أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا

             
45994 151323

العودة   {منتديات كل السلفيين} > المنابر العامة > منبر الفقه وأصوله > منبر الحج

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #11  
قديم 11-04-2009, 12:48 AM
يوسف الجزائري يوسف الجزائري غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 195
Post شرح كتاب الحجّ (11)

شرح كتاب الحجّ (11)

دائما تحت ( الباب الأوّل )، وهو:
( التّرغيب في الحجّ والعمرة، وما جاء فيمن خرج يقصدهما فمات )
الحديث الثّامن عشر:
قال رحمه الله:
1111-وروي عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( تَعَجَّلُوا إِلَى الحَجِّ -يعني: الفَرِيضَةَ- فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لاَ يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ )).
[رواه أبو القاسم الأصبهاني].
الشّرح:
هذا الحديث فيه التّرغيب الشّديد في التّعجيل بالحجّ، وذلك لأنّ الأصل هو المسارعة إلى فعل الصّالحات، والمسابقة لاغتنام فرص الطّاعات، قال الله تعالى:{ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [آل عمران :133]، وقال:{ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد من: 21]، وأثنى الله تعالى على خيرة العباد بذلك فقال:{ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء من:90].
-( يَعْرِضُ له ): أي يطرأ عليه، ومنه سمّي الشّيء الطّارئ بالعارض.
وأصل اشتقاق الفعل من ( عُرْض الشّيء ) وهو: جانبه، فكأنّ هناك شيئا يريد أن يقف ويحول دون العبد والحجّ.
-( لهُ ): يحتمل أنّ الضّمير يعود على المكلّف، كما هو الظّاهر، وعليه جرى كلّ من ذكر هذا الحدبث، ويحتمل أنّ الضّمير عائد على البيت، فيُحمل على معنى الأحاديث السّابق ذكرها، وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( اِسْتَمْتِعُوا بِهَذَا البَيْتِ، فَقَدْ هُدِمَ مَرَّتَيْنِ، وَيُرْفَعُ فِي الثَّالِثَةِ )).
والصّواب أنّه يعود إلى المكلّف، لرواية البيهقيّ بلفظ: (( مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لاَ يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ مِنْ مَرَضٍ أَوْ حَاجَةٍ )).
- قوله رحمه الله:" رواه أبو القاسم الأصبهاني "، قال الشّيخ الألباني رحمه الله في تعليقه:" لقد أبعد المصنّف النَّجعة، فقد أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما، وهو مخرّج في "الإرواء" برقم (972) ".
الفوائد:
في هذا الحديث دليل على أنّ الحجّ واجب على الفور، وإلى القول بالفور ذهب مالك وأبو حنيفة وبعض أصحاب الشّافعي.
وقال الشاّفعي والأوزاعي وأبو يوسف ومحمّد بن الحسن الشّيباني: إنّه على التّراخي، واحتجوا بأنّه صلَّى الله عليه وسلَّم حجّ سنة عشر، وفرض الحجّ كان سنة ستّ أو خمس.
وأجيب: بأنّه قد اختلف في الوقت الّذي فرض فيه الحجّ، ومن جملة الأقوال أنّه فرض سنة تسع أو عشر، وهما أقوى وأصحّ. لأمرين اثنين:
الأوّل: أنّه يبعُد أن يفرِض الله الحجّ على المسلمين ومكّة لم تُفتح بعد.
الثّاني: أنّ آية فرض الحجّ موقعها في سورة آل عمران، وهي ما نزلت إلاّ العام التّاسع أو العاشر، كما قال ابن تيمية وابن القيّم رحمهما الله.
فإن قلنا: إنّ الحجّ فُرِض العام التّاسع، فلم يحجّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وإنّما بعث المسلمين للحجّ مع صاحبه أبي بكر الصدّيق رضِي اللهُ عَنه، وسمّيت هذه الحجّة بحجّة أبي بكر رضِي اللهُ عَنه.
ولماذ لم يحجّ صلّى الله عليه وسلّم هذا العام ؟
الجواب: ذلك لأمرين اثنين:
- انشغاله باستقبال الوفود، فإنّ العام التّاسع سمِّي بعام الوفود.
- أنّ المشركين ما زال منهم من هو على شركه يعصمه عهدٌ بينه وبين النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وما كان النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ليجتمع مع المشركين في طوافه وسعيه، فكانت هذه الحجّة مصحوبةً ببيانين عظيمين:
الأوّل: منع التعرّي داخل المسجد الحرام أثناء الطّواف، وكانت تلك من عادات الجاهليّة الّتي نزل من أجلها قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِد} [الأعراف: من الآية31]، وكان الأمر بمكّة موجّها للمؤمنين مقتصرا فيه على الموعظة، أمّا اليوم فإنّ الأمر حتم لازم.
الثّاني: ألاّ يحجّ بعد هذا العام مشركٌ.
فلمّا طهّر الله البيت الحرام منهم حجّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فتراخيه لعذر، ومحلّ النزاع التراخي مع عدمه، وانظر لذلك " زاد المعاد "، و" نيل الأوطار ".
وإن قلنا: إنّ الحجّ فُرِض العام العاشر، فلا تأخير، ولله الحمد.
والله أعلم.
رد مع اقتباس
  #12  
قديم 11-04-2009, 12:49 AM
يوسف الجزائري يوسف الجزائري غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 195
Post شرح كتاب الحجّ (12)

شرح كتاب الحجّ (12)

دائما تحت ( الباب الأوّل )، وهو:
( التّرغيب في الحجّ والعمرة، وما جاء فيمن خرج يقصدهما فمات )

الحديث التّاسع عشر:
قال رحمه الله:
1112-ورُوِيَ عَنِ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ:
"
كُنْتُ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْجِدِ مِنَى، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ وَرَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ، فَسَلَّمَا، ثُمَّ قَالاَ: يَا رَسُولَ اللهِ ! جِئْنَا نَسْأَلُكَ. فَقَالَ:
((
إِنْ شِئْتُمَا أَخْبَرْتُكُمَا بِمَا جِئْتُمَا تَسْأَلاَنِي عَنْهُ فَعَلْتُ، وَإِنْ شِئْتُمَا أَنْ أُمْسِكَ وَتَسْأَلاَنِي فَعَلْتُ )).
فَقَالاَ: أَخْبِرْنَا يَا رَسُولَ اللهِ ! فَقَالَ الثَّقَفِيُّ لِلْأَنْصَارِيِّ: سَلْ ! فَقَالَ: أَخْبِرْنِي يَا رَسُولَ اللهِ !
فَقَالَ:

