عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 12-11-2009, 07:38 AM
أبو يزيد المدني أبو يزيد المدني غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
الدولة: المدينة المنورة
المشاركات: 3
افتراضي


بارك الله فيك أخي الكريم على هذا الجمع الطيب
ومساهمة مني في إثراء هذا البحث, أود تقديم هذا البحث المقتضب, حول القراءة بالمقامات وبألحان أهل الغناء, كنت قد كتبته قبل مدة, والله الموفق, والهادي إلى سواء السبيل.


بدعة قراءة القرآن بألحان ومقامات أهل الغناء

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف المرسلين, وبعد:
إنّ التغنّي بالقرآن, وترتيله بالصوت الحسن من نعم الله التي يجتبي بها خلقاً من عباده, وهذا التغني مدعاة لتدبر القرآن والتأثر به حال استماعه.
ولكن شطّ قوم في التغنّي بالقرآن وجاوزوا به الحدّ المباح شرعاً فقارعوا به أهل الغناء والألحان, فصار الترتيل صناعة تضاهي الغناء وتماثله.
ولهذا أحببت أن أبين الحدّ المشروع في التغنّي بالقرآن, مع بيان أوجه التجاوز في ترتيل بعض القرّاء مما لم يأذن به الشرع, والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

المطلب الأوّل: فضل الترتيل والتغنّي بالقرآن.

- لقد ندب الله عباده للترتيل القرآن, والتغنّي به, وتحسين الصوت به:
والنصوص الواردة في ذلك كثيرة, منها تمثيلاً لا حصراً:
قوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً}, والترتيل: هو أن يذكر الحروف والكلمات مبينة ظاهرة ]مفاتيح الغيب 1/60[
وجاء في صحيح مسلم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أذن الله لشيء كأذَنه لنبي يتغنّى بالقرآن يجهر به ).
ومعنى الجهر: رفع الصوت بالقراءة وتحسينه بها فطرة لا صنعة، يترنّم به ويطرب.

- وجاء الندب بتحسين الأصوات بالقرآن:
كما روى البخاري في صحيحه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "زينوا القرآن بأصواتكم".
لكن الترتيل لا ينبغي أن يؤدي إلى زيادة في المدّ المطلوب أو تغيير في الأحرف حتى يخرج عن القراءة المشروعة.
قال ابن قدامة في المغني: "وعلى كل حال فقد ثبت أن تحسين الصوت بالقرآن وتطريبه مستحب غير مكروه، ما لم يخرج ذلك إلى تغيير لفظه وزيادة حروفه، فقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: استمع قراءة رجل في المسجد لم أسمع قراءة أحسن من قراءته، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فاستمع قراءته ثم قال: هذا سالم مولى أبي حذيفة، الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى: "إني مررت بك البارحة وأنت تقرأ، فقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود، فقال أبو موسى: لو أعلم أنك تستمع لحبِّرتُه لك تحبيراً" ]المغني [

المطلب الثاني: قراءة القرآن بألحان ومقامات أهل الغناء.

إنّ من بدع القراء, وبلايا هذا الزمان, تفشي القراءة بالألحان والمقامات حتى صارت مطلب كلّ قارئ, ومهوى كلّ مستمع.
وقد يغيّب الحقّ أحياناً وتندرس معالمه حتى يظن الناس أنّ البدعة سنة, وأنّ السنة بدعة.
ولهذا فاعلم أخي -هداني الله وإياك إلى الحق- أنّ القراءة بالألحان محرمة أو مكروهة, كما ذكر ذلك جمهور السلف رحمهم الله.
وفيما يلي البيان والتفصيل, والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل:

أولاً: المقصود بقراءة القرآن بألحان أهل الغناء.

