسست في سنة ألف وتسعمائة وستة وعشرين للميلاد، فإنه لم يشارك أحد منهم في هذه الأعمال السياسية، بل أسسوا جمعية أنصار السنّة، ونفع الله عز وجل بهم نفعًا عظيمًا، كمحمد حامد الفقي ومحمد بن عبد الوهاب البنّا وعبد الرحمن الوكيل وغيرهم من أهل العلم في مصر، تركوا هذه المشاركات السياسية، واشتغلوا بالعلم والتعليم وتصحيح العقائد والمناهج فنفع الله عز وجل بهم نفعًا عظيمًا.

التعليق على كلام المبيحين من أهل العلم للدخول في المجالس النيابية:

يبقى الكلام في أن نقول تعليقاً على كلام المبيحين والمجوزين من أهل العلم وأهل الفضل من أمثال الشيخ ابن باز وابن عثيمين -رحمها الله-: هل يفهم من كلامهم أن هذه الفتاوى التي أصدروها، هل يفهم منها أنها جواز إقحام الدعوة كدعوة في السياسة؟.

فقد يقول قائل: بأن الشيخ -رحمه الله- أفتى بجواز دخول أهل الخير، ودخول أفراد من أهل الخير شيء، ودخول الدعوة كدعوة بحيث يكون جزءً من عملها شيءٌ آخر، فقد يقول قائل: بأن هؤلاء العلماء أفتوا بالدخول وهذا قد لا ينكره أحد.

لو أتاك أحد من أهل الخير والصلاح وأراد أن يدخل لا تمنع من دخوله إذا رجلاً من أهل الخير نحسبه والله حسيبه.

التحذير من الخلط بين العمل الدعوي والعمل السياسي:

أما الكلام الذي نعاني منه ويعاني منه المسلمون هو إقحام العمل الدعوي في العمل السياسي، أو إقحام العمل السياسي في العمل الدعوي، فيصبح العمل السياسي جزءً من عمل الدعاة، أن تُقحم الدعوة كدعوة، بحيث يُخطط لهذا العمل السياسي، ويجعل له لجان مختصة، ويدخل طبعًا حيز الصراع والمعترك السياسي مع الأحزاب السياسية والتوجهات السياسية الأخرى.

هذا هل يمكن أن يُفهم من كلام المبيحين، وهو أنهم جوّزوا إدخال الدعوة كدعوة وأن يكون جزءً من عملها العمل السياسي، هذا في الحقيقة لا أستطيع أن أدعي: أن كلامهم لا يدل على هذا، كما لا أستطيع أن أدعي أن كلامهم يدل عليه، لكن يحتاج هذا الأمر إلى نظر، لوجود الفرق بين دخول الأفراد، وبين دخول الدعوة كدعوة.

نحن نريد الآن أن نتكلم عن الحكم الشرعي لهذه المسألة، وهذا الحكم لا نعني أننا سنتكلم عن حكم شرعي قطعي، فإننا نعرف أن العلماء مختلفون في ذلك، لكن نريد أن ننظر في الأدلة وننظر في أدلة المانعين من العمل السياسي.

فنقول: لبيان الحكم الشرعي لابد لنا من ذكر شقين:

الأول: أن ننظر: العمل السياسي هل جرى عليه عمل السلف؟ وهل هناك من أعمال السلف ما يدل عليه، أو على ما هو قريب منه بحيث يمكن أن يستشف منه إما المنع وإما الإباحة.

الأمر الثاني: أن ننظر: في المفاسد المترتبة على الدعوة من العمل السياسي، حتى يمكن أن نوازن بين مصالح الدخول ومفاسده؟.

لا شك أن في الدخول دفع بعض المفاسد، بكن هل هذه المفسدة التي يراد دفعها أعظم أم أقل من المفسدة التي قد تتحقق بدخول هذا المعترك؟.

السلف -رحمهم الله- لم يسلكوا مسلك المشاركة السياسية بأي صورةٍ كانت:

إذا تكلمنا عن الشق الأول فإننا نقول: إن المتأمل في كلام السلف وحياة السلف وسير السلف يرى بأن السلف -رحمهم الله- لم يسلكوا مسلك المشاركة السياسية بأي صورةٍ كانت، طبعًا ليس عبر المجالس النيابية لأنها لم تكن موجودة آنذاك، لكن من جهة المبدأ والصورة العامة، لأن العمل السياسي في الحقيقة العمل النيابي هو آلية تقترب من خلالها إلى الجهة التي تشرع القوانين، فتدخل المجالس النيابية ويكون لك دور للمطالبة بالحقوق، ودور في تشريع القوانين التي ينفع الله بها، ويكون صوت ورأي ضد كل قانون يخالف حكم الإسلام أو يضر بالمسلمين.

الشاهد أنه وصول إلى المكان أو الجهة التي تُصدر الأحكام، إما في صالح المسلمين أو ضدهم، والحقيقة أنه عند التأمل ليس هناك فرق بين مجلس نيابي ومجلس شورى ووزارة، بمعنى أنه يمكن تحقيق هذا في ظل المجلس نيابي، أو في مجلس الشورى سابقًا، أو أن يكون الإنسان كما في عهد السلف من حاشية الملك، أو من حاشية الخليفة حتى يكون مؤثرًا عليه ومانعًا من بعض الشر عنده ومقللاً منه، أو أن يتحصل على وزارة أو أن يكون من حاشيته العامة ومجلس الشورى وما شابه ذلك.

فصورة المسألة على العموم هو محاولة للوصول إلى مركز القرار، سواء عبر المجالس النيابية في الأنظمة المستحدثة، أو عبر الوصول إلى حاشية الملك والمقربين منه، أو عبر الحصول على وزارة، أو ولاية خاصة، أو الدخول في مجلس شورى للملك ونحو ذلك من الوسائل التي يتمكن منها الداعية إلى الوصول إلى مراكز جهة القرار محاولة للتأثير عليه لدفع ما يضر، وتشريع ما ينفع.

وإذا كان الأمر كذلك فإننا إذا رأينا كلام السلف أو نظرنا في عمل السلف نجد أنهم لم يسعوا في هذا الطريق قط، ولم يخططوا أو يدبروا الطرق التي يتوصلون بها إلى مراكز القرار، سواء بالحصول على وزارة، أو على أن يكونوا من مجلس الشورى، أو من أن يكونوا من حاشية الملك، ونحو ذلك، فلم يسلكوا أي طريق يتوصلون به للحصول على مناصب يتمكنون بها من إصلاح حال المجتمع ومزاحمة أهل الفساد، أو يتحقق بها دفع شرٍ وجلب خير.

السلف -رحمهم الله- تركوا الدخول على السلاطين وجانبوهم إلا بقدرٍ ضيق:

الناظر يجد أن السلف -رحمهم الله- أكثرهم في الحقيقة تركوا الدخول على السلاطين أصلاً وتجنبوا مجالسهم، ومن دخل منهم وخالط السلاطين فإنما كان بقدرٍ محدود، وأكثر من شارك وخالط السلاطين كان يخالطهم إما بطلبٍ من السلطان محبةً منه أن يخالطوه كما خالط ابن أبي ليلي وغيره عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-.

وإما أن يخالطوهم لأجل النصيحة، وهذه كانت أفعالاً فردية، ولكن يكن عن ترتيب مسبق وتنسيق ودراسة وتخطيط، فلم يوجد أن علماء السلف، كالإمام أحمد مثلاً وغيره في وقته، اجتمعوا وقالوا: لابد أن نرتب الأمور بحيث أن نتوصل لمراكز القرار، بأن يكون منّا وزير مثلاً، أو أن يكون منا أحدٌ في حاشية الخليفة ومستشاريه ومقربيه، أن نتوصل بأي طريقة للتأثير على قراراته أو ما شابه ذلك؟.

هل وقع عند السلف هذا التخطيط للوصول حتى يُدفع الشر أم لا؟.

غاية ما وقع أن أفرادًا من العلماء ربما خالطوا السلاطين، وكانوا يداخلونهم، مع أن جمهرة العلماء وأكثرهم ابتعدوا عن هذا الأمر، لأنه من أكبر أبواب الفتن، ومن ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «ومن طرق باب السلطان افتتن»، وهذا الحديث عام لم يقيد، لأن طروق باب السلطان والوصول إلى حاشيته لاشك أنها فتنة عظيمة.

فقلما يصبر إنسان على فتنة السلطان، ومن دخل من العلماء كانوا أفرادًا وكانوا أهل علمٍ وفقه ودراية ولا يظن بهم إلا خير، مع أن عامة العلماء والأئمة تركوا ذلك واجتنبوه.

يقول مهنا -رحمه الله-: “سألت الإمام أحمد عن إبراهيم بن الهروي فقال: رجلٌ وسخ، فقلت: ما قولك: إنه وسخ؟ قال: من يتبع الولاة والقضاة فإنه وسخ”.

وهذا رأي جماعةٍ كبيرة من السلف أكثرهم لم يخالطوا الملوك كطاووس والنخعي والأعرج والثوري وعياض وابن المبارك وغيرهم من أهل العلم والسلف، لم يخالطوا الملوك واجتنبوا ذلك مستدلين بحديث «ومن طرق باب السلطان افتتن».

