عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 09-09-2012, 05:42 PM
أم عامر أم عامر غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jul 2012
الدولة: الإمارات
المشاركات: 79
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم
تابع
مقدمة أصول التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
شرح الشيخ إبراهيم بن عامر الرحيلي حفظه الله
(الدرس الثالث)




قال رحمه الله: [وَإِنَّمَا المَقْصُودُ: أَنَّ كُلَّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ يَدُلُّ عَلَى ذَاتِهِ وَعَلَى مَا فِي الاسْمِ من صفاته، وَيَدُلُّ أَيْضاً عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي في الاسْمِ الآخَرِ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ]




بعد أن ذكر المصنف التنبيه على إنكار دلالات الأسماء من قِبل القرامطة والباطنية وكذلك من يدعي الظاهر وهو ينكر دلالة الأسماء ، نبّه على هذه المسألة فقال: (وَإِنَّمَا المَقْصُودُ: أَنَّ كُلَّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ يَدُلُّ عَلَى ذَاتِهِ وَعَلَى مَا فِي الاسْمِ من صفاته، وَيَدُلُّ أَيْضاً عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي في الاسْمِ الآخَرِ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ) هنا ينبه المصنف إلى أن أسماء الله عز وجل تدل على الذات ، وعلى الصفات بأنواع الدلالات الثلاث: دلالة المطابقة ، ودلالة التضمن ، ودلالة اللزوم ، فكل اسم يدل على الذات ، ويدل على الصفة التي اشتقت منه دلالةَ مطابقة ، مثل: دلالة الخالق على الذات وعلى صفة الخلق ، ودلالة التضمن هي دلالة اسم الخالق على صفة الخلق منفردة عن المعنى الآخر ، وكذلك يدل على الذات منفردة عن الصفة ؛ لأن كلا من الصفة والذات يتضمنها الاسم ، فإذا دل على أحد أجزاء المعنى تسمى هذه الدلالة دلالة تضمن. ودلالة اللزوم هي دلالة اللفظ على أمر خارج عن معناه بدلالة اللزوم ، ولعلنا نعرف تعريفا موجزا بأنواع هذه الدلالات.
أولا: هذه الدلالات تسمى دلالات اللفظ ، وهي ثلاثة أقسام: دلالة المطابقة ، دلالة التضمن ، ودلالة اللزوم ، والأصل في هذا أن الألفاظ في اللغة وكذلك الألفاظ الاصطلاحية وضعت لمعاني ، فهذه المعاني إن دل اللفظ على كامل المعنى تسمى دلالة مطابقة ، فدلالة المطابقة: هي دلالة اللفظ على كامل المعنى مثل دلالة البيت على سائر أجزائه ، مثل: دلالة البيت على الجدار ، والسقف ، والحُجر ، وكل ما يشمله البيت ، فإنه إذا أطلق البيت دل على كامل أجزائه دلالة مطابقة ؛ لأن البيت وضع لهذا المعنى الكامل ، ولهذا الآن في المبايعات وفي أنواع العقود إذا ذكر البيت فأنه يشمل سائر أجزاء البيت ، فلا يقول الرجل بعت البيت على فلان ثم يقول إنما أردت حجرة من حجر البيت أو أردت الجدار ؛ لأن الأصل في البيت أنه يشمل سائر هذه الأجزاء ، ولهذا إذا أراد أن يستثني شيئا فإنه يستثنيه ، يقول: بعت البيت إلا كذا وكذا منه ، فدلالة البيت على سائر أجزائه هذه دلالة مطابقة ، وإنما سميت دلالة مطابقة ؛ لمطابقة اللفظ لكامل المعنى الذي وضع له.
الدلالة الثانية: دلالة التضمن وهو دلالة اللفظ على جزء من المعنى الذي وضع له ، مثل دلالة البيت على السقف ، أو دلالة البيت على الجدار ، أو دلالة البيت على حجرة من حجراته ، فهذه دلالة تضمن ؛ لأن البيت يتضمن هذا الذي ذُكر وغيره ، فسميت دلالة تضمن ؛ لأن اللفظ يتضمن هذا الجزء وزيادة ، وإنما أريد به هنا جزء من المعنى مثل ما قلنا في اسم الخالق فإنه يدل دلالة مطابقة على الذات وعلى الصفة ؛ لأنه وضع لهذا ، فإذا دل على الصفة منفردة عن الذات ، أو الصفة منفردة عن الذات فإن هذه تسمى صفة تضمن ، وسميت دلالة تضمن لأن اللفظ يتضمن هذا الجزء من المعنى.
الدلالة الثالثة: هي دلالة اللزوم وهو دلالة اللفظ على أمر خارج عن المعنى الذي وضع له اللفظ ولكنه يستلزمه إما عقليا أو عرفيا ، مثال ذلك دلالة السقف على الجدار ، فإن هذه الدلالة دلالة لزوم ، فإنه ليس من معاني السقف: الجدار ، فإذا قلت السقف لا يعرف في معناه الجدار ؛ لكنه يستلزمه عقلا ، فلا يتصور أن يوجد سقف بلا جدار ، وأما استلزامه له عرفا مثل: دلالة مجيء الملك والأمير على مجيء الحاشية ، فإن مجيء الملك لا يدل على مجيء الحاشية ، لكنه يستلزمه عرفا ، لأنه في عرف الملوك إذا جاء الملك جاءت الحاشية والأعوان والوزراء ، فاستلزمه عرفا كما أن الاستلزام الأول هو استلزام عقلي ، فكل اسم من أسماء الله عز وجل يدل على الذات وعلى الصفات إما بدلالة المطابقة أو بدلالة التضمن أو بدلالة اللزوم ، مثال ذلك: اسم الخالق يدل دلالة مطابقة على ذات الله عز وجل وعلى صفة الخلق ، وإذا دل على جزء من المعنى مثل دلالة الخالق على الذات منفردة أو دلالته على صفة الخلق منفردة فإن هذه دلالة تضمن ، وأما دلالة هذا الاسم على بعض المعاني بدلالة اللزوم مثل دلالة اسم الخالق على القدرة وعلى العلم فإنه لا يتصور عقلا أنه يكون هناك خالق لا يعلم ، أو أن يكون هناك خالق وصانع وهو لا يقدر ، وبهذا يتبين أن هذا الاسم يدل على هذه المعاني بدلالة اللزوم أي أنه يستلزمها ، ولهذا ذكر المصنف أن كل اسم من أسمائه يدل على ذاته وعلى ما في الإسم من صفاته هذه دلالة مطابقة ، فإذا دل على الذات منفردة أو على الصفة منفردة فإن هذه دلالة تضمن ، قال: (وَيَدُلُّ أَيْضاً عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي في الاسْمِ الآخَرِ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ) مثل الصفة التي في العليم وهي صفة العلم دل عليها اسم الخالق دلالة لزوم.




قال رحمه الله تعالى: [وَكَذِلِكَ أَسْمَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، مِثْلُ: «مُحَمَّدٍ»، وَ«المَاحِي»، وَ«الحَاشِرِ»، وَ«العَاقِبِ».]