((
جِئْتَنِي تَسْأَلُنِي عَنْ مَخْرَجِكَ مِنْ بَيْتِكَ تَؤُمُّ البَيْتَ الحَرَامَ، وَمَا لَكَ فِيهِ، وَعَنْ رَكْعَتَيْكَ بَعْدَ الطَّوَافِ، وَمَا لَكَ فِيهِمَا، وَعَنْ طَوَافِكَ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وَمَا لَكَ فِيهِ، وَعَنْ وُقُوفِكَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، وَمَا لَكَ فِيهِ، وَعَنْ رَمْيِكَ الجِمَارَ وَمَا لَكَ فِيهِ، وَعَنْ نَحْرِكَ وَمَا لَكَ فِيهِ مَعَ الإِفَاضَةِ )).
فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ لَعَنْ هَذَا جِئْتُ أَسْأَلُكَ. قَالَ:
((
فَإِنَّكَ إِذَا خَرَجْتَ مِنْ بَيْتِكَ تَؤُمُّ البَيْتَ الحَرَامَ لاَ تَضَعُ نَاقَتُكَ خُفًّا وَلاَ تَرْفَعُهُ إِلاَّ كَتَبَ اللهُ لَكَ بِهِ حَسَنَةً، وَمَحَا عَنْكَ خَطِيئَةً.
وَأَمَّا رَكْعَتَاكَ بَعْدَ الطَّوَافِ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ.
وَأَمَّا طَوَافُكَ بِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ كَعِتْقِ سَبْعِينَ رَقَبَةً.
وَأَمَّا وُقُوفُكَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، فَإِنَّ اللهَ يَهْبِطُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُبَاهِي بِكُمُ المَلاَئِكَةَ، يَقُولُ: عِبَادِي جَاؤُونِي شُعْثًا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ يَرْجُونَ رَحْمَتِي، فَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُكُمْ كَعَدَدِ الرَّمْلِ أَوْ كَقَطْرِ المَطَرِ أَوْ كَزَبَدِ البَحْرِ لَغَفَرْتُهَا، أَفِيضُوا عِبَادِي مَغْفُورًا لَكُمْ، وَلِمَنْ شَفَعْتُمْ لَهُ.
وَأَمَّا رَمْيُكَ الجِمَارَ فَلَكَ بِكُلِّ حَصَاةٍ رَمَيْتَهَا تَكْفِيرُ كَبِيرَةٍ مِنَ المُوبِقَاتِ.
وَأَمَّا نَحْرُكَ فَمَدْخُورٌ لَكَ عِنْدَ رَبِّكَ.
وَأَمَّا حِلاَقُكَ رَأْسَكَ فَلَكَ بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَلَقْتَهَا حَسَنَةٌ، وَيُمْحَى عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةٌ.
وَأَمَّا طَوَافُكَ بِالبَيْتِ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّكَ تَطُوفُ وَلاَ ذَنْبَ لَكَ، يَأْتِي مَلَكٌ حَتَّى يَضَعَ يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْكَ، فَيَقُولُ: اِعْمَلْ فِيمَا تَسْتَقْبِلْ، فَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا مَضَى
)).
[رواه الطّبراني في "الكبير" والبزاّر، واللّفظ له، وقال: وقد روي هذا الحديث من وجوه، ولا نعلم له أحسن من هذا الطّريق].
(قال المملي) رضي الله عنه: وهي طريق لا بأس بها، رواتها كلّهم موثّقون.
ورواه ابن حبان في "صحيحه" ويأتي لفظه في "الوقوف" إن شاء الله تعالى.
الفوائد:
- الفائدة الأولى:
قوله: (
مَسْجِدِ مِنَى ): هو مسجد الخيف بمنَى، وقد روى الطّبراني عن ابن عبّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مرفوعا: (( صَلَّى فِي مَسْجِدِ الخَيْفِ سَبْعُونَ نَبِيًّا مِنْهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ )) [وهو في " صحيح التّرغيب والتّرهيب "].
- الفائدة الثّانية:
قوله: (
إِنْ شِئْتُمَا أَخْبَرْتُكُمَا بِمَا جِئْتُمَا تَسْأَلاَنِي عَنْهُ فَعَلْتُ، وَإِنْ شِئْتُمَا أَنْ أُمْسِكَ وَتَسْأَلاَنِي فَعَلْتُ ):
سبب قوله ذاك أنّ الثّقفي حديث عهد بإسلام، فأراد النبيّ صلَّى اللهُ علَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُطمئن قلبه ببعض دلائل نبوّته صلَّى اللهُ علَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد ذكر شيخ الإسلام رحمة الله
أنّ دلائل نبوّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من أعظم أسباب زيادة الإيمان.
فتدرِيس دلائل النبوّة، وذكر خصائص النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من أعظم أسباب تعظيمه، والقيام بأمره وتفخيمه، ومن ثمََّ يحقّق المسلم الرّكن الثّاني من أركان شروط قبول العمل، وهو اتّباع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
- الفائدة الثّالثة:
- قوله: (
وَعَنْ طَوَافِكَ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ ): أي: السّعي بينهما، والتّعبير بالطّواف موافق لقوله تعالى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: من الآية158].
- الفائدة الرّابعة:
قوله: (
لاَ تَضَعُ نَاقَتُكَ خُفًّا وَلاَ تَرْفَعُهُ إِلاَّ كَتَبَ اللهُ لَكَ بِهِ حَسَنَةً، وَمَحَا عَنْكَ خَطِيئَةً ).:
فمجرّد المشي إلى الحجّ أو العمرة، ولو على دابّة، يؤجر عليه هذا العبد، وقد سبق بيانه.
- الفائدة الخامسة:
(
وَأَمَّا رَكْعَتَاكَ بَعْدَ الطَّوَافِ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ ):
ركعتا الطّواف: سمّيت بذلك، لأنّها تليه، والطّواف عبادة مستقلّة ترتبط به هاتان الرّكعتان، والطّواف أمر زائد على تحيّة المسجد، أمّا حديث: (( تحيّة البيت الطواف )) [فلا أصل له كما في " السّلسلة الضعيفة " برقم (1012)].
أين تصلّى ؟: تُصلّى عند مقام إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ إن أمكن، أو في أيّ مكان من المسجد. روى مسلم عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنّه قال في صفة حجّة النبيّ صلَّى اللهُ علَيْهِ وَسَلَّمَ: "
ثُمَّ نَفَذَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام فَقَرَأَ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ وكَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَ{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}".
حكم هاتين الرّكعتين: اختلف العلماء في ذلك على قولين:
فمذهب أبي حنيفة وأهل الظّاهر أنّهما واجبتان، لقوله تعالى:{
وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة: من الآية125].
وجمهور العلماء على استحبابهما، فقد روى البخاري عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ علَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ علَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَهُوَ بِمَكَّةَ وَأَرَادَ الْخُرُوجَ وَلَمْ تَكُنْ أُمُّ سَلَمَةَ طَافَتْ بِالْبَيْتِ وَأَرَادَتْ الْخُرُوجَ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ علَيْهِ وَسَلَّمَ: (( إِذَا أُقِيمَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ فَطُوفِي عَلَى بَعِيرِكِ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَفَفَعَلَتْ ذَلِكَ فَلَمْ تُصَلِّ حَتَّى خَرَجَتْ )). فأقرّها النبيّ صلَّى اللهُ علَيْهِ وَسَلَّمَ على تركهما.
- وقوله: (
مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ ): مبالغة في بيان فضل هاتين الرّكعتين، لأنّ أشرف الرّقاب هم العرب من بني إسماعيل عَلَيْهِ السَّلاَمُ، حتّى إنّ العرب كانوا إذا نذروا عتق رقبة خصّوها بكونها من بني إسماعيل، وقد حثّ النبيّ صلَّى اللهُ علَيْهِ وَسَلَّمَ على عتقها، فقد روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَتْ سَبِيَّةٌ مِنْ بَني تميم عِنْدَ عَائِشَةَ فَقَالَ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَعْتِقِيهَا فَإِنَّهَا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ )).
فالشّاهد أنّه لمّا كانت أشرف الرّقاب شبّه النبيّ صلَّى اللهُ علَيْهِ وَسَلَّمَ ركعَتَي الطّواف بعتقها.
- الفائدة السّادسة:
قوله: (
وَأَمَّا وُقُوفُكَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، فَإِنَّ اللهَ يَهْبِطُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا ):
الهبوط هو النّزول، كما في " صحيح مسلم "، وممّن عبّر أيضا بالهبوط من السّلف ابن مسعود رضي الله عنه ومحمّد بن الحسن وغيرهما، كما في " شرح أصول اعتقاد أهل السنّة " لللاّلكائي.
والنّزل من صفات الله الفعليّة الّتي أثبتها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لربّه تعالى، فال بدّ من الإيمان بها دون تمثيل ولا تكيف.
وقد أطال شيخ الإسلام –كما في "المجموع" (5/241)-
في بيان أنّ هذا الدّنوّ خاصّ بأهل الموقف دون غيرهم، وأنّ قربه منهم إنّما هو بسبب تقرّبهم منه، كما دلّ عليه الحديث الآخر: (( وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً )).
و
التّخصيص بعرفة ومثله التّخصيص بالثّلث الأخير من اللّيل، دليل على أنّه سبحانه ليس قريبا بذاته من مخلوقاته كلَّ وقت، كما يدّعيه أهل الحلول والاتّحاد، وإلاّ لما كان في هذا التّخصيص فائدة.
- الفائدة السّابعة:
قوله: (
أَفِيضُوا عِبَادِي مَغْفُورًا لَكُمْ، وَلِمَنْ شَفَعْتُمْ لَهُ ): أي: ولمن دعوتم له، لذلك كان موقف عرفة من مواطن الإجابة.
وقد ذكر غير واحد من السّلف أنّه كان إذا دعا بعرفة، ما يمرّ عليه العام حتّى تظهر له إجابة الدّعاء.
- الفائدة الثّامنة:
وقوله: (
وَأَمَّا رَمْيُكَ الجِمَارَ فَلَكَ بِكُلِّ حَصَاةٍ رَمَيْتَهَا تَكْفِيرُ كَبِيرَةٍ مِنَ المُوبِقَاتِ ):
أصل رمي الجمار: هو أنّه تذكير بشعائر الله الّتي شرعها الله على يد إبراهيم عليه السّلام، وقد روى أحمد وابن خزيمة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ موقوفا قَالَ:
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لَمَّا أُمِرَ بِالْمَنَاسِكِ عَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَسْعَى فَسَابَقَهُ فَسَبَقَهُ إِبْرَاهِيمُ ثُمَّ ذَهَبَ بِهِ جِبْرِيلُ إِلَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَعَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانٌ، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى ذَهَبَ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، ثلاثا.
وقال ابن عبّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أيضا:" الشّيطان ترجمون، وملّة أبيكم تتّبعون "..
- الفائدة التّاسعة:
قوله: (
وَأَمَّا نَحْرُكَ فَمَدْخُورٌ لَكَ عِنْدَ رَبِّكَ ): وما يدّخره الله تعالى لا يضيع، بل يربو كما قال تعالى:{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:39].
وإذا كان الله يربّي التّمرة حتّى تصير مثل الجبل فكيف بالهدي والأضاحي ؟!
- الفائدة العاشرة:
قوله: (
وَأَمَّا حِلاَقُكَ رَأْسَكَ فَلَكَ بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَلَقْتَهَا حَسَنَةٌ، وَيُمْحَى عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةٌ ):
بهذا الحديث استدلّ من فضّل الحلق على التّقصير، واستدلّوا أيضا بحديث البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ علَيْهِ وَسَلَّمَ: ((
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ ))قَالُوا: وَلِلْمُقَصِّرِينَ. قَالَ: (( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ )) قَالُوا: وَلِلْمُقَصِّرِينَ. قَالَهَا ثَلَاثًا، قَالَ: (( وَلِلْمُقَصِّرِينَ )).
وقد عارض هذا بعض أهل العلم بأمره صلَّى اللهُ علَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه عام حجّته بالتّقصير، فقد روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنّ النبيّ صلَّى اللهُ علَيْهِ وَسَلَّمَ قال لهم: ((
وَلْيُقَصِّرْ ثُمَّ لْيُحِلَّ )).
والصّواب أنّه لا تعارض، فقد قال الحافظ في "الفتح" (3/449):
"
يستحبّ في حقّ المتمتّع أن يقصر في العمرة، ويحلق في الحجّ، إذا كان ما بين النّسكين متقاربا ".اهـ
قال الشّيخ الألباني رحمه الله في "الإرواء" (3/283): "
وهذه فائدة يغفل عنها كثير من المتمتّعين، فيحلق بدل التّقصير "..
- الفائدة الحادية عشرة:
قوله: (
وَأَمَّا طَوَافُكَ بِالبَيْتِ بَعْدَ ذَلِكَ ): هو طواف الوداع كما سيأتي بيانه في الحديث التّالي.
وسمّي بذلك لتوديع البيت، ويُسمّى أيضا طواف الصّدر، لأنّه عند صدور النّاس من مكّة، وهو طواف لا رمل فيه.
ولا يلزم اثنين من النّاس: المكّي والحائض.
أمّا المكّي: فلأنّه ملازم لمكّة.
وأمّا الحائض: فلأنّه لا يصحّ منها، فلو تأخّرت حتّى تطّهر طافت. روى البخاري ومسلم عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: "
أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ إِلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنْ الْحَائِضِ ". وبهذا استدلّ أبو حنيفة وأحمد والشّافعي في رواية على وجوبه، وقال مالك والشّافعي فر رواية أخرى هو سنّة. وثمرة الخلاف: أنّ من قال بوجوبه يلزم تاركه دمٌ.
فإذا طاف الحاجّ سافر لتوّه إلاّ شيئا من الحوائج يقضيها في طريقه لا بدّ له منها،
أمّا لو اشتغل بغير ذلك فعليه إعادته.
وعليه أن يستشعر بأنّه لربّما كان هذا آخر عهد له بالبيت في هذه الدّنيا.
وختام الأعمال كلّها وتاجها،
مغفرة الله، ورحمته الواسعة، لذلك قال:
(
فَإِنَّكَ تَطُوفُ وَلاَ ذَنْبَ لَكَ، يَأْتِي مَلَكٌ حَتَّى يَضَعَ يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْكَ، فَيَقُولُ: اِعْمَلْ فِيمَا تَسْتَقْبِلْ، فَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا مَضَى ).
نسأل الله من فضله العميم، ولطفه الكريم، آمين.

