أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا

             
47598 88813

العودة   {منتديات كل السلفيين} > المنابر العامة > منبر العقيدة و التوحيد

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 03-04-2015, 01:12 AM
ابو لؤي الجزائري ابو لؤي الجزائري غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Apr 2014
الدولة: الجزائر
المشاركات: 10
افتراضي [ التَحْذِيرُ والتَنْفِيرْ مِنْ شَرِّ غَوَائِلِ فِتْنَةِ التَكْفِيرْ ]

[ التَحْذِيرُ والتَنْفِيرْ مِنْ شَرِّ غَوَائِلِ فِتْنَةِ التَكْفِيرْ ]

ـ إنَّ الحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ ، و نَسْتَعِينُهُ ، ونَسْتَغْفِرُهُ ، ونَعوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ، وَمِنْ سَيِئاتِ أَعْمَالِنَا
مَنْ يَهْدِهِ اللهِ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ ، ومَنْ يُضلِلْ فلا هَادِي لَهُ ، وأَشْهَدُ أن لا إله إلا الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ , وأشهدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ . ثُمَّ أمَّا بَعد :
ـ إنَّ مِن أعظَمِ المَسَائِلِ خَطَراً وأشَدِّهَا على الأُمَّةِ ضَرَراً مَسْألَةُ التكْفِير , هَذِهِ المَسألةُ الخَطِيرَة التي جَرَّدَهَا فِئَامٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّة مِنْ ضَوابِطِهَا وقُيُودِهَا الثِقَالْ , فَأطْلَقُوا الأَحْكَامَ جُزَافاً عَلى أعْيانِ المُسْلِمِينْ , دُونَ النَّظَرِ إلى مَا إذَا كَانَتْ الشُّرُوطُ فِيهِ مُتَوَفِرة , والمَوَانِعُ مُنْتَفِيَةً عَنْهُ غَيْرُ حَاضِرة , ودُونَ الرّجُوع إلى أهْلِ الرُّسُوخِ والاسْتِنْبَاطْ عُلَمَاءُ السُّنَّةِ الذِينَ هُمْ فَقَطْ دُونَ غَيْرِهِمْ مَنْ يَحِقُّ لَهُم الخَوضُ في مِثْلِ هَذِهِ المَسَائِلِ العَظِيْمَة , وهُمْ أعْلَمُ الأُمَّةِ بِفِقْهِ المَصَالِحِ والمَفَاسِد , ورَبْطِهِمَا بِوَاقِعِ الأُمَّةِ فِي الحَالِ والمَآلْ , أمَّا لَو تُرِكَ هَذَا الأمرَ يَخُوضُ فِيْ غِمَارِهِ كُلَّ مَنْ هَبَّ ودَبْ , لَحَلَّ الفَسَادُ العَرِيضُ بِالأُمَّةِ و لَتََوَالَتْ عَلَيْهَا المَصَائِبُ وَ النَّكَبَاتْ و الفِتَنُ المُهْلِكَاتْ تَعْصِفُ بِهَا وتَصْرِفُهَا إلى مُسْتَنْقَعٍ مِنَ الضُّلْمَةِ القَاتِمَة والفَوضَى العَارِمَة , حَيْثُ يَغِيْبُ الأَمْنُ , وتُسْتَبَاحُ الدِّمَاءُ المَعْصُومة , وتُنْتَهَكُ الأَعْرَاضُ المَصُونَة , إلى غَيْرِ ذَالِكَ مِمَّا لا يَخْفَى مِنْ حَالِ أُمَّةٍ يَعُجُّ وَاقِعُهَا بِالفِتَنِ المُدْلَهِمَّة والخُطُوبِ الجَسِيْمَةِ العَظِيمَةِ , بَلْ إنَّ الأَمْرَ تَفَاقَمَ واشْتَدَّ , وظَهَرَ فِي الأُمَّةِ مَنْ يُكَفِّرُهَا ويُصْدِرُ الأحْكَامَ بِرِدَّتِهَا , وَ زَادُوا الأَمْرُ سُوأً وَخَطراً حِيْنَ نَصَّبُوا الجَّمَاعَاتْ , وأَعْلَنُوا الثَوْرَاتْ , وَعَقَدُوا لِذَالِكَ الأَلْوِيَةَ والرَايَاتْ , وَتَفَنَّنُوا فِيْ قَتْلِ خَلْقِ اللهِ بِأَبْشَعِ الطُّرُقِ وَشَتَّى أَنْوَاعِ الجَرَائِمِ والمُهْلْكَاتْ , وَكُلُّ هَذَا وَذَاكْ مِنَ الإِفْسَادِ فِيْ الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا , وَ رَبُنَا عَزَّ وَ جَلَّ يَقُول : { وَلاَ تُفْسِدُوا فِيْ الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفَا وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيْبٌ مِنَ المُحْسِنِيْن } ( الآية : 56/ الأعْرَاف ) , وَقَال : { وَلاَ تُفْسِدُوا فِيْ الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَالِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِيْنْ } ( الآية : 85/ الأَعراف ) , وَقَال : { ... وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيَهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادْ ... } ( جُزء مِن آية : 204/206/ البقرة ) , وَقَال : { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ( الآية : 33/ المائدة ).
ـ ثُمَّ اعْلَمُوا وَفَقَنِي اللهُ وَإياكُمْ إلى الحَّقِّ والهُدى , أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِيْ صَحِيْحِ الخَبَرِ السُنَّة , التَحْذِيْرُ الشَّدِيْدُ والتَهْدِيْدُ القَطْعِيُ الأَكِيْدْ فِي حَقِّ مَنْ أَطْلَقَ اللِّسَانْ بِتَكْفِيْرِ الأَعْيَانْ مِنْ أَهْلِ الإيْمَانْ , مِنْ ذَالِكَ مَا أَخْرَجَهُ الإمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ (1/79/ رقم : 60) مِن حَديث بن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنهُمَا أنَّ النَّبِي صَلَى الله عَلَيهِ وسَلم قَال : (( إذَا كَفَّرَ الرَّجُلُ أَخَاهُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا )) وفي روايَةٍ لِمُسلِمٍ أيْضَاً (1/79/ رقم : 60 ) (( أيُمَا امرِئٍ قَالَ لأَخِيهِ يَا كَافِر فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا إِنْ كَانَ كَمَا قَال وإلاَّ رَجَعََتْ عَلَيه )) .