وكذلك أسماء النبي صلى الله عليه وسلم فإنها تدل على معاني ، وكل اسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم يدل على معنى من المعاني ، مثل محمد يدل على صفة الحمد ، كذلك أحمد ، وكذلك الماحي يدل على المحو أي أن الله محا به الشرك ، وكذلك الحاشر أي أن الناس يُحشرون على قدميه يوم القيامة ، وأنه حامل لواء الحمد ، وأن الناس يوم القيامة يلجؤون إليه بطلب الشفاعة عند الله ؛ ليفصل بينهم ، وكذلك العاقب وهو الذي يعقب غيره من الأنبياء فهو خاتم الأنبياء ، فكل اسم من هذه الأسماء يدل على صفة ولكنه يدل على الصفة الأخرى بطريق اللزوم ، مثل: الماحي فإنه يدل على ذات النبي صلى الله عليه وسلم وعلى هذه الصفة وأنه يدل على الحمد أيضا ؛ لأن محو الشرك محمود ، فدل على صفة الحمد بدلالة اللزوم.




قال رحمه الله: [وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ القُرْآنِ؛ مِثْلُ: «القُرْآنِ»، وَ«الفُرْقَانِ»، وَ«الهُدَى»، وَ«الشِّفَاءِ»، وَ«البَيَانِ»، وَ«الكِتَابِ»، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.]




أيضا أسماء القرآن كلها أسماء لها معاني ، وهي أعلام وأوصاف ، القرآن أي أنه مقروء ، وكذلك الفرقان فرق الله به بين الحق والباطل ، وكذلك الهدى والشفاء لأنه فيه شفاء ، البيان لأن فيه بيان ، والكتاب لأن فيه المكتوب ، فكل هذه الأسماء قرآن فهو يدل على كتاب الله عز وجل ، وكل اسم من هذه الأسماء يدل على هذا الكتاب ، وقد يدل على صفة في اسم آخر بدلالة اللزوم.




قال رحمه الله: [فَإِنْ كَانَ مَقْصُودُ السَّائِلِ تَعْيينَ المُسَمَّى، عَبَّرْنَا عَنْهُ بِأَيِّ اسْمٍ كَانَ إِذَا عُرِفَ مُسَمَّى هَذَا الاسْمِ. وَقَدْ يَكُونُ الاسْمُ عَلَماً، وَقَدْ يَكُونُ صِفَةً]




(فَإِنْ كَانَ مَقْصُودُ السَّائِلِ تَعْيينَ المُسَمَّى) مثل أن يسأل السائل عن الله عز وجل فيقال من الذي أوجد هذا؟ فيقال العليم السميع البصير ، لأنه المقصود هنا الإخبار عن المسمى ، لكنه إذا سأل عن الصفة فإنه يخبر عن الاسم الذي يتضمن الصفة ، ولهذا لما سألت أمهات المؤمنين النبي صلى الله عليه وسلم عن الذي أخبره بخبرهم قال: {نبأني العليم الخبير} لأن هذا متضمن علم الله عز وجل بما يتكلم به وبما يسر ، فإذا كان المقصود هو السؤال عن المسمى يخبر عن الله عز وجل بأي اسم من اسمائه ؛ لأن المقصود تعيين المسمى ، قال: (فَإِنْ كَانَ مَقْصُودُ السَّائِلِ تَعْيينَ المُسَمَّى، عَبَّرْنَا عَنْهُ بِأَيِّ اسْمٍ كَانَ إِذَا عُرِفَ مُسَمَّى هَذَا الاسْمِ.) وكل اسم هو يدل على المسمى ، وقد يكون هذا الاسم يتضمن صفة لم يسأل عنها .
ثم قال: (وَقَدْ يَكُونُ الاسْمُ عَلَماً، وَقَدْ يَكُونُ صِفَةً): لأنه الاسماء تتنوع فقد تكون أسماء أعلام أو أوصاف فإذا كان السؤال عن المسمى فيخبر عنه بأي اسم من أسمائه الدالة على هذه الذات.




قال رحمه الله: [ كَمَنْ يَسْأَلُ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي. مَا ذِكْرُهُ؟ فَيُقَالُ لَهُ: هُوَ «القُرْآنُ»، مَثَلاً، أَوْ: مَا أَنْزَلَهُ مِنَ الكُتُبِ؛ فَإِنَّ «الذِّكْرَ» مَصْدَرٌ، وَالمَصْدَرُ تَارَةً يُضَافُ إِلَى الفَاعِلِ. وَتَارَةً إِلَى المَفْعُولِ. فَإِذَا قِيلَ: ذِكْرُ اللهِ، بِالمَعْنَى الثَّانِي، كَانَ مَا يُذْكَرُ بِهِ؛ مِثْلُ قَوْلِ العَبْدِ: «سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ للهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ». وَإِذَا قِيلَ بِالمَعْنَى الأَوَّلِ، كَانَ مَا يَذْكُرُهُ هُوَ، وَهُوَ كَلَامُهُ. وَهَذَا هُوَ المُرَادُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي﴾ ؛ لأَنَّهُ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى﴾. وَهُدَاهُ: هُوَ مَا أَنْزَلَهُ مِنَ الذِّكْرِ، وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿قَالَ رَبِّ لَمْ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً (125)قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا﴾.]




قال: (كَمَنْ يَسْأَلُ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي. مَا ذِكْرُهُ؟ فَيُقَالُ لَهُ: هُوَ «القُرْآنُ»، مَثَلاً، أَوْ: مَا أَنْزَلَهُ مِنَ الكُتُبِ؛ فَإِنَّ «الذِّكْرَ» مَصْدَرٌ، وَالمَصْدَرُ تَارَةً يُضَافُ إِلَى الفَاعِلِ. وَتَارَةً إِلَى المَفْعُولِ. فَإِذَا قِيلَ: ذِكْرُ اللهِ، بِالمَعْنَى الثَّانِي، كَانَ مَا يُذْكَرُ بِهِ؛ مِثْلُ قَوْلِ العَبْدِ: «سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ للهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ») إذا كان الذكر هنا من باب إضافته إلى المفعول كان المعنى هو ذكر العبد له مثل قول العبد سبحان الله والحمدلله ، فيكون الفعل هنا مضاف إلى العبد وما يصدر منه فيكون معناه عندما يذكر الله عز وجل فيكن من باب إضافة المصدر إلى المفعول ؛ لأن الله عز وجل يُذكر والعبد ذاكر فأضيفه هنا بالضمير الراجع إلى الله عز وجل وهو الذي ذكره العبد ، فالله ذاكر والعبد يذكره: يسبحه ويكبره ويحمده ويهلله فيكون هذا من باب إضافة المصدر للمفعول ، (وَإِذَا قِيلَ بِالمَعْنَى الأَوَّلِ، كَانَ مَا يَذْكُرُهُ هُوَ، وَهُوَ كَلَامُهُ) إذا أضيف المصدر للفاعل كان المقصود بالذكر كلامه الذي يذكره كما يقول :﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي أي عن كلامي الذي قام به والذي هو فاعل له (وَهَذَا هُوَ المُرَادُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي﴾ ؛ لأَنَّهُ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى) هنا لاحظوا استدلال شيخ الإسلام بدلالة السباق ؛ لأنه ذكر أن هذا الذكر في قوله تعالى (﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي﴾ ؛ لأَنَّهُ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى ) فدل على أن الذكر هنا هو الهدى الذي ذكره الله عز وجل في قوله: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى لأن فعل العبد ليس هو الهدى الذي جاء من الله عز وجل وإنما دل عليه الكتاب الذي جاء به الله عز وجل ، أما الهدى الذي جاء من الله عز وجل هو الكتاب ، أما الهدى الذي قام بالعبد هو فعله ، والفعل إنما جاء من قبل العبد لم يأتي من قبل الرب ، فالرب عز وجل خالق له بلا شك لكنه فعل العبد ، قال: (وَهُدَاهُ: هُوَ مَا أَنْزَلَهُ مِنَ الذِّكْرِ) لأنه قال: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى ، وقال بعد قوله {فمن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتيتك آياتنا فنسيتها} فالآيات هنا دل على أن الذكر السابق هو الآيات التي جاءت من عند الله عز وجل ، وهذه أيضا من دلالة السياق ، لكن السياق قد يكون سابقا وقد يكون لاحقا ، فهذا مما يدل على أن تدبر والقرآن والنظر إلى السباق وما يلحق النص: دلالة السياق ، يهتدي بها المفسر إلى معرفة اللفظ المذكور في الآية.