وكان ميمون بن مهران -رحمه الله- يقول: “ثلاثٌ لا تبلون نفسك بهم:

ولا تدخلن على ذي سلطان.

وإن قلت فأمره بطاعة الله”.

وكان سفيان الثوري -رحمه الله- يقول: “إذا رأيت القارئ يلوذ بالسلطان فاعلم أنه لص، وإذا لاذ بالأغنياء فمرائي”، ثم قال: “وإياك أن تخدع فيقال: لعلك ترد عن المظلمة، أو تدفع عن مظلوم، فإن هذه خدعةٌ من إبليس اتخذها فجازالقراء سلماً”.

ويقول المروزي: “سمعت إسحاق بن إبراهيم ونحن بالعسكر يناشد أبا عبد الله ويسأله الدخول على الخليفة ليأمره وينهاه، وقال له: إنه يقبل مثل هذا إسحاق بن راهويه يدخل على ابن طاهر فيأمره وينهاه، فقال له أبو عبد الله: تحتج علي بإسحاق، فأنا غير راض بفعله، ما له في رؤيتي خير، ولا لي في رؤيته خير، يجب علي إذا رأيته أن آمره وأنهاه، الدنو منهم فتنة، والجلوس معهم فتنة، نحن متباعدون منهم ما أرانا نسلم فكيف لو قربنا منهم”.

وقال ابن الجوزي في كتاب السر المصون: “أما السلاطين فإياك إياك ومعاشرتهم، فإنها تفسدك أو تفسدهم وتفسد من يقتدي بك، وسلامتك من مخالطتهم أبعد من العيوق، وأقل الأحوال في ذلك أن تميل نفسك إلى حب الدنيا”.

وقال الغزالي: “وهذه فتنة عظيمة للعلماء، وذريعة صعبة للشيطان عليهم، لا سيما من له لهجة مقبولة وكلام حلو إذ لا يزال الشيطان يلقى إليه أن في وعظك لهم ودخولك عليهم ما يزجرهم عن الظلم، ويقيم شعائر الشرع، إلى أن يخيل إليه أن الدخول عليهم من الدين، ثم إذا دخل لم يلبث أن يتلطف في الكلام ويداهن ويخوض في الثناء والإطراء وفيه هلاك الدين”.

الشاهد من هذا أن الدخول والوصول إلى حاشية السلطان والحصول على الوزارات والمناصب لاشك أنه فتنة، ولا يمكن لأحد أن يقول: إنه ليس بفتنة، فإذا كان كثيرٌ من أهل العلم والأئمة الفضلاء الأفذاذ، من لهم قدرٌ رفيع في الأمة تجنبوا ذلك، وتركوه وخافوا على أنفسهم، فلا شك أن الدخول مغامرة، ولا يمكن لأحد أن يقول: أنا آمن على نفسي، فمن قال: إنه يأمن على نفسه، لا شك أنه مخطئٌ خطئًا عظيمًا جدًا، بل هذه يدل على فساد حاله، وأنه رجل مفتون.

فالشاهد أنه لا يخلو القرب من السلاطين بأي صورةٍ كانت، لا يخلو من أن يكون فتنةً، وهذا أمرٌ معلوم لا أظن يدفعه أحد إلا مكابر.

ونقول كذلك: النهي عن مخالطة السلاطين، الحقيقة أن الحديث فيه عامٌ، ولا يمكن أن نخرج الصورة المتنازع عليها عن هذه الصورة، بل هي جزءٌ منها، ومعلوم حال الكثير من الولاة والحكام والذين يقربون كثيرًا من هؤلاء الدعاة ليكسبوا ودهم ورأيهم وموافقتهم على ما هم عليه من الباطل.

والعلماء المعاصرون الذين عاصروا هذه الصور الجديدة كذلك أكثرهم لم يشارك فيها، قد ذكرنا كلام علماء جمعية علماء المسلمين، وموقف أكثر علماء مصر من جماعة أنصار السنة القدماء، وغيرهم من أهل العلم، أكثرهم لم يشارك في العمل السياسي، ولم يلتفوا إلى هذه الأمور، وإنما اشتغلوا بإصلاح عقائد الناس، والدعوة السلفية القائمة على العلم والتعليم.

ذكر بعض المفاسد المترتبة على دخول الدعوة والدعاة إلى العمل السياسي:

قد يقول قائل: الدخول من باب دفع المفسدة دفع تسلط أهل الفساد على هذه المجالس، فيقولون: نحن ندخل لندفع المفسدة.

فنقول في الجواب: هل دفع هذه المفسدة وهي وصول أهل الشر إلى هذه المجالس، هل هي إن وجدت محصورةٌ بهذا الطريق وهي دخول الدعاة أنفسهم؟ هل دفع هذه المفسدة محصورٌ بهذا الطريق؟

ثم نقول أيضاً: وهل سلمت هذا الطريق من مفاسد قد تكون أكبر من المفسدة التي يراد دفعها؟ فقد يكون في الدخول مفسدة أعظم من المفسدة التي يُراد دفعها.

الواقع يشهد بأن المفاسد المترتبة على دخول الدعوة، ودخول الدعاة هذا أعظم من المفسدة التي يراد دفعها.

ولابن الجوزي -رحمه الله- كلامٌ طويل في آثار ذلك وأن ما يخسره العلماء من القرب من السلطان أعظم بكثير مما يكسبونه.

وأكثر العلماء كان يخشون دخول ومخالطة السلاطين وهم من هم في التقى والعلم والورع، فكيف نقول نحن؟.

وهذا يقودنا إلى الشق الثاني بأن نقول: هل سلم الدخول من المفسدة؟

من واقع السلف نقول: الواقع يشهد بأن عمل السلف في عمومه يدل على أنهم لم يسلكوا هذا المسلك، وأنه لم يكن من عملهم، ولا من تخطيطهم، ولم من دعوتهم أساساً الوصول إلى حاشية الملك بأي صورةٍ كانت سواء بأن يتوصلوا إلى أن يكونوا وزراء أو مستشارين أو غير ذلك.

والشق الثاني ما يتعلق بالمفاسد المترتبة على الدخول: من أباحوا الدخول قالوا: ندخل لندرأ المفسدة، فنقول: طيب، لننظر إلى الشق الآخر الآن، ما هي المفاسد المترتبة على الدخول؟ لا شك أنه إذا كانت المفاسد المترتبة على الدخول أعظم مما يراد دفعه لا يقول عاقل: أنه يجوز الدخول حينئذ، بل يقول: يجب ترك ذلك من باب درء المفسدة الكبرى بارتكاب الصغرى، ونقول: نصبر على عدم الدخول وإن كان مفسدة لئلا نقع في المفسدة الأكبر بالدخول.

وأنا أريد أن أذكر بعض المفاسد -لا كلها- المترتبة على دخول الدعوة والدعاة إلى العمل السياسي:

المفسدة الأولى: الانشغال بالسياسة عن الوظيفة الأساسية للدعوة والدعاة:

المفسدة الأولى: الانشغال بالسياسة عن الوظيفة الأساسية للدعوة والدعاة، فإن وظيفة الدعوة والدعاة الأساسية هي طلب العلم ونشره، التعلّم والتعليم، ودعوة الناس إلى العمل وفق العلم الصحيح والدعوة إلى ذلك، وهو كما يعرفه الشيخ ناصر -رحمه الله- ويلخصه: بالتصفية والتربية، وهذه هي وظيفة الأنبياء والمرسلين، وظيفة الأئمة المهديين.

{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً.وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً } [الأحزاب:46]

فالدخول والانشغال بالسياسية يصرف الدعاة عن هذه الوظيفة الأساسية، فإنه إن لم يصرف عنها بالكلية، فلاشك أنه يؤثر عليها تأثيرًا كبيرًا جدًا، لماذا؟.

لكثرة دهاليز السياسية، وكثرة خفاياها، وما تقتضيه السياسة من انشغال الأوقات والدخول في الصراعات والمعارك السياسية بدءًا من الانتخابات إلى آخر نفسٍ من نفس السياسية، فيبقى الإنسان مشغولًا عامة وقته في هذا.

والواقع يشهد بانشغال السياسي عن العلم والتعليم والدعوة التي هي وظيفة الداعية الأساسية، دكتور في الشريعة مثلاً كان منشغلاً بالعلم والتعليم دخل السياسة فانصرف بالكلية عن العلم والتعليم، ونسي العلم والتعليم، وأصبح جل همه السياسة والبيانات السياسية والمواقف السياسة.

فالواقع يشهد بأن انشغال السياسي عن العلم و التعليم أمرٌ ظاهر، يترك الداعية عمل الأنبياء والمصلحين والأئمة المهديين ويصير إلى العمل السياسي على الطريقة الغربية المخالفة للإسلام.

ولا يمكن بحال الجمع بين السياسية وبين العلم والتعليم والدعوة، وقد وصف محمد عبده شيخه ورفيقه في الكفاح جمال الدين الأفغاني، فقال: “وكان قادرًا على النفع العظيم بالإفادة والتعليم، لكنه وجّه كل عنايته إلى السياسة فضاع استعداده هذا” ا.هـ، أي أصبح غير مستعد للتعليم والتثقيف؛ لأن السياسية أشغلته وضيعت جهده.

باختصار السياسة تصرف السالك عن مسار الدعوة الصحيحة.