رد مع اقتباس
  #13  
قديم 11-06-2009, 08:39 PM
يوسف الجزائري يوسف الجزائري غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 195
Post شرح كتاب الحجّ (13)

شرح كتاب الحجّ (13)

دائما تحت ( الباب الأوّل )، وهو:
( التّرغيب في الحجّ والعمرة، وما جاء فيمن خرج يقصدهما فمات )

الحديث العشرون:
قال رحمه الله:
1113- ورواه الطبراني في "الأوسط" من حديث عبادة بن الصّامت رضي الله عنه وقال فيه:
(( فإِنَّ لَكَ مِنَ الأَجْرِ إِذَا أَمَّمْتَ البَيْتَ العَتِيقَ:
أَلاَّ تَرْفَعَ قَدَمًا أَوْ تَضَعَهَا أَنْتَ وَدَابَّتُكَ إِلاَّ كُتِبَتْ لَكَ حَسَنَةٌ، وَرُفِعَتْ لَكَ دَرَجَةٌ.
وَأَمَّا وُقُوفُكَ بِعَرَفَةَ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لِمَلاَئِكَتِهِ: ( يَا مَلاَئِكَتِي مَا جَاءَ بِعِبَادِي ؟)
قَالُوا: جَاؤُوا يَلْتَمِسُونَ رِضْوَانَكَ وَالجَنَّةَ.
فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ( فَإِنِّي أُشْهِدُ نَفْسِي وَخَلْقِي أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، وَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُهُمْ عَدَدَ أَيَّامِ الدَّهْرِ، وَعَدَدَ رَمْلِ عَالِجٍ.
وَأَمَّا رَمْيُكَ الجِمَارَ، فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ:{ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [السّجدة:17].
وَأمَّا حَلْقُكَ رَأْسَكَ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَعْرِكَ شَعْرَةٌ تَقَعُ فِي الأَرْضِ إِلاَّ كَانَتْ لَكَ نُورًا يَوْمَ القِيَامَةِ.
وَأَمَّا طَوَافُكَ بِالبَيْتِ إِذَا وَدَّعْتَ، فَإِنَّكَ تَخْرُجُ مِنْ ذُنُوبِكَ كَيَوْمِ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ
)).
شرح الحديث:
- قوله: ( أَمَّمْتَ ): بمعنى " قصدت "، ومنه التيمّم، وهو قصد الصّعيد الطّاهر.
- قوله: ( البَيْتَ العَتِيقَ )
في تسمية البيت الحرام عتيقا أقوال، ذكر منها ابن الجوزي رحمه الله أربعة:
1) أحدها: لأنّ الله تعالى أعتقه من الجبابرة، أعتقه من أن يتسلط عليه جبار بالهوان إلى انقضاء الزمان، وهو قول عبد الله بن الزّبير ومجاهد وقتادة.
ولا بدّ أن نبيّن ضعف الحديث الّذي رواه التّرمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّمَا سُمِّيَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ جَبَّارٌ )).
2) والثّاني: أنّ معنى العتيق " القديم "، قاله الحسن وابن زيد.
يقال سيف عتيق وقد عتق أي قدم، ومعنى ذلك يوافق قول الله تعالى:{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ } [آل عمران:96]، وفي صحيح البخاري عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلَ ؟ قَالَ: (( الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ )).
3) والثّالث: لأنّه لم يملك قطّ قاله مجاهد في رواية، وسفيان بن عيينة.
4) والرّابع: لأنّه أعتق من الغرق زمان الطّوفان، قاله ابن السّائب وابن جبير.
وذكر القرطبي معنيين آخرين:
5) فالخامس: لأنّ الله عزّ وجلّ يعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب.
6) والسّادس: وقيل العتق الكريم والعتق الكرم، ومنه عِتْق العبد، لأنّه خروج من ذل الرّق إلى كرم الحرية.
- قوله: ( عَدَدَ رَمْلِ عَالِجٍ ): في "تحفة الأحوذي": ما تراكم من الرّمل، وهو أيضا اسم موضع كثير الرّمل.
- قوله: ( وَأَمَّا رَمْيُكَ الجِمَارَ، فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ:{ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}):
لا شكّ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ما كان ليذكر هذه الآية إلاّ لحكمة، وذلك لأنّ الجزاء من جنس العمل، وهذه الآية كانت جزاء لمن صلّى باللّيل، قال تعالى:{ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)}.
قال العلماء: لمّا أخفوا عملهم خوفا من الله، رزقهم الله ما يخفى على القلوب والخواطر، قال ابن القيّم في "حادي الأرواح":
" وتأمّل كيف قابل ما أخفوه من قيام اللّيل بالجزاء الّذي أخفاه لهم ممّا لا تعلمه نفس، وكيف قابل قلقهم وخوفهم واضطرابهم على مضاجعهم حين يقومون إلى صلاة اللّيل بقرّة الأعين في الجنّة، وفي الصّحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( قَالَ اللَّهُ: " أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ:{ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} ".
وهنا كذلك، فإنّ العبد وهو يرمي هذه الجمرات، تخفى عليه الحكمة من هذه العبادة، ومع ذلك يبذل وسعه جاهدا في أداء منسكه، فناسب أن يجازيه الله بما يخفى عليه.
والله أعلم وأعزّ وأكرم.
رد مع اقتباس
  #14  
قديم 11-06-2009, 08:53 PM
يوسف الجزائري يوسف الجزائري غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 195
Post شرح كتاب الحجّ (14)

شرح كتاب الحجّ (14)

دائما تحت ( الباب الأوّل )، وهو:
( التّرغيب في الحجّ والعمرة، وما جاء فيمن خرج يقصدهما فمات )

الحديث الحادي والعشرون:
قال رحمه الله:
1114-وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( مَنْ خَرَجَ حَاجًّا فَمَاتَ كُتِبَ لَهُ أَجْرُ الحَاجِّ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ خَرَجَ مُعْتَمِرًا فَمَاتَ كُتِبَ لَهُ أَجْرُ المُعْتَمِرِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ خَرَجَ غَازِيًا فَمَاتَ كُتِبَ لَهُ أَجْرُ الغَازِي إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ )).
[رواه أبو يعلى من رواية محمّد بن إسحاق، وبقيّة رواته ثقات].
شرح الحديث وفوائده:
1- قد رأينا في شرح الأحاديث السّابقة وجوهَ شبهٍ كثيرةً بين الحجّ والجهاد في سبيل الله.
وفي هذا الحديث وجه شبهٍ آخر، وهو أنّ كلاّ منهما إذا خرج يريد وجه الله تعالى فمات خُتِم له على عمله، ويجري عليه أجره إلى يوم القيامة.
وهذا من فضل الله العظيم، أن يكون الحاجّ أو المعتمر أو المجاهد في قبورهم، وتجري عليهم إلى يوم القيامة أحورهم.
2- يلحق بهؤلاء الثّلاثة المرابط في سبيل الله تعالى، والمرابط هو من يلازم ثغور المسلمين يحرسها من العدوّ، فقد روى الطّبراني في " الكبير " عَنِ العِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( كُلُّ عَمَلٍ يَنْقَطِعُ عَنْ صَاحِبِهِ إِذَا مَاتَ، إِلاَّ المُرَابِطَ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَإِنَّهُ يُنَمَّى لَهُ عَمَلُهُ، وَيُجْرَى عَلَيْهِ رِزْقُهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ )).
3- لا يعارض ما ذكر في هذه الأحاديث قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( إِذَا مَاتَ الْمَرْءُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ ))، وذلك إمّا:
أ‌) لأنّه لا مفهوم للعدد في الثّلاث، وفضل الله يزيد.
ب‌) وإمّا أن يقال – وهو الأقرب -: إنّ أجر صاحب الصّدقة الجارية والعالم والوالد ربّما انقطع بانقطاع الأثر، فينقطع أجر الوالد بانقطاع دعاء الولد، والعلم بانقطاع من يأخذه، والصّدقة بتلفها أو عدم استعمالها، أمّا من مات حاجّا أو معتمرا أو مجاهدا أو مرابطا فإنّ أجره لا ينقطع أبدا إلى يوم القيامة.
بل إنّ الحاجّ والمعتمر – كما سيأتي بيانه – إذا مات على إحرامهما بقي على إحرامهما.
والله أعلم.
رد مع اقتباس
  #15  
قديم 11-06-2009, 08:56 PM
يوسف الجزائري يوسف الجزائري غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 195
Post شرح كتاب الحجّ (15)