قال رحمه الله: [وَالمَقْصُودُ: أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الذِّكْرَ هُوَ كَلَامُهُ المُنَزَّلُ، أَوْ هُوَ ذِكْرُ العَبْدِ لَهُ؛ فَسَوَاءٌ قِيلَ: ذِكْرِي: كِتَابِي، أَوْ كَلَامِي، أَوْ هُدَايَ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ المُسَمَّى وَاحِدٌ.]




هنا يشير المصنف إلى أن الذكر هو كلامه المنزل أو هو ذكر العبد له ، إذن فالنص هنا دل على هذا ، ودل على هذا ، قال : (فَسَوَاءٌ قِيلَ: ذِكْرِي: كِتَابِي) من باب إضافة المصدر للفاعل ، (أَوْ كَلَامِي، أَوْ هُدَايَ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ المُسَمَّى وَاحِدٌ) أي أن الكتاب والكلام والهدى هذه أسماء تدل على مسمى واحد وهو القرآن فهو ذكر وهو كتاب وهو كلام الله عز وجل.




قال رحمه الله: [وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُ السَّائِلِ مَعْرِفَةَ مَا فِي الاسْمِ مِنَ الصِّفَةِ المُخْتَصَّةِ بِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ قَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى تَعْيِينِ المُسَمَّى؛ مِثْلُ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ: ﴿الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ﴾. وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ اللهُ، لَكِنْ مُرَادَهُ: مَا مَعْنَى كَوْنِهِ قُدُّوساً سَلَاماً، مُؤْمِناً؟ وَنَحْوَ ذَلِكَ.]




ذكر أن هذا من مقاصد السائل ، ذكر في المقصد الأول: إذا كان مقصود السائل تعين المسمى فهذا يخبر بأي اسم من الأسماء التي تدل على هذا المسمى ، ثم ذكر هنا فقال : (وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُ السَّائِلِ مَعْرِفَةَ مَا فِي الاسْمِ مِنَ الصِّفَةِ المُخْتَصَّةِ بِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ قَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى تَعْيِينِ المُسَمَّى) يعني لا يُكتفى هنا بالإخبار عن المسمى ، لأنه يريد معنى زائد عن الذات وهو معنى قائم في الذات ، ولهذا الصفة هي معنى قائم في الذات ، ودلالة الأسماء على الذات والصفات هي دلالة زائدة عن الذات وهي متضمة لصفة خلافا لمن زعم من المعتزلة أنها أسماء مجردة ، لا تتضمن الصفات ، فهي تدل على الذات وتدل على معنى زائد عن الذات ، فإذا كان مقصود السائل هو السؤال عن صفة فلابد أن يكون هناك قدر زائد عن الذات وعن المسمى ، (أَنْ يَسْأَلَ عَنِ: ﴿الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ﴾. وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ اللهُ) أن هذه أسماء الله (لَكِنْ مُرَادَهُ: مَا مَعْنَى كَوْنِهِ قُدُّوساً سَلَاماً، مُؤْمِناً؟) فهنا سؤال عن الصفة فيبين له معنى الصفة ، والصفة أمر زائد عن الذات ولهذا أسماء المخلوقين هي أعلام مجردة ليست أوصافا ، ولا ينقدح في الذهن إذا ما سمعت أن فلان اسمه محمد أو حامد أو شاكر أنه متصف بهذه الصفة التي اشتق منها هذا الاسم ، لأنها أسماء مجردة ، وأما أسماء الله وجل ، فإذا سمعت الاسم المشتق من صفة فأنت تعلم أنه متصف بهذه الصفة ، لأن أسماء الله عز وجل أعلام وأوصاف ، فإذا سأل سائل عن الصفة ، فلابد أن يبين له المعنى الدال على هذه الصفة ، فلا تكتفي بدلالته على الاسم المجرد وإنما تبين له معنى الصفة.




قال رحمه الله: [ إِذَا عُرِفَ هَذا، فَالسَّلَفُ كَثِيراً مَا يُعَبِّرُونَ عَنْ المُسَمى بِعِبَارَةٍ تَدُلُ عَلَى عَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الصِّفَةِ مَا لَيْسَ فِي الاسْمِ الآخِرِ؛ كَمَنْ يَقُولُ: أَحْمَدُ هُوَ: الحَاشِرُ، وَالمَاحِي، وَالعَاقِبُ. وَالقُدُّوسُ: هُوَ الغَفُورُ الرحِيمُ، أَيْ أَنَّ المُسَمَى وَاحِدٌ، لَا أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ هِيَ هَذِهِ!]




ثم ذكر أن (السَّلَفُ كَثِيراً مَا يُعَبِّرُونَ عَنْ المُسَمَّى بِعِبَارَةٍ تَدُلُّ عَلَى عَيْنِهِ) تدل على الذات؛ لأن المقصود هو الإخبار عن الذات ، (وَإِنْ كَانَ فِيهَا) أي في هذه الذات ، (مِنَ الصِّفَةِ مَا لَيْسَ فِي الاسْمِ الآخِرِ) فالمقصود من العبارة: وإن كان في العبارة من الصفة ما ليس في الاسم الآخر (كَمَنْ يَقُولُ: أَحْمَدُ هُوَ: الحَاشِرُ) فهنا المقصود لما سأل السائل عن أحمد قيل هو الحاشر ، ولكن السائل لما سأل عن صفة ، ولكن أُخبر باسم آخر يتضمن صفة أخرى ؛ لأن المقصود هو الإخبار عن عين المسمى لا عن صفته ، لكنه لو قال من أحمد وهو يريد أن يعرف الذات والصفة فيقال هو الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أحمد ؛ لأنه محمود ، ولأنه قامت به هذه الصفة ، ولكن لما يخبر عن المسمى ويراد به عين المسمى فيخبر بهذا الاسم أو بغيره فيقال: (أَحْمَدُ هُوَ: الحَاشِرُ، وَالمَاحِي، وَالعَاقِبُ) وإن كان في كل اسم من هذه الأسماء صفة ليست في الاسم الأول. وكذلك لو قال من القدوس فيقال (هُوَ الغَفُورُ الرحِيمُ) أي أن المسمى واحد ، لا أن هذه الصفة هي هذه ليس المقصود أن معنى القدوس هو معنى الغفور ، لكن المقصود أن المسمى بالقدوس هو المسمى بالغفور الرحيم ، وإلا فكل اسم من هذه الأسماء يتضمن صفة.