اعلم أنّ القراءة بالألحان على ضربين:
1- الألحان التي تسمح بها طبيعة الإنسان من غير تصنّع:
وهذا ما يفعله أكثر الناس عند قراءة القرآن، فإن كل من تغنّى بالقرآن فإنه لا يخرج عن ذلك التلحين البسيط، وذلك جائز، وهو من التغني الممدوح المحمود، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " ليس منا من لم يتغن بالقرآن" ]رواه البخاري[
2- الألحان المصنوعة والإيقاعات الموسيقية:
ما كان من ذلك صناعةً من الصنائع، وليس في الطبع السماحة به، بل لا يحصُل إلا بتكلُّف وتصنُّع وتمرُّن، كما يتعلم أصوات الغِناء بأنواع الألحان البسيطة، والمركبة على إيقاعات مخصوصة، وأوزانٍ مخترعة، وهو ما يعرف بالمقامات.
وهي لا تحصل إلا بالتعلُم والتكلف، فهذه هي التي كرهها السلفُ، وعابوها، وذمّوها، ومنعوا القراءةَ بها، وأنكروا على من قرأ بها.

وهذا النوع هو الذي ورد فيه التحريم أو الكراهة كما سيأتي بيانه.

قال الشيخ بكر أبو زيد في كتابة بدع القراء: "التلحين في القراءة, تلحين الغناء والشَّعر. وهو مسقط للعدالة, ومن أسباب رد الشهادة, قَضَاءً. وكان أول حدوث هذه البدعة في القرن الرابع على أيدي الموالي".
وإننا في زمن لا يذيع صيت القارئ إلاّ إذا تعلّم أوزان ألحان أهل الغناء, والمقامات, مثل: البيات, الناري, السيكاه, الحكيمي, الديوان, الرست, الشور, المدمي, الخناجات, الأبراهمي, المنصوري, العجم, الصبا, المخالف, الجبوري, الحجاز, المثنوي, وغيرها.

وقد سمعت بعض قرائنا في الجزائر يقرأ بمقام الموشحات الحوزية الأندلسية, تكاد إذا استمعت إليه لا تفرق بين الأغاني الحوزية وبين القرآن الكريم.

وقرأت في تراجم بعض القراء المعاصرين, أنّ منهم من تعلم الموسيقى في المعاهد الموسيقية، وتعلّم الألحان والمقامات على يدي كبار الملحنين, حيث صرّح أحد كبرائهم أنه كان يتردّد على الملحن المشهور: رياض السنباطي ليأخذ عنه الألحان والمقامات, ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وشهدت يوماً مسابقة أقيمت في التجويد فكان المحكّمون يوجهون القارئ عند التقويم إلى لزوم القراءة بالمقام الفلاني والعلاني.
هكذا أصبح الترتيل صناعة تضاهي الغناء والتلحين.

ولا بد أخي الكريم من التفريق بين المقام الصوتي والمقام الموسيقي.

فالمقام الصوتي هو: هو الطابع الذي يمتاز به صوت معين .. وهذا لا محظور فيه البتة, لجريانه وفق السليقة والسجيّة.
أما المقام الموسيقي: فهو درجات ارتفاع الصوت أو انخفاضه بشكل منسق, ومنه ما يسمى القرار, أي: انخفاض في عدد اهتزاز النبرات الصويتة و قد يعني عرفا الجواب الموسيقي.

ثانياً: أدلة النهي عن القراءة بالمقامات وألحان أهل الغناء.
1- روي عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: "اقرأوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الكبائر والفسق، فإنه سيجيء من بعدي أقوام يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والرهبانية، والنوح لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم، وقلوب الذين يعجبهم شأنهم" ]أخرجه الطبراني في الكبير، ومال ابن القيم إلى الاحتجاج به[
ووجه الدلالة منه:
أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقراءة القرآن الكريم، وفقاً لطريقة العرب في تحسين أصواتهم به، وحذر من اتباع أهل الفسق في طرائقهم المتبعة في قراءته، من مراعاة الأنغام والتطريب المستفاد من الموسيقا، وذلك لحرمة إخضاع ألفاظ القرآن الكريم للنغمات الموسيقية وإيقاعاتها.

