( تَوفِيقُ الإله في تَجْلِيةِ حقيقةِ معنى لا إله إلا الله )

[ابو لؤي الجزائري]

( تَوفِيقُ الإله في تَجْلِيةِ حقيقةِ معنى لا إله إلا الله )
ـ إن المعنى الحق لكلمة التوحيد ( لا إله إلا الله ) هو : ( لا معبود بحقٍ إلا الله ) أو ( لا معبود بحقٍ موجُودٍ في الوجُودِ إلا الله ) فلابد من هذا التقديرْ وهو قولُنا ( بحق ) لِنُخرجَ من عُبِدَ بالباطلِ وهم كثيرْ, كاللاتْ , والعُزى , ومناة, وهُبلْ التي كان يعبُدُها كُفار قريش , والشمسُ والقمر والنار التي يعبُدًها المجوسْ , واليهودُ يعبدون عُزَيْراً , وعُزيرٌهذا قيل : هو رجُلٌ صالحٌ , وقيل : هو نبيٌ مِنْ أنبياء بني إسرائيلْ , والنصارى يعبدُون المسيحَ عيسى بنُ مرْيم , ومن الناس من يعبد البقر , ومنهم من يعبُدُ الملائكة , وقيل : إن فرعونَ كان يعبد تَيْساً , كما ذكر ذالك إبنُ الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه النفيسْ ( تلبيسُ إبليس / ص 70 ) فهذه وغيرُها تُسمَى معبوداتٌ في اللغة , ولكنها معبوداتٌ باطلة , والله جل وعلى هو المعبودُ الحق وحده لا نِدَ لهُ ولا شريك , كما قال تعالى ( ذلك بأن اللهَ هو الحقُ وأن ما يدعُونَ مِنْ دُوْنِه الباطلْ وأنَ اللهَ هُوَ العليُ الكبيرْ) (الحج 62) .
ـ ثم إنَ للشهادةِ رُكنان : ( النفْيُ و الإثْبات ) ( فالنفيُ في قولِنا : لا إله ) , ( والإثباتُ في قولِنا : إلا الله ) .
ـ ( فلا إله ) : نافيةٌ لِجميعِ ما يُعْبدُ سِوى الله جلى وعلى .
ـ ( إلا الله ) : هذا فيه حصْرٌ للعُبودية , وأنها حقٌ خالصٌ لله عز وجل لا حظ فيها لِمخلُوقٍ كائناً مَنْ كان , فالعبادةُ كُلُها جليُها وخفيُها ظاهرُها وباطنُها لله ربِ العالمين وحدهُ لا نِدَ لهُ فيها ولا شريكْ .
ـ وهذا الأُسْلُوبُ يُعْرَفُ بأُسلُوبِ القَصْر , وهو أُسْلُوبٌ عربيٌ معرُوف , وجُملةُ القصْرِ في قُوة جُمْلتينِ , إحْداهُما مُثبتةٌ والأُخْرى مُنْفِيةٌ .
ـ وهذا الأُسْلُوبُ مِنْ أقوى الأساليبِ التي يُؤْتى بِها لِتمكِينِ الكلامِ وتقريرِهِ في الذِهنِ لِدفْعِ ما فيهِ إنكارٌ أو شَكٌ .
ـ وطريقُ القَصْرِ في كلمةِ التوحيْدِ : النفيُ و الإسْتِثْناء .
فلا إله إلا الهُ في قوة قوله تعالى ( إياك نعبُدُ وإياكَ نسْتعين ) ( الفاتحة 5) , وقوله ( قُلْ هو الرحمنُ أمناَ بِهِ وعليْهِ توكلْنا ) (الملك 29) .
ـ وبعد هذا البيانُ الشافي والتحقيقُ الكافي لِكلمة التوحيدِ لا إلهَ إلا اللهُ , يتضِحُ لنا بِجَلاءٍ بُطْلانَ ما ذهبَ إليهِ بعضُ المُتكلمين كما حكى ذلك عنهُم شيخُ الإسلام رحمه الله تعالى وغيرُهُ من أهل العلم , فإنهُمْ قالُوا : في معناها : لا خالقَ إلا اللهُ , أو لا قادر على الإختِراعِ إلا اللهُ , أو لا مُوجِدَ إلا اللهُ , وهذا باطِلٌ مِنْ عِدَةِ وُجُوهٍ :
ـ ( الوجه الأولُ ) الذي يُسْتدلُ به على تَفْنِيدِ باطِلِ هؤلاءِ القَوْم : أنَ كلمةَ ( إله ) في لُغةِ العربِ تأْتِي فِعالٌ بِمعْنى مفعُولٌ , كغِراس بمعنى مغروس , وفِراش بمعنى مفروش , وكتاب بمعنى مكتوب , فإله : فِعالٌ بمعنى مفعول : أي مألوه , والتألُهُ في لُغة العربِ معناهُ التنسُكُ والتعبُد , فمألوهٌ معناه : معبود ومنهُ قولُ رُؤبة بن العجاج :
لله دَرُ الغَانِيَاتِ المُدَهِ * سَبَحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مِنْ تألُهِي . (لسان العرب 13/469 ) . ـ وقد سَمَتْ العربُ الشمسَ لما عبدُوها إلَهَةَ, فَقدْ قالت مية بنت أم عتبة ابن الحارث : تَرَوَحْنَا مِنَ اللَعْبَاءِ عَصْراً * فَأعْجلْناَ الإلَهَة أنْ تؤُوْباَ . ( لسان العرب 13/468 ) .