قال رحمه الله: [وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ اخْتِلَافَ تَضَاٍّد كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ؛ مِثَالُ ذَلِكَ: تَفْسِيرُهُمْ لِلصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ: «القُرْآنُ»، أَي اتِّبَاعُهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، -فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، ورَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ- «هُوَ حَبْلُ اللهِ المَتِينُ، وَالذِّكْرُ الحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ» وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الإِسْلَامُ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم - فِي حَدِيثِ النواسِ بْنِ سَمْعَانَ - الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ-: «ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً: صِرَاطاً مُسْتَقِيماً، وَعَلَى جَنْبَتَي الصِّرَاطِ سُورَانِ، وَفِي السُّوَريْنِ أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ، وَدَاعٍ يَدْعُو عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ. قَالَ: فَالصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ هُوَ الإِسْلَامُ، وَالسُّورَانِ حُدُودُ اللهِ، وَالأَبْوَابُ المُفَتّحَةُ مَحَارِمُ اللهِ، وَالداعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ: كِتَابُ اللهِ، وَالدَّاعِي فَوْقَ الصِّرَاطِ: وَاعِظُ اللهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ» فَهَذَانِ القَوْلَانِ مُتَّفِقَانِ؛ لأَنَّ دِينَ الإِسْلَامِ هُوَ اتِّبَاعُ «القُرْآنِ»، وَلَكِنْ كُلاً مِنْهُمَا نَبَّهَ عَلَى وَصْفٍ غَيْرِ الوَصْفِ الآخَرِ، كَمَا أَنَّ لَفْظَ: «صِرَاطٌ» يُشْعِرُ بِوَصْفٍ ثَالِثٍ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: هُوَ: «السُّنَّةُ وَالجَمَاعَةُ»، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: هُوَ: «طَرِيقُ العُبُودِيَّةِ»، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: هُوَ: «طَاعَةُ اللهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم »، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ أَشَارُوا إِلَى ذَاتٍ وَاحِدَةٍ، لَكِنْ وَصَفَهَا كُلٌّ مِنْهُمْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهَا.]


ثم ذكر المصنف أن هذا ليس كما يظن البعض أنه اختلاف تضاد ، وإنما هو من اختلاف التنوع ، فإن كل واحد من هؤلاء يعبر عن هذه الذات باسم من أسمائها يدل عليها ، وذكر مثالا لهذا: الصراط المستقيم ، فسره بعضهم بقوله : هو القرآن ، والمقصود هو اتباعه ، ثم استدل لهذا بقول النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن هو«هُوَ حَبْلُ اللهِ المَتِينُ، وَالذِّكْرُ الحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ» فالنبي صلى الله عليه وسلم سماه الصراط المستقيم ، فهذا الاسم شرعي دلّ عليه النص ، فمن قال الصراط المستقيم هو القرآن لدلالة هذا النص ، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي سمى القرآن الصراط المستقيم. وقال بعضهم هو الإسلام كما جاء في حديث النواس بن سمعان الذي رواه الترمذي وغيره (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً: صِرَاطاً مُسْتَقِيماً، وَعَلَى جَنْبَتَي الصِّرَاطِ سُورَانِ ) ثم بعد ذلك فسر الصراط فقال: ( فَالصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ هُوَ الإِسْلَامُ ) فهنا جاء تفسير الصراط المستقيم أنه الإسلام فمن سماه الإسلام فهو أيضا يستدل بدليل جاء فيه إطلاق الصراط المستقيم على الإسلام قال : (فَهَذَانِ القَوْلَانِ مُتَّفِقَانِ؛ لأَنَّ دِينَ الإِسْلَامِ هُوَ اتِّبَاعُ «القُرْآنِ» ) فلا يفرق بينهما ، لكن هذا يخبر عن معنى ، وهذا يخبر عن معنى ، فالإسلام هو الدين وهو الذي دل عليه القرآن ، فباعتبار ما اشتمل عليه القرآن من الدين فهو دين الإسلام ، وباعتبار الدال على هذا الدين هو القرآن ، فباعتبار المبلغ عن هذا الدين فالصراط المستقيم هو النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: (وَلَكِنْ كُلاً مِنْهُمَا نَبَّهَ عَلَى وَصْفٍ غَيْرِ الوَصْفِ الآخَرِ ) يعني كل واحد منهما نبه على وصف غير الوصف الآخر مع أن المعنى يدل على شيء واحد ، فلا يعقل أن تحصل فرقة بين الأمة على شيء واحد ، فيقال نحن لا ندري من نتبع الدين أم القرآن أم النبي صلى الله عليه وسلم ؟! لأن من اتبع أحد هذه المسميات فقد اتبع الدين ، فإذا اتبع القرآن اتبع الإسلام ، وإذا اتبع النبي صلى الله عليه وسلم اتبع القرآن ، فليس هناك اختلاف تضاد إنما اختلاف تنوع. قال: (كَمَا أَنَّ لَفْظَ: «صِرَاط» يُشْعِرُ بِوَصْفٍ ثَالِثٍ) لعله يقصد الوصف اللغوي وهو أن الصراط هو الطريق.( وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: هُوَ: «السُّنّةُ وَالجَمَاعَةُ» ) ؛ لأن [أهل] السنة والجماعة هم الذين امتثلوا القرآن وهم الذي كانوا على الهدي الذين كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.( وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: هُوَ: «طَرِيقُ العُبُودِيَّةِ» وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: هُوَ: «طَاعَةُ اللهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم »، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ) كل هذه أشياء تدل على حقيقة واحدة ، لا يفرق بينها. قال:(فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ أَشَارُوا إِلَى ذَاتٍ وَاحِدَةٍ، لَكِنْ وَصَفَهَا كُلٌّ مِنْهُمْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهَا) وهو هذا الدين ، لكن منهم يعبر بالدين ومنهم من يعبر بالكتاب الذي دل عليه ، ومنهم من يعبر بالنبي الذي دعى إليه ، ومنهم من يعبر بالحقيقة الكاملة لهذا الدين وهو العبودية ، قال: ( لَكِنْ وَصَفَهَا كُلٌّ مِنْهُمْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهَا) كل يصف هذه الحقيقة بصفة من صفاتها ، فالنهاية فالجميع يلتقي في حقيقة واحدة ، وهو أن المراد بالصراط المستقيم هو هذا الدين.