2- روي عن عبس الغفاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أشراط الساعة، وذكر أشياء، منها: أن يتخذ القرآن مزامير يقدمون أحدهم ليس بأقرئهم ولا أفضلهم إلا ليغنيهم غناء" ]أخرجه الطبراني في الأوسط[
ووجه الدلالة منه:
لقد عدّ النبي صلى الله عليه وسلم الافتتان بالتطريب بالقرآن والتغني به على أوزان الألحان من علامات الساعة, وهذا غاية في الإنكار.

3- روي أن زياد النهدي جاء إلى أنس رضي الله عنه مع القراء، فقيل له: اقرأ، فرفع زياد صوته بالقراءة وطرب، وكان رفيع الصوت، فكشف أنس عن وجهه - وكان على وجهه خرقة سوداء - وقال: يا هذا ما هكذا كانوا يفعلون، وكان أنس إذا رأى شيئاً ينكره رفع الخرقة عن وجهه"]زاد المعاد 1/137[
ووجه الدلالة منه:
أنّ أنساً رضي الله عنه أنكر على زياد تطريبه بالقراءة، وبيَّن له أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم لم يكونوا يفعلونه في قراءتهم للقرآن الكريم، وهذا منهم لا يكون إلا عن توقيف، لأنه لا مدخل للرأي فيه.

4- إنّ التطريب بالقراءة, وتكلّف أوزان أهل الغناء فيها, يتضمن -عادة- همز ما ليس بمهموز، ومد ما ليس بممدود، وترجيع الألف الواحدة ألفات، والواو واوات، والياء ياءات، فيؤدي هذا إلى زيادة في القرآن الكريم، وهو غير جائز.

5- إنّ هذه الألحان المبتدعة المطربة تهيج الطباع، وتلهي عن تدبّر ما يحصل له من الاستماع حتى يصير التلذذ بمجرد سماع النغمات الموزونة والأصوات المطربة، وذلك يمنع المقصود من تدبر معاني القرآن.

وإنما وردت السنة بتحسين الصوت بالقرآن، لا بقراءة الألحان، وبينهما بون بعيد
6- أنكر جمهور السلف رحمهم الله القراءة بالألحان وأوزان أهل الغناء, وعدّوها من البدع المحدثة, وهذه بعض الآثار في ذلك:
- عن يعقوب الهاشمي، قال: سمعت أبي أنه سأل أبا عبد الله عن القراءة بالألحان، فقال: « هو بدعة ومحدث، قلت: تكرهه يا أبا عبد الله -أي: الإمام أحمد-؟ قال: نعم، أكرهه، إلا ما كان من طبع، كما كان أبو موسى، فأما من يتعلمه بالألحان فمكروه. قلت: إن محمد بن سعيد الترمذي ذكر أنه قرأ ليحيى بن سعيد، فقال: صدقت، كان قرأ له، وقال: قراءة القرآن بالألحان مكروه » ]رواه الخلال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر[
- وعن عبد الرحمن المتطبب، يقول: قلت لأبي عبد الله في قراءة الألحان؟ فقال: « يا أبا الفضل، اتخذوه أغاني، اتخذوه أغاني، لا تسمع من هؤلاء».
- وكان محمد بن الهيثم، يقول: « لأن أسمع الغناء أحب إلي من أن أسمع قراءة الألحان » ]رواه الخلال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر[.
- بل جرى اتفاق أئمة السلف رحمهم الله على كراهة هذا النوع من القراءات المبتدعة, قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "قراءة القرآن بصفة التلحين الذي يشبه تلحين الغناء مكروه مبتدع، كما نص على ذلك مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من الأئمة" (المستدرك على مجموع الفتاوى 3/105).
- قال ابن القيم رحمه الله: "وكلُّ من له علم بأحوال السلف، يعلم قطعاً أنهم بُرآء من القراءة بألحان الموسيقى المتكلفة، التي هي إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة، وأنهم أتقى للّه من أن يقرؤوا بها، ويُسوّغوها، ويعلم قطعاً أنهم كانوا يقرؤون بالتحزين والتطريب، ويحسِّنون أصواتَهم بالقرآن، ويقرؤونه بِشجىً تارة، وبِطَربِ تارة، وبِشوْق تارة، وهذا أمر مركوز في الطباع تقاضيه، ولم ينه عنه الشارع مع شدة تقاضي الطباع له" (زاد المعاد 1/493).
- وورد سؤال للشيخ العلامَّة عبد العزيز بن باز رحمه الله, ماذا يقول سماحتكم في قارئ القرآن بواسطة مقامات هي أشبه بالمقامات الغنائية بل هي مأخـوذة منها أفيدونا بذلك جزاكم الله خيرا ؟
فأجاب رحمه الله: "لا يجوز للمؤمن أن يقرأ القرآن بألحان الغناء وطريقة المُغنيين بل يجب أن يقرأه كما قرأه سلفنا الصالح من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان، فيقرأه مُرتلاً, مُتحزناً, مُتخشعاً حتى يؤثر في القلوب التي تسمعه وحتى يتأثر هو بذلك. أما أن يقرأه على صفة المغنيين وعلى طريقتهم فهذا لا يجوز" ]مجموع فتاوى ومقالات[