شرح كتاب الحجّ (15)

دائما تحت ( الباب الأوّل )، وهو:
( التّرغيب في الحجّ والعمرة، وما جاء فيمن خرج يقصدهما فمات )

الحديث الثّاني والعشرون:
قال رحمه الله:
1115-وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ:
بَيْنَا رَجُلٌ وَاقِفٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ، إِذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَأَقْعَصَتْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ بِثَوْبَيْهِ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، وَلَا تُحَنِّطُوهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا )).
[رواه البخاري ومسلم وابن خزيمة وفي رواية لهم:
أَنَّ رَجُلًا كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلَا تَمَسُّوهُ بِطِيبٍ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا )).
وفي رواية لمسلم:
" فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَأَنْ يَكْشِفُوا وَجْهَهُ-حَسِبْتُهُ قَالَ:- وَرَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ يُهِلُّ ".
شـرح غريـب الحـديـث:
- ( أقعصته ): القَعْصُ هو: القتل في الحال، ومنه قعاص الغنم وهو موتها، روى البخاري عن عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللهُ عنه قَالَ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَالَ لهُ: (( اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ: مَوْتِي، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ مُوْتَانٌ يَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ الْغَنَمِ ...)) الحديث.
- ( وَسِدْر ): هو نبات طيّب، يقوم مقام الصّابون هذه الأيّام.
- ( تحنّطوه ): أي لا تمسّوه حنوطا، والحنوط هو أخلاط من طيب تجمع للميّت خاصّة.
- ( وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ ): أي: رمته ناقته فكسرت عنقه.
فـوائـد الحديـث:
في هذا الحديث فوائد كثيرة، كما في " شرح مسلم " للنّووي، و" فتح الباري " لابن حجر "، و" زاد المعاد " لابن القيّم (2/239).
الفائدة الأولى: وجوب غسل الميّت، وتكفينه، لأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم به، وهو إجماع في حقّ المسلم.
الفائدة الثّانية: أن المشروع في حقّ الميّت أن يغسل بماء وسدر، لا يقتصر فيه على الماء وحده، وقد أمر النبيّ بالسّدر زيادةً على الماء في ثلاثة مواضع هذا أحدها، والثّاني في غسل ابنته زينب، والثّالث في غسل الحائض. وفي وجوب السدر في حقّ الحائض قولان، والظّاهر وجوبه لأنّه أطهر وأطيب، إلاّ لمن لم يجد ذلك.
الفائدة الثّالثة: أنّ تغيّر الماء بالطّاهرات لا يسلبه طهوريّته كما هو مذهب الجمهور، ولم يأمر بغسله بعد ذلك بماء قراح، بل على العكس من ذلك فقد أمر في غسل ابنته أن يجعلن في الغسلة الأخيرة شيئا من الكافور، ولو سلبه الطّهورية لنهى عنه.
الفائدة الرّابعة: جواز التكفين في ثوبين، والأفضل ثلاثة، ففي الصّحيحين عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كُفِّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ سُحُولِيَّةٍ بِيضِ.
قال المحبّ الطبري: إنّما لم يزده ثوبا ثالثا تكرمةً له، كما في الشّهيد حين قال: (( زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ )).
قال ابن المنذر: فيه أنّ الوتر في الكفن ليس بشرط في الصحّة.
الفائدة الخامسة: أنّ الكفن مقدّم على الدَّين وغيره، لأمره صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم بتكفينه في ثوبيه، ولم يستفصل هل عليه دين يستغرق أو لا ؟
الفائدة السّادسة: بقاء الإحرام بعد الموت وأنه لا ينقطع به، وهذا مذهب عثمان وعليّ وابن عباس وغيرهم رضي الله عنهم.
وبذلك قال الإمام الشّافعي وأحمد وإسحاق، فالمحرم إذا مات لا يجوز أن يُلبَس المخيط، ولا يخمّر رأسه، ولا يمسّ طيبا.
وقال الإمام أبو حنيفة ومالك والأوزاعي: ينقطع الإحرام بالموت، ويُصنَع به كما يُصنع بالحلال.
واستدلّوا على ذلك:
أ‌) بقوله صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (( إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ اِنْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ ))، قالوا: وهذا حصر.
ب‌) قالوا: لا دليل في حديث الّذي وقصته راحلته، لأنّه خاصّ به، فالرّسول صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم حكم له بذلك لأنّ الله أطلعه أنّ حجّه صحيح مقبول.
وأجاب الجمهور فقالوا:
أ‌) حديث (( إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ )) لا يُعارض هذا الحديث، لأنّ العدد لا مفهوم له، فإذا ثبت الدّليل على زيادة شيءٍ قيل به، ونظائر ذلك أكثر من أن تُحصَى.
ب‌) إنّ دعوى التّخصيص بمن وقصته النّاقة على خلاف الأصل، فلا تقبل، وقوله في الحديث: (( فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُلَبِّياً )) إشارة إلى العلّة، فلو كان مختصّا به لم يُشِر إلى العلّة.
ت‌) ربط الحكم بقبول العمل يردّه قوله صلّى الله عليه وسلّم في شهداء أحد: (( زَمِّلُوهُمْ فِي ثِيَابِهِمْ بِكُلُومِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يُبْعَثُونَ يَوْمَ القِيَامَة: اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ المِسْكِ )). مع أنّه قال: (( وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ )).
وقد اعتذر الدّاودي عن مالك فقال: لم يبلغه هذا الحديث.
الفائدة السّابعة: إباحة الغسل للمحرم.
وقد تناظر في هذا عبد الله ابن عبّاس رَضِي اللهُ عنه والمسور بن مخرمة، ففصل بينهما أبو أيّوب الأنصاريّ رَضِي اللهُ عنه.
روى البخاري أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْعَبَّاسِ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ رَضِي اللهُ عنهم اخْتَلَفَا بِالْأَبْوَاءِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِي اللهُ عنه:
يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ.
وَقَالَ الْمِسْوَرُ: لَا يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ.
قال الرّاوي: فَأَرْسَلَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ رَضِي اللهُ عنه إِلَى أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِي اللهُ عنه، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ، وَهُوَ يُسْتَرُ بِثَوْبٍ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ:
مَنْ هَذَا ؟ فَقُلْتُ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ أَسْأَلُكَ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ ؟
فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ، فَطَأْطَأَهُ حَتَّى بَدَا لِي رَأْسُهُ، ثُمَّ قَالَ لِإِنْسَانٍ يَصُبُّ عَلَيْهِ: اُصْبُبْ. فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُهُ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَفْعَلُ.
ولا يزال العلماء يستحبّون الغسل لدخول مكّة وعرفة، فقد روى مالك رحمه الله عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِي اللهُ عنه كَانَ يَغْتَسِلُ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِدُخُولِهِ مَكَّةَ، وَلِوُقُوفِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ.
الفائدة الثّامنة: إذا اعتبرنا أنّه باقٍ على إحرامه بعد موته، علمنا أنّ المحرم في حياته غير ممنوع من السّدر، وقد اختلف في ذلك:
فمذهب طاوس وعطاء ومجاهد وابن المنذر الجواز، وعليه الشّافعيّ وأحمد في أظهر الروايتين عنه.
ومنع منه مالك وأبو حنيفة وأحمد في رواية ابنه صالح عنه، قال: فإن فعل أهدى، وقال صاحبا أبي حنيفة: إن فعل فعليه صدقة. وللمانعين ثلاثُ علل:
إحداها: أنّه يقتل الهوامّ من رأسه، وهو ممنوع من التفلّي.
الثّانية: أنّه ترف وإزالة للشّعث، وهذا ينافي الإحرام.
الثّالثة: أنّه يستلذّ رائحته فأشبه الطِّيب.
قال ابن القيّم رحمه الله:" والعلل الثلاث واهية جدّا، والصّواب جوازه للنصّ، ولم يُحرِّم الله ورسوله على المحرم إزالةَ الشّعث بالاغتسال، ولا قتل القُمَّل، وليس السّدر من الطِّيب في شيء " اهـ.
الفائدة التّاسعة:
أن المحرم ممنوع من الطّيب، لأنّه صلّى الله عليه وسلّم عندما قال: (( وَلاَ تَمَسُّوهُ بِطِيبٍ )) علّل ذلك بكونه محرِماً يبعث ملبّيا.
وفي الصّحيحين من حديث ابن عمر رَضِي اللهُ عنه: (( لاَ تَلْبِسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ وَرْسٌ أَوْ زَعْفَرَانُ )). [الورس: نبات طيّب الرّائحة يُصبغ به].
الفائدة العاشرة:
أنّ المحرم ممنوع من تغطية رأسه، وهذا أمر متّفق عليه. أمّا المرأة فلا تكشف رأسها لأنّ مبناها على السّتر، ولأنّها تُحرِم في ثيابها.
الفائدة الحادية عشرة:
منع المحرم من تغطية وجهه، وهو مذهب مالك، وأحمد في رواية.
وذهب الشّافعي وأبو حنيفة وأحمد في رواية أخرى إلى إباحة تغطية وجهه، لقول بعض الصّحابة رضي الله عنهم.
وذهب ابن حزم رحمه الله إلى أنّه إن كان حيّا فله تغطية وجهه، وإن كان ميتا لم يجز تغطية وجهه، قال ابن القيّم: وهو اللائق بظاهريّته.
والشّاهد من هذا الحديث وهذه الأحكام المستنبطة، أنّ المحرِم بحجّ أو عمرة، باقٍ على حجّه أو عمرته حتّى يبعثه الله من قبره، فما أعظم أجره ! وما أرفع درجته !
وبهذا الحديث ننتهي من شرح أحاديث الباب الأوّل من الكتاب.
رد مع اقتباس
  #16  
قديم 11-06-2009, 08:59 PM
يوسف الجزائري يوسف الجزائري غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 195
Post شرح كتاب الحجّ (16)

شرح كتاب الحجّ (16)

( البـاب الثّـاني )، وهو:

( التّرغيب في النّفقة في الحجّ والعمرة، وما جاء فيمن أنفق فيهما من مال حرام ).