أما تأثير السياسة على الداعية السياسي نفسه فهذا أمرٌ لا ينكره إلا مكابر، فإنه ما دخل أحدٌ هذا المعترك إلا وتغير في فكره ولباسه وكلامه وفي تمسكه بالأصول، إلا من رحم الله، وهذا أمرٌ لا ينكره إلا مكابر.

وقلما يسلم دين الإنسان في هذا المعترك، وهذا في حق الداعية نفسه، أما تأثيره على الدعوة، فإن السياسة لا شك أنها أثرت على الدعوة وأشغلت أوقات الدعاة في صراعاتٍ سياسية، ومعارك انتخابية، فقليل السياسية يجر إلى كثيرها، والسياسية في حقيقتها الواقعية إدمان، هل تعرفون أحدًا دخل السياسية ثم تركها بالكلية ورجع إلى العلم والتعليم والدعوة؟.

أنا نفسي لا أعرف أحداً، بل لا أعرف من دخل السياسة إلا وبقي طيلة حياته -حتى لو لم يتمكن من الحصول على كرسي في المجالس النيابية- يتكلم في السياسة والقيل والقال، ولا أعرف من رجع إلى العلم والتعليم.

فقليل السياسة يدعو إلى كثيرها، ولا يمكن أن يسلم منه الإنسان، كم من الأوقات والأموال تبذل في الاستعداد للدخول في المعترك السياسي؟ وكم من الجهود والأوقات تهدر في حل الإشكالات السياسية، وتتبع التغيرات السياسية، والنظر في التحالفات، ودراسة المواقف، ودفع الإيرادات التي تورد على الدعوة من جراء السياسة؟.

كم ضاع من الأوقات في الدفاع عن الدعوة ودرء ما يثار حولها بسبب العمل السياسي؟ وكم أشغل الدعاة أنفسهم في تبرير المواقف السياسية للدعاة الذين أقحموهم في المعترك السياسي؟ وكم من الأموال أنفقت؟ وكم من الأوقات ضاعت؟ وكم من لجانٍ شُكلت لهذا الغرض، أشياء كثيرة في الحقيقة صرفت الداعية عن الوظيفة الأساسية، عن العلم والتعليم والدعوة، إلى الدخول إلى المعترك السياسي وهو كثيرةٌ دهاليزه وخباياه؟.

المفسدة الثانية: هوان الدعاة في قلوب الناس والمدعوين:

المفسدة الثانية: هوان الدعاة في قلوب الناس والمدعوين، فإن الدعوة إذا دخلت السياسة هانت في قلوب الناس، وزهد الناس في الدعوة، وساءت نظرتهم للدعاة؛ لأن العامة يرون دخول أهل العلم والدعوة الذين يجب أن يكونوا أبعد الناس عن الدنيا وأزهد الناس فيها، يرون دخول الدعاة والدعوة مزاحمةً ومنافسةً على الدنيا، والعامي يحبك ويكرمك ما رآك زاهدًا فيما عنده.

فإن رآك منافسًا له على دنياه، ولو كان قصدك حسنًا زهد فيك وساء ظنه بك، وفي الحديث الذي رواه ابن ماجة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس».

ولذلك حفاظاً على سلامة الدعوة لا بد مجانبة مواقع الفتن ومواطن سوء الظن، فإن الدعوة لا يمكن أن تنتشر إلا إذا كانت بعيدة عن الريبة، وبمنأى عن الشبهات والشهوات وعن مواطن سوء الظن.

ومن ذلك ما قالت صفية رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفاً، فأتيته أزوره ليلاً فحدثته ثم قمت فانقلبت، فقام معي ليقلبني ، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «على رسلكما إنها صفية بنت حيي» فقالا: سبحان الله يا رسول الله، قال: «إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءا ، أو قال – شيئاٍ».

والعلماء استفادوا من هذا الحديث بأن العالم والداعية وطالب العلم لابد أن يكون بعيدًا عن مواطن الريبة، فإن وُجد في بعضها فلابد أن يبين حتى لا يظن به ظن سوء؛ فلابد أن تكون صورة العالم والداعية إلى الله عند الناس صورةً مشرقة.

ولذلك ما من نبيٍ بعثه الله وقد ذكر الله قوله لقومه: ما جئنا طلبًا في الدنيا ولا طمعاً في شيءٍ من دنياكم البتة، هذه ذكره الله عن كل الأنبياء كما في سورة الشعراء، قال عز وجل: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء: 127].

ذكرها الله ذلك بداية من نوح إلى آخر الأنبياء الذين ذكرهم الله في سورة الشعراء، وقال الله عز وجل: {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا}[هود: 29]، {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء: 127].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}[ص: 86]، {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا}[الفرقان: 57].

إذًا كل نبي بيّن لقومه أنه ما جاء طالباً للدنيا، ولا طامعاً فيما هو في أيدي الناس، بل كان الأنبياء أزهد الناس في الدنيا، والنبي صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعًا من شعير، فالداعية إلى الله ينبغي أن يتنزه عن الدنيا، ومن العسير أن يقتنع العامة بأن قصد الداعية الخير، وهم يرونه مزاحماً لهم، فكيف إذا رأوه طلب شيئاً من الدنيا، كما هو حال عامة من دخل من الدعاة، كما أن المعترك السيئ يعني يضطر الإنسان أن يتخذ أمورًا تخالف الشريعة، فيصير الداعية متناقضاً، فإقناع الناس بسلامة النية والقصد بعيد، ولذلك تشويه صورة الدعوة في أعين المدعويين هو من أكبر الآثار السيئة المترتبة على دخول الدعاة المعترك السياسي.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص أشد الحرص على الحفاظ على صورة الدعوة والدعاة نقية؛ لأن الدعوة لا تنتشر إلا إذا كان الدعاة محل ثقةٍ عند الناس بالصدق والإخلاص وحسن القصد والزهد في الدنيا، ولذلك لمّا سأل هرقل أبا سفيان ومن معه، ماذا قال له؟ سأله ليتحقق صدق دعوى النبوة.

قال: هل كان من آبائه من ملك؟ فقال أبو سفيان: لا، ثم بيّن هرقل سبب سؤاله ذلك قائلاً: «سألتك هل كان من آبائه من ملك فذكرت أن لا، قلت: فلو كان من آبائهم من ملك، قلت: رجل يطلب ملك أبيه»، أي لو كان أحد آبائه ملكاً لكان شبهة في حق دعوى النبوة، أي قد يقال: ليس نبياً، ولكنه رجل يطلب ملكاً فقدوه.

فهذا الدخول يثير شبهة على الدعوة، ولذلك نزه الله عز وجل نبيه من أن يكون أحد آبائه ملكًا.

وما بعث نبيٌ حتى كان محل ثقةٍ عند الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم ما بعث حتى عرف عند المشركين بالصادق الأمين.

وقد جرى بسبب دخول الدعاة العمل السياسي وقيعة في الدعاة، ونالتهم بسبب ذلك اتهاماتٌ كثيرة، لم تنلهم على دعوتهم للسنّة، ونشرهم للعلم، ومحاربتهم للمبتدعة، لا، لكن نالتهم الاتهامات على مواقف سياسية، ومنافع دنيوية لا تمت للدين بصلة.

وكم اشتغل كثيرٌ من الدعاة وطلبة العلم في تبرير الكثير من المواقف السياسية بعدما نال كثيرٌ من الناس من الدعوة والدعاة، وطعنوا في نياتهم ومقاصدهم، وبعض هذه الانتقادات صحيحةٌ بلا شك بسبب افتتان بعض الدعاة بالمال والنصب.

فتبقى الدعوة لا شغل لها إلا التبرير والدفاع عن مواقف دعاتهم في السياسية، وهذه خسارة كبيرة، أن تخسر هؤلاء الناس بسبب المزاحمة على هذا الأمر.

المفسدة الثالثة: التنازل عن الثوابت وضعف التمسك بالأصول:

المفسدة الثالثة: التنازل عن الثوابت وضعف التمسك بالأصول ولهذا مظاهر كثيرة، فمن مفاسد الدخول تنازل الداعية عن ثوابته، وضعف تمسكه بالأصول، وهذا له مظاهرة كثيرة.

أول ذلك: التمسك بالسنّة في المظهر كاللحية وتقصير الثوب ونحو ذلك، فقلما يسلم الإنسان من ذلك.

كما لا تسلم المشاركة السياسية من إظهار احترام ما يخالف الشرع، كاحترام الدساتير والأنظمة المخالفة للشرع، بل أصبح بعض الدعاة يلهج بذكر الدستور وتعظيمه، حتى لا تكاد تجد منه كلمةً تدل على أن بعض ما في الدستور يخالف الشرع مخالفةً صريحة، فأصبح الدستور على سبيل التعظيم والاحترام والتبجيل، حتى يصير التعرض لتغيير بعض بنوده جريمة، نعم لا نقول بأن الدستور كله باطل، لا، لكن فيه جزء كبير يخالف الشرع، ومن أكبره الحكم بغير ما أنزل الله من القوانين الوضعية.

فالدخول في المعترك السياسي يحوج الداعية إلى أن تعظيم ما أهانته الشريعة، والسكوت عن بعض ما أوجبت الشريعة تعظيمه، من باب السياسة.

