" ومن ذلك أن مسلماً خرج في " صحيحه " (!) عن القواريري عن أبي بكر الحنفي عن عاصم بن محمد العمري: ثنا سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة (فذكر الحديث ثم قال:) قال الحافظ أبو الفضل بن عمار الهروي الشهيد:
هذا حديث منكر، وإنما رواه عاصم بن محمد عن عبد الله بن سعيد المقبري عن أبيه، وعبد الله بن سعيد شديد الضعف، قال يحيى القطان: ما رأيت أحداً أضعف منه. ورواه معاذ بن معاذ عن عاصم بن محمد عن عبد الله بن سعيد عن أبيه عن أبي هريرة، وهو يشبه أحاديث عبد الله بن سعيد". انتهى.
قلت: معاذ بن معاذ - وهو العنبري - وأبو بكر الحنفي - واسمه عبد الكبير ابن عبد المجيد - كلاهما ثقة محتجٌّ به في " الصحيحين "، فلا أرى استنكار حديث هذا برواية ذاك بدون حجة ظاهرة، سوى دعوى أن حديثه يشبه أحاديث عبدالله ابن سعيد الواهي! فإن هذه المشابهة إن كانت كافية لإقناع مَن كان من النُّقاد الحذَّاق؛ فليس ذلك بالذي يكفي لإقناع الآخرين، الذين قنعوا بصدق الراوي وحفظه وضبطه، ثم لم يشعروا بذلك الشبه، أو شعروا به، ولكن لم يروا من الصواب في شيء جعله علَّة قادحة يستنكر الحديث من أجلها، ويسلَّم للقادح بها، مع مخالفته لقاعدة أخرى هي أهم وأقوى من القاعدة التي بنى ابن رجب عليها رد هذا الحديث، وهي أن زيادة الثقة مقبولة، ومن حفظ حجَّة على من لم يحفظ !
وما المانع أن يكون الحديث قد رواه عن أبي سعيد المقبري كل من ولديه: سعيد الثقة، وعبد الله الضعيف، وأن عاصماً أخذ الحديث عنهما كليهما، فكان يرويه تارة عن سعيد، فحفظه عنه أبو بكر الحنفي، وتارة عن عبد الله فحفظه معاذ بن معاذ ؟!
لا يوجد قطعاً ما يمنع من القول بهذا، بل هو أمر لا بدَّ منه، للمحافظة على القاعدة التي ذكرناها؛ لقوَّتها واضطرادها؛ بخلاف القاعدة الأخرى؛ فإنها غير مضطردة، ولا هي منضبطة؛ كما لا يخفى عمَّن له فهم وعلم في هذا الفن الشريف؛ فإن كون حديث الثقة مشابهاً لحديث الضعيف، لا يوجد في العلم الصحيح ما يدل على أن الحديث حديث الضعيف، وأن الثقة وهم فيه، إذ قد يروي الضعيف ما يشبه أحاديث الثقات على قاعدة:
" صدقك وهو كذوب "؛ فكيف يجوز مع ذلك أن نردَّ حديث الثقة لمجرَّد مشابهته لحديث
الضعيف؟ ! بل العكس هو الصواب: أن نقبل من حديث الضعيف ما يشبه حديث الثقة
ويوافقه، بل إن الراوي المجهول حفظه وضبطه لا يعرف ذلك منه إلا بعرضه على أحاديث الثقات، فما وافقها من حديثه؛ قُبِل، وما عارضه وخالفه؛ تُرِك، وهذا علم معروف في " مصطلح الحديث ".
ومما يؤيد صحة هذا الحديث، وأن أبا بكر الحنفي قد حفظه، وليس هو من حديث
عبد الله بن سعيد وحده: أن الإمام مالك قال في " الموطأ " (2 / 940 / 5) :
" عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا مرض العبد؛ بعث الله تعالى إليه ملكين، فقال: انظروا ماذا يقول لعوَّاده؟ فإن هو إذا جاؤوه؛ حمد الله، وأثنى عليه؛ رفعا ذلك إلى الله عزَّ وجل - وهو أعلم -
فيقول: لعبدي عليَّ إن توفَّيته أن أدخله الجنة، وإن أنا شفيته أن أبدل له لحماً خيراً من لحمه، ودماً خيراً من دمه، وأن أكفِّر عنه سيئاته ".
وهذا سند مرسل صحيح، فهو شاهد قويٌّ لحديث أبي بكر الحنفي الموصول، والحمد لله على توفيقه.
ثم رأيته موصولاً عن مالك، أخرجه أبو الحسين الأبنوسي في " جزء فيه فوائد عوال حسان منتقاة غرائب " (3 / 2) : أخبرنا علي (هو الدارقطني) قال: ثنا أبو بكر عبد الله بن سليمان بن الأشعث إملاءً سنة ست عشرة وثلاث مئة قال: ثنا علي بن محمد الزياداباذي قال: ثنا معن بن عيسى قال: ثنا مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فذكره)، وقال:
" قال الدارقطني: تفرَّد به علي بن محمد عن معن عن مالك، وما نكتبه إلا عن ابن أبي داود ".
قلت: لكن الزباداباذي هذا كأنه مجهول؛ فقد أورده السمعاني في هذه النسبة، وذكر أنه روى عنه جماعة (وفي النسخة سقط)، ولم يحك فيه جرحاً ولا تعديلاً، وأورده في " الميزان "، وتبعه في " اللسان "، من أجل هذا الحديث، وقال:
" وأشار الدارقطني في " غرائب مالك " إلى لينه، وأنه تفرَّد عن معن عن مالك به، وقال: إنما هو في " الموطأ " بسند منقطع عن غير سهيل " ]. اهـ