قال رحمه الله: [ الصِّنْفُ الثَّانِي: أَنْ يَذْكَرَ كُلٌّ مِنْهُمْ مِنَ الاسْمِ العَامِّ بَعْضَ أَنْوَاعِهِ، عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَتَنْبِيهِ المُسْتَمِعِ عَلَى النَّوْعِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الحَدِّ المُطَابِقِ للمَحْدُودِ فِي عُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ. مِثْلُ سَائِلٍ أَعْجَمِيٍّ سَأَلَ عَنْ مُسَمَّى لَفْظِ «الخُبْزِ» فَأُرِيَ رَغِيفاً، وَقِيلَ لَهُ: هَذَا؛ فَالإِشَارَةُ إِلَى نَوْعِ هَذَا، لَا إِلَى هَذَا الرَّغِيفِ وَحْدَهُ]




هنا رجع المصنف إلى التقسيم الذي ذكره ، وهو أنّ الاختلاف يرجع إليه وهو اختلاف تنوع ، فذكر في النوع الأول هو أن يعبر كل واحد منهما عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه تدل على معنى في المسمى كما ذكر. فكل واحد يعبر عن المسمى بعبارة غير عبارة صاحبة ، والجميع يشير إلى ذات واحد ، ثم ذكر النوع الثاني وهو (أَنْ يَذْكَرَ كُلٌّ مِنْهُمْ مِنَ الاسْمِ العَامِّ بَعْضَ أَنْوَاعِهِ ) يذكر بعض الأفراد الداخلة ضمن هذا الاسم العام ، (عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَتَنْبِيهِ المُسْتَمِعِ عَلَى النَّوْعِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الحَدِّ المُطَابِقِ للمَحْدُودِ) فيكون هنا الخبر على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع إلى النوع لا على سبيل الحد المطابق للمحدود وهي التعاريف ، وإنما سميت التعاريف حدودا ؛ لأنها تحد المعنى ، كما أن حدود الأرض تحد الأرض المحدودة ، فالمقصود هنا ليس هو الحد وإنما هو التمثيل الذي يبين هذه الحقيقة. قال: ( وَتَنْبِيهِ المُسْتَمِعِ عَلَى النَّوْعِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الحَدِّ المُطَابِقِ للمَحْدُودِ فِي عُمُومِهِ وَخُصُوصِهِمِثْلُ سَائِلٍ أَعْجَمِيٍّ سَأَلَ عَنْ مُسَمَّى لَفْظِ «الخُبْزِ» فَأُرِيَ رَغِيفاً، وَقِيلَ لَهُ: هَذَا؛ فَالإِشَارَةُ إِلَى نَوْعِ هَذَا) سأل عن الخبز فقال: ما الخبر؟ فأري رغيفا ، قيل له: هذا ، فليس المقصود أن هذا الخبر هو هذا الرغيف فقط ، وإنما المقصود هو أن هذا الخبر هذا نوعه ، وإن كان ما يدخل في هذه الحقيقة يتنوع من حيث الطريقة ، ومن حيث الحجم ، قال: (فَالإِشَارَةُ إِلَى نَوْعِ هَذَا، لَا إِلَى هَذَا الرَّغِيفِ وَحْدَهُ) فليس المقصود أن هذا هو الخبر وحده ، بحيث لو كان هناك رغيف آخر فهو خارج عن ماهية الخبر ، وإنما المقصود هو التمثيل.




قال رحمه الله: [ مثَالُ ذَلِكَ: مَا نُقِلَ فِي قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ﴾ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ يَتَنَاوَلُ المُضِيعَ لِلوَاجِبَاتِ، وَالمُنْتَهِكَ لِلحُرُمَاتِ. وَالمُقْتَصِدُ يَتَنَاوَلُ فَاعِلَ الوَاجِبَاتِ، وَتَارِكَ المُحَرَّمَاتِ. وَالسَّابِقُ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ سَبَقَ فَتَقَرَّبَ بِالحَسَنَاتِ مَعَ الوَاجِبَاتِ. فَالمُقْتَصِدُونَ هُمْ أَصْحَابُ اليَمِينِ، ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10)أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾ ثُم إِنَّ كُلّاً مِنْهُمْ يَذْكُرُ هَذَا فِي نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ؛ كَقَوْلِ القَائِلِ: «السَّابِقُ»: الَّذِي يُصَلِّي فِي أَوَّلِ الوَقْتِ، وَ«المُقْتَصِدُ»: الَّذِي يُصَلِّي فِي أَثْنَائِهِ، وَ«الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ»: الَّذِي يُؤَخِّرُ العَصْرَ إِلَى الاصْفِرَارِ. أَوْ يَقُولُ: السَّابِقُ وَالمُقْتَصِدُ وَالظَّالِمُ قَدْ ذَكَرَهُمْ فِي آخِرِ «سُورَةِ البَقَرَةِ»؛ فَإِنَّهُ ذَكَرَ المُحْسِنَ بِالصدَقَةِ، وَالظَّالِمَ بِأَكْلِ الرِّبَا، وَالعَادِلَ بِالبَيْعِ. وَالنَّاسُ فِي الأَمْوَالِ، إِمَّا مُحْسِنٌ، وَإِمَّا عَادِلٌ، وَإِمَّا ظَالِمٌ؛ «فَالسَّابِقُ»: المُحْسِنُ بِأَدَاءِ المُسْتَحَبَّاتِ مَعَ الوَاجِبَاتِ، وَ«الظَّالِمُ»: آكِلُ الرِّبَا،َ ْأو مَانِعُ الزَّكَاةِ، وَ«المُقْتَصِدُ»: الَّذِي يُؤَدِّي الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ وَلَا يَأْكُلُ الرِّبَا. وَأَمْثَالَ هَذِهِ الأَقَاوِيلِ]