نصّ الحديث:

1116-عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا فِي عُمْرَتِهَا:

(( إِنَّ لَكِ مِنَ الأَجْرِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ وَنَفَقَتِكِ )).
[رواه الحاكم وقال:" صحيح على شرطهما "]. وفي رواية له وصحّحها:

(( إِنَّمَا أَجْرُكِ فِي عُمْرَتِكِ عَلَى قَدْرِ نَفَقَتِكِ ))·

الشّــرح:

- قوله: (عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ ): النّصب هو التّعب وزناً ومعنىً.

- قوله: ( رواه الحاكم ..): قد رواه البخاري ومسلم بلفظ مقاربٍ لهذا، ويتبيّن لنا منه سبب ورود وهو:

عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم لَا نَذْكُرُ إِلَّا الْحَجَّ، حَتَّى جِئْنَا سَرِفَفَطَمِثْتُ،

فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ
صلّى الله عليه وسلّم وَأَنَا أَبْكِي.

فَقَالَ: (( مَا يُبْكِيكِ ؟ )).

فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ خَرَجْتُ الْعَامَ !

قَالَ: (( مَا لَكِ ؟ لَعَلَّكِ نَفِسْتِ ؟ )).

قُلْتُ: نَعَمْ !

قَالَ: (( هَذَا شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي )).

قالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! يَرْجِعُ النَّاسُ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ وَأَرْجِعُ بِحَجَّةٍ ؟ فَأَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَرْدَفَنِي، حَتَّى جِئْنَا إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَهْلَلْتُ مِنْهَا بِعُمْرَةٍ جَزَاءً

بِعُمْرَةِ النَّاسِ الَّتِي اعْتَمَرُوا
.

عندئذ قال لها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم- كما في رواية -: (( وَلَكِنَّهَا عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ أَوْ قَالَ نَفَقَتِكِ )).·

فوائد الحديث
:

- الفائدة الأولى:

وهو الشّاهد من الحديث: أنّ المسلم عليه أن يحتسب الأجرَ إذا لقِي تعبا من أجل أداء الطّاعة، وكذا لو أنفق لأدائها. فبقدر ما يجد من التّعب والنّصب، وبقدر ما

يُنفِق في سبيل تحصيل الطّاعة بقدر ما يُضاعف له الأجر.

وهذا الحديث عزاء وتسلية للمسلمين هذه الأيّام، الّتي أضحت نفقات الحجّ خيـاليّـة ! فليتذكّر أنّ أجره على قدر نفقته.

-
الفائدة الثّانية:

استنبط العلماء من هذا الحديث وما أشبهه القاعدة الفقهيّة المعروفة: ( الأجـر علـى قـدر المشقّـة ).

ولكن ينبغي فهمها على ضوء سبب ورود الحديث، فإنّ عائشة رضي الله عنها ما قصدت أن تشقَّ على نفسها، وإنّما لأمر عارض كتبه الله على بنات آدم، وهو

الحيض، فتقيّد هذه القاعدة بما إذا لم يكن للعبْدِ سبيل آخر للتّيسير، فيقال:

( الأجـر علـى قـدر المشقّـة إذا لم يُمكِـن دفـعُـها ).

ذلك لأنّ من قواعد الشّريعة ودعائمها قوله تعالى:{ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ }. والمتمعّن في سنّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يجد الأجر العظيم،

والثّواب العميم ثبت لأعمال ليس فيها أدنى مشقّة، كبعض أنواع الأذكار، وبعض المعاملات، وغير ذلك.

لذلك أخطأ من رجّح الحجّ ما شيا على الحجّ راكبا، معلِّلاً ذلك بقوله: الأجر على قدر المشقّة.

وإنّما يفهَم هذا القيد من سبب ورود الحديث، ورحم الله شيخ الإسلام إذ قال:" معرفة السّبب يورِث العلمَ بالمسبَّب ".

- الفائدة الثّالثة: - وهي فائدة عارضة -:

روى عبد الرزّاق في " المصنّف " عن عبد الله بن مسعُودٍ بسند صحيح قال:

كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يُصَلُّونَ جَمِيعاً، فَكَانَتْ المَرْأَةُ لَهَا الخَلِيلُ تَلْبِسُ القَالِبَيْنِ – وهو النّعل ذو الكعب العالي- تَطُولُ بِهِمَا لِخَلِيلِهَا، فَأُلْقِيَ عَلَيْهِنَّ

الحَيْضَ
" ؟
وهذا لا يصحّ مرفوعا، وإنّما الصّحيح أنّه موقوف على ابن مسعود كما قال الشّيخ الألباني رحمه الله في " الضّعيفة "( 917).

وقال الحافظ ابن حجر:" وهذا، وإن كان موقوفا، فحكمه حكم الرّفع، لأنّه لا يقال بالرّأي ".

فكيف يوفّق بين هذا الأثر وبين قوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث عائشة: (( إنَّه شيءٌ كَتبَه اللهُ علَى بنَاتِ آدَم )) ؟

الجواب – واله أعلم – أنّ قول ابن مسعود رضي الله عنه: ( فَأُلْقِيَ عَلَيْهِنَّ الحَيْضَلا يعنِي بذلك ابتداؤه، وإنّما المقصود أنّ الله ابتلاهنّ به فأطاله عليهنّ،

أي: أمدّه عليهنّ حتّى تطول عادتهنّ
.

ولعلّه من باب الجزاء من جنس العلم، لأنّهنّ لمّا تطاولن للحرام، أطال الله عليهنّ الحيض.

والله أعلم.
[وهو مكان معروف خارج مكّة]
رد مع اقتباس
  #17  
قديم 11-07-2009, 12:34 PM
يوسف الجزائري يوسف الجزائري غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 195
Post شرح كتاب الحجّ (17)

شرح كتاب الحجّ (17)


(
البـاب الثّـالث )، وهو:

( التّرغيب في العمرة في رمضان ).



·
الحديث الأوّل:

1117-عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ:

أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَّ، فَقَالَتْ امْرَأَةٌ لِزَوْجِهَا: أَحِجَّنِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَمَلِكَ.

فَقَالَ: مَا عِنْدِي مَا أُحِجُّكِ عَلَيْهِ.

فَقَالَتْ: أَحِجَّنِي عَلَى جَمَلِكَ فُلَانٍ.

قَالَ: ذَاكَ حَبِيسٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي تَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَرَحْمَةَ اللَّهِ، وَإِنَّهَا سَأَلَتْنِي الْحَجَّ مَعَكَ، فَقُلْتُ: مَا عِنْدِي مَا أُحِجُّكِ عَلَيْهِ. فَقَالَتْ: أَحْجِجْنِي

عَلَى
جَمَلِكَ فُلَانٍ، فَقُلْتُ: ذَاكَ حَبِيسٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عزّ وجلّ.


فَقَالَصلّى الله عليه وسلّم: (( أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَحْجَجْتَهَا عَلَيْهِ كَانَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ )).

قَالَ: وَإِنَّهَا أَمَرَتْنِي أَنْ أَسْأَلَكَ: مَا يَعْدِلُ حَجَّةً مَعَكَ ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( أَقْرِئْهَا السَّلَامَ وَرَحْمَةَ اللَّهِ وَبَرَكَاتِهِ، وَأَخْبِرْهَا أَنَّهَا تَعْدِلُ حَجَّةً مَعِي يَعْنِي عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ )).

[رواه أبو داود وابن خزيمة في "صحيحه"، كلاهما بالقصّة، واللفظ لأبي داود، وآخره عندهما سواء].

ورواه البخاري والنّسائي وابن ماجه مختصرا:

(( عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً )).

ومسلم ولفظه:

قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِامْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهَا أُمًّ سِنَانٍ:

(( مَا مَنَعَكِ أَنْ تَحُجِّي مَعَنَا ؟))

قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ لَنَا إِلَّا نَاضِحَانِ، فَحَجَّ أَبُو وَلَدِهَا وَابْنُهَا عَلَى نَاضِحٍ، وَتَرَكَ لَنَا نَاضِحًا نَنْضِحُ عَلَيْهِ. قَالَ:

(( فَإِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فَاعْتَمِرِي، فَإِنَّ عُمْرَةً فِيهِ تَعْدِلُ حَجَّةً )).

وفي رواية له:

(( تَعْدِلُ حَجَّةً، أَوْ حَجَّةً مَعِي )).
·
شرح ألفـاظ الحديـث:

-
(أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَّ): وذلك العام العاشر من الهجرة، ولم يحجّ صلّى الله عليه وسلّم غيرها، وسمّيت بحجّة الوداع، لأنّه خاطبهم

كالمودّع لهم
صلّى الله عليه وسلّم.

-
قوله: ( ذَاكَ حَبِيسٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ): أي: هو وقفٌ لله تعالى ليُجاهد عليه المسلمون.

-
قولها: ( لَمْ يَكُنْ لَنَا إِلاَّ نَاضِحَانِ ): أي بعيران نستقي بهما.[قاله النّوويّ رحمه الله].

والبعير يُسمّى النّاضح والسّانية، وهو الذي يُستخرج به الماء ويسقى به الزّرع، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم عن كسب الحجّام: (( اعْلِفْهُ نَاضِحَكَ، وَأَطْعِمْهُ

رَقِيقَكَ )).