إذاً : فلا يسْتقيمُ أنْ تُفسرَ بالربُوبية وإنما الحقُ والصوابُ أنْ تُفسَرَ بالألوهيةِ والعُبُودية .
ـ ( الوجهُ الثاني ) أنَ كُفارَ قُريشٍ والمُشْركينَ في الجاهلية ـ لا يُنكِرُونَ أنَ اللهَ جلى وعلى هو الخالق وهو الرازق إلى غيرِ ذالك مِنْ صِفاتِ الرُبوبية التي يخْتصُ بها سبحانه وتعالى وليس لِخلْقه منها نصِيب , بِدليلِ قولهِ تعالى ( ولئنْ سألْتهُمْ مَنْ خلقَ السمواتِ والأرضَ لَيَقُولُنَ اللهَ )( لُقمان 25 ) . وقال : ( قُلْ مَنْ يَرزُقُكُمْ من السماء والأرض أمَنْ يَملكُ السمع والأبصارَ ومن يُخْرِجُ الحيَ من الميتِ ويُخْرجُ الميت من الحيْ ومن يُدبِرُ الأمْرَ فسيقولُونَ اللهَ فَقُلْ أفلا تَتَقُون ) ( يونس 30/31 ) , وقال ( ولئنْ سألتَهُم مَنْ خلقَ السمواتِ والأرضَ وسخرَ الشمْسَ والقمرَ ليقُولُنَ اللهَ فأنى يُؤفكُون ) (العنكبوت 60/61 ) .
ـ حتى إنَكَ لَتَجِدُ ذالكَ في ثَنَايَا أشْعارِهِمْ وهُمْ في الجاهِلية كقولِ زيد بن عمر بن نُفيلْ بن عبد العُزى القُرشي والدُ سعيد بن زيدِ وبنُ عَمِ عُمر بن الخطاب قال :
أسلمتُ وَجْهيْ لِمن أسْلمتْ * لهُ الأرضُ تحْمِلُ صخراً ثِقالاَ
دَحَاها فلمًا اسْتَوتْ شدهَا * جميعاً وأرْسى عليْها الجِبالَ
و أسْلمتُ وجْهِي لِمنْ أسْلمتْ * لهُ المُزنُ تحْمِلُ عِذاباَ زُلالا
إذا هيَ سِيْقَتْ إلى بَلْدةٍ * أطاعَتْ فَصبتْ عَليْهاَ سِجَالا . ( سيرة بن هشام , 153/ 1 ) .
ـ وقال حَاتِمُ الطائي : أمَا والذي لا يَعْلَمُ السِرَ غَيْرُهُ * ويُحْييْ العِظامَ البِيْضَ وهيَ رَمِيمُ . ( شرح ديوان حاتم الطائي , ص47 ) .
ـ وقالَ زُهيْر بنُ أبي سَلْمَى :
فلا تكتُمُن اللهَ ما في نُفُوسِكُمُ * لِيُخْفى ومَهمَا يُكْتَمِ اللهُ يَعْلَمِ
يُؤخرُ فيُوضعُ في كتابٍ فيُدخَرْ * لِيَوْمِ الحِسابِ أو يُعَجَلْ فَيَنْقِمِ ( شرح ديوان زُهير بنُ أبي سلمى , ص62 ) . ـ فهذه أشْعارُهُمْ مَليئةٌ بالإقْرارِ بتوحِيدِ الرُبوبيةِ وهُمْ في الجاهِلية .
ـ ( الوجهُ الثالث ) أن كُفارَ قُريشْ لمَا قال لهُمْ نبيُهُمْ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( قُولُوا لا إلهَ إلا الله) قالُوا كما أخْبَر اللهُ تعالى عنهُمْ : ( أجعل الألِهَةَ إلهً واحِداً إن هذا لشيءٌ عُجابْ ) (ص , 5)
ـ فَما الذي فَهِمهُ كُفارُ قُريشٍ عندمَا أمرهُمْ النبيُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنْ يقُولُوا لا إله إلا الله ؟ هَلْ فَهِمُوا مِنْ لا إللهَ إلا الله أنَ مَعْناهَا لا خالِقَ أو لا قَادِرَ على الاخْتِراعِ إلا الله ؟
ـ الجواب : لا , لأنهُم لا يُنْكِرُونَ ذالك , إنمَا أنكرُوا أنْ تكُونَ العبادَةُ كُلُها للهِ وحدهُ لا شريك له , إذاً فمعنى لا إله إلا الله : لا معبُودَ حقٌ إلا الله , وتُقَدَرُ كلمةَ ( حَقٌ ) لأن المعبُوداتُ كثيرةٌ , ولكن المعبُود الحقُ هو اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ , كما قال الحقُ جل وعلى ( ذالك بأن اللهَ هو الحقُ وأن مَا يدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الباطِلْ وأنَ اللهَ هو العَلِي الكَبِيْرْ ) (الحج ,62 ) .
ـ ( رَسائِلٌ في العقيدة , ص54/55) لفضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم الحمد رحِمهُ اللهُ تعالى , المولُود سنة ( 1385 هجرية ) والمتوفى بسَنة (1404 هجرية ) بِتصرُفٍ مِنِي بِشيءٍ مِنَ الزيادة النَافِعة إنشاء اللهُ تعالى ) .
ـ وسُبْحانَكَ اللهُمَ و بِحمدِكَ أشهدُ أن لا إلهَ إلا أنْتَ أسْتَغْفِرُك وأتُوبُ إليك .