وجَاءَ عِنْدَ البُخَارِي ( 5/2247/ برقم : 5698) مِنْ حَدِيْثِ أبِيْ ذَرِّ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ : أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : (( لاَ يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلاً بِالفُسُوقِ وَلاَ يَرْمِيهِ بِالكُفْرِ إلاَّ ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَالِك )) .
وَأخْرَجَ البُخَارِيُ ( 5/2247/ برقم :5700) مِنْ حَدِيْثِ ثَابِت بن الضَحَاكْ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَم قَال : (( مَنْ لَعَنَ مُؤمِناً فَهُوَ كَقَتْلِه وَمَنْ قَذَفَ مُؤمِناً بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِه )) .
ـ قال ابنُ عَبْدِ البَّر رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى : ( المَعْنَىَ فِيهِ عندَ أهْلِ الفِقْهِ والأثر أهْلِ السُنَّةِ والجَمَاعَةِ النهيُ عن أنْ يُكَفِرَ المُسْلِمُ أخاهُ المُسلِمَ بِِذَنبٍ أو بِتأويلٍ لا يُخرِجُهُ مِنَ الإسلام عِندَ الجَمِيع ؛ فوَرَدَ النَّهْيُ عن تكفيرِ المُسْلِم في هذا الحديث وغيره ؛ بِلَفظِ الخَبَرِ دُوْنَ لفظ النهي ، وهذا مَوجُودٌ في القرآن والسُنَّة ومَعرُوفٌ في لِسَانِ العَرَبِ , وفي سَمَاعِ أشهَبَ سُئِلَ مَالِكٌ عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ قَالَ لِرَجُلٍ يَا كَافِر فقد بَاءَ بهَا أحَدُهُمَا ) قال : أرَى ذلك في الحَرُورية . فقلتُ لَهُ : أفترَاهُم بذلك كُفَاراً ؟ فقال : مَا أدري مَا هذا ! ومِثلُ قوله صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ قَالَ لأخِيهِ يَا كَافر فقد بَاءَ بِهَا أحَدُهُمَا ) و قوله صلى الله عليه وسلم : ( سبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتالُهُ كُفرٌ ) وقوله صلى الله عليه وسلم : ( لاَ تَرْجِعُوا بَعدِي كُفَاراً يَضرِبُ بَعضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ ) وقوله : ( لا تَرْغبُوا عَنْ آبائِكُم فإنهُ كُفْرٌ بِِكُم أن تَرْغَبُوا عَنْ آبائِكُمْ ) ومِثلُ هذا كَثيرٌ مِنَ الآثار التي وَرَدَتْ بِلفظ التغلِيظ ، وَلَيْسَتْ عَلَى ظاهِرِهَا عِنْدَ أهْلِ الحَق والعِلْمِ لأُصُولٍ تَدْفَعُهَا أقوىَ مِنْهَا ؛ مِنَ الِكتَابِ ، والسُنَّةِ المُجْتمَعْ عَلَيْهَا ، والآثار الثابِتَةِ أيضاً مِنْ جِهَةِ الإسناد ) إهـ ( التمهيد 17/14-15).
ـ وقال الحَافِظُ النووي رحمهُ اللهُ تعالى : ( هذا الحديث مِمَّا عَدَّهُ بَعضُ العُلماءِ مِنَ المُشْكِلاَتِ ؛ من حيثُ إنَّ ظاهِرَهُ غيرُ مُرَاد ، وذلك أنَّ مَذهَبَ أهلِ الحَق ؛ أنَّهُ لا يُكَفَرُ المُسْلِمُ بالمعاصي كالقتل والزنا ، وكذا قوله لأخيه : كافر ؛ مِنْ غيرِ اعتقادِ بُطلانِ دين الإسلام .
وإذا عُرِفَ مَا ذكرنَاهُ ؛ فقيلَ في تأويل الحديث ؛ أوجُهٌ :
ـ الوجه الأول : أنَّهُ مَحمُولٌ على المُستحِلِّ لذلك ، وهذا يَكفُرُ ؛ فَعَلَى هذا معنى ( بَاءَ بها ) أي : بكلمة الكُفر ، وكذا ( حَار عليه ) ، وهو معنى رَجَعَتْ عليه ؛ أيْ رَجَعَ عَلَيْهِ الكُفرُ ؛ فبَاءَ وَحَارَ وَرَجَعَ ؛ بِمَعنَى واحِدٍ .
ـ الوجه الثاني : مَعناهُ رَجَعتْ عَلَيْهِ نَقِيْصَتُهُ لأخِيهِ ، ومَعْصِيَةُ تكفيره .
ـ الوجه الثالث : أنَّهُ مَحْمُولٌ على الخوارج المُكَفِرِيْنَ للمُؤمِنِيْن ، وهذا الوَّجْهُ نقلَهُ عياض عن الإمام مالك بن أنس ، وهو ضعيف ؛ لأن المَذْهَبَ الصَحِيْحَ المُختار الذي قالَهُ الأكثرون والمُحققون ؛ أن الخوارج لا يُكَفَرُونَ كَسَائِرِ أهْلِ البِّدَعِ .
ـ الوجه الرابع : مَعناهُ أن ذلك يَؤولُ به إلى الكُفر ، وذلك أن المَعاصِي كما قالوا : بَريدُ الكُفر , ويُخَافُ على المُكثِرِ مِنهَا أن يَكُونَ عاقبة شؤمِها ؛ المَصِيْر إلى الكُفر ، ويُؤيِدُ هذا الوَّجْه ما جاء في رِوايةٍ لأبي عوانة الإسفرايني في كتابه المُخَرَّجَ على صحيح مسلم : ( فإن كان كَمَا قال ، وإلا فقد بَاءَ بالكفر ) وفي رواية : ( إذا قال لأخيه يا كافر وَجَبَ الكُفر على أحَدِهِمَا ) .
ـ الوجه الخامس : مَعناهُ : فقد رَجَع عليه تكفيره ؛ فليسَ الرَّاجِعُ ؛ حقيقة الكُفْرِ ؛ بَلْ التكفير ؛ لِكونِهِ جعل أخاهُ المؤمن كافراً ؛ فكأنه كَفَّرَ نَفسَهُ ؛ إمَّا لأنهُ كَفَّرَ مَنْ هو مِثلهُ ، وإمَّا لأنهُ كَفَّرَ مَنْ لا يُكَفِّرُهُ إلاَّ كَافِرٌ يَعتقدُ بُطلانَ دِينِ الإسلام ) إهـ (المنهاج 2/49-50) .
ـ وَتَعَقَبَهُ الحَافِظُ ابن حَجَرٍ رَحِمهُ اللهُ تعالى : في شرحه على البخاري (10/446-447) ؛ فقال : ( قال النووي : إختُلِفَ في تأويلِ هذا الرُجُوع ؛ فقيل : رَجَعَ عليه الكُفْرُ إن كان مُسْتَحِلاًًّ . وهذا بعيدٌ مِنْ سِيَاقِ الخبر. وقيل : مَحْمُولٌ على الخوارج لأنهم يُكَفِرُونَ المؤمنين ؛ هكذا نَقلهُ عياض عن مالك ، وهو ضعيف ؛ لأن الصَّحِيْحَ عند الأكثرين ؛ أن الخوارج لا يُكَفَرُونَ بِبِدْعَتِهِمْ . قُلْتُ : ولِمَا قاله مالك وَجْهٌ ، وهو أنَّ مِنْهُمْ من يُكَفِرُ كثيراً من الصحابة مِمَّنْ شَهِدَ لَهُ رُسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالجنة وبالإيمان ؛ فيكونُ تكفيرهُمْ من حيث تكذيبهم للشهادة المذكورة ؛ لاَ مِنْ مُجَرَّدِ صُدُورِ التكفير منهم بتأويل .. والتحقيق : أن الحديث سِيقَ لِزَجْرِ المُسْلِمِ عَنْ أَنْ يَقُولَ ذلك لأخيه المُسلِمَ ، وذلك قَبْلَ وُجُودِ فِرْقَةِ الخوارج ، وغيرهم . وقيل : معناهُ رَجَعَتْ عليه نَقِيْصَتُهُ لأخيه ، ومعصية تكفيره. وهذا لا بأس به . وقيل : يُخْشَى عليه أن يَؤولَ به ذلك إلى الكُفر؛ كَمَا قيل : المعاصي بريد الكفر. فَيُخَافُ على من أدَامَهَا وأصَرَّ عليها ؛ سُوءُ الخاتمة. وأرْجَحُ من الجَمِيْعِ : أنَّ مَنْ قال ذلك لِمَنْ يُعْرَفُ مِنْهُ الإسلام ، ولَمْ يَقُمْ لَهُ شُبْهَةٌ في زَعْمِهِ أنه كافر ؛ فإنه يَكْفُرُ بذلك ؛ .. فمعنى الحديث : فقد رَجَعَ عليه تكفيرُهُ ؛ فالراجِعُ : التكفير ؛ لا الكُفر ؛ فكأنه كَفَّرَ نفسَهُ لِكَوْنِهِ كَفَّرَ مَنْ ُهَو مِثْلُهُ ، وَمَنْ لا يُكَفِرُهُ إلاَّ كَافِرٌ يَعتقدُ بُطلانَ دِينِ الإسلام ، ويُؤيدهُ أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ ( وَجَبَ الكُفْرُ عَلَى أحَدِهِمَا ). وقال القرطبي : (.. والحَاصِلُ : أن المقولَ لَهُ ؛ إنْ كان كافراً كُفراً شرعياً ؛ فقد صَدَقَ القائلُ ، وذهب بِهَا المقولَ لَهُ ، وإن لَمْ يَكُنْ ؛ رَجَعَتْ للقائلِ مَعَرَّةُ ذلك القول وإثمه. كذا اقتصَرَ على هذا التأويل في (رَجَعَ) وهو من أعدل الأجوبة. وقد أخرج أبو داود عن أبي الدرداء بسندٍ جَيِدٍ رَفَعَهُ : ( إن العبد إذا لَعَنَ شيئاً صَعَدَتْ اللعنة إلى السَّمَاءِ فّتُغْلَقُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ دُوْنَهَا ثم تَهْبِطُ إلى الأرض فتأخذ يَمْنَةً وَيَسْرَةً فإن لم تَجِدْ مَسَاغاً رَجَعَتْ إلى الذي لَعَنَ فإن كان أهلاً وإلا رَجَعَتْ إلى قائِلِهَا ) وَلَهُ شاهدٌ عند أحمد من حديث ابن مسعود بسند حسن ، وآخر عند أبي داود والترمذي عن ابن عباس ، ورواته ثقات ، ولكنه أُعِلَّ بالإرسال ) إهـ
ـ وقال شيخُ الإسلام إبن تيمية رحمه اللهُ تعالى : ( وكذلك قوله : ( من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما ) ؛ فقد سَمَّاهُ أخاهُ حِيْنَ القول ؛ وقد أخبرَ أن أحدهما بَاءَ بِهَا ؛ فَلَوْ خَرَجَ أحَدُهُمَا عن الإسلام بالكلية ؛ لم يكن أخاه ) إهـ (مجموع الفتاوى 7/355).
ـ وقال : ( والخوارجُ كَانُوا مِنْ أظهَرِِ الناسِ بِدْعَةً وقِتَالاً للأمة وتكفيراً لها ، ولم يكن في الصحابة من يُكَفِرُهُمْ ؛ لا علي بن أبي طالب ، ولا غيره ) إهـ (مجموع الفتاوى 7/217).
ـ وقال : ( وَهُمْ أَوَّلَ مَنْ كَفَّرَ أهْلَ القِبْلَةِ بِالذُنُوبِ ؛ بَلْ بِمَا يرونهُ هُمْ مِنَ الذُنُوبِ ، وَاسْتَحَلُوا دِمَاءَ أهل القبلة بذلك ؛ فكانوا كَمَا نَعَتَهُمْ النبي صلى الله عليه وسلم : ( يَقتُلُونَ أهْلَ الإسلام وَيَدعُونَ أهْلَ الأوثان )، وَكَفَّرُوا علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان ومن وَالآهُمَا ، وقتلُوا علي بن أبي طالب مُسْتَحِلِيْنَ لِقتلهِ ، قتلَهُ عبدُ الرَّحمن بن مُلجم المُرَادِي مِنهُم ، وكان هو وغيرُهُ من الخوارج مُجتهدين في العبادة ؛ لكن كانوا جُهَّالاً فارقوا السُنَّةَ والجَمَاعَة ) إهـ (مجموع الفتاوى 7/481-482).
ـ يقُولُ العَلاَّمَةُ الشَوْكَانِي رحمه الله تعالى : ( والأدلة الدَّالَّةِ على وُجُوبِ صِيَانَةِ عِرْضِ المُسْلِمِ واحْتِرامِهِ يَدُلُ بِفَحْوى الخِطَابِ عَلى تَجنُّبِ القَدْحِ في دِينه بأيِّ قادِحٍ فكيف إخْرَاجُهُ عَنْ الِملَّةِ الإسْلامية إلى الِملَّةِ الكُفْرِيَة فإنَّ هَذِهِ جنايةٌ لاَ تَعْدِلهُاَ جِناية وجُرْأَةٌ لا تُمَاثِلُهَا جُرْأَة وأين هذا المُجْتَرِىء عَلى تكْفِيرِ أخِيهِ مِنْ قولِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم : ( المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ لا يَظلِمُهُ ولا يسْلِمُهُ ) رواه ( البخاري :2/862 رقم : 2310) و ( مسلم :4/1996 رقم :2580 ) ، ومِنْ قولِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم : ( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ) رواه (البخاري : 1/27 رقم : 48 ) و ( مسلم : 1/81 رقم : 61) ، ومِنْ قولِ رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ دِمَاءَكُمْ وأمْوَالَكُمْ وأَعْرَاضَكُمْ علَيكُمْ حَرَام ) رواه ( البخاري : 1/ 37 رقم :67) ومسلم : 3/ 1305 رقم :1679 ) ، وكَمْ يَعُدُّ العَادُّ مِنَ الأحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ والآيَاتِ القُرآنية والهِدَايةُ بِيَدِ الله عز وجل ) ( مُختصرٌ مِنَ السيلُ الجرَّار : 4/585 ).
ـ قال أبُو حَامِد الغزالي رحِمَهُ اللهُ تعالى : ( والذي ينبغي الاحترازُ مِنْهُ : ـ التكفيرـ ، مَا وَجَدَ إليه سبيلاً ، فإنَّ استباحَةَ الدِّمَاءِ والأموال مِنَ المُصَلِيْنَ إلى القبلة ، المُصَرِّحِيْنَ بقولِ لا إله إلا الله مُحَمَّدٌ رسول الله خَطَأٌ ، والخطأ في تَرْكِ ألْفِ كَافِرٍ في الحياة أَهْوَنُ من الخطأ في سَفكِ دَمٍٍ لِمُسْلِمٍ ) .
ـ وقال ابن أبي العز الحَنَفِي رحِمَهُ اللهُ تَعالى : ( واعلم رحمك الله وإيانا أنَّ بابَ التكفير وعَدَمُ التكفير ، بَابٌ عَظُمَتْ الفتنة والمِحْنَةُ فيه ، وكَثُرَ فيه الافتراق ، وَتَشَتَّتَ فِيْهِ الأهواء والآراء ، وتَعَارَضَتْ فيه دَلاَئِلُهُمْ ، فالنَّاسُ فيه في جِنْسِ تكفيرِ أَهِلِ المَقالاتِ والعقائدِ الفاسدة المُخالفة للحَق الذي بَعَثَ الله به رَسُولَهُ في نفس الأمر ، أو المخالفة لذلك في اعتقادِهِمْ على طرفين وَوَسَط ، مِنْ جِنسِ الاختلاف في تكفير أهلِ الكبائر العَمَلية .
ثم قال : إنَّه لََمِنْ أعظمِ البَّغْيِ أنْ يُشْهَدَ على مُعَيَّنٍ أنَّ الله لا يَغفرُ لَهُ ولا يَرحمُهُ ، بَلْ يُخلِّدُهُ في النار ، فإنَّ هذا حُكْمُ الكَافِرِ بَعدَ المَوت ) .
ـ وقال ابنُ عبد البَّر رَحِمهُ اللهُ تعالى : ( القرآن والسُّنَّة ينهيانِ عن تفسيق المُسْلِمِ وتكفيره بِبيانٍ لا إشكالَ فيه ، ومن جهة النظر الصحيح الذي لا مَدْفَعَ لَهُ ، أنَّ كُلَّ مَنْ ثبتَ لَهُ عقدُ الإسلام في وقتٍ بإجماعِ من المُسلمين ، ثم أذنب ذنبًا ، أو تَأوَّلَ تأويلاً ، فاختلفوا بَعْدُ في خُرُوجِهِ من الإسلام ، لَمْ يكن لاختلافهم بَعْدَ إجْمَاعِهِمْ مَعْنًى يُوجِبُ حُجَّة ، ولا يَخرُجُ من الإسلام المتفق عليه إلا باتفاق آخَرَ ، أو سُنَّةٍ ثابتةٍ لا مُعَارِضَ لَهَا ، وقد اتفق أهلُ السُنة والجماعة وهُمْ أهلُ الفقه والأثر على أن أحدًا لا يُخْرِجُهُ ذنبُهُ وإنْ عَظُمَ من الإسلام ، وخالفهُمْ أهلُ البدع ، فالواجِبُ في النظر أنْ لا يُكَفَّرَ إلا من اتفق الجميعُ على تكفيره ، أو قامَ على تكفيره دليلٌ لا مَدْفَعَ لَهُ من كتاب أو سنة ) . إهـ
ـ وقال القرطبي رحمه اللهُ تعالى : ( وبابُ التكفير بابٌ خطيرٌ ، أقدَمَ عليه كثيرٌ من الناس فَسَقَطُوا ، وتوقف فيه الفُحُولُ فَسَلِمُوا ، ولا نَعدلُ بالسَّلامَةِ شيئًا ) .
ـ وقال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى : ( وَلَيْسَ لأحَدٍ أنْ يُكَفِّر أحدًا من المُسلمين وإنْ أخطأ وغلط حتى تُقَامَ عليهِ الحُجَّةُ ، وتُبَيَّن له المَحَجَّةُ ، وَمَنْ ثبتَ إسلامهُ بيقين ، لَمْ يَزُلْ ذلك عَنْهُ بالشك ، بَلْ لا يزولُ إلاَّ بَعْدَ إقامَةِ الحُجَّةِ ، وإزالَةِ الشبهة... وإذا تبين ذلك ، فاعلم أنَّ (مَسَائِلَ التكفير والتفسيق) هي مِنْ مَسَائِلِ الأسْمَاِء والأحكام التي يتعلَّقُ بِهَا الوَّعْدُ وَالوَّعِيْدُ في الدَّارِ الآخرة ، وتتعلق بِهَا المُوَالاة والمُعَادَاةُ والقتل والعِصْمَة وغير ذلك في الدَّارِ الدُّنْيَا ) إهـ
ـ وقال الشيخ عبدُ اللهِ بنُ مُحمد بنُ عَبْدِ الوهَاب رَحِمَهُ الله تعالى : ( وَبِالجُمْلًة فيجبُ على من نَصَحَ نفسه أن لا يتكلم في هذه المسألة إلا بِعِلْمٍ وبُرهان من الله ، ولْيَحْذَرْ من إخراج رَجُلٍ من الإسلام بِمُجَرَّدِ فَهْمِهِ واستحْسَانِ عَقْلِهِ ، فإنَّ إخراجَ رَجُلٍ من الإسلام أو إدخاله من أعظم أمور الدِّين ، وقد اسْتَزَلََّ الشيطانُ أكثرَ الناس في هذه المسألة ) .