·
الفوائد المستنبطة من الحديث: في هذا الحديث عدّة فوائد:

- الفائدة الأولى: فضل مصاحبة النبيّ صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلّم:

ففي هذا الحديث حثّ على مصاحبته في أسفاره لا سيّما الحجّ، ولذلك جاء في صحيح مسلم عَنْ جَابِرٍ رضِي الله عنه فَقَالَ:
إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلّم

مَكَثَ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ فِي الْعَاشِرَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلّم حَاجٌّ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِهِ
.

- الفائدة الثّانية: فيه حرص المرأة على العمل الصّالح، وإلحاحها عليه.

- الفائدة الثّالثة: فيه أنّ الحجّ من سبيل الله، فهل يُعْطى المسلم الّذي لم يجد مالا ليحجّ من الزّكاة لأداء فريضة الحجّ ؟ قولان لأهل العلم:

أ‌) الأوّل: أنّه لا يجوز، ولا يدخل الحجّ في سبيل الله.

وهو مذهب جمهور العلماء: الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة، والثّوريّ وأبي ثور وابن المنذر وهو رواية عن أحمد، وقال ابن قدامة:" إنّه الصّحيح ".

ب‌) الثّاني: أنّه يجوز، وأنّ الحجّ في سبيل الله، فيصرف فيه من الزّكاة. والأدلّة على ذلك:

1- حديث الباب، فهو صريح في أنّه داخل في قوله تعالى في مصارف الزّكاة:{ وَفِي سَبِيلِ اللهِ }.

2- مَا رواه الإمام أحمد عن أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: أَرْسَلَ مَرْوَانُ إِلَى أُمِّ مَعْقِلٍ الْأَسَدِيَّةِ يَسْأَلُهَا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَحَدَّثَتْهُ أَنَّ زَوْجَهَا جَعَلَ بَكْرًا

لَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنَّهَا أَرَادَتْ الْعُمْرَةَ، فَسَأَلَتْ زَوْجَهَا الْبَكْرَ، فَأَبَى، فَأَتَتْ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلّم فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا، وَقَالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليهِ

وَسَلّم: (( الْحَجُّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ )). [الإرواء(3/372)].

3- وهو مذهب ابن عبّاس، وابن عمر
رضي الله عنهم، والحسن، وهو قول أحمد في رواية، وإسحاق، والبخاري.

قال الإمام البخاري:" بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ }، وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:"
يُعْتِقُ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ وَيُعْطِي فِي

الْحَجِّ
"، ووصله أبو عبيد في " كتاب الأموال " بسند صحيح.

وروى أبو عبيد أيضا عنه أنّه " كان يخرج زكاته ثم يقول: جهّزوا منها إلى الحجّ ". وكذا روى عنه ابن أبي شيبة (4/41) أنه كان لا يرى به بأسا.

وروى أبو عبيد عن ابن عمر أنّه قال:" أما إنّ الحج من سبيل الله "قال الحافظ:" إسناده صحيح عنه ".["الإرواء " (3/376)]

وَعلق البخاري كذلك عن الحسن، حيث قال: قَالَ الْحَسَنُ:" وَيُعْطِي فِي الْمُجَاهِدِينَ وَالَّذِي لَمْ يَحُجَّ، ثُمَّ تَلَا: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ } الْآيَةَ، فِي أَيِّهَا أَعْطَيْتَ

أَجْزَأَتْ ". وقد وصله ابن أبي شيبة بسند صحيح.

وقال عبد الله بن الإمام أحمد في" مسائله "(ص134):" سمعت أبي يقول: يُعطَى من الزّكاة في الحجّ لأنّه من سبيل الله "، وكذا روى إسحاق المروزي عن

أحمد وإسحاق.

قال ابن تيمية رحمه الله تعالى – كما في " مجموع الفتاوى "(28/274) -:

" { وَفِى سَبِيلِ اللهِ }: وهم الغزاة الذين لا يعطون من مال الله ما يكفيهم لغزوهم، فيُعطَوْن ما يغزون به، أو تمام ما يغزون به، من خيل وسلاح ونفقة وأجرة،

والحجّ من سبيل الله، كما قال النّبيّ
صلّى الله عليه وسلّم.

وشرط إعطاء الزّكاة للحجّ: أن يكون حجّه حجّ الفريضة خاصّة، فلا يُعْطَى لحجّ النّافلة.

- الفائدة الرّابعة: فضل العمرة في رمضان:

- وذلك لقوله
صلّى الله عليه وسلّم: ( فَإِنَّ عُمْرَةً فِيهِ تَعْدِلُ حَجَّةً )، وفي الرّواية الأخرى: ( تَقْضِي حَجَّةً ) أي تقوم مقامها في الثّواب، لا أنّها تعدلها في كلّ

شيء، فإنّه لو كان عليه حجّة فاعتمر في رمضان لا تجزئه عن الحجّة.

وجاءت رواية – ذكرها المصنّف بعد - فيها قوله
صلّى الله عليه وسلّم لأمّ سُليم: (((( يَا أُمَّ سُلَيْمٍ ! عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً مَعِي ))، فـ{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ

وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ
} [يونس :58].

والله أعلم وأعزّ وأكرم.


وفي معنى هذا الحديث أحاديث أخرى ذكرها المصنّف رحمه الله تحت هذا الباب.
رد مع اقتباس
  #18  
قديم 11-07-2009, 12:41 PM
يوسف الجزائري يوسف الجزائري غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 195
Post شرح كتاب الحجّ (18)

شرح كتاب الحجّ (18)



تتمّة أحاديث الباب الثّالث:


( التّرغيب في العمرة في رمضان ).


*الحديث الثّاني والثّالث:

1118-وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ رضي الله عنه فَقَالَتْ:

حَجَّ أَبُو طَلْحَةَ وَابْنُهُ، وَتَرَكَانِي، فَقَالَ صلّى الله عليه وسلّم:
(( يَا أُمَّ سُلَيْمٍ ! عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً مَعِي )).

[رواه ابن حبان في " صحيحه "].

1119-عَنْ أُمِّ مَعْقَلٍ رضي الله عنها قَالَتْ:

لَمَّا حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ، وَكَانَ لَنَا جَمَلٌ، فَجَعَلَهُ أَبُو مَعْقِلٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَتْ: وَأَصَابَنَا مَرَضٌ، وَهَلَكَ أَبُو مَعْقِلٍ، قَالَتْ: فَلَمَّا قَفَلَ

رَسُولُ اللهِ
صلّى الله عليه وسلّم مِنْ حَجِّةِ الوَدَاعِ-حَسِبْنَاهُ-قَالَ:

(( يَا أُمَّ مَعْقِلٍ ! مَا مَنَعَكِ أَنْ تَخْرُجِي مَعَنَا ؟ ))

قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ ! لَقَدْ تَهَيَّأْنَا، فَهَلَكَ أَبُو مَعْقِلٍ، وَكَانَ لَنَا جَمَلٌ هُوَ الَّذِي نَحُجُّ عَلَيْهِ، فَأَوْصَى بِهِ أَبُو مَعْقِلٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ:

(( فَهَلَّا خَرَجْتِ عَلَيْه،ِ فَإِنَّ الْحَجَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَمَّا إِذْ فَاتَتْكِ هَذِهِ الْحَجَّةُ [مَعَنَا] فَاعْتَمِرِي فِي رَمَضَانَ، فَإِنَّهَا كَحَجَّةٍ

[رواه أبو داود والتّرمذي مختصرا عنها، أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:

(( عمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً )).

وقال: "حديث حسن غريب"، وابن خزيمة باختصار إلاّ أنّه قال:

(( إِنَّ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً أَوْ تَجْزِي حَجَّةً )).

[وفي رواية لأبي داود والنّسائي عنها أنّها قالت]:

يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنِّي امْرَأَةٌ قَدْ كَبِرْتُ وَسَقِمْتُ، فَهَلْ مِنْ عَمَلٍ يُجْزِئُ عَنِّي مِنْ حَجَّتِي ؟ قَالَ:

(( عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تُجْزِئُ حَجَّةً )).

* شرح الحديث:

- قولها: ( إِنَّ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ فِي سَبِيلِ اللهِ ): هذا يدلّ على أنّ العمرة كالحجّ، يُعطَى من أرادها وهو ليس له ما يعتمر به من مال الزّكاة.

ويؤيّده ما رواه الإمام أحمد عَنْ أُمِّ مَعْقِلٍ الْأَسَدِيَّةِ أَنَّ زَوْجَهَا جَعَلَ بَكْرًا لَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنَّهَا أَرَادَتْ الْعُمْرَةَ، فَسَأَلَتْ زَوْجَهَا الْبَكْرَ، فَأَبَى، فَأَتَتْ النَّبِيَّ صلّى الله

عليه وسلّم
فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا، وَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم:

(( الْحَجُّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ )). [صحيح كما " الإرواء " (3/372)].

فنرى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سمّى العمرة حجّا، ويجمع بينهما:

المعنى اللّغوي: وهو قصد بيت الله الحرام.

والحكم الشّرعي: الوجوب.

- قولها: ( فَهَلْ مِنْ عَمَلٍ يُجْزِئُ عَنِّي مِنْ حَجَّتِي ؟ ): قد يفهم من ذلك أنّ العمرة في رمضان تُجْزِئ عن حجّ الفريضة، لأنّها قالت: ( يُجْزِئُ عَنِّي مِنْ حَجَّتِي ).

ولكنّ الظّاهر غير مراد، وإنّما المقصود به حجّتها مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الّتي تعلم أنّها لا يعوّضها شيء.

بدليل رواية النّسائي بلفظ: إِنَّ أُمَّ مَعْقِلٍ جَعَلَتْ عَلَيْهَا حَجَّةً مَعَكَ، وعند ابن منده:" جَعَلَتْ عَلَى نَفْسِهَا حَجَّةً مَعَكَ ".