ثم ذكر شيخ الإسلام مثالا لهذا مما جاء في القرآن وتفسير السلف لبعض هذه الحقائق ببعض أجزائها ، كتفسير السلف لفظ العام بذكر بعض أجزائه لا على سبيل الحد ، وإنما على سبيل التمثيل كما قيل لمن سأل الخبر فأُشير إلى الرغيف فقيل له هذا ، قال مثال ذلك ما ذكر في قوله تعالى : ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِفذكر الله عز وجل الذين اصطفاهم الله عز وجل بهذا الدين أنهم على ثلاث مراتب: ظالم لنفسه ، ومقتصد ، وسابق بالخيرات. ثم قال شيخ الإسلام: (فَمَعْلُومٌ أَنَّ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ يَتَنَاوَلُ المُضِيعَ لِلوَاجِبَاتِ، وَالمُنْتَهِكَ لِلحُرُمَاتِ) لاحظوا الحد الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية هنا هو الحد العام الذي يحد به الظالم لنفسه ، بخلاف ما سيأتي فإنه يعرف ببعض أفراده ، فهنا عرفه شيخ الإسلام التعريف المطلق وهو الحد الجامع المانع قال: (الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ يَتَنَاوَلُ المُضِيعَ لِلوَاجِبَاتِ، وَالمُنْتَهِكَ لِلحُرُمَاتِ) لأن ظلم العبد لنفسه يكون بالمعصية ، والمعصية يتصور أن تكون بترك واجب ، أو بفعل محرم ، فلا يتصور أن يكون هناك معصية بغير هذين الطريقين ، ويدخل في هذا من تضييع الواجبات: تضييع التوحيد وقد يصل إلى الشرك ، وقد يدخل في فعل المحرمات: أن يفعل الشرك ، لكن المقصود هنا أن يقصر فيما أوجب الله عليه من أصل الدين ، أو من الواجبات التي إذا تركها فإنها لا تذهب بالأصل وكذلك المحرمات ، فالظالم هو المضيع للواجبات والمنتهك للمحرمات. والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات ، فهو لم يقصر فيما أوجب الله عليه ولم يتنفل ، والسابق يدخل فيه من سبق فتقرب بالحسنات مع الواجبات ، فهذه هي الحدود الجامعة المانعة لهذه المراتب ، في بيان أن السابق هو الذي أدى الواجبات وترك المحرمات وتقرب إلى الله بالنوافل والمستحبات ، والمقتصد: هو من اقتصد في أداء الواجب وترك المحرم ، والظالم: هو من قصر بترك الواجب أو بفعل المحرم. قال:( فَالمُقْتَصِدُونَ هُمْ أَصْحَابُ اليَمِينِ، ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10)أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ.) فالسابقون هم المقربون ، ولكل واحد من هذين الصنفين مرتبة في الجنة بحسب منزلته عند الله عز وجل ، وهذا من عدل الله وحكمته. قال شيخ الإسلام: (ثُمَّ إِنَّ كُلّاً مِنْهُمْ يَذْكُرُ هَذَا فِي نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ) يذكر هذه المراتب في نوع من أنواع الطاعات: (كَقَوْلِ القَائِلِ: «السَّابِقُ»: الَّذِي يُصَلِّي فِي أَوَّلِ الوَقْتِ) لماذا أطلق السابق على الذي يصلي في أول الوقت؟ لأن الصلاة في أول الوقت مستحبة ، فهو أدى الواجب بالصلاة في أول الوقت ، وأداها على وجه مستحب بفعل هذه الصلاة في وقتها المستحب ، ولهذا سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل العمل فقال: "الصلاة على وقتها" قال العلماء المقصود الصلاة على أول وقتها ؛ لأن الصلاة في أول الوقت أفضل من الصلاة في آخره ، وإن كان الذي أداها في آخر الوقت ليس بعاصي ولكنه فوّقت المستحب ، فهنا عبر بعض المفسرين عن السابق بأنه (الَّذِي يُصَلِّي فِي أَوَّلِ الوَقْتِ) ؛ لأنه أدى الصلاة على الوقت الصحيح في وقت مستحب. (وَ«المُقْتَصِدُ»: الَّذِي يُصَلِّي فِي أَثْنَائِهِ) في أثناء الوقت قبل خروجه ، فهذا مقتصد لكنه قطعا لم يصلي في أول الوقت ، وإنما صلى في أثناء الوقت قبل خروجه ، لأنه لو صلى في أول الوقت فهو سابق. (وَ«الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ»: الَّذِي يُؤَخِّرُ العَصْرَ إِلَى الاصْفِرَارِ.) لأن تأخيرها إلى هذا الوقت محرم ، ولأن وقتها يخرج قبل ذلك ، ولأن الاصفرار هو دليل على خروج الوقت ، وقرب دخول وقت المغرب ، وقرب غروب الشمس ، ولاحظوا أن هذا التفاوت مرجعه إلى التفاوت في تأدية الصلاة بحسب الوقت ، وقد يأتي آخر ويقول السابق هو الذي أدى الصلاة على الوجه الكامل ، يؤدي الواجبات والمستحبات ، فهذا سابق بالنظر إلى الكيفية ، والمقتصد هو الذي أدى الصلاة ولم يتنفل فيها ، والظالم لنفسه هو الذي قصّر في صلاته فهذا أيضا باعتبار الكيفية. قال: (أَوْ يَقُولُ: السَّابِقُ وَالمُقْتَصِدُ وَالظَّالِمُ قَدْ ذَكَرَهُمْ فِي آخِرِ «سُورَةِ البَقَرَةِ») قد يأتي مفسر آخر يقول: (السَّابِقُ وَالمُقْتَصِدُ وَالظَّالِمُ قَدْ ذَكَرَهُمْ فِي آخِرِ «سُورَةِ البَقَرَةِ» فَإِنَّهُ ذَكَرَ المُحْسِنَ بِالصَّدَقَةِ) فهذا سابق ( وَالظَّالِمَ بِأَكْلِ الرِّبَا) فهذا ظالم (وَالعَادِلَ بِالبَيْعِ) فهذا مقتصد (وَالنَّاسُ فِي الأَمْوَالِ، إِمَّا مُحْسِنٌ، وَإِمَّا عَادِلٌ، وَإِمَّا ظَالِمٌ) فإذن هنا يشير: لمّا ذكر الله عز وجل في آخر سورة البقرة لمّا ذكر الصدقة والحث عليها ، وذكر الربا ، وذكر البيع ، فقال مفسر: هذه المراتب ذكرها الله في آخر سورة البقرة ، فالسابق هو المحسن بالصدقة ، والظالم هو آكل الربا ، والمقتصد هو الذي قام بالبيع فهو مقتصد لم يظلم بأكل الحرام ، ولم يتنفل بالصدقة ، والناس كذلك في المال.
ولذلك ذكر العلماء أن هذه المراتب قد تكون عامة ، فقد يكون الرجل محسن وسابق في كل شعب الإيمان ، وقد يكون سابقا في بعضها ، فقد يكون بعض الناس له سبق في الصلاة أو في الزكاة أو في الصوم وليس له ذلك في بعض الأعمال الأخرى ، ولذلك قيل السابق في كل هذه المراتب هو الصّدّيق الذي سبق إلى كل شعبة ، فذكر أن هذه المراتب يُعبر عنها بهذه الحقائق الشرعية ، وهذا له أمثلة كثيرة كما سيأتي في بعض النصوص ، كقول من قال في قول الله عز وجل: {والذي جاء بالصدق وصدق به} قال بعض المفسرين: الذي جاء بالصدق هو جبريل ، وصدق به النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: الذي جاء بالصدق هو النبي صلى الله عليه وسلم وصدق به أبوبكر. وقيل: الذي جاء بالصدق هو النبي صلى الله عليه وسلم وصدق به المؤمنون. وقيل: الذي جاء بالصدق هم الأنبياء والذي صدق به هم المؤمنون ، فيلاحظ أن هذه التفسيرات إنما جاءت على سبيل التمثيل لما يدخل تحت هذا المعنى ، وإلا فكل هذه الأفراد التي ذكرت داخلة تحت هذا المعنى ، وقد يأتي آخر فيعبر عن هذه الحقيقة بلفظ عام فيقول: الذي جاء بالصدق هو كل من أخبر بالصدق فهذا لفظ عام يدخل فيه كل هذه الأفراد ، وصدق به هو كل من صدق الصادق. في خبره فهذا هو تعبير عن هذه الحقائق ببعض أفرادها ، وعليه فلا يتصور عند من قال: الذي جاء بالصدق هو النبي صلى الله عليه وسلم وأن الذي صدق به هو أبوبكر ، أنه لا يدخل في هذا الوصف غير النبي صلى الله عليه وسلم ممن جاء بالصدق ، ولا يدخل في المصدق له غير أبي بكر ، وإنما المقصود التمثيل.