ـ أيُها الأَكَارِمْ : لَعَلِّي فِيمَا اقْتَصَرْتُ عَليْهِ مِنْ نُصُوصٍ حَدِيثِية وتَحْقِيقَاتٍ عِلْمِيَةٍ سَلَفِية , مَا يُشْفَِى بِِهِ العَلِيْل وَ يُرْوَى بِهِ الغَلِيلْ مِنْ هَذا الدَّاءِ العُضَالِ الخَطِيرْ , الذي انْتَشَرَ بَينَ المُسْلِمِينَ انْتِشَارَ النَّارِ في الهَشِيْم , بِسَبَبِ الغُلُوِّ وَ الجَهْلِ المُرَكَبِ بِالشَّرْعِ و الدِّيْنْ , فَنَسْألُ اللهَ عَز وجَل أنْ يَعْصِمَنَا مِنْ شَرِّ فِتْنَتِه , وَأَنْ يَقِيَنَا والمُسْلِمِينَ جَمِيعاً شَرِّ الفِتَنِ كُلِّهَا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ومَا بَطَن , وصَلَّى اللهُُُ وسَلَّمَ وبَارَكَ عَلَى النَبِيِّ الرَّسُولْ , وعلى آلِهِ وأصْحَابِهِ الثِقَاتِ العُُدُولْ , ومَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ إلى يَومِ الُّجُوعِ وَ المُثُولْ .
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 03-29-2015, 02:32 PM
محمد مداح الجزائري محمد مداح الجزائري غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: May 2012
المشاركات: 1,028
افتراضي

[ التَحْذِيرُ والتَنْفِيرْ مِنْ شَرِّ غَوَائِلِ فِتْنَةِ التَكْفِيرْ ]


ـ إنَّ الحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ ، و نَسْتَعِينُهُ ، ونَسْتَغْفِرُهُ ، ونَعوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ، وَمِنْ سَيِئاتِ أَعْمَالِنَا
مَنْ يَهْدِهِ اللهِ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ ، ومَنْ يُضلِلْ فلا هَادِي لَهُ ، وأَشْهَدُ أن لا إله إلا الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ , وأشهدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ . ثُمَّ أمَّا بَعد :
ـ إنَّ مِن أعظَمِ المَسَائِلِ خَطَراً وأشَدِّهَا على الأُمَّةِ ضَرَراً مَسْألَةُ التكْفِير , هَذِهِ المَسألةُ الخَطِيرَة التي جَرَّدَهَا فِئَامٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّة مِنْ ضَوابِطِهَا وقُيُودِهَا الثِقَالْ , فَأطْلَقُوا الأَحْكَامَ جُزَافاً عَلى أعْيانِ المُسْلِمِينْ , دُونَ النَّظَرِ إلى مَا إذَا كَانَتْ الشُّرُوطُ فِيهِ مُتَوَفِرة , والمَوَانِعُ مُنْتَفِيَةً عَنْهُ غَيْرُ حَاضِرة , ودُونَ الرّجُوع إلى أهْلِ الرُّسُوخِ والاسْتِنْبَاطْ عُلَمَاءُ السُّنَّةِ الذِينَ هُمْ فَقَطْ دُونَ غَيْرِهِمْ مَنْ يَحِقُّ لَهُم الخَوضُ في مِثْلِ هَذِهِ المَسَائِلِ العَظِيْمَة , وهُمْ أعْلَمُ الأُمَّةِ بِفِقْهِ المَصَالِحِ والمَفَاسِد , ورَبْطِهِمَا بِوَاقِعِ الأُمَّةِ فِي الحَالِ والمَآلْ , أمَّا لَو تُرِكَ هَذَا الأمرَ يَخُوضُ فِيْ غِمَارِهِ كُلَّ مَنْ هَبَّ ودَبْ , لَحَلَّ الفَسَادُ العَرِيضُ بِالأُمَّةِ و لَتََوَالَتْ عَلَيْهَا المَصَائِبُ وَ النَّكَبَاتْ و الفِتَنُ المُهْلِكَاتْ تَعْصِفُ بِهَا وتَصْرِفُهَا إلى مُسْتَنْقَعٍ مِنَ الضُّلْمَةِ القَاتِمَة والفَوضَى العَارِمَة , حَيْثُ يَغِيْبُ الأَمْنُ , وتُسْتَبَاحُ الدِّمَاءُ المَعْصُومة , وتُنْتَهَكُ الأَعْرَاضُ المَصُونَة , إلى غَيْرِ ذَالِكَ مِمَّا لا يَخْفَى مِنْ حَالِ أُمَّةٍ يَعُجُّ وَاقِعُهَا بِالفِتَنِ المُدْلَهِمَّة والخُطُوبِ الجَسِيْمَةِ العَظِيمَةِ , بَلْ إنَّ الأَمْرَ تَفَاقَمَ واشْتَدَّ , وظَهَرَ فِي الأُمَّةِ مَنْ يُكَفِّرُهَا ويُصْدِرُ الأحْكَامَ بِرِدَّتِهَا , وَ زَادُوا الأَمْرُ سُوأً وَخَطراً حِيْنَ نَصَّبُوا الجَّمَاعَاتْ , وأَعْلَنُوا الثَوْرَاتْ , وَعَقَدُوا لِذَالِكَ الأَلْوِيَةَ والرَايَاتْ , وَتَفَنَّنُوا فِيْ قَتْلِ خَلْقِ اللهِ بِأَبْشَعِ الطُّرُقِ وَشَتَّى أَنْوَاعِ الجَرَائِمِ والمُهْلْكَاتْ , وَكُلُّ هَذَا وَذَاكْ مِنَ الإِفْسَادِ فِيْ الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا , وَ رَبُنَا عَزَّ وَ جَلَّ يَقُول : { وَلاَ تُفْسِدُوا فِيْ الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفَا وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيْبٌ مِنَ المُحْسِنِيْن } ( الآية : 56/ الأعْرَاف ) , وَقَال : { وَلاَ تُفْسِدُوا فِيْ الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَالِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِيْنْ } ( الآية : 85/ الأَعراف ) , وَقَال : { ... وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيَهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادْ ... } ( جُزء مِن آية : 204/206/ البقرة ) , وَقَال : { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ( الآية : 33/ المائدة ).
ـ ثُمَّ اعْلَمُوا وَفَقَنِي اللهُ وَإياكُمْ إلى الحَّقِّ والهُدى , أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِيْ صَحِيْحِ الخَبَرِ السُنَّة , التَحْذِيْرُ الشَّدِيْدُ والتَهْدِيْدُ القَطْعِيُ الأَكِيْدْ فِي حَقِّ مَنْ أَطْلَقَ اللِّسَانْ بِتَكْفِيْرِ الأَعْيَانْ مِنْ أَهْلِ الإيْمَانْ , مِنْ ذَالِكَ مَا أَخْرَجَهُ الإمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ (1/79/ رقم : 60) مِن حَديث بن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنهُمَا أنَّ النَّبِي صَلَى الله عَلَيهِ وسَلم قَال : (( إذَا كَفَّرَ الرَّجُلُ أَخَاهُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا )) وفي روايَةٍ لِمُسلِمٍ أيْضَاً (1/79/ رقم : 60 ) (( أيُمَا امرِئٍ قَالَ لأَخِيهِ يَا كَافِر فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا إِنْ كَانَ كَمَا قَال وإلاَّ رَجَعََتْ عَلَيه )) .