ومن مظاهر ذلك أيضاً ضعف الولاء والبراء في قلوب الكثير من الدعاة، فالسياسة تضطرك إلى تحالفات، وتقودك إلى المداهنة، وإلى بعض المراوغات، وإلى مصاحبة من لا تجوز مصاحبته، بل من يجب هجرانه والإنكار عليه، فقد تضطرك إلى أن تتبسم مع من يجب الإغلاظ عليه، وأن تجالسه وتضاحكه، وتضطرك أيضًا إلى السكوت عن منكراتٍ كثيرة، وذلك تضعف في قلوب الدعاة عقيدة الولاء والبراء.

المفسدة الرابعة: كثرة التلون والمراوغة وعدم الوضوح والتميز:

المفسدة الرابعة: كثرة التلون والمراوغة وعدم الوضوح والتميز هو سمة بارزة في السياسي، فيصبح حال الدعاة حالاً سياسياً، فبدل أن يكون الداعية واضحًا في دعوته متميزًا، يُرى عليه أثر الدعوة والعلم والتعليم، أصبح مراوغًا غير واضح وغير متميز، ولاشك أن عدم التميز وعدم الوضوح يفسد الدعوة، فالدعوة لابد فيها من وضوح، والنبي صلى الله عليه وسلم فرّق بين الناس على هذا الأساس، وقد اتهمه المشركون بذلك، فقالوا: محمد فرق بين الناس، وهو في الحقيقة يفرق بين الحق والباطل، فجاء بالحق فتميز المسلمون عن غيرهم، والله -تبارك وتعالى- سمى ذلك صبغة، فقال: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً}[البقرة: 138].

فالداعي إلى الله يكسبه الله صبغة بتمسكه بالسنة، صبغةٌ في مظهره، وفي كلامه، وفي همه وعمله، وفي كل شؤونه، وهذه الصبغة تذهب وتذوب مع السياسة، فيصبح لون الداعية وحاله لا يختلف عن لون الآخرين.

وظهور الدين مرتبطٌ بتميز أهل الحق عن غيرهم، ولذلك من أصول الشريعة مفارقة ومخالفة كل من خالف الحق من مشركين وغيرهم، قال صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقومٍ فهو منهم»، وجاء الأمر بمخالفة المشركين حتى فيما ليس من فعلنا، كأن نخالفهم في تغيير الشيب، مع أنه ليس من فعلنا، ولا اختصاص لهم فيه، ومع ذلك أمرنا أن نخالفهم فيه من باب إعزاز الدين وإظهاره وتميز أهله.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الدين ظاهرًا ما عجّل الناس الفطور وأخّروا السحور»، انظر كيف ربط ظهور الدين بتعجيل الفطر وتأخير السحور، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تغلبكم الأعراب على اسم صلاة العشاء»، والأعراب كانوا مسلمين، لكن الجهل عليهم غالب، فظهور الدين مرتبطٌ بتميز أهل الحق وظهورهم وظهور السنة عليهم.

واليوم أصبحت كلمة “سياسي” تطلق على من؟ تطلق على المراوغ والمتلون، حتى أن الشخص الذي لا تستطيع أن تمسكه عليه ممسكاً لمراوغته، يقال له: سياسي، لأن المراوغة من سمات السياسيين.

وأصبح الشخص غير الواضح اليوم في مواقفه يسمى: سياسياً,

وسأل الشيخ الألباني مرة رجلاً عن شيء، فقال: قد يكون ..، فقال الشيخ معلقاً: “قد” إيش؟ هذا جواب سياسي، يعني لكونه يحتمل الوجهين.

الشاهد أن “السياسي” صارت تطلق على الشخص المرواغ، الذي لا تستطيع أن تمسك عليه ممسكاً، فما في موقف إلا ويوجد له تبريراً، وترى كلامه غير واضح، وهذا شأن السياسة الوضعية اليوم فإنها مبنية على المراوغات والتلون وتغيير المواقف على حسب المصالح، وهذا أمرٌ لا ينكره إلا مكابر.

فبيئة السياسة الوضعية لا تتناسب مع الدعوة القائمة على الوضوح والصراحة والثبات في المواقف، والتمسك بالأصول، وقول الحق وغير ذلك من الأصول، لا تتناسب السياسة مع هذا أبدًا.

المفسدة الخامسة: فتح الباب للتكسب من خلال الدعوة:

المفسدة الخامسة: فتح الباب للتكسب من خلال الدعوة، فالعمل السياسي فتح الباب على مصراعية للتكسب من خلال الدعوة، فصار الواحد يمتطي الدعوة للوصول إلى أغراضه الدنيوية.

والعمل السياسي أغرى ضعفاء النفوس للوصول إلى مقاصدهم من خلال الدعوة، ولهذا أمثلةٌ كثيرة، كم صعد أُناس على أكتاف الدعوة فأظهروا الانتماء لها للوصول إلى المناصب والمجالس والمصالح الخاصة، ثم لمّا وصلوا تنكبوا للدعوة وتغير شأنهم.

وهؤلاء إما أن يكونوا من الدعاة أنفسهم ممن ضعفت نفوسهم، وإما أن من خارج الدعوة ممن يتقرب للدعاة ويُظهر التدين ثم نال غرضه تنكب عن الطريق، وبسبب العمل السياسي صارت الدعوة مغنمًا يمكن للإنسان أن يتكسب من خلاله، فيتحصل منها على وزارة، أو نيابة في مجلس، أو غير ذلك من المصالح الدنيوية باسم الدين.

فصارت الدعوة بذلك مغنمًا بل أن تكون مغرمًا، والأنبياء جاءوا وقد غرموا بهذه الدعوة، بمعنى أنهم أنفقوا الأموال في سبيلها، وبذلوا أوقاتهم وأعمارهم في سبيل الدعوة، ولم يتكسبوا من وراءها فلسًا واحدًا.

وهذا أمر يكثر وقوعه، ويُرى جليًا حيث ترى كثيرًا من المرشحين سواءٌ من أبناء الدعوة أو من غيرهم يظهرون الشعارات الدينية والإسلامية ليكسبوا أصوات الناخبين فيخدعون بهذه الشعارات البراقة العامة.

فالعمل السياسي إذا أُقحم في الدعوة صيَّر الدعوة طريقًا يمكن أن يسلك به الإنسان للوصول إلى مقاصده الدنيوية.

المفسدة السادسة: وقوع النزاعات والخلافات بين الدعاة:

المفسدة السادسة: وقوع النزعات والخلافات بين الدعاة والعاملين وهذا أمرٌ ظاهر، فلا يمكن أن يقال: بأن السياسية لم تفرق السلفيين، لا يُمكن أن يُقال هذا أبدًا، بل ولّدت السياسة النزاعات والشقاقات بين الدعاة، وما دخلت السياسة دعوةً من الدعوات وإلا كثرت فيهم النزاعات والشقاقات والخلافات، وهذا هو شأن الدنيا إذا خالطت الدعوة، ولذلك يقول الله عز وجل: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى}[البقرة: 213].

روى ابن جرير -رحمه الله- في تفسيره عن ربيعة قوله: “{ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}، يقول: عن الدنيا وطلب ملكها وخرفها وزينتها، أيكم يكون له الملك والمهابة في الناس؟ فبغى بعضهم على بعض”.

أي لمّا دخلت الدنيا في العلماء، بغى بعضهم على بعض طلبًا للدنيا، أيهم يكون له الملك والمهابة والرئاسة وغير ذلك.

وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تُبسط عليكم الدنيا كما بُسطت على من قبلكم، فتنافسوا كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلتهم»، فلا شك أن العمل السياسي هو من الدنيا ومن مصالحها، وفيه منافع دنيوية كثيرة جدًا، فإذا دخل في الدعوة وقع البغي، وصار الشقاق والخلاف والتنافس، فتتأثر الدعوة ولابد.

والجاه والمنصب والمال من أعظم الفتن التي تصرف الإنسان عن الحق، بل عدّ الله ذلك من أعظم أسباب الكفر، فإنه لمّا ذكر الله الكفر في قوله: {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }، قال بعد ذلك في سبب الكفر: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ}[النحل: 107].

والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «لكل أمةٍ فتنة، وفتنة أمتي في المال»، فأعظم فتنة في هذه الأمة هي المال.

والدعوة لا تأتي أُكُلها، ولا تجني ثمارها ويعم نفعها إلا إذا تآلفت القلوب واجتمعت على الحق وسلمت من فتن الشهوات والشبهات.

المفسدة السابعة: تحمل الدعوة أخطاء السياسيين:

المفسدة السابعة: تحمل الدعوة أخطاء السياسيين، فالسياسي الداعية الذي أوصلته الدعوة إلى المجلس النيابي وأقحمته العمل السياسي ممثلاً عنها حينما يقع في خطأ فإن الدعوة كلها تتحمل خطأه، ولا يمكن لها الانفكاك عن خطأه، حتى لو حاولت تحميله إياه، وهذا شأن السياسة، فإن أخطاء النواب تعود على أحزابهم التي يمثلونها، فطالما أن الدعوة دخلت هذا المعترك وأقحمت هذا الفرد المنسوب لها فيه فكل ما يعمله محسوب على الدعوة لا على شخصه، وهذا أمر لا يمكن أن تنفك الدعوة عنه.