قال رحمه الله تعالى: [فَكُلُّ قَوْلٍ: فِيهِ ذِكْرُ نَوْعٍ دَاخِلٌ فِي الآيَةِ، إِنَّمَا ذُكِرَ لِتَعْرِيفِ المُسْتَمِعِ بِتَنَاوُلِ الآيَةِ لَهُ، وَتَنْبِيهِهِ به عَلَى نَظِيرِهِ؛ فَإِنَّ التَعْرِيفَ بِالمِثَالِ قَدْ يُسَهِّلُ أَكْثَرَ مِنَ التَّعْرِيفِ بِالحَدِّ المُطَابِقِ. وَالعَقْلُ السَّلِيمُ يَتَفَطَّنُ لِلنَّوْعِ كَمَا يَتَفَطَّنُ إِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى رَغِيفٍ فَقِيلَ لَهُ: هَذَا هُوَ الخُبْزُ.]




ثم ذكر أن كل ما يُذكر مما هو داخل في معنى الآية على سبيل التعريف يتناول هذا ، قال: (وَتَنْبِيهِهِ عَلَى نَظِيرِهِ) التعريف بالمثال هو تنبيه على نظيره لا على القول أن هذا الذي عُرف به أنه يحد هذا المعنى ولا يدخل فيه غيره ، بل المقصود هو التنبيه على نظيره ، قال: (فَإِنَّ التَعْرِيفَ بِالمِثَالِ قَدْ يُسَهِّلُ أَكْثَرَ مِنَ التَّعْرِيفِ بِالحَدِّ المُطَابِقِ) ؛ لأن المثال المحسوس يعرفه كل الناس فقول من قال: {إن الذي جاء بالصدق وصدق به} هو النبي صلى الله عليه وسلم تنبيه بالمثال إلى الأنبياء ، والذي قال {الذي صدق به} تنبيه بالمثال إلى كل من صدق به إلى كل الأمة الذين صدقوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فهو تنبيه إلى النوع وليس المقصود الحصر ، ثم ذكر أن هذا قد يكون أسهل عند بعض الناس من التعريف بالحد المطابق ؛ لأن الحد المطابق قد لا يتصوره كثير من الناس ، أما هذا المثال المحسوس فيعرفه أكثر الناس ، ولهذا كثيرا ما تُعرّف الأشياء بالأمثلة ، وأحيانا يجمع التعريف بالحد المطابق وبين المثال ، مثل: من يعرف السابق يقول: هو من أتى بالواجبات وترك المحرمات وسابق إلى المستحبات كأبي بكر ، فهذا جمع بين التعريف بالحد المطابق والتمثيل. قال: (وَالعَقْلُ السَّلِيمُ يَتَفَطَّنُ لِلنَّوْعِ كَمَا يَتَفَطَّنُ إِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى رَغِيفٍ فَقِيلَ لَهُ: هَذَا هُوَ الخُبْز) أنه يتنبه إلى النوع ، ولا يتصور أن المقصود أن الخبز محصور في هذا الرغيف ، لكنه تنبه لهذا ، ولهذا لو رأى رغيفا آخر يعرف أن هذا يدخل في ذلك الاسم.




قال رحمه الله: [يَجِيءُ كَثِيراً مِنْ هَذَا البَابِ قَوْلُهُمْ: هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ فِي كَذَا؛ لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ المَذْكُورُ شَخْصاً، كَأَسْبَابِ النُّزُولِ المَذْكُورَةِ فِي التَّفْسِيرِ؛ كَقَوْلِهِمْ: إِنَّ «آيَةَ الظِّهَارِ» نَزَلَتْ فِي امْرَأَةِ أَوْسِ بنِ الصَّامِتِ، وَإِنَّ «آيَةَ اللِّعَانِ» نَزَلَتْ فِي عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيِّ، أَوْ هِلَالِ بنِ أُمَيَّةَ. وَإِنَّ «آيَةَ الكَلَالَةِ» نَزَلَتْ فِي جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ. وَإِنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُنَزَلَتْ فِي: «بَنِي قُرَيْظَةَ» وَ«النَّضِيرِ». وَإِنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ﴾ نَزَلَتْ فِي «بَدْرٍ». وَإِنَّ قَوْلُهُ: ﴿شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ. وَقَوْلِ أَبِي أَيُّوبَ: (إِنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ نَزَلَتْ فِينَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ الحَدِيثُ). وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرٌ مِمَّا يَذْكُرُونَ أَنّهُ نَزَلَ فِي قَوْمِ مِنَ المُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ، أَوْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْل الكِتَابِ؛ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَوْ فِي قَوْمٍ مِنَ المُؤْمِنِينَ. فَالَّذِينَ قَالُوا لَمْ يَقْصِدُوا أَنَّ حُكْمَ الآيَةِ مُخْتَصٌّ بِأُولَئِكَ الأَعْيَانِ دُونَ غَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ، وَلَا عَاقِلٌ على الإِطْلَاقِ.]




ثم أشار شيخ الإسلام في مقابل التفسير أيضا ما يذكر في سبب النزول ، كقول من يقول (هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ فِي كَذَا) فيكون المقصود أن هذه الآية نزلت في هذا النوع ، وسيأتي في كلامه نزاع بين العلماء في أنّ هذا اللفظ عندما يقول المفسر هذه الآية نزلت في كذا ، هل هذا اللفظ صريح في أن ما ذكره هو سبب النزول ، أم المقصود التفسير؟ فإن الألفاظ ثلاثة –كما نبه على هذا الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرحه- ذكر أن هذا من توسع شيخ الإسلام في العلم كما هي طريقته - ، فإن الخبر عن أسباب النزول : إما أن يكون صريحا ، وإما أن يكون واضح الدلالة ، وإما أن يكون محتملا.
فإذا قال المفسر سبب نزول هذه الآية هو كذا: فهذا اللفظ صريح في أن سبب النزول هو ما ذكره. وإذا ما قيل حصل كذا ، فأنزل الله كذا ، فهذا ظاهر على أن هذا الذي ذكره هو سبب النزول ؛ لأن التعقيب بالفاء هنا : إما أن تكون ظرفية أو سببية ، فيكون هذا ظاهر أن هذه الآية نزلت بسبب هذه المناسبة ، أي حصل كذا فأنزل الله كذا أي سببا لنزوله. أما إذا قال المفسر هذه الآية نزلت في كذا فهذا محتمل ، هل يريد أن يُخبِر أن سبب النزول هو ما ذكره ، أم أن الإشارة هنا إلى النوع ، وأن هذه الآية نزلت في حكم كذا ، وليس المقصود أنّ هذا خاص به. فذكر شيخ الإسلام جملة من الآيات ، يقال هذه الآية نزلت في كذا و هذه الآية نزلت في كذا ، قال: (وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرٌ مِمَّا يَذْكُرُونَ أَنَّهُ نَزَلَ فِي قَوْمِ مِنَ المُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ) يقال هذه الآية نزلت في أبي جهل ، [أو] نزلت في أمية بن خلف ، أو نزلت في كذا ، أو نزلت (فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْل الكِتَابِ؛ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى) كأن يقال هذه نزلت في كعب ، [أو] نزلت في اليهود أو نزلت في بني قريظة (أَوْ فِي قَوْمٍ مِنَ المُؤْمِنِينَ.) كأن يقال هذه في كذا (فَالَّذِينَ قَالُوا لَمْ يَقْصِدُوا أَنَّ حُكْمَ الآيَةِ مُخْتَصٌّ بِأُولَئِكَ الأَعْيَانِ دُونَ غَيْرِهِمْ) ليس المقصود بأن حكم هذه الآية مختص بهؤلاء ( فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ، وَلَا عَاقِلٌ على الإِطْلَاقِ.) أي لا يقول هذه الآية إنما جاءت لبيان حكم فلان فقط دون غيره ، بل ذكر العلماء أن هذا عام ، والقاعدة المعروفة عن المفسير وكذلك عند الأصوليين : (أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) بل لو ثبت أن سبب نزول هذه الآية هو ما حصل من فلان فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ولهذا ضعّف كثير من المحققين إجابة من قال في جواب النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأل عن أفضل العمل : فإن السائلين الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل العمل ، فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بإجابات متنوعة ، فقال بعض الشراح: إنما أجاب النبي صلى الله عليه وسلم كل سائل بحسب حاله ، فضعف بعض العلماء –وهذا هو الحق- هذه الإجابة ؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وإلا لو كان الأمر كذلك ، لقيل ما يستفاد من هذه الإجابة إلا أنها إجابة في حق فلان ، ولا يستنبط منها حكم شرعي بعد ذلك في المفاضلة بين الأعمال ، وهذا ضعيف! فإن العبرة هنا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، لكن قد يقال: إن هذه الإجابة خاصة بهذا النوع ، كما قال من قال: من سأل وله والدان عن أفضل العمل ، أجابه النبي صلى الله عليه وسلم: "بر الوالدين" ، فتكون هذه الإجابة شاملة لكل من له والدان أنّ هذا أفضل العمل في حقه ، وليس المقصود أن هذه الإجابة هي في حق السائل بمفرده.