وجَاءَ عِنْدَ البُخَارِي ( 5/2247/ برقم : 5698) مِنْ حَدِيْثِ أبِيْ ذَرِّ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ : أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : (( لاَ يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلاً بِالفُسُوقِ وَلاَ يَرْمِيهِ بِالكُفْرِ إلاَّ ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَالِك )) .
وَأخْرَجَ البُخَارِيُ ( 5/2247/ برقم :5700) مِنْ حَدِيْثِ ثَابِت بن الضَحَاكْ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَم قَال : (( مَنْ لَعَنَ مُؤمِناً فَهُوَ كَقَتْلِه وَمَنْ قَذَفَ مُؤمِناً بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِه )) .
ـ قال ابنُ عَبْدِ البَّر رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى : ( المَعْنَىَ فِيهِ عندَ أهْلِ الفِقْهِ والأثر أهْلِ السُنَّةِ والجَمَاعَةِ النهيُ عن أنْ يُكَفِرَ المُسْلِمُ أخاهُ المُسلِمَ بِِذَنبٍ أو بِتأويلٍ لا يُخرِجُهُ مِنَ الإسلام عِندَ الجَمِيع ؛ فوَرَدَ النَّهْيُ عن تكفيرِ المُسْلِم في هذا الحديث وغيره ؛ بِلَفظِ الخَبَرِ دُوْنَ لفظ النهي ، وهذا مَوجُودٌ في القرآن والسُنَّة ومَعرُوفٌ في لِسَانِ العَرَبِ , وفي سَمَاعِ أشهَبَ سُئِلَ مَالِكٌ عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ قَالَ لِرَجُلٍ يَا كَافِر فقد بَاءَ بهَا أحَدُهُمَا ) قال : أرَى ذلك في الحَرُورية . فقلتُ لَهُ : أفترَاهُم بذلك كُفَاراً ؟ فقال : مَا أدري مَا هذا ! ومِثلُ قوله صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ قَالَ لأخِيهِ يَا كَافر فقد بَاءَ بِهَا أحَدُهُمَا ) و قوله صلى الله عليه وسلم : ( سبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتالُهُ كُفرٌ ) وقوله صلى الله عليه وسلم : ( لاَ تَرْجِعُوا بَعدِي كُفَاراً يَضرِبُ بَعضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ ) وقوله : ( لا تَرْغبُوا عَنْ آبائِكُم فإنهُ كُفْرٌ بِكُم أن تَرْغَبُوا عَنْ آبائِكُمْ ) ومِثلُ هذا كَثيرٌ مِنَ الآثار التي وَرَدَتْ بِلفظ التغلِيظ ، وَلَيْسَتْ عَلَى ظاهِرِهَا عِنْدَ أهْلِ الحَق والعِلْمِ لأُصُولٍ تَدْفَعُهَا أقوىَ مِنْهَا ؛ مِنَ الِكتَابِ ، والسُنَّةِ المُجْتمَعْ عَلَيْهَا ، والآثار الثابِتَةِ أيضاً مِنْ جِهَةِ الإسناد ) إهـ ( التمهيد 17/14-15).
ـ وقال الحَافِظُ النووي رحمهُ اللهُ تعالى : ( هذا الحديث مِمَّا عَدَّهُ بَعضُ العُلماءِ مِنَ المُشْكِلاَتِ ؛ من حيثُ إنَّ ظاهِرَهُ غيرُ مُرَاد ، وذلك أنَّ مَذهَبَ أهلِ الحَق ؛ أنَّهُ لا يُكَفَرُ المُسْلِمُ بالمعاصي كالقتل والزنا ، وكذا قوله لأخيه : كافر ؛ مِنْ غيرِ اعتقادِ بُطلانِ دين الإسلام .
وإذا عُرِفَ مَا ذكرنَاهُ ؛ فقيلَ في تأويل الحديث ؛ أوجُهٌ :
ـ الوجه الأول : أنَّهُ مَحمُولٌ على المُستحِلِّ لذلك ، وهذا يَكفُرُ ؛ فَعَلَى هذا معنى ( بَاءَ بها ) أي : بكلمة الكُفر ، وكذا ( حَار عليه ) ، وهو معنى رَجَعَتْ عليه ؛ أيْ رَجَعَ عَلَيْهِ الكُفرُ ؛ فبَاءَ وَحَارَ وَرَجَعَ ؛ بِمَعنَى واحِدٍ .
ـ الوجه الثاني : مَعناهُ رَجَعتْ عَلَيْهِ نَقِيْصَتُهُ لأخِيهِ ، ومَعْصِيَةُ تكفيره .
ـ الوجه الثالث : أنَّهُ مَحْمُولٌ على الخوارج المُكَفِرِيْنَ للمُؤمِنِيْن ، وهذا الوَّجْهُ نقلَهُ عياض عن الإمام مالك بن أنس ، وهو ضعيف ؛ لأن المَذْهَبَ الصَحِيْحَ المُختار الذي قالَهُ الأكثرون والمُحققون ؛ أن الخوارج لا يُكَفَرُونَ كَسَائِرِ أهْلِ البِّدَعِ .
ـ الوجه الرابع : مَعناهُ أن ذلك يَؤولُ به إلى الكُفر ، وذلك أن المَعاصِي كما قالوا : بَريدُ الكُفر , ويُخَافُ على المُكثِرِ مِنهَا أن يَكُونَ عاقبة شؤمِها ؛ المَصِيْر إلى الكُفر ، ويُؤيِدُ هذا الوَّجْه ما جاء في رِوايةٍ لأبي عوانة الإسفرايني في كتابه المُخَرَّجَ على صحيح مسلم : ( فإن كان كَمَا قال ، وإلا فقد بَاءَ بالكفر ) وفي رواية : ( إذا قال لأخيه يا كافر وَجَبَ الكُفر على أحَدِهِمَا ) .
ـ الوجه الخامس : مَعناهُ : فقد رَجَع عليه تكفيره ؛ فليسَ الرَّاجِعُ ؛ حقيقة الكُفْرِ ؛ بَلْ التكفير ؛ لِكونِهِ جعل أخاهُ المؤمن كافراً ؛ فكأنه كَفَّرَ نَفسَهُ ؛ إمَّا لأنهُ كَفَّرَ مَنْ هو مِثلهُ ، وإمَّا لأنهُ كَفَّرَ مَنْ لا يُكَفِّرُهُ إلاَّ كَافِرٌ يَعتقدُ بُطلانَ دِينِ الإسلام ) إهـ (المنهاج 2/49-50) .
ـ وَتَعَقَبَهُ الحَافِظُ ابن حَجَرٍ رَحِمهُ اللهُ تعالى : في شرحه على البخاري (10/446-447) ؛ فقال : ( قال النووي : إختُلِفَ في تأويلِ هذا الرُجُوع ؛ فقيل : رَجَعَ عليه الكُفْرُ إن كان مُسْتَحِلاًًّ . وهذا بعيدٌ مِنْ سِيَاقِ الخبر. وقيل : مَحْمُولٌ على الخوارج لأنهم يُكَفِرُونَ المؤمنين ؛ هكذا نَقلهُ عياض عن مالك ، وهو ضعيف ؛ لأن الصَّحِيْحَ عند الأكثرين ؛ أن الخوارج لا يُكَفَرُونَ بِبِدْعَتِهِمْ . قُلْتُ : ولِمَا قاله مالك وَجْهٌ ، وهو أنَّ مِنْهُمْ من يُكَفِرُ كثيراً من الصحابة مِمَّنْ شَهِدَ لَهُ رُسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالجنة وبالإيمان ؛ فيكونُ تكفيرهُمْ من حيث تكذيبهم للشهادة المذكورة ؛ لاَ مِنْ مُجَرَّدِ صُدُورِ التكفير منهم بتأويل .. والتحقيق : أن الحديث سِيقَ لِزَجْرِ المُسْلِمِ عَنْ أَنْ يَقُولَ ذلك لأخيه المُسلِمَ ، وذلك قَبْلَ وُجُودِ فِرْقَةِ الخوارج ، وغيرهم . وقيل : معناهُ رَجَعَتْ عليه نَقِيْصَتُهُ لأخيه ، ومعصية تكفيره. وهذا لا بأس به . وقيل : يُخْشَى عليه أن يَؤولَ به ذلك إلى الكُفر؛ كَمَا قيل : المعاصي بريد الكفر. فَيُخَافُ على من أدَامَهَا وأصَرَّ عليها ؛ سُوءُ الخاتمة. وأرْجَحُ من الجَمِيْعِ : أنَّ مَنْ قال ذلك لِمَنْ يُعْرَفُ مِنْهُ الإسلام ، ولَمْ يَقُمْ لَهُ شُبْهَةٌ في زَعْمِهِ أنه كافر ؛ فإنه يَكْفُرُ بذلك ؛ .. فمعنى الحديث : فقد رَجَعَ عليه تكفيرُهُ ؛ فالراجِعُ : التكفير ؛ لا الكُفر ؛ فكأنه كَفَّرَ نفسَهُ لِكَوْنِهِ كَفَّرَ مَنْ ُهَو مِثْلُهُ ، وَمَنْ لا يُكَفِرُهُ إلاَّ كَافِرٌ يَعتقدُ بُطلانَ دِينِ الإسلام ، ويُؤيدهُ أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ ( وَجَبَ الكُفْرُ عَلَى أحَدِهِمَا ). وقال القرطبي : (.. والحَاصِلُ : أن المقولَ لَهُ ؛ إنْ كان كافراً كُفراً شرعياً ؛ فقد صَدَقَ القائلُ ، وذهب بِهَا المقولَ لَهُ ، وإن لَمْ يَكُنْ ؛ رَجَعَتْ للقائلِ مَعَرَّةُ ذلك القول وإثمه. كذا اقتصَرَ على هذا التأويل في (رَجَعَ) وهو من أعدل الأجوبة. وقد أخرج أبو داود عن أبي الدرداء بسندٍ جَيِدٍ رَفَعَهُ : ( إن العبد إذا لَعَنَ شيئاً صَعَدَتْ اللعنة إلى السَّمَاءِ فّتُغْلَقُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ دُوْنَهَا ثم تَهْبِطُ إلى الأرض فتأخذ يَمْنَةً وَيَسْرَةً فإن لم تَجِدْ مَسَاغاً رَجَعَتْ إلى الذي لَعَنَ فإن كان أهلاً وإلا رَجَعَتْ إلى قائِلِهَا ) وَلَهُ شاهدٌ عند أحمد من حديث ابن مسعود بسند حسن ، وآخر عند أبي داود والترمذي عن ابن عباس ، ورواته ثقات ، ولكنه أُعِلَّ بالإرسال ) إهـ
ـ وقال شيخُ الإسلام إبن تيمية رحمه اللهُ تعالى : ( وكذلك قوله : ( من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما ) ؛ فقد سَمَّاهُ أخاهُ حِيْنَ القول ؛ وقد أخبرَ أن أحدهما بَاءَ بِهَا ؛ فَلَوْ خَرَجَ أحَدُهُمَا عن الإسلام بالكلية ؛ لم يكن أخاه ) إهـ (مجموع الفتاوى 7/355).
ـ وقال : ( والخوارجُ كَانُوا مِنْ أظهَرِِ الناسِ بِدْعَةً وقِتَالاً للأمة وتكفيراً لها ، ولم يكن في الصحابة من يُكَفِرُهُمْ ؛ لا علي بن أبي طالب ، ولا غيره ) إهـ (مجموع الفتاوى 7/217).
ـ وقال : ( وَهُمْ أَوَّلَ مَنْ كَفَّرَ أهْلَ القِبْلَةِ بِالذُنُوبِ ؛ بَلْ بِمَا يرونهُ هُمْ مِنَ الذُنُوبِ ، وَاسْتَحَلُوا دِمَاءَ أهل القبلة بذلك ؛ فكانوا كَمَا نَعَتَهُمْ النبي صلى الله عليه وسلم : ( يَقتُلُونَ أهْلَ الإسلام وَيَدعُونَ أهْلَ الأوثان )، وَكَفَّرُوا علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان ومن وَالآهُمَا ، وقتلُوا علي بن أبي طالب مُسْتَحِلِيْنَ لِقتلهِ ، قتلَهُ عبدُ الرَّحمن بن مُلجم المُرَادِي مِنهُم ، وكان هو وغيرُهُ من الخوارج مُجتهدين في العبادة ؛ لكن كانوا جُهَّالاً فارقوا السُنَّةَ والجَمَاعَة ) إهـ (مجموع الفتاوى 7/481-482).
ـ يقُولُ العَلاَّمَةُ الشَوْكَانِي رحمه الله تعالى : ( والأدلة الدَّالَّةِ على وُجُوبِ صِيَانَةِ عِرْضِ المُسْلِمِ واحْتِرامِهِ يَدُلُ بِفَحْوى الخِطَابِ عَلى تَجنُّبِ القَدْحِ في دِينه بأيِّ قادِحٍ فكيف إخْرَاجُهُ عَنْ الِملَّةِ الإسْلامية إلى الِملَّةِ الكُفْرِيَة فإنَّ هَذِهِ جنايةٌ لاَ تَعْدِلهُاَ جِناية وجُرْأَةٌ لا تُمَاثِلُهَا جُرْأَة وأين هذا المُجْتَرِىء عَلى تكْفِيرِ أخِيهِ مِنْ قولِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم : ( المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ لا يَظلِمُهُ ولا يسْلِمُهُ ) رواه ( البخاري :2/862 رقم : 2310) و ( مسلم :4/1996 رقم :2580 ) ، ومِنْ قولِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم : ( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ) رواه (البخاري : 1/27 رقم : 48 ) و ( مسلم : 1/81 رقم : 61) ، ومِنْ قولِ رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ دِمَاءَكُمْ وأمْوَالَكُمْ وأَعْرَاضَكُمْ علَيكُمْ حَرَام ) رواه ( البخاري : 1/ 37 رقم :67) ومسلم : 3/ 1305 رقم :1679 ) ، وكَمْ يَعُدُّ العَادُّ مِنَ الأحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ والآيَاتِ القُرآنية والهِدَايةُ بِيَدِ الله عز وجل ) ( مُختصرٌ مِنَ السيلُ الجرَّار : 4/585 ).
ـ قال أبُو حَامِد الغزالي رحِمَهُ اللهُ تعالى : ( والذي ينبغي الاحترازُ مِنْهُ : ـ التكفيرـ ، مَا وَجَدَ إليه سبيلاً ، فإنَّ استباحَةَ الدِّمَاءِ والأموال مِنَ المُصَلِيْنَ إلى القبلة ، المُصَرِّحِيْنَ بقولِ لا إله إلا الله مُحَمَّدٌ رسول الله خَطَأٌ ، والخطأ في تَرْكِ ألْفِ كَافِرٍ في الحياة أَهْوَنُ من الخطأ في سَفكِ دَمٍ لِمُسْلِمٍ ) .
ـ وقال ابن أبي العز الحَنَفِي رحِمَهُ اللهُ تَعالى : ( واعلم رحمك الله وإيانا أنَّ بابَ التكفير وعَدَمُ التكفير ، بَابٌ عَظُمَتْ الفتنة والمِحْنَةُ فيه ، وكَثُرَ فيه الافتراق ، وَتَشَتَّتَ فِيْهِ الأهواء والآراء ، وتَعَارَضَتْ فيه دَلاَئِلُهُمْ ، فالنَّاسُ فيه في جِنْسِ تكفيرِ أَهِلِ المَقالاتِ والعقائدِ الفاسدة المُخالفة للحَق الذي بَعَثَ الله به رَسُولَهُ في نفس الأمر ، أو المخالفة لذلك في اعتقادِهِمْ على طرفين وَوَسَط ، مِنْ جِنسِ الاختلاف في تكفير أهلِ الكبائر العَمَلية .
ثم قال : إنَّه لََمِنْ أعظمِ البَّغْيِ أنْ يُشْهَدَ على مُعَيَّنٍ أنَّ الله لا يَغفرُ لَهُ ولا يَرحمُهُ ، بَلْ يُخلِّدُهُ في النار ، فإنَّ هذا حُكْمُ الكَافِرِ بَعدَ المَوت ) .
ـ وقال ابنُ عبد البَّر رَحِمهُ اللهُ تعالى : ( القرآن والسُّنَّة ينهيانِ عن تفسيق المُسْلِمِ وتكفيره بِبيانٍ لا إشكالَ فيه ، ومن جهة النظر الصحيح الذي لا مَدْفَعَ لَهُ ، أنَّ كُلَّ مَنْ ثبتَ لَهُ عقدُ الإسلام في وقتٍ بإجماعِ من المُسلمين ، ثم أذنب ذنبًا ، أو تَأوَّلَ تأويلاً ، فاختلفوا بَعْدُ في خُرُوجِهِ من الإسلام ، لَمْ يكن لاختلافهم بَعْدَ إجْمَاعِهِمْ مَعْنًى يُوجِبُ حُجَّة ، ولا يَخرُجُ من الإسلام المتفق عليه إلا باتفاق آخَرَ ، أو سُنَّةٍ ثابتةٍ لا مُعَارِضَ لَهَا ، وقد اتفق أهلُ السُنة والجماعة وهُمْ أهلُ الفقه والأثر على أن أحدًا لا يُخْرِجُهُ ذنبُهُ وإنْ عَظُمَ من الإسلام ، وخالفهُمْ أهلُ البدع ، فالواجِبُ في النظر أنْ لا يُكَفَّرَ إلا من اتفق الجميعُ على تكفيره ، أو قامَ على تكفيره دليلٌ لا مَدْفَعَ لَهُ من كتاب أو سنة ) . إهـ
ـ وقال القرطبي رحمه اللهُ تعالى : ( وبابُ التكفير بابٌ خطيرٌ ، أقدَمَ عليه كثيرٌ من الناس فَسَقَطُوا ، وتوقف فيه الفُحُولُ فَسَلِمُوا ، ولا نَعدلُ بالسَّلامَةِ شيئًا ) .
ـ وقال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى : ( وَلَيْسَ لأحَدٍ أنْ يُكَفِّر أحدًا من المُسلمين وإنْ أخطأ وغلط حتى تُقَامَ عليهِ الحُجَّةُ ، وتُبَيَّن له المَحَجَّةُ ، وَمَنْ ثبتَ إسلامهُ بيقين ، لَمْ يَزُلْ ذلك عَنْهُ بالشك ، بَلْ لا يزولُ إلاَّ بَعْدَ إقامَةِ الحُجَّةِ ، وإزالَةِ الشبهة... وإذا تبين ذلك ، فاعلم أنَّ (مَسَائِلَ التكفير والتفسيق) هي مِنْ مَسَائِلِ الأسْمَاِء والأحكام التي يتعلَّقُ بِهَا الوَّعْدُ وَالوَّعِيْدُ في الدَّارِ الآخرة ، وتتعلق بِهَا المُوَالاة والمُعَادَاةُ والقتل والعِصْمَة وغير ذلك في الدَّارِ الدُّنْيَا ) إهـ
ـ وقال الشيخ عبدُ اللهِ بنُ مُحمد بنُ عَبْدِ الوهَاب رَحِمَهُ الله تعالى : ( وَبِالجُمْلًة فيجبُ على من نَصَحَ نفسه أن لا يتكلم في هذه المسألة إلا بِعِلْمٍ وبُرهان من الله ، ولْيَحْذَرْ من إخراج رَجُلٍ من الإسلام بِمُجَرَّدِ فَهْمِهِ واستحْسَانِ عَقْلِهِ ، فإنَّ إخراجَ رَجُلٍ من الإسلام أو إدخاله من أعظم أمور الدِّين ، وقد اسْتَزَلَّ الشيطانُ أكثرَ الناس في هذه المسألة ) .