وكم حلّت بالدعوات من ويلات بسبب أخطاء بعض مرشحيهم، وكم عانت الدعوة من بعض مواقف نوابهم وبعض مقالاتهم وتصريحاتهم؟

مقالة واحدة، وعبارة واحدة، وموقف واحد قد يضر الدعوة كلها؟ حتى أدى ذلك إلى انشغال الدعاة في تبرير مواقف بعض مرشحيهم والجواب عن أخطائهم في الدواوين والمجالس.

وما حاجتنا إلى كل هذا الهم الذي يصرفنا عن وظيفتنا الأساسية.

المفسدة الثامنة: إيجاد ثغرة تتغلغل بعض الأنظمة من خلالها في الدعوة لإفسادها من الداخل:

المفسدة الثامنة: من مفاسد العمل السياسي على الدعوة، إيجاد ثغرة يمكن للأنظمة والحكومات الجائرة من خلالها الدخول والتغلغل في الدعوة وإفسادها من الداخل، فأسهل طريق تسلكه الحكومات الفاسدة لإفساد الدعوات ما وجدت إليه سبيلاً هو الدنيا، فمتى ما وجدت طريقاً يمكن إدخال الدنيا على الدعاة سهل عليها التأثير على الدعوة وتحريف مسارها، والسياسة تعنى سهولة الحصول على المكاسب والمنافع والأموال، وقلما يقوى قلب الإنسان عن الصبر عن ذلك، فإذا كانت النفوس جُبلت على الضعف تجاه هذا الأمر، سهل على الحكومات عرض الإغراءات لمن ضعفت نفسه من الدعاة ليتبنى موقفاً معيناً، أو يسعى في إقناع الدعوة ككل لموقف ما إما بتصوير الحال على غير حقيقته، أو بغير ذلك من الطرق، ولهذا أمثلة مشاهدة لا نحب أن نذكرها.

فالدخول في السياسية يعني فتح طريق يمكن من خلاله التأثير على الدعوة، والتحكم فيها بتغيير بعض مواقفها بناء على العروض والإغراءات التي تملكها كثير من الحكومات.

ولا أدل على ذلك من قوة نفوذ السياسيين في بعض التنظيمات الدعوية، بل ووصول السياسيين إلى أعلى المناصب وأعلى اللجان في كثير من التنظيمات الدعوية، وإلجاء التنظيمات الدعوية إلى تبني أمورٍ ومواقف سياسية معينة.

ولك أن تنظر في رؤوس بعض التنظيمات الدعوية، تجد بعضهم سياسيين؟ هذا لا شك أثر من آثار إدخال العمل السياسي في الدعوة.

المفسدة التاسعة: إشغال عموم شباب الدعوة كبارًا وصغارًا بمتابعة الأحداث السياسية

المفسد التاسعة من مفاسد إقحام الدعوة في العمل السياسي إشغال عموم الدعاة، كبارًا وصغارًا، ذكوراً وإناثاً، بمتابعة أمور السياسة وتتبع المواقف والأحداث السياسية، إذا صار العمل السياسي جزءً من دعوتهم، ومعلومٌ انسياق النفوس وراء هذه الأمور.

وقد انشغلت كثير من مجالس الدعاة بالقيل والقال، والحديث عن المواقف السياسية، حتى طغى هذا الأمر على الأمر على أحاديثهم، ومقالاتهم، وتغريداتهم.

فالسياسية أشغلت عموم الدعاة -لا كلهم- بالحديث حول الأحداث السياسية ومتابعتها، ولك أن تتأمل حديث عامة مجالس الدعاة.

المفسدة العاشرة: الاهتمام بالتكتل والتحزب على حساب التعليم والتثقيف:

المفسدة العاشرة: من مفاسد السياسة على الدعوة: الاهتمام بالتكتل والتحزب على حساب التعليم والتثقيف، كما ذكر الشيخ ناصر -رحمه الله- فالمشاركة السياسية لابد لها من قاعدة عريضة، فالمشاركة في العمل السياسي يعني خوض انتخابات، والانتخابات لابد فيها من تكوين قاعدة عريضة، والقاعدة أيضًا تحتاج إلى أعدادٍ كثيرة، ولذلك نجد من آثار هذا: التكتل والتحزب، ومحاولة كسب ود شريحة كبيرة، وهذا أثّر على الدروس العلمية، فنجدها قلت بشكل كبير بين الدعاة، ولكم أن تعملوا إحصائية في عموم مناطق الكويت، انظروا كم هي الدروس العلمية؟ وانظروا في نشاط كل شيخ، وكم داعية، كم يحضر من مجالس العلم؟.

أعني بذلك دروس الفقه والعقيدة والحديث والتوحيد وأصول التفسير ونحو ذلك، لك أن تحصي ذلك لتعرف أثر هذا الاشتغال السياسي بالتكتل والتحزب على حساب التثقيف والتعليم، فقد فتر طلبة العلم عن التدريس، وفتر الطلبة عن حضور مجالس العلم، وانشغل الناس بالقيل والقال، والكلام عن المواقف السياسية، وأصبح همنا أن نجمع وليس همنا أن نعلّم.

والكثير من الشباب اليوم ينشطون للمجلس السياسي، فلو أعلنت عن حضور نائب سياسي للمجلس ليتكلم عن موقف سياسي معين في قضية سياسية لرأيت المجلس ممتلئاً، بينما لو أعلنت عن درس علمي لم تجد من يحضر إلا القلة.

والحديث حول السياسية يشوق كثيرًا من الناس للحضور، وتراهم ينشطون في العمل السياسي أكثر مما ينشطون في العلم، فإذا جاءت الانتخابات رأيت كثيراً ممن لا تراهم في المجالس العلمية، هذا أثر من آثار إقحام السياسة في العمل الدعوي.

المفسدة الحادية عشرة: اختراق المنحرفين منهجيًا وفكريًا للتنظيمات الدعوية:

المفسدة الحادية عشرة: اختراق المنحرفين منهجيًا وفكريًا للتنظيمات الدعوية.

فإن السياسة لابد فيها من تلوّن، لا يمكن أن تكون صريحًا واضحًا تمامًا لا سيما في أمور المنهج والعقيدة وأنت تعمل في خضم السياسة، فإن السياسة ستضطرك إلى تحالفات، وإلى السعي لكسب مناصرين، وهذا الأمر يُسهّل دخول المنحرفين والزائغين عن طريق السنة إلى الدعوة عن طريق السياسة والعمل السياسي.

ولذلك تجد السياسي لا يستطيع أن يظهر سلفيته بشكل واضح، إلا ما ندر، لابد أن يكون لينًا مع الناس، يحاول كسب ما يستطيع منهم، ومن لوازم ذلك التقليل من شأن الخلافات المنهجية، وهذا ظاهر، وبسبب ذلك استطاع كثير من المنحرفين اختراق الدعوة، أو على الأقل إبقاؤهم في الدعوة والسكوت على ذلك على الرغم من ظهور انحرافهم الفكري والمنهجي.

المفسدة الثانية عشرة: لجوء الدعاة إلى التحزب والسرية:

المفسدة الثانية عشرة: العمل السياسي من مفاسده أنه يحوج الدعاة إلى التحزب والسرية، والتحزب والسرية قرينا السياسة، وهذا شأن أكثر التنظيمات الدعوية التي سلكت مسلك السرية والتحزب الخفي.

المفسدة الثالثة عشرة: السياسية إدمان وقليل السياسية يدعو إلى كثيرها:

المفسدة الثالثة عشرة التي أشرنا إليها وهي: أن السياسية إدمان، فمن ذاق طعم السياسة عسر عليه التخلص منها، فقليل السياسية يدعو إلى كثيرها، وهذا لا شك أنه فتنة عظيمة.

انظر إلى قصة طالوت مع قومه، قال تعالى: {قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي}[البقرة: 249].

لو لم يكلفهم الله بالشرب من النهر لكان أهون عليهم وأسهل في ترك الشرب، لكن الله ابتلاهم بذوق النهر بشربة واحدة؛ لأن الإنسان عندما يذوق حلاوة الشيء يعسر عليه جدًا أن يتركه إلا أن يثبته الله، بخلاف لو لم يذقه بالكلية.

ولذلك الصبر عن السياسة بعدم دخولها ابتداءاً أهون من الصبر عنها بعد ذوق حلاوتها ومنافعها، لاشك أن هذا أشد فالسياسة نوعٌ من الإدمان.

أسئلة مهمة:

إذاً هذه المفاسد، مع العلم أنه قد يفوتنا بعض المفاسد، وقد تكون أهم مما ذكرنا، وها هنا أسئلة مهمة:

السؤال الأول: هل ما تحصله الدعوة من مكاسب عبر العمل السياسي من تشريع قانون مثلاً ونحوه، هل يمكن لهذه المصلحة أن تدفع المفاسد الكثيرة والكبيرة التي أشرنا إليها، والتي تكون تحل بخواص الناس، وأعني بخواص الناس: طلبة العلم والدعاة.

إذا ضعفت الدعوة، وتأثر الدعاة، وضعف العلم، وقل التعليم، وتزعزعت ثقة الناس بالدعاة وطلبة العلم، فأي خير يمكن تحصيله بعد ذلك؟!.