ثالثاً: حكم متعاطي هذا النوع من القراءات المبتدعة:
اعلم أخي الحبيب ! أنّ متعاطي هذا النوع من القراءات المبتدعة لا يعدو أحد رجلين:
- إمّا أن يكون من أربابه الذين تمرّسوا وتدرّبوا على هذا النوع من القراءات المبتدعة, وهذا شأن بعض مشاهير القرّاء, وهذا لا شكّ أنه تقصّد هذه البدعة وسعى إليها, فيبيّن له حكم الشرع إن كان يجهله حتى يرجع إلى جادة الحقّ والصواب.
- أو أن يكون مقلّداً لغيره من القرّاء - مع ما في تقليد القرّاء من كراهة كما ذكر غير واحد من السلف-.
ولا شكّ أنّ من تلبّس بشيء حتى صار له سجية وعادة, عليه أن يجهد نفسه للتخلّص من هذه العوائد, فإن عجز عن ذلك فهو غير مؤاخذ.

ومن جهة أخرى:

إذا صحب هذا التغنّي المذموم, تغيير في صفات الحروف, زيادة في بنية الكلمات فلا شكّ أنّ هذا من اللحن الفاحش, فتصير القراءة أشدّ تحريماً.
فإن لم يصحبه تغيير وتبديل في صفات الحروف, وبنية الكلمات فهو إلى الكراهة أقرب.
قال الحافظ ابن كثير في مقدمة تفسيره -بعد أنّ ذكر كلام السلف في النهي عن قراءة الألحان-: "وهذا يدل على أنه محذور كبير، وهو قراءة القرآن بالألحان التي يسلك بها مذاهب الغناء، وقد نص الأئمة، رحمهم الله، على النهي عنه، فأما إن خرج به إلى التمطيط الفاحش الذي يزيد بسببه حرفا أو ينقص حرفا، فقد اتفق العلماء على تحريمه" (تفسير ابن كثير 1/65).

وعليه ينبغي أيها القاريء الحبيب, أن تقرأ القرآن وتتغنى به على وفق الطبيعة والسليقة, واحذرن أن تقلّد المفتونين بالمقامات وألحان الغناء.
ويتوجّه النصح أيضاً للمستمع لكلام الرحمن, فينبغي عليه أن ينصرف إلى سماع المشهود لهم بالتمرّس في علم التجويد, مع البعد عن التكلف, وليحذر الانسياق في سماع المبتلين بقراءة القرآن بالألحان والمقامات.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

كتبه وحرّره: أبو يزيد سليم بن صفية المدني.
رد مع اقتباس