ـ أيُها الأَكَارِمْ : لَعَلِّي فِيمَا اقْتَصَرْتُ عَليْهِ مِنْ نُصُوصٍ حَدِيثِية وتَحْقِيقَاتٍ عِلْمِيَةٍ سَلَفِية , مَا يُشْفَى بِهِ العَلِيْل وَ يُرْوَى بِهِ الغَلِيلْ مِنْ هَذا الدَّاءِ العُضَالِ الخَطِيرْ , الذي انْتَشَرَ بَينَ المُسْلِمِينَ انْتِشَارَ النَّارِ في الهَشِيْم , بِسَبَبِ الغُلُوِّ وَ الجَهْلِ المُرَكَبِ بِالشَّرْعِ و الدِّيْنْ , فَنَسْألُ اللهَ عَز وجَل أنْ يَعْصِمَنَا مِنْ شَرِّ فِتْنَتِه , وَأَنْ يَقِيَنَا والمُسْلِمِينَ جَمِيعاً شَرِّ الفِتَنِ كُلِّهَا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ومَا بَطَن , وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ وبَارَكَ عَلَى النَبِيِّ الرَّسُولْ , وعلى آلِهِ وأصْحَابِهِ الثِقَاتِ العُدُولْ , ومَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ إلى يَومِ الُّجُوعِ وَ المُثُولْ .
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 03-29-2015, 02:35 PM
محمد مداح الجزائري محمد مداح الجزائري غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: May 2012
المشاركات: 1,028
افتراضي