العمل السياسي في الحقيقة يسعى في إطفاء نور الدعوة، ومن قارن بين الدعوة سابقًا ونظر إلى حال الدعاة والدعوة قبل الانخراط في العمل السياسي وبين حالها الآن يجد بونًا شاسعًا، فقبل الدخول في العمل السياسي كان التمسك بالسنة ظاهرًا، والحرص عليها قويًا، وطلب العلم منتشرًا، وأما اليوم فكلنا يشهد أمرًا مؤلمًا والله المستعان.

السؤال الثاني: هل نحن مضطرون للمشاركة في العمل السياسي برأس مالنا، أي بدعاتنا وطلبة العلم منا، والعاملين معنا، على الرغم من الآثار المدمرة على الدعوة والدعاة والناس عامة؟

هل نحن مضطرون إلى أن نشارك في العمل السياسي برأس المال؟ أم يمكن تحصيل هذه المصالح ودفع المفاسد المرجوة بالعمل السياسي بترشيح أهل الخير من عوام الناس والتواصل معهم ونصحهم وإرشادهم؟.

حتى إذا جرى موقفٌ معين مستنكر من هذا النائب الذي ليس من صلب الدعوة لم يُحسب خطؤه على الدعوة، وعلى هذا فيمكننا أن نحقق هذه المصالح التي تذكر في دخول العمل السياسي عبر كثير من عوام الناس ممن فيهم خير كثير، بل قد يكون بعضهم أنفع للإسلام والمسلمين والدعوة من كثير من الدعاة، وأفهم فيها، وأحكم، فهذه المصلحة التي يراد تحقيقها والمفسدة التي يراد دفعها في الدخول يمكن تحقيقها بغير رأس المال.

فلماذا نشارك برأس مالنا بالدعاة بالدعوة؟.

ونحن إذا لم ندخل أنفسنا في العمل السياسي كدعاة لا يعني أننا تركنا العمل السياسي بالكلية، بل نشارك بالقدر الذي يحقق المصلحة ويدرء المفسدة بترشيح ودعم من كان من أهل الخير من عموم الناس.

السؤال الثالث: هل تحصيل المصالح المرجوة من العمل السياسي ودفع المفاسد فيها محصورٌ بالمشاركة الفعلية فيها؟ بمعنى: أنه لا يمكن أن نحصل هذه مصالح الدخول إلا بالمشاركة؟ أو بمعنى آخر: هل يمكن أن تصح دعوى أن ترك السياسية سيضر بالدعوة والدعاة؟

ما هو الجواب؟.

ها هم الأنبياء والأولياء والصالحون والأئمة أوذوا وابتلوا وسجنوا وضيق عليهم بسلوكهم الطريق الصحيح، وما ضر ذلك دعوتهم، بل أظهر الله دعوة المصلحين على الرغم من التضييق والمحاربة ممن بأيديهم زمام الأمور، كما قال جل وعلا: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[التوبة: 32].

فالنتائج بيد الله عز وجل لا بيد المخلوق، والعبد مأمورٌ بسلوك الطريق الصحيح وإن لم تظهر النتائج على يديه، قال عز وجل: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}[الجاثية: 18].

اتبع الشريعة ولا عليك من النتيجة، فمن الخطأ إشاعة أن ترك السياسة يضر بالدعوة ويضعفها، هذا لا شك أنه خطأ، بل هذه كلمة خطيرة.

فإن الطريق الذي أصلح أول هذه الأمة هو الطريق الذي سيصلح آخرها، كما قال الإمام مالك -رحمه الله- ” لن يصلح آخر هذه الأمة إلا أصلح أولها “.

الطريق السلفي في الإصلاح هو البدء بإصلاح الرعية، وبذل النصح للحاكم ولزوم الجماعة:

فالطريق السلفي واضح بيّنٌ: في أن طريق الإصلاح هو البداءة بإصلاح القاعدة، ولذلك فإن إصلاح الحاكم كيف يكون؟ يكون بإصلاح الرعية، وببذل النصح له ولزوم الجماعة، فإذا كان إصلاح الحكام رؤوس الدولة يكون بإصلاح الرعية، فإذا صلح الناس أصلح الله حاكمهم..

كذلك إصلاح المجالس بإصلاح الناس والمرشحين والناخبين بدعوتهم إلى الحق وبث العلم فيهم، فإذا صَلُح حال الناخبين وحال المرشحين بدعوتنا لهم صَلُح حال الأمة، وصَلُح المجلس، وصَلُح الحاكم، وصَلُح الأمر كله، فالطريق هو الطريق، فطريق أهل السنة في إصلاح أخطاء الحكام، هو الطريق نفسه في إصلاح أخطاء النواب والمجالس.

وعلى هذا فأخطاء المجالس والحكومات إصلاحها يكون بالدعوة إلى الله، فإذا كانت الدعوة منتشرة قوية، والدعاة بذلوا جهدًا كبيرًا في الدعوة حتى أصلح الله الناس، لا يمكن حينها أن يخرج مجلسٌ فيه أُناس أشرار، لا يخرج إلا من صلب الناس، فإذا صلح الناس صلح المجلس ولابد، وصلحت الحكومة وصلح الحاكم، النبي صلى الله عليه وسلم قد عُرضت عليه الأمارة في أول الدعوة، فقالوا: إن شئت أمرناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك. هل قبل هذا العرض؟ لم يقبل، بل قال: «لا»، فبدأ بالقاعدة، بدأ بضعفاء الناس وعامتهم حتى أظفره الله عز وجل وأعلى شأنه، فمتى ما قويت الدعوة ووثق الناس بالدعاة وأحبوهم، سعى المرشحون أنفسهم لكسب ود الدعاة و رضاهم، وسهل تأثيرنا على المرشحين لحبهم لنا وقوتنا في الدعوة وتأثيرنا في المجتمع، فهذا أحسن بكثير وأسلم بكثير جدًا، وأقرب إلى طريق السلف من أن نشارك أنفسنا بدعاتنا ونخوض بدعوتنا هذا النفق المظلم.

التأثير الكبير لأهل العلم قديمًا وحديثًا في المجتمع عبر كتبهم ومجلاتهم ودعوتهم:

الواقع يشهد بأن طريق السلف الطريق القائم على نشر العلم والتعليم، وعلى تكوين العلماء العاملين هو طريق الصلاح والإصلاح لا غير، وأن كل ما يؤثر على هذه الطريق ويضعفه فهو ضارٌ غير نافع، وهو فسادٌ لا إصلاح، ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “ليس العقل أن تعرف الخير من الشر، ولكن خاصة العقل أن تعلم خير الخيرين وشر الشرين”.

انظروا إلى أثر العلماء في الأمة عبر القرون، انظر إلى ابن تيمية -رحمه الله مثلاً لم يسلك مسلكاً سياسياً، على الرغم من أنه ابتلي وأوذي وسجن سبع مرات، وتوفي وهو في السجن، وكذلك ابن القيم كان مسجونًا وقت ابن تيمية، وسعى كثيرون إلى إحراق كتبهما، لكن ماذا كانت العاقبة؟ أعلى الله شأنهم، وأظهر علمهم وكتبهم، وأصبحت الدعوة السلفية عبر مئات السنين تنهال من علم هذا الشيخين، الذي أريد طمس علومهما، كل ذلك ولم يسلكا سبيل السياسة.

وانظروا إلى دعوة جماعة أنصار السنة المحمدية في مصر مثلاً، وانظر في حال أوائلهم كالشيخ محمد حامد الفقي، ومحمد خليل هراس، والوكيل وغيرهم كيف أثّروا في الأمة، وأثّروا في مصر والعالم أجمع؟ من خلال ماذا؟ هل كان من خلال السياسة؟ كلا، بل من خلال كتبهم ومقالاتهم، ودعوتهم إلى السنّة، فأثّروا تأثيرًا عظيمًا، ولم يسلكوا تلك الطرق السياسية.

وانظروا إلى محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- كيف أثّر في الأمة كلها؟ ونشر التوحيد والسنّة، وهو رجل وحده، لم يسلك طريق السياسة، فإن الحاكم بايعه على الدعوة، ونصّبه قاضيًا ومفتياً، ولم يلتفت إلى السياسة، وكان الحكام والناس يشترون رضاه ويحبون كلامه وفتواه.

وانظروا إلى أثر الألباني رحمه الله، كيف نشر السنّة في مشارق الأرض ومغاربها، وكان شديد البغض للسياسة، ناقماً على من دخلها، وانظروا كذلك للشيخ مقبل رحمه الله في اليمن، فإن الشيخ مقبلاً هو الذي نشر الدعوة السلفية في اليمن، وسعى فيها وحده، وما سلك طريقاً سياسياً قط، رجل واحد أثّر في اليمن بأسرها.

وهكذا أهل الحديث في الهند وباكستان وبنجلادش نشروا السنّة ولم يسلكوا طريق السياسة، فانظروا إلى صديق حسن خان وغيره كيف أثّروا في الأمة، وفي بلدانهم لمّا سلكوا طريق العلم والتعليم، طريق الأنبياء.