قال رحمه الله: [وَالنَّاسُ وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي اللَفْظِ العَامِّ الوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ، هَلْ يَخْتَصُّ بِسَبَبِهِ أم لا؟ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ المُسْلِمِينَ إِنَّ عُمُومَاتِ «الكِتَابِ» وَ«السُّنَّةِ» تَخْتَصُّ بِالشَّخْصِ المُعَيَّنِ، وَإِنَّمَا غَايَةُ مَا يُقَالُ: إِنَّهَا تَخْتَصُّ بِنَوْعِ ذَلِكَ الشَّخْصِ، فَتَعُمُّ مَا يُشْبِهُهُ وَلَا يَكُونُ العُمُومُ فِيهَا بِحَسَبِ اللَّفْظِ. وَالآيَةُ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ مُعَيَّنٌ إِنْ كَانَتْ «أَمْراً» أَوْ «نَهْياً» فَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِذَلِكَ الشَّخْصِ وَلِغَيْرِهِ مِمَّنْ كَانَ بِمَنْزِلَتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ «خَبَراً» بِمَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ فَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِذَلِكَ الشَّخْصِ وِلمن كَانَ بِمَنْزِلَتِهِ أَيْضاً.]




ثم ذكر المصنف رحمه الله: أن الناس (تَنَازَعُوا فِي اللَفْظِ العَامِّ الوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ، هَلْ يَخْتَصُّ بِسَبَبِهِ أم لا؟) لكن ما نوع هذا الإختصاص؟ كثيرا ما يظن بعض الناس في الخلاف الناشيء بين العلماء ما لم يقصدوه ، فقد يظن مثل من يسمع هذه العبارة أن العلماء تنازعوا في النص الوارد على سبب خاص أنه خاص بذلك المعين ، فيقول شيخ الإسلام: (فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ المُسْلِمِينَ إِنَّ عُمُومَاتِ «الكِتَابِ» وَ«السُّنَّةِ» تَخْتَصُّ بِالشَّخْصِ المُعَيَّنِ) يعني مثل ذلك السائل ، فلم يقل أنها خاصة به ، لكن غاية ما يقال في حق من قال إنها خاصة إنها تختص بنوع ذلك الشخص ، مثل ما قلنا في الذي سأل عن أفضل العمل ، فأُجيب ببر الوالدين ، لم يقل أحد من علماء المسلمين أن هذا خاص بهذا السائل ، و إلا لكان هذا النص معطل عن كل معنى يستدل به لهذه المسألة ، فيكون هذا خاص بفلان ، فالنزاع الذي نشأ بين العلماء: هل اللفظ عام أو أنه مختص؟ ما نوع الاختصاص هنا ؟ هو اختصاص بالنوع لا اختصاص بالمعين السائل أو الذي نزل به النص ، فذكر شيخ الإسلام أنه (لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ المُسْلِمِينَ إِنَّ عُمُومَاتِ «الكِتَابِ» وَ«السُّنَّةِ» تَخْتَصُّ بِالشَّخْصِ المُعَيَّنِ) الذي نزل بسببه النص ، وإنما الذي قال بالاختصاص قال إنه خاص بهذا النوع. قال: (فَتَعُمُّ مَا يُشْبِهُهُ وَلَا يَكُونُ العُمُومُ فِيهَا بِحَسَبِ اللَّفْظِ) هذا على قول ؛ لأن العلماء على قولين: منهم ن قال: هذا نص عام في هذا النوع وفي غيره ، فيقال لكل من سأل عن أفضل العمل فيقال بر الوالدين هو أفضل العمل ، في حق من له والد ومن ليس له والد ، والذي ليس له والد ، يكون قد فاته من هذه الفضيلة بقدر ما فاته من ذهاب بر الوالدين ، ويبقى بر الوالدين بعد موتهما ، والذي يقول أن هذا خاص بهذا النوع يقول: هذا خاص بهذا النوع ؛ لمن له والد ، فالنزاع هنا ، هل هو عام عموم مطلق ، أم عام عموم مقيد بهذا النوع ؟ وأما القول بأنه خاص بفلان بعينه أو بمعين فذكر شيخ الإسلام أن هذا لم يقل به أحد من علماء المسلمين. قال: (وَالآيَةُ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ مُعَيَّنٌ إِنْ كَانَتْ «أَمْراً» أَوْ «نَهْياً» فَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِذَلِكَ الشَّخْصِ وِلمن كَانَ بِمَنْزِلَتِهِ أَيْضاً) ليست هي خاصة به وإنما هي عامة لكل من كان بمنزلته ( وَإِنْ كَانَتْ «خَبَراً» بِمَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ فَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِذَلِكَ الشَّخْصِ وِلمن كَانَ بِمَنْزِلَتِهِ أَيْضاً) أي من كان في حكمه ، أما القول بأنها خاصة في المعين وأنه يفهم من قول من قال من أهل العلم: العبرة بعموم اللفظ أو النزاع بين أهل العلم هل اللفظ هو عام أم مقيد بسببه ، المقصود بالنوع لا الشخص المعين ، أما الشخص المعين ، فلم يقل بهذا أحد ، وإلا لبقيت النصوص معطلة ، فلا تكون أحكاما إلا في حق من نزلت فيهم ، وأما بعد ذلك فلا حاجة للأمة فيها ؛ لأن هذا حكم خاص بفلان بعينه ، فالصحيح أنها عامة في هؤلاء ومن كان في منزلتهم هذا على قول ، وعلى قول أنها عامة العموم المطلق ؛ لأن الأمة مخاطبة بهذا .
__________________
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
" من خاف أدلج ، ومن أدلج بلغ المنزل ، ألا إنّ سلعة الله غالية ، ألا إنّ سلعة الله الجنة ! "
رد مع اقتباس