[ التَحْذِيرُ والتَنْفِيرْ مِنْ شَرِّ غَوَائِلِ فِتْنَةِ التَكْفِيرْ ]

ـ إنَّ الحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ ، و نَسْتَعِينُهُ ، ونَسْتَغْفِرُهُ ، ونَعوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ، وَمِنْ سَيِئاتِ أَعْمَالِنَا
مَنْ يَهْدِهِ اللهِ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ ، ومَنْ يُضلِلْ فلا هَادِي لَهُ ، وأَشْهَدُ أن لا إله إلا الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ , وأشهدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ . ثُمَّ أمَّا بَعد :
ـ إنَّ مِن أعظَمِ المَسَائِلِ خَطَراً وأشَدِّهَا على الأُمَّةِ ضَرَراً مَسْألَةُ التكْفِير , هَذِهِ المَسألةُ الخَطِيرَة التي جَرَّدَهَا فِئَامٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّة مِنْ ضَوابِطِهَا وقُيُودِهَا الثِقَالْ , فَأطْلَقُوا الأَحْكَامَ جُزَافاً عَلى أعْيانِ المُسْلِمِينْ , دُونَ النَّظَرِ إلى مَا إذَا كَانَتْ الشُّرُوطُ فِيهِ مُتَوَفِرة , والمَوَانِعُ مُنْتَفِيَةً عَنْهُ غَيْرُ حَاضِرة , ودُونَ الرّجُوع إلى أهْلِ الرُّسُوخِ والاسْتِنْبَاطْ عُلَمَاءُ السُّنَّةِ الذِينَ هُمْ فَقَطْ دُونَ غَيْرِهِمْ مَنْ يَحِقُّ لَهُم الخَوضُ في مِثْلِ هَذِهِ المَسَائِلِ العَظِيْمَة , وهُمْ أعْلَمُ الأُمَّةِ بِفِقْهِ المَصَالِحِ والمَفَاسِد , ورَبْطِهِمَا بِوَاقِعِ الأُمَّةِ فِي الحَالِ والمَآلْ , أمَّا لَو تُرِكَ هَذَا الأمرَ يَخُوضُ فِيْ غِمَارِهِ كُلَّ مَنْ هَبَّ ودَبْ , لَحَلَّ الفَسَادُ العَرِيضُ بِالأُمَّةِ و لَتَوَالَتْ عَلَيْهَا المَصَائِبُ وَ النَّكَبَاتْ و الفِتَنُ المُهْلِكَاتْ تَعْصِفُ بِهَا وتَصْرِفُهَا إلى مُسْتَنْقَعٍ مِنَ الضُّلْمَةِ القَاتِمَة والفَوضَى العَارِمَة , حَيْثُ يَغِيْبُ الأَمْنُ , وتُسْتَبَاحُ الدِّمَاءُ المَعْصُومة , وتُنْتَهَكُ الأَعْرَاضُ المَصُونَة , إلى غَيْرِ ذَالِكَ مِمَّا لا يَخْفَى مِنْ حَالِ أُمَّةٍ يَعُجُّ وَاقِعُهَا بِالفِتَنِ المُدْلَهِمَّة والخُطُوبِ الجَسِيْمَةِ العَظِيمَةِ , بَلْ إنَّ الأَمْرَ تَفَاقَمَ واشْتَدَّ , وظَهَرَ فِي الأُمَّةِ مَنْ يُكَفِّرُهَا ويُصْدِرُ الأحْكَامَ بِرِدَّتِهَا , وَ زَادُوا الأَمْرُ سُوأً وَخَطراً حِيْنَ نَصَّبُوا الجَّمَاعَاتْ , وأَعْلَنُوا الثَوْرَاتْ , وَعَقَدُوا لِذَالِكَ الأَلْوِيَةَ والرَايَاتْ , وَتَفَنَّنُوا فِيْ قَتْلِ خَلْقِ اللهِ بِأَبْشَعِ الطُّرُقِ وَشَتَّى أَنْوَاعِ الجَرَائِمِ والمُهْلْكَاتْ , وَكُلُّ هَذَا وَذَاكْ مِنَ الإِفْسَادِ فِيْ الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا , وَ رَبُنَا عَزَّ وَ جَلَّ يَقُول : { وَلاَ تُفْسِدُوا فِيْ الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفَا وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيْبٌ مِنَ المُحْسِنِيْن } ( الآية : 56/ الأعْرَاف ) , وَقَال : { وَلاَ تُفْسِدُوا فِيْ الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَالِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِيْنْ } ( الآية : 85/ الأَعراف ) , وَقَال : { ... وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيَهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادْ ... } ( جُزء مِن آية : 204/206/ البقرة ) , وَقَال : { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ( الآية : 33/ المائدة ).
ـ ثُمَّ اعْلَمُوا وَفَقَنِي اللهُ وَإياكُمْ إلى الحَّقِّ والهُدى , أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِيْ صَحِيْحِ الخَبَرِ السُنَّة , التَحْذِيْرُ الشَّدِيْدُ والتَهْدِيْدُ القَطْعِيُ الأَكِيْدْ فِي حَقِّ مَنْ أَطْلَقَ اللِّسَانْ بِتَكْفِيْرِ الأَعْيَانْ مِنْ أَهْلِ الإيْمَانْ , مِنْ ذَالِكَ مَا أَخْرَجَهُ الإمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ (1/79/ رقم : 60) مِن حَديث بن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنهُمَا أنَّ النَّبِي صَلَى الله عَلَيهِ وسَلم قَال : (( إذَا كَفَّرَ الرَّجُلُ أَخَاهُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا )) وفي روايَةٍ لِمُسلِمٍ أيْضَاً (1/79/ رقم : 60 ) (( أيُمَا امرِئٍ قَالَ لأَخِيهِ يَا كَافِر فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا إِنْ كَانَ كَمَا قَال وإلاَّ رَجَعََتْ عَلَيه )) .