هذا هو الطريق الذي يُصلح الله به الأمة، وهو الطريق الذي أصلح أولها، فكل شيء يُعيق على هذا الطريق أو يضعفه فلا شك أنه يضر ولا ينفع، لو بذلت التنظيمات الدعوية والأحزاب والجماعات الإسلامية غاية جهدها وأنفقت أكثر أموالها في إيجاد عالمٍ رباني واحد لكان أعظم أثرًا في الأمة من ألف نائب، ولصار أثره يعم بلاد المسلمين عامة، ولا ينحصر في بلد دون بلد، ولنفع الله به في وقته وبعد وقته وعبر القرون، وهذا هو الذي ينبغي أن تُنفق فيه الأموال ويُجتهد فيه.

الأثر السلبي للسياسة على الدعوة في الكويت والبحرين ومصر:

تأملوا فيما جنته السياسة على الدعوات، وانظروا إلى آثارها، فانظروا أثرها في الكويت، كيف فرّقت السياسة الدعاة، وصاروا شذر مذر؟!، ولا حاجة إلى ذكر أمثلة على إفساد العمل السياسي للدعوة في الكويت لظهور ذلك.

فكم حصل من نقاشات ونزاعات، وكم شُكّل لها من اللجان، وكم جرى من خلافات وشقاقات؟، وما منا إلا وقد تجرّع مرّ السياسة، وما منا إلا تُكلِّم فيه وأوذي بسبب السياسة، حتى صار الدعاة في خضم الصراعات السياسية في حيص بيص.

وانظروا كذلك إلى البحرين، كيف أضعفت السياسية الدعوة فيها، وأثّرت على بعض الجمعيات الدعوية، حتى صار العلم والتعليم ضعيفًا جدًا، لا تكاد ترى دروسًا علمية، فأضحت السلفية غير ظاهرة، وصار الجمعيات الدعوية التي خاضت خضم السياسة يأتون بكل من هب ودب، ويأتون بالمنحرفين فكريًا والمخالفين منهجيًا، وأصبحت لا ترى أثر العلم، ولا أثر العلماء، ولا أثر الدعوة العلمية، وصارت الدعوة مقصورة في وزارةٍ، أو في مجلسٍ وما شابه ذلك، وانحصرت الدعوة في هذه الأمور وبقيت بعض الأمور الإغاثية فقط، هذا الذي بقي من آثار الخير، وأما الدعوة العلمية فضعفت ضعفاً شديدًا.

وأقرب الأمثلة على أثر السياسة على الدعوة: ما جرى في مصر، فانظروا إلى حال الدعاة قبل الثورة، فقد كانت لهم منزلة وحظوة عند الناس، وانتشرت برامجهم وعلا صيتهم، وتبوءوا مكانة رفيعة بين عموم الشعب المصري؟ ولا أذكر أني دخلت محلاً في سوق أو غيره إلا وترى المشايخ السلفيين في التلفاز، يحرص الناس على متابعة برامجهم، وسماع وعظهم وتوجيهاتهم، فلمّا خاضوا السياسة، تغيّر ذلك كله، وصار الواحد منهم بدل أن كان يجلس في المساجد يعلم الناس العقيدة، أصبح خطيباً سياسيًا، يتكلم في السياسة، ويبرر المواقف السياسية، ويرد على الشبهات، ويذكر برامجه السياسية، ويصارع منافسيه.

ثم آل الأمر إلى ما آل إليه، وتشوهت صورة الدعاة بعد مواقف سياسية لهم، ووقع الخلاف بينهم والشقاق، وصار بعضهم يبدّع بعضاً، ويتهم بعضاً، وانقسم الناس في مصر إلى حزبين، وانقسم الدعاة على إثر ذلك، هؤلاء مع هذا الحزب، وأولئك مع الحزب الآخر.

فما هو الذي جنته الدعوة في مصر من السياسة؟ وما الذي كسبوه وحصلوه؟ ما حصلوا شيئاً سوى الفرقة والخلاف، والتناقض في المواقف، حتى تشوهت الدعوة والدعاة أمام الكثير من الناس.

شبهات وردود:

والمجيزون للعمل السياسي لا سيما عندنا في الكويت يتذرعون بأمور، ويوردون بعض الشبهات لتبرير خوضهم السياسة، نذكر أهمها:

الشبهة الأولى: إذا لم يكن لنا ظهر في الدولة ليس لك قيمة:

الشبهة الأولى: يقولون: إذا لم يكن لنا ظهرٌ في الدولة، ولم يكن لك ممثل فيها، وإلا فليس لك قيمة، فلابد أن يكون لك ظهرٌ ووجود حتى لا تتسلط عليك الدولة.

والجواب أن نقول: سبحان الله! ما أعظم هذه الدعوى وما أكبرها!، أوليس الله عز وجل نصيرًا لهذه الدعوة؟

من ناصر الدعوة؟ ومن ظهرُنا؟ الله -تبارك وتعالى- بجلاله وعظمته، أم الحكومة والأمير والمجلس والأعضاء؟! ما أكبرها من دعوى!؟

من نصر الأنبياء عليهم السلام؟ ومن أيّدهم؟

أيدهم الله -تبارك وتعالى- ونصرهم وأظهرهم وأعلى مكانتهم، ولذلك ذكر الله عن الأنبياء أنهم تحدوا أقوامهم بذلك، قال هود عليه السلام: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[هود: 54-56]، فهل استطاعوا أن يضروه؟ بل أهلكم الله وأبادهم وأبقاه.

وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ}[يونس: 71]،

أي أهلكوني ولا تتأخرون، فهل استطاعوا ذلك؟ ما استطاعوا.

وقال نبينا -عليه الصلاة والسلام-: {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنظِرُونِ * إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ}[الأعراف: 195-196].

فالله تبارك وتعالى هو ناصر الدعوة ومؤيّدها وحافظها.

وكم من العلماء الذين أظهر الله دعوتهم، ليس فقط لم يكن له ظهر من قوة سياسية أو قبلة أو حزبية، بل كان محاربًا في وقته، ومع ذلك أظهر الله دعوته، وكل من سلك طريق السلف والأنبياء نصره الله وأيده، وذلّل لك قلوب العباد، لأن من خاف من الله أخاف الله منه كل شيء، ومن خاف الناس أخافه الله من كل شيء.

الشبهة الثانية: ترك العمل السياسي قد يؤدي إلى تشريعات وقوانين مخالفة للشرع:

الشبهة الثانية: يقولون: ترك العمل السياسي قد يؤدي إلى تشريعات وقوانين مخالفة للشرع تضر بالناس والدعوة.

والجواب أن نقول: الحمد لله ليسنا في مجتمع بهذا السوء الذي تصوّرون، ولا بهذا البعد عن الشرع، بل كثيرٌ من المرشحين فيهم خيرٌ كثير، وكم من القوانين التي شُرعت قبل دخول الدعاة إلى المجلس، حتى أن الخمر مُنعت الكويت من المجلس قبل أن يكون فيه أحد من الدعاة، ولذلك فدعوة الناس وإصلاح حال الناخبين والمرشحين أمثل طريق لتفادي هذه المفاسد.

والكثير من القوانين الموافقة للشرع شُرعت قبل دخول الدعاة أساسًا.

وما هو أثر الدعاة في المجلس؟ كم هو تأثير نائب أو اثنين أو خمسة من جملة خمسين نائب؟ يبقى التأثير محدودًا.

لكن التأثير القوي هو دعوتنا في أوساط الناس، دعوتنا عند الناخبين، مكانتنا في المجتمع هذا الذي يؤثر حقيقةً، ومعلومٌ أن تأثير الناخبين على العضو أعظم من تأثير العضو على زميله.

فإذا وصلت للناخبين من خلال الدعوة، وتمكنت من قلوبهم وأحبوك، أمكنك بعد ذلك التأثير على الناخبين، ليؤثروا على العضو الممثل لهم في المجلس.

الشبهة الثالثة: ترك العمل السياسي قد يؤدي إلى إغلاق بعض الجمعيات الخيرية:

الشبهة الثالثة: يقولون: قد يؤدي ترك العمل السياسي إلى تسلط الدولة وإغلاق بعض الجمعيات الخيرية نظراً لعدم وجود ظهر لك فيها.

فالجواب أن نقول: أولاً: هذا تخرصٌ ورجم بالغيب.

الأمر الثاني: أننا لا نعرف أن جمعية خيرية أغلقت في الكويت بسبب أن ليس لها ظهر سياسي، بل عامة الجمعيات في الكويت ليس لها ظهر سياسي، وأكثرهم من عوام الناس، وما سمعنا بجمعية أغلقت بسبب ذلك.

ثم نقول ثالثاً: قوة الدعوة ومكانة الدعاة عند الناس والنواب تحقق هذا الهدف، فإذا كان لنا قوة عند الناس والناخبين بدعوتنا، وعند هؤلاء النواب، فإنهم سيقفون معك، وسيمنعون من إغلاق ما تزعمون، ولا نحتاج إلى يكون لك لنا ممثل في المجلس.

ثم نقول أيضاً: هب أنه قد حصل وأغلقت جمعية من الجمعيات الخيرية مثلاً أو الدعوية، هل يعني هذا انقطاع الدعوة؟ وهل يعني هذا توقف الخير؟

إذا أغلق الناس باباً من أبواب الخير فتح الله أضعافه، قال ا لله عز وجل: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}[آل عمران: 120].

الشبهة الرابعة: يقول: يوسف عليه السلام صار وزيرًا في حكومةٍ كافرة:

الشبهة الرابعة: يحتجون بأن يوسف عليه السلام صار وزيرًا في حكومةٍ كافرة، وهو دليل في جواز دخول المجالس التي لا تحكم بالشرع.