فلا يدلّ الحديث على إجزاء العمرة في رمضان عن الحجّ، وأنّه يسقط بها الفرض عن الذمّة، بل المراد أنّ ثواب العمرة في رمضان كثواب الحجّ مع رسول الله

صلّى الله عليه وسلّم، وهذا التّأويل هو المتعيّن.

)).
*** *** ***


*الحديث الرّابع:


1120-وَعَنْ
أَبِي مَعْقِلٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم
قَالَ:


(( عُمْرَةٌ
فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً
)).


[رواه ابن ماجه].


1121-ورواه
البزار والطّبراني في "الكبير" في حديث طويل بإسناد جيّد عن أبي طليق
رضي الله عنه أنّه قال للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم:


فَمَا يَعْدِلُ الحَجَّ
مَعَكَ
؟


قَالَ: ((
عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ )).


(قال
المملي) رضي الله عنه: " أبو طليق هو أبو معقل، وكذلك زوجته أمّ معقل تكنّى
أمَّ طليق أيضا، ذكره ابن عبد البرّ النّمري ".
رد مع اقتباس
  #19  
قديم 11-07-2009, 12:43 PM
يوسف الجزائري يوسف الجزائري غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 195
Post شرح كتاب الحجّ (19)

شرح كتاب الحجّ (19)


البـاب الرّابـع:

4-( الترغيب في التّواضع في الحجّ، والتبذّل، ولبس الدّون من الثّياب، اقتداءً بالأنبياء عليهم السّلام ).


شـرح التّبويب:

إنّ الحجّ من أبرز مواطن العبوديّة والتذلّل لله تبارك وتعالى، ويدلّ على ذلك أنّ المسلم يلبس إزارا ورداءً متخلّيا عن لباسه الّذي كان يعدّه أشرف ما عليه،

وأحسن ما لديه.

وقوله رحمه الله: ( التبذّل ) هو البذاذة والتّواضع في اللّباس وترك الافتخار به، يقال: رجل باذ الهيئة إذا كان رثّ الهيئة واللّباس.

فقد روى أبو داود عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: ذَكَرَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَوْمًا عِنْدَهُ الدُّنْيَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم:

(( أَلَا تَسْمَعُونَ ؟ أَلَا تَسْمَعُونَ ؟ إِنَّ الْبَذَاذَةَ مِنْ الْإِيمَانِ، إِنَّ الْبَذَاذَةَ مِنْ الْإِيمَانِ )) قال:- يَعْنِي التَّقَحُّلَ.

ولا شكّ أنّ التّواضع في اللّباس لا يصادم جمال الهيئة، فكما قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:

(( إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ )).

ولكنّ ذلك لا يعني غلاءه، وما أحسن ما رواه التّرمذي وغيره عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:

(( مَنْ تَرَكَ اللِّبَاسَ تَوَاضُعًا لِلَّهِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ حُلَلِ الْإِيمَانِ شَاءَ يَلْبَسُهَا )).

قال التّرمذي: وَمَعْنَى قَوْلِهِ: (حُلَلِ الْإِيمَانِ) يَعْنِي: مَا يُعْطَى أَهْلُ الْإِيمَانِ مِنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ.

فإذا كان هذا أمرا مندوبا في جميع الأحوال فلا شكّ أنّه يندب أكثر في عبادة الحجّ، ويناسب ذلك تماما ترك تقليم الأظافر، وقصّ الشّعر، وترك الطّيب، وغير ذلك.

فلا ينبغي ولا يليق أن يغفُل الحاجّ عن هذا المقصد العظيم، وهو إظهار التّواضع لله تعالى، وطرح الشّهوات، وترك التوسّع في المباحات. لأنّ المبالغة في التّرف

من أسباب قسوة القلوب.

الحديث الأوّل:

1122-روي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ:

حَجَّ النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَحْلٍ رَثٍّ، وَقَطِيفَةٍ تُسَاوِي أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، أَوْ لَا تُسَاوِي، ثُمَّ قَالَ:

(( اللَّهُمَّ حَجَّةٌ لَا رِيَاءَ فِيهَا وَلَا سُمْعَةَ )).

[رواه التّرمذي في "الشّمائل"، وابن ماجه، والأصبهانيّ، إلاّ أنّه قال:

" لاَ تُسَاوِي أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ ".

1123-ورواه الطّبراني في "الأوسط" من حديث ابن عبّاس رضي الله عنه.

شرح الحديث:

- قوله: ( رحْل ): الرّحل هو ما يوضع على البعير، كالسّرج على الخيل، وكان العرب يزيّنون رحلهم ويعدّونه من أشرف متاعهم.

- ( قطيفة ): كساء معروف له خمل، والخمل: هو الأهداب التي تكون في أطراف الثّوب.

- وقوله صلّى الله عليه وسلّم: ( اللّهم حجّةٌ لاَ رياءَ فيها ولا سمعة ): هذا ذكر من الأذكار الّتي يأتي بها المحرم وقت إحرامه، والمقصود منه:

أ) تأكيد الإخلاص لله تعالى، وتذكير لنفسه، كما يفعل المضحّي بقوله:" اللهمّ هذا منك وإليك ".

ب) أو هو توسّل لقبول العمل.

الحديث الثّاني:

1124-عَنْ ثُمَامَةَ [هو ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أنَسٍ ] قَالَ:

( حَجَّ أَنَسٌ رضي الله عنه عَلَى رَحْلٍ، وَلَمْ يَكُنْ شَحِيحًا، وَحَدَّثَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ عَلَى رَحْلٍ، وَكَانَتْ زَامِلَتَهُ ).

[رواه البخاري].

شرح الحديث:

- قوله: ( على رَحْلٍ ): أي: لا كما يفعله الأغنياء فيحجّون في محملٍ، أو هودج أو عمارية.

قال ابن القيّم رحمه الله في " زاد المعاد ":

" وقد اختلف في جواز ركوب المحرم في المحمل والهودج والعمارية ونحوها، على قولين هما روايتان عن أحمد:

أحدهما: الجواز، وهو مذهب الشّافعي، وأبي حنيفة.

والثّاني: المنع وهو مذهب مالك " اهـ.

والموافق لهديه صلّى الله عليه وسلّم ترك ذلك طلبا للتّواضع والبذاذة.

- ( وَلَمْ يَكُنْ شَحِيحًا ): أي: كان أنسٌ رضي الله عنه يحجّ على رحلٍ كذلك، ولو شاء رضي الله عنه لفعل ذلك، فقد كان موسِراً كريما، ولكنّه ترك الرّفاهية

اقتداءً بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم.

- قوله: ( وَكَانَتْ زَامِلَتَهُ ) أي كانت الرّاحلة هي نفسها زاملته.

والزّاملة هي: البعير الذي يُحمَل عليه الطّعام والمتاع، مأخوذ من ( الزّمل ) وهو الحمل.

ومقصود أنس رضي الله عنه بقوله هذا: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم تكن معه زاملة تحمل طعامه ومتاعه، بل كان ذلك محمولا معه على راحلته الّتي

يركبها، فكانت هي الرّاحلة والزاملة.

وروى سعيد بن منصور من طريق هشام بن عروة قال:" كان النّاس يحجّون وتحتهم أزودتهم، وكان أوّل من حجّ على رحل وليس تحته شيءٌ عثمانُ بنُ عفّان

رضي الله عنه " [انظر " فتح الباري "].

والله الموفّق.
رد مع اقتباس
  #20  
قديم 11-07-2009, 12:45 PM
يوسف الجزائري يوسف الجزائري غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 195
Post شرح كتاب الحجّ (20)

شرح كتاب الحجّ (20)


تابع البـاب الرّابـع:

( الترغيب في التّواضع في الحجّ، والتبذّل،ولبس الدّون من الثّياب، اقتداءً بالأنبياء عليهم السّلام ).


الحديث الثّالث:

1125-وعَنْ قُدَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ وَهُوَ ابْنُ عَمَّارٍ رضي الله عنه قَالَ:

" رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْمِي الجَمَرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ عَلَى نَاقَةٍ صَهْبَاءَ، لاَ ضَرْبَ، وَلاَ طَرْدَ، وَلاَ إِلَيْكَ إِلَيْكَ

[رواه ابن خزيمة في "صحيحه" وغيره].

شـرح الحديـث:

- ( صهباء ): من (الصُّهبة)، وهي كالشّقرة، وهي حمرة يعلوها سواد، كما قال ابن الأثير في "النّهاية".

- ( لا ضربَ ): أي: لا يُضرب النّاس وهم حوله، يزدحمون عليه لرؤيته وأخذ مناسكهم عنه، كما يفعل حرّاس الملوك.

-( ولا طردَ ): أي ولا يطردون عنه ولا يُحجبون كما يفعل الملوك أيضا.

-( إَلَيْكَ إِلَيْكَ ): هو اسم فعل منقول من الجارّ والمجرور، ومعناه: تنحَّ وابتَعِدْ. كما نقلوا من ( عليك ) بمعنى احذَر، ومن الظّرف فقالوا: ( دونَكَ ) بمعنى

خُذْ، و( أمامك ) بمعنى تقدّم، وغير ذلك.

وذكر بعضهم أنّه يحتمل أن يكون ذلك وصفا لناقة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والمعنى: أنّها تمشي بتؤدة، لا يحثّها على السّير، ولا يأمرها بالتنحّي عن شيء

لوقارها.

وعليه فيكون علاقة الحديث بالباب أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يختار الدّواب الّتي تتّصف بالهدوء، على خلاف عادة الملوك يحجّون على الخيول الّتي

تتّصف بالخيلاء.

والأوّل أقرب، لقوله: ( إليك إليك )، فإنّه خطاب لمن يعقِل.