وجَاءَ عِنْدَ البُخَارِي ( 5/2247/ برقم : 5698) مِنْ حَدِيْثِ أبِيْ ذَرِّ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ : أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : (( لاَ يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلاً بِالفُسُوقِ وَلاَ يَرْمِيهِ بِالكُفْرِ إلاَّ ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَالِك )) .
وَأخْرَجَ البُخَارِيُ ( 5/2247/ برقم :5700) مِنْ حَدِيْثِ ثَابِت بن الضَحَاكْ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَم قَال : (( مَنْ لَعَنَ مُؤمِناً فَهُوَ كَقَتْلِه وَمَنْ قَذَفَ مُؤمِناً بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِه )) .
ـ قال ابنُ عَبْدِ البَّر رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى : ( المَعْنَىَ فِيهِ عندَ أهْلِ الفِقْهِ والأثر أهْلِ السُنَّةِ والجَمَاعَةِ النهيُ عن أنْ يُكَفِرَ المُسْلِمُ أخاهُ المُسلِمَ بِِذَنبٍ أو بِتأويلٍ لا يُخرِجُهُ مِنَ الإسلام عِندَ الجَمِيع ؛ فوَرَدَ النَّهْيُ عن تكفيرِ المُسْلِم في هذا الحديث وغيره ؛ بِلَفظِ الخَبَرِ دُوْنَ لفظ النهي ، وهذا مَوجُودٌ في القرآن والسُنَّة ومَعرُوفٌ في لِسَانِ العَرَبِ , وفي سَمَاعِ أشهَبَ سُئِلَ مَالِكٌ عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ قَالَ لِرَجُلٍ يَا كَافِر فقد بَاءَ بهَا أحَدُهُمَا ) قال : أرَى ذلك في الحَرُورية . فقلتُ لَهُ : أفترَاهُم بذلك كُفَاراً ؟ فقال : مَا أدري مَا هذا ! ومِثلُ قوله صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ قَالَ لأخِيهِ يَا كَافر فقد بَاءَ بِهَا أحَدُهُمَا ) و قوله صلى الله عليه وسلم : ( سبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتالُهُ كُفرٌ ) وقوله صلى الله عليه وسلم : ( لاَ تَرْجِعُوا بَعدِي كُفَاراً يَضرِبُ بَعضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ ) وقوله : ( لا تَرْغبُوا عَنْ آبائِكُم فإنهُ كُفْرٌ بِِكُم أن تَرْغَبُوا عَنْ آبائِكُمْ ) ومِثلُ هذا كَثيرٌ مِنَ الآثار التي وَرَدَتْ بِلفظ التغلِيظ ، وَلَيْسَتْ عَلَى ظاهِرِهَا عِنْدَ أهْلِ الحَق والعِلْمِ لأُصُولٍ تَدْفَعُهَا أقوىَ مِنْهَا ؛ مِنَ الِكتَابِ ، والسُنَّةِ المُجْتمَعْ عَلَيْهَا ، والآثار الثابِتَةِ أيضاً مِنْ جِهَةِ الإسناد ) إهـ ( التمهيد 17/14-15).
ـ وقال الحَافِظُ النووي رحمهُ اللهُ تعالى : ( هذا الحديث مِمَّا عَدَّهُ بَعضُ العُلماءِ مِنَ المُشْكِلاَتِ ؛ من حيثُ إنَّ ظاهِرَهُ غيرُ مُرَاد ، وذلك أنَّ مَذهَبَ أهلِ الحَق ؛ أنَّهُ لا يُكَفَرُ المُسْلِمُ بالمعاصي كالقتل والزنا ، وكذا قوله لأخيه : كافر ؛ مِنْ غيرِ اعتقادِ بُطلانِ دين الإسلام .
وإذا عُرِفَ مَا ذكرنَاهُ ؛ فقيلَ في تأويل الحديث ؛ أوجُهٌ :
ـ الوجه الأول : أنَّهُ مَحمُولٌ على المُستحِلِّ لذلك ، وهذا يَكفُرُ ؛ فَعَلَى هذا معنى ( بَاءَ بها ) أي : بكلمة الكُفر ، وكذا ( حَار عليه ) ، وهو معنى رَجَعَتْ عليه ؛ أيْ رَجَعَ عَلَيْهِ الكُفرُ ؛ فبَاءَ وَحَارَ وَرَجَعَ ؛ بِمَعنَى واحِدٍ .
ـ الوجه الثاني : مَعناهُ رَجَعتْ عَلَيْهِ نَقِيْصَتُهُ لأخِيهِ ، ومَعْصِيَةُ تكفيره .
ـ الوجه الثالث : أنَّهُ مَحْمُولٌ على الخوارج المُكَفِرِيْنَ للمُؤمِنِيْن ، وهذا الوَّجْهُ نقلَهُ عياض عن الإمام مالك بن أنس ، وهو ضعيف ؛ لأن المَذْهَبَ الصَحِيْحَ المُختار الذي قالَهُ الأكثرون والمُحققون ؛ أن الخوارج لا يُكَفَرُونَ كَسَائِرِ أهْلِ البِّدَعِ .
ـ الوجه الرابع : مَعناهُ أن ذلك يَؤولُ به إلى الكُفر ، وذلك أن المَعاصِي كما قالوا : بَريدُ الكُفر , ويُخَافُ على المُكثِرِ مِنهَا أن يَكُونَ عاقبة شؤمِها ؛ المَصِيْر إلى الكُفر ، ويُؤيِدُ هذا الوَّجْه ما جاء في رِوايةٍ لأبي عوانة الإسفرايني في كتابه المُخَرَّجَ على صحيح مسلم : ( فإن كان كَمَا قال ، وإلا فقد بَاءَ بالكفر ) وفي رواية : ( إذا قال لأخيه يا كافر وَجَبَ الكُفر على أحَدِهِمَا ) .
ـ الوجه الخامس : مَعناهُ : فقد رَجَع عليه تكفيره ؛ فليسَ الرَّاجِعُ ؛ حقيقة الكُفْرِ ؛ بَلْ التكفير ؛ لِكونِهِ جعل أخاهُ المؤمن كافراً ؛ فكأنه كَفَّرَ نَفسَهُ ؛ إمَّا لأنهُ كَفَّرَ مَنْ هو مِثلهُ ، وإمَّا لأنهُ كَفَّرَ مَنْ لا يُكَفِّرُهُ إلاَّ كَافِرٌ يَعتقدُ بُطلانَ دِينِ الإسلام ) إهـ (المنهاج 2/49-50) .
ـ وَتَعَقَبَهُ الحَافِظُ ابن حَجَرٍ رَحِمهُ اللهُ تعالى : في شرحه على البخاري (10/446-447) ؛ فقال : ( قال النووي : إختُلِفَ في تأويلِ هذا الرُجُوع ؛ فقيل : رَجَعَ عليه الكُفْرُ إن كان مُسْتَحِلاًًّ . وهذا بعيدٌ مِنْ سِيَاقِ الخبر. وقيل : مَحْمُولٌ على الخوارج لأنهم يُكَفِرُونَ المؤمنين ؛ هكذا نَقلهُ عياض عن مالك ، وهو ضعيف ؛ لأن الصَّحِيْحَ عند الأكثرين ؛ أن الخوارج لا يُكَفَرُونَ بِبِدْعَتِهِمْ . قُلْتُ : ولِمَا قاله مالك وَجْهٌ ، وهو أنَّ مِنْهُمْ من يُكَفِرُ كثيراً من الصحابة مِمَّنْ شَهِدَ لَهُ رُسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالجنة وبالإيمان ؛ فيكونُ تكفيرهُمْ من حيث تكذيبهم للشهادة المذكورة ؛ لاَ مِنْ مُجَرَّدِ صُدُورِ التكفير منهم بتأويل .. والتحقيق : أن الحديث سِيقَ لِزَجْرِ المُسْلِمِ عَنْ أَنْ يَقُولَ ذلك لأخيه المُسلِمَ ، وذلك قَبْلَ وُجُودِ فِرْقَةِ الخوارج ، وغيرهم . وقيل : معناهُ رَجَعَتْ عليه نَقِيْصَتُهُ لأخيه ، ومعصية تكفيره. وهذا لا بأس به . وقيل : يُخْشَى عليه أن يَؤولَ به ذلك إلى الكُفر؛ كَمَا قيل : المعاصي بريد الكفر. فَيُخَافُ على من أدَامَهَا وأصَرَّ عليها ؛ سُوءُ الخاتمة. وأرْجَحُ من الجَمِيْعِ : أنَّ مَنْ قال ذلك لِمَنْ يُعْرَفُ مِنْهُ الإسلام ، ولَمْ يَقُمْ لَهُ شُبْهَةٌ في زَعْمِهِ أنه كافر ؛ فإنه يَكْفُرُ بذلك ؛ .. فمعنى الحديث : فقد رَجَعَ عليه تكفيرُهُ ؛ فالراجِعُ : التكفير ؛ لا الكُفر ؛ فكأنه كَفَّرَ نفسَهُ لِكَوْنِهِ كَفَّرَ مَنْ ُهَو مِثْلُهُ ، وَمَنْ لا يُكَفِرُهُ إلاَّ كَافِرٌ يَعتقدُ بُطلانَ دِينِ الإسلام ، ويُؤيدهُ أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ ( وَجَبَ الكُفْرُ عَلَى أحَدِهِمَا ). وقال القرطبي : (.. والحَاصِلُ : أن المقولَ لَهُ ؛ إنْ كان كافراً كُفراً شرعياً ؛ فقد صَدَقَ القائلُ ، وذهب بِهَا المقولَ لَهُ ، وإن لَمْ يَكُنْ ؛ رَجَعَتْ للقائلِ مَعَرَّةُ ذلك القول وإثمه. كذا اقتصَرَ على هذا التأويل في (رَجَعَ) وهو من أعدل الأجوبة. وقد أخرج أبو داود عن أبي الدرداء بسندٍ جَيِدٍ رَفَعَهُ : ( إن العبد إذا لَعَنَ شيئاً صَعَدَتْ اللعنة إلى السَّمَاءِ فّتُغْلَقُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ دُوْنَهَا ثم تَهْبِطُ إلى الأرض فتأخذ يَمْنَةً وَيَسْرَةً فإن لم تَجِدْ مَسَاغاً رَجَعَتْ إلى الذي لَعَنَ فإن كان أهلاً وإلا رَجَعَتْ إلى قائِلِهَا ) وَلَهُ شاهدٌ عند أحمد من حديث ابن مسعود بسند حسن ، وآخر عند أبي داود والترمذي عن ابن عباس ، ورواته ثقات ، ولكنه أُعِلَّ بالإرسال ) إهـ
ـ وقال شيخُ الإسلام إبن تيمية رحمه اللهُ تعالى : ( وكذلك قوله : ( من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما ) ؛ فقد سَمَّاهُ أخاهُ حِيْنَ القول ؛ وقد أخبرَ أن أحدهما بَاءَ بِهَا ؛ فَلَوْ خَرَجَ أحَدُهُمَا عن الإسلام بالكلية ؛ لم يكن أخاه ) إهـ (مجموع الفتاوى 7/355).
ـ وقال : ( والخوارجُ كَانُوا مِنْ أظهَرِِ الناسِ بِدْعَةً وقِتَالاً للأمة وتكفيراً لها ، ولم يكن في الصحابة من يُكَفِرُهُمْ ؛ لا علي بن أبي طالب ، ولا غيره ) إهـ (مجموع الفتاوى 7/217).
ـ وقال : ( وَهُمْ أَوَّلَ مَنْ كَفَّرَ أهْلَ القِبْلَةِ بِالذُنُوبِ ؛ بَلْ بِمَا يرونهُ هُمْ مِنَ الذُنُوبِ ، وَاسْتَحَلُوا دِمَاءَ أهل القبلة بذلك ؛ فكانوا كَمَا نَعَتَهُمْ النبي صلى الله عليه وسلم : ( يَقتُلُونَ أهْلَ الإسلام وَيَدعُونَ أهْلَ الأوثان )، وَكَفَّرُوا علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان ومن وَالآهُمَا ، وقتلُوا علي بن أبي طالب مُسْتَحِلِيْنَ لِقتلهِ ، قتلَهُ عبدُ الرَّحمن بن مُلجم المُرَادِي مِنهُم ، وكان هو وغيرُهُ من الخوارج مُجتهدين في العبادة ؛ لكن كانوا جُهَّالاً فارقوا السُنَّةَ والجَمَاعَة ) إهـ (مجموع الفتاوى 7/481-482).
ـ يقُولُ العَلاَّمَةُ الشَوْكَانِي رحمه الله تعالى : ( والأدلة الدَّالَّةِ على وُجُوبِ صِيَانَةِ عِرْضِ المُسْلِمِ واحْتِرامِهِ يَدُلُ بِفَحْوى الخِطَابِ عَلى تَجنُّبِ القَدْحِ في دِينه بأيِّ قادِحٍ فكيف إخْرَاجُهُ عَنْ الِملَّةِ الإسْلامية إلى الِملَّةِ الكُفْرِيَة فإنَّ هَذِهِ جنايةٌ لاَ تَعْدِلهُاَ جِناية وجُرْأَةٌ لا تُمَاثِلُهَا جُرْأَة وأين هذا المُجْتَرِىء عَلى تكْفِيرِ أخِيهِ مِنْ قولِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم : ( المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ لا يَظلِمُهُ ولا يسْلِمُهُ ) رواه ( البخاري :2/862 رقم : 2310) و ( مسلم :4/1996 رقم :2580 ) ، ومِنْ قولِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم : ( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ) رواه (البخاري : 1/27 رقم : 48 ) و ( مسلم : 1/81 رقم : 61) ، ومِنْ قولِ رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ دِمَاءَكُمْ وأمْوَالَكُمْ وأَعْرَاضَكُمْ علَيكُمْ حَرَام ) رواه ( البخاري : 1/ 37 رقم :67) ومسلم : 3/ 1305 رقم :1679 ) ، وكَمْ يَعُدُّ العَادُّ مِنَ الأحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ والآيَاتِ القُرآنية والهِدَايةُ بِيَدِ الله عز وجل ) ( مُختصرٌ مِنَ السيلُ الجرَّار : 4/585 ).
ـ قال أبُو حَامِد الغزالي رحِمَهُ اللهُ تعالى : ( والذي ينبغي الاحترازُ مِنْهُ : ـ التكفيرـ ، مَا وَجَدَ إليه سبيلاً ، فإنَّ استباحَةَ الدِّمَاءِ والأموال مِنَ المُصَلِيْنَ إلى القبلة ، المُصَرِّحِيْنَ بقولِ لا إله إلا الله مُحَمَّدٌ رسول الله خَطَأٌ ، والخطأ في تَرْكِ ألْفِ كَافِرٍ في الحياة أَهْوَنُ من الخطأ في سَفكِ دَمٍ لِمُسْلِمٍ ) .
ـ وقال ابن أبي العز الحَنَفِي رحِمَهُ اللهُ تَعالى : ( واعلم رحمك الله وإيانا أنَّ بابَ التكفير وعَدَمُ التكفير ، بَابٌ عَظُمَتْ الفتنة والمِحْنَةُ فيه ، وكَثُرَ فيه الافتراق ، وَتَشَتَّتَ فِيْهِ الأهواء والآراء ، وتَعَارَضَتْ فيه دَلاَئِلُهُمْ ، فالنَّاسُ فيه في جِنْسِ تكفيرِ أَهِلِ المَقالاتِ والعقائدِ الفاسدة المُخالفة للحَق الذي بَعَثَ الله به رَسُولَهُ في نفس الأمر ، أو المخالفة لذلك في اعتقادِهِمْ على طرفين وَوَسَط ، مِنْ جِنسِ الاختلاف في تكفير أهلِ الكبائر العَمَلية .
ثم قال : إنَّه لَمِنْ أعظمِ البَّغْيِ أنْ يُشْهَدَ على مُعَيَّنٍ أنَّ الله لا يَغفرُ لَهُ ولا يَرحمُهُ ، بَلْ يُخلِّدُهُ في النار ، فإنَّ هذا حُكْمُ الكَافِرِ بَعدَ المَوت ) .
ـ وقال ابنُ عبد البَّر رَحِمهُ اللهُ تعالى : ( القرآن والسُّنَّة ينهيانِ عن تفسيق المُسْلِمِ وتكفيره بِبيانٍ لا إشكالَ فيه ، ومن جهة النظر الصحيح الذي لا مَدْفَعَ لَهُ ، أنَّ كُلَّ مَنْ ثبتَ لَهُ عقدُ الإسلام في وقتٍ بإجماعِ من المُسلمين ، ثم أذنب ذنبًا ، أو تَأوَّلَ تأويلاً ، فاختلفوا بَعْدُ في خُرُوجِهِ من الإسلام ، لَمْ يكن لاختلافهم بَعْدَ إجْمَاعِهِمْ مَعْنًى يُوجِبُ حُجَّة ، ولا يَخرُجُ من الإسلام المتفق عليه إلا باتفاق آخَرَ ، أو سُنَّةٍ ثابتةٍ لا مُعَارِضَ لَهَا ، وقد اتفق أهلُ السُنة والجماعة وهُمْ أهلُ الفقه والأثر على أن أحدًا لا يُخْرِجُهُ ذنبُهُ وإنْ عَظُمَ من الإسلام ، وخالفهُمْ أهلُ البدع ، فالواجِبُ في النظر أنْ لا يُكَفَّرَ إلا من اتفق الجميعُ على تكفيره ، أو قامَ على تكفيره دليلٌ لا مَدْفَعَ لَهُ من كتاب أو سنة ) . إهـ
ـ وقال القرطبي رحمه اللهُ تعالى : ( وبابُ التكفير بابٌ خطيرٌ ، أقدَمَ عليه كثيرٌ من الناس فَسَقَطُوا ، وتوقف فيه الفُحُولُ فَسَلِمُوا ، ولا نَعدلُ بالسَّلامَةِ شيئًا ) .
ـ وقال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى : ( وَلَيْسَ لأحَدٍ أنْ يُكَفِّر أحدًا من المُسلمين وإنْ أخطأ وغلط حتى تُقَامَ عليهِ الحُجَّةُ ، وتُبَيَّن له المَحَجَّةُ ، وَمَنْ ثبتَ إسلامهُ بيقين ، لَمْ يَزُلْ ذلك عَنْهُ بالشك ، بَلْ لا يزولُ إلاَّ بَعْدَ إقامَةِ الحُجَّةِ ، وإزالَةِ الشبهة... وإذا تبين ذلك ، فاعلم أنَّ (مَسَائِلَ التكفير والتفسيق) هي مِنْ مَسَائِلِ الأسْمَاِء والأحكام التي يتعلَّقُ بِهَا الوَّعْدُ وَالوَّعِيْدُ في الدَّارِ الآخرة ، وتتعلق بِهَا المُوَالاة والمُعَادَاةُ والقتل والعِصْمَة وغير ذلك في الدَّارِ الدُّنْيَا ) إهـ
ـ وقال الشيخ عبدُ اللهِ بنُ مُحمد بنُ عَبْدِ الوهَاب رَحِمَهُ الله تعالى : ( وَبِالجُمْلًة فيجبُ على من نَصَحَ نفسه أن لا يتكلم في هذه المسألة إلا بِعِلْمٍ وبُرهان من الله ، ولْيَحْذَرْ من إخراج رَجُلٍ من الإسلام بِمُجَرَّدِ فَهْمِهِ واستحْسَانِ عَقْلِهِ ، فإنَّ إخراجَ رَجُلٍ من الإسلام أو إدخاله من أعظم أمور الدِّين ، وقد اسْتَزَلَّ الشيطانُ أكثرَ الناس في هذه المسألة ) .