فأقول جواباً على ذلك: يوسف عليه السلام لم يطلب وزارة ولا ولاية، ولا نيابة في مجلس، ولكن عُرضت عليه الوزارة عرضاً، قال تعالى عن عزيز مصر: {قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ}[يوسف: 54]، يعني: اختر، فقال: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}[يوسف: 55].

فلما عرض الملك عليه التمكين، اختار يوسف عليه السلام أن يكون على مالية مصر، لأنه عبّر الرؤيا المتعلقة بما سيقع في مصر من الأزمة المالية بسبب السنين العجاف، فكأنه قال: سأعمل فيما رأيته وعبرته، لكونه أخبر به من غيره، فيوسف عليه السلام عُرضت عليه الوزارة، ولم يَسْع لها، ولم ينافس عليها، ولم يخاصم الناس في الحصول عليها، بل لم يرض عليه السلام بالخروج من السجن حتى ظهرت براءته على الرغم من أن حاكم مصر عرض عليه الخروج، فقال: {قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ}[يوسف: 50].

فلمّا ظهرت براءته خرج، على الرغم من عرض الخروج عليه قبل ذلك، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم مادحًا هذا الموقف من يوسف: «ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجب الداعي»، كأنه يمدح يوسف لقوة صبره صلى الله عليه وسلم.

فيوسف لمّا تبوء منزلةً عند الناس، وأحبه الناس، وأحبه الملك، وعرفوا صدقه وأمانته، وعبّر تلك الرؤيا، عرض عليه الملك الوزارة، فلما صارت له تلك المكانة قال له الملك: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ}، فيوسف عليه السلام بدأ بما بدأ به الأنبياء، بدأ بالدعوة العامة حتى مكنه الله.

الشبهة الخامسة: السياسة من الدين وفصل الدين من السياسة هذه علمانية وسياسة دراويش وصوفية:

الشبهة الخامسة والأخيرة: قولهم: إن السياسة من الدين، وأن فصل الدين عن السياسة علمانية؟

ويقولون كذلك: مجانبة الدعاة العمل السياسي نوع من الدروشة، وهو مذهب الصوفية.

فأقول: نحن لا نقول بأن السياسية ليست من الدين، بل الدين شاملٌ للسياسة، لكن يبقى السؤال: ما هي السياسية التي يشملها الدين؟.

أما سياسة الناس والحكم فيهم وفق الشرع، فقد جاءت الشريعة بذلك، وكتب العلماء كتباً في السياسة الشرعية التي يتصرف الحاكم والوالي والوزير والمسئول وفقها، وهذا لأهل الشأن من الحكام وأهل الحل والعقد والولاة، أما عموم الناس والدعاة فليس هذا من شأنهم أساسًا حتى يقتحوا هذا المجال ويُقحموا الناس معهم.

ولذلك نحن نعني بكلامنا هنا: السياسية الوضعية في الأنظمة المستحدثة المستوردة من الكفار، ولا نعني السياسية الشرعية، وإلا فإن السياسية الشرعية قد جاءت بها نصوص الكتاب والسنة، وتكلم فيها العلماء.

أما الصوفية الذين هجروا السياسة، فهم في الحقيقة ما هجروا السياسة، وإنما هجروا الشرع، فهجروا إنكار المنكر، وتركوا ما يجب عليهم من العلم والتعليم والدعوة وجهاد أعداء الله من المشركين والملحدين، أما أهل السنّة فهم قائمون بالسنّة، داعون إليها، قائمون بالحق، مجاهدون بالسيف والسنان، وبالحجة والبيان، مجاهدون خلف الأئمة، لا ينزعون يداً من طاعة.

فأين هؤلاء الصوفيون الذين هجروا كل ذلك ولم ينكروا منكرًا، من أهل السنّة القائمون بالحق؟!.

الختام: ما هو الحل الصحيح؟

الختام: أن نقول: إذا كنت منعت دخول الدعاة في السياسة العصرية، فما هو الحل الصحيح؟

أقول: أنا أجمل الحل في نقاط:

الحل الصحيح يكمن أولًا في الرجوع بالدعوة إلى مسارها الصحيح القائم على الاعتناء بالعلم والتعليم، والسعي الحثيث في تهيئة الأسباب لتكوين طلبة العلم وتهيئتهم ليكونوا علماء وأئمة يُهتدى بهم، وتذليل جميع الصعاب للوصول إلى هذا الغرض، وتسخير الأموال في هذا السبيل حتى نوجد علماء أئمةً يُقتدى بهم، هذا هو الأمر الأول.

الأمر الثاني: دعوة الناس وفق العلم الصحيح وتربيتهم على الإسلام الصافي كما قال الشيخ الألباني -رحمه الله- التصفية والتربية، فلابد من تهيئة الأجواء للدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالحسنى.

الأمر الثالث: ترك الدعاة وطلبة العلم والعاملين في مجالات الخير والإغاثة ونحو ذلك وأهل الدعوة عمومًا، تنظيمات وأفراداً، ترك جميع هؤلاء العمل السياسي وعدم الاشتغال به، وهذا لا شك أنه أفضل وأسلم من دخولنا الخضم وهذا المعترك مع مفاسده العظيمة.

الأمر الرابع: لابد من أن يتولى أهل العلم وطلبته زمام أمور الدعوة والعلم، فلابد أن يقوم العلماء وطلبة العلم بترشيد المسار، فيرسمون الطريق الصحيح، ويضعون المنهجية الصحيحة، وأن يُجنّب السياسيون مرحلة التصحيح والترشيد لحين انتهاج الطريق الصحيح، وهذا قد يطول وقد يقصر.

المهم أن يتولى زمام الأمور أهل العلم، لا عموم الدعاة، فقول بعضهم: فلان قديم في الدعوة، أو فلان مؤسس الدعوة، ونحو ذلك، فهذا لا أثر له إذا لم يتصف هؤلاء بالعلم، فالعلماء وطلبة العلم المعروفون بالعلم هم الذين يصححون المسار، ويُجنب كل ما وراء ذلك، ولهم أن يستشيروا من شاءوا في بعض القضايا.

الأمر الخامس: دارسة التجربة السياسية التي مضت، فلابد من دراستها دراسةً واقعية بلغة الأرقام والحقائق، لا وفق الآراء المرسلة.

نحن نحتاج إلى دراسات منهجية وفق الأرقام، ندرس الواقع السابق والحالي، ونذكر المصالح والمفاسد، دراسة حقيقة مستندة إلى الواقع، لماذا؟

لالتماس العبر والفوائد، ومعرفة المصالح والمفاسد حتى نتعلم، وحتى يتعلم غيرنا من تلك التجربة التي خضنا فيها أكثر من ثلاثين سنة.

وأقول على سبيل التنزل: إن كانت دعوتي بترك السياسة بالكلية شديدة وصعبة القبول، فلا أقل من أقول: جمدوا العمل السياسي، ولا تلغوه، لكن جمدوه فترة لحين تصحيح المسار، ولحين ترتيب أوراق الدعوة وفق المنهج الصحيح، فإننا الآن نحتاج أن نصحح مسار الدعوة إلى الطريق الصحيح، وأن نضع آليات عمل صحيحة ومدروسة، فإذا صححنا المسار، وسلكنا الطريق الصحيح، وتجنبنا كل الأخطاء السابقة، حينئذٍ إن أردنا أ ن ندخل العمل السياسي أخذاً بقول من يجيز ذلك، ولم نقتنع بقول المانعين: فعلى الأقل: ندخل حينئذٍ بآلية واضحة، مجنّبين الدعوة والدعاة آثار السياسة وويلاتها، والاكتفاء بالمشاركة في المجالس النيابية بصفة فردية لا دعوية.

هذه ربما قد تكون خطة للإصلاح عمومًا.

ونسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم إلى ما يحب ويرضى، والله أعلم وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.




المصدر: موقع الشيخ فيصل بن قزاز الجاسم
__________________
قال معالي الشيخ صالح آل الشيخ-حفظه الله-: " فإن الواجب أن يكون المرءُ معتنيا بأنواع التعاملات حتى يكون إذا تعامل مع الخلق يتعامل معهم على وفق الشرع، وأن لا يكون متعاملا على وفق هواه وعلى وفق ما يريد ، فالتعامل مع الناس بأصنافهم يحتاج إلى علم شرعي"
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 11-11-2015, 08:10 AM
عمربن محمد بدير عمربن محمد بدير غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: الجزائر
المشاركات: 12,045
افتراضي

جناية السياسة العصرية على العلم
__________________
قال ابن تيمية:"و أما قول القائل ؛إنه يجب على [العامة] تقليد فلان أو فلان'فهذا لا يقوله [مسلم]#الفتاوى22_/249
قال شيخ الإسلام في أمراض القلوب وشفاؤها (ص: 21) :
(وَالْمَقْصُود أَن الْحَسَد مرض من أمراض النَّفس وَهُوَ مرض غَالب فَلَا يخلص مِنْهُ إِلَّا الْقَلِيل من النَّاس وَلِهَذَا يُقَال مَا خلا جَسَد من حسد لَكِن اللَّئِيم يبديه والكريم يخفيه).
رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 06:51 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.