والله أعلم.

".
*** *** ***


الحديث الرّابع:

1126-وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ:

كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَمَرَرْنَا بِوَادٍ، فَقَالَ:

(( أَيُّ وَادٍ هَذَا ؟)) قَالُوا: وَادِي الْأَزْرَقِ. قَالَ:

(( كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرَ مِنْ طُولِ شَعَرِهِ شَيْئًا لَا يَحْفَظُهُ دَاوُدُ - وَاضِعًا إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ لَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللَّهِ بِالتَّلْبِيَةِ، مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي

)).

قَالَ: ثُمَّ سِرْنَا، حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى ثَنِيَّةٍ، فَقَالَ:

(( أَيُّ ثَنِيَّةٍ هَذِهِ ؟)) قَالُوا: ثَنِيَّةُ ( هَرْشَى ) أَوْ ( لَفَتٍ ). قَالَ:

(( كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ عَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ وَخِطَامُ نَاقَتِهِ خُلْبَةٌ، مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي مُلَبِّيًا )).

[رواه ابن ماجه بإسناد صحيح وابن خزيمة واللّفظ لهما].

ورواه الحاكم بإسناد على شرط مسلم ولفظه:

أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى عَلَى وَادِي الأَزْرَقَ، فَقَالَ:

(( مَا هَذَا ؟ )).

قَالُوا: وَادِي الأَزْرَقِ. فَقَالَ:

(( كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى عليه السّلام مُهْبِطًا لَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللهِ بِالتَّكْبِيرِ )).

ثُمَّ أَتَى عَلَى ثَنِيَّةِ [هَرْشَى]، فَقَالَ:

(( كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ عليه السّلام عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ جَعْدَةٍ، خِطَامُهَا لِيفٌ، وَهُوَ يُلَبِّي وَعَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ )).

شرح غريب الحديث:

- قوله: ( فَذَكَرَ مِنْ طُولِ شَعَرِهِ شَيْئًا لَا يَحْفَظُهُ دَاوُدُ ): قال الشّيخ الألباني رحمه الله: " داود هذا هو ابن أبي هند، رواه عن أبي العالية عن ابن عبّاس، وفي

رواية مجاهد عن ابن عبّاس رضي الله عنه: ( وَأَمَّا مُوسَى فَرَجُلٌ آدَمُ جَعْدٌ، عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ مَخْطُومٍ بِخُلْبَةٍ ) اهـ.

قال المنذريّ رحمه الله: " و(الخُلبة)-بضمّ الخاء المعجمة وسكون اللاّم-:هي اللّيف كما جاء مفسّرا في الحديث ".

وهذا الوصف منه صلّى الله عليه وسلّم فيه إشارةٌ إلى أنّ موسى عليه السّلام كان تاركا لأنواع من الزّينة.

- ( جُؤَارٌ ): هو رفع الصّوت، ومنه قوله تعالى:{حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65)}. قال

ابن عيينة: يَجْأَرُونَ: يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ كَمَا تَجْأَرُ الْبَقَرَةُ.

- قوله: ( إِصبِعيه ): "الأصبع" فيها عشر لغات: كسر الهمزة وفتحها وضمّها، مع فتح الباء وكسرها وضمّها، فهذه تسع، والعاشرة " أصبوع " على مثال

عصفور.

- ( ثَنِيَّةٍ ): هي الطّريق العالي الوعر في الجبل، وفي خطبة الحجّاج:" أنا ابن جلا وطلاّع الثّنايا "، ممّا يدلّ على صعوبة ارتقائها.

- ( هرشى ) قال المنذري:"-بفتح الهاء وسكون الرّاء بعدهما شين معجمة مقصورة-: ثنيّة قريب (الجحفة)".

و(لِفت)-بكسر اللاّم وفتحها أيضا-: هو ثنية جبل (قديد) بين مكّة والمدينة " اهـ.

الفوائد المستنبطة من الحديث:

- الفائدة الأولى: الشّاهد من هذه الحديث بيان ترك الأنبياء للزّينة، حتّى كان أحدهم يلبس جبّة من صوف، وخطام ناقته من ليف لا من جلد.

- الفائدة الثّانية: اقتداء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بإخوانه الأنبياء ووفاؤه لهم.

فتراه كأنّه يبكي على آثارهم، ويذكّر النّاس بأخبارهم ..

فكان صلّى الله عليه وسلّم كثيرا ما يذْكُرهم ويذكر أحوالهم للنّاس .. فتسمعه يقول: (( رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ )).

ويقول: (( نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ { إِذْ قَالَ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوْ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي })).

(( وَيَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ))، (( وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ يُوسُفُ ثُمَّ جَاءَنِي الدَّاعِي لَأَجَبْتُ )).

وكان يقول: (( لاَ تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتًّى )).. وكان يُشيد بنبيّ الله داود عليه السّلام فوصفه بحسن الصّوت، وكثرة الصّوم، وتحصيل أفضل الكسب.

فما من أحدٍ كان أحفظ منه صلّى الله عليه وسلّم للعهد.

- الفائدة الثّالثة: استحباب رفع الصّوت بالتّلبية، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله في بابه.

- الفائدة الرّابعة: استحباب الزّيادة على مجرّد التّلبية.

فقوله صلّى الله عليه وسلّم: (( لَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللهِ بِالتَّكْبِيرِ )): فيه دليل على أنّ الملبّي لا يقتصر على التّلبية فحسب، بل يذكر الله تعالى بالأذكار المشروعة،

كالتّكبير، والتّهليل، وغير ذلك.

وفي المسألة قولان لأهل العلم:

1) تُكره الزّيادة.

وهو قول الإمام مالك رحمه الله - على ما حكاه ابن عبد البرّ -، واختيار الطّحاوي فقال:" أجمع المسلمون جميعا على هذه التّلبية، غير أنّ قوما قالوا لا بأس

أن يزيد فيها من الذّكر لله ما أحبّ، وخالفهم آخرون فقالوا: لا ينبغي أن يزاد على ما علّمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم النّاس، وبه نأخذ " اهـ.

واستدلّوا على ذلك:

- بما رواه البخاري ومسلم عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يُهِلُّ مُلَبِّدًا يَقُولُ: (( لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ

لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ
)) لَا يَزِيدُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ.

- وبما رواه الإمام أحمد أَنَّ سَعْدًا رضي الله عنه سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ ذَا الْمَعَارِجِ ! فَقَالَ: إِنَّهُ لَذُو الْمَعَارِجِ، وَلَكِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم لَا

نَقُولُ ذَلِكَ
.

قالوا: فهذا سعدٌ رضي الله عنه قد كره الزّيادة في التّلبية.

2) أنّه لا بأس بالزّيادة على ذلك.

وهو قول محمّد بن الحسن، والثّوري، والأوزاعيّ، وعزاه الحافظ إلى الجمهور، وعزا التّرمذي إلى الشّافعي أنّه قال: فإن زاد في التلبية شيئا من تعظيم الله فلا

بأس، وأحبّ إلي أن يقتصر على تلبية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

واستدلّوا:

- بحديث الباب: (( كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى عليه السّلام مُهْبِطًا لَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللهِ بِالتَّكْبِيرِ )).

- بما رواه البخاري عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: ( كَانَ يُلَبِّي الْمُلَبِّي لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ، وَيُكَبِّرُ الْمُكَبِّرُ فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ ).

- ما رواه مسلم وأبو داود عن نافع مولى ابن عمر رضي الله عنه قال: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَزِيدُ فِيهَا: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ

لَبَّيْكَ وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ وَالْعَمَلُ
.

- ما رواه أبو داود عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أنّ النَّاس كانوا يَزِيدُونَ: (( ذَا الْمَعَارِجِ )) وَنَحْوَهُ مِنْ الْكَلَامِ، وَالنَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم يَسْمَعُ فَلَا يَقُولُ لَهُمْ شَيْئًا.

- ما رواه ابن الجارود في "المنتقى" عن جابرٍ رضي الله عنه قال: " وَالنَّاسُ يَزِيدُونَ: ( ذَا المَعَارِجِ، ذَا الفَوَاضِلِ ) وَنَحْوِهِ وَالنَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم يَسْمَعُ

فَلاَ يَقُولُ لَهُمْ شَيْئًا
" [وصحّحه الألباني رحمه الله في "الإرواء" (4/209)].

- ما رواه النّسائي وابن ماجه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ فِي تَلْبِيَتِهِ: (( لَبَّيْكَ إِلَهَ الْحَقِّ لَبَّيْكَ )).

لذلك قال الحافظ في " الفتح ":

" وهذا يدلّ على أنّ الاقتصار على التلبية المرفوعة أفضلُ لمداومته هو صلّى الله عليه وسلّم عليها، وأنّه لا بأس بالزّيادة، لكونه لم يردّ عليهم، وأقرّهم عليها

وهو قول الجمهور، وبه صرّح أشهب ".

قال القاري في " المرقاة " بعد ما ذكر قول الطّحاوي السّابق:
" ولعلّ مراده من الكراهة أن يزيد الرجل من عند نفسه على التلبية المأثورة ".

وبالجواز قال شيخ الإسلام رحمه الله كما في (26/114-115) من " مجموع الفتاوى ".

تنبيه: قوله رحمه الله:" رواه ابن ماجه " علّق على ذلك الشّيخ الألباني رحمه الله فقال:

" قلت: هو كما قال، لكنّه أبعد النّجعة في عزوه إليه فقط، فقد أخرجه مسلم أيضا، لكن في كتاب "الإيمان"
(1/106). وعنده أيضا الرّواية التي عزاها للحاكم، فوهِم في استدراكه على مسلم، لا سيّما ورواية مسلم أتمّ، والزّيادات له، وبعضها عند الحاكم أيضا ".

والله الموفّق.
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 06:18 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.