ـ أيُها الأَكَارِمْ : لَعَلِّي فِيمَا اقْتَصَرْتُ عَليْهِ مِنْ نُصُوصٍ حَدِيثِية وتَحْقِيقَاتٍ عِلْمِيَةٍ سَلَفِية , مَا يُشْفَى بِهِ العَلِيْل وَ يُرْوَى بِهِ الغَلِيلْ مِنْ هَذا الدَّاءِ العُضَالِ الخَطِيرْ , الذي انْتَشَرَ بَينَ المُسْلِمِينَ انْتِشَارَ النَّارِ في الهَشِيْم , بِسَبَبِ الغُلُوِّ وَ الجَهْلِ المُرَكَبِ بِالشَّرْعِ و الدِّيْنْ , فَنَسْألُ اللهَ عَز وجَل أنْ يَعْصِمَنَا مِنْ شَرِّ فِتْنَتِه , وَأَنْ يَقِيَنَا والمُسْلِمِينَ جَمِيعاً شَرِّ الفِتَنِ كُلِّهَا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ومَا بَطَن , وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ وبَارَكَ عَلَى النَبِيِّ الرَّسُولْ , وعلى آلِهِ وأصْحَابِهِ الثِقَاتِ العُدُولْ , ومَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ إلى يَومِ الُّجُوعِ وَ المُثُولْ .
رